من تناقض الأشاعرة في مسألة كلام الله
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل الله فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
مسألة كلام الله من المسائل التي خلط فيها الأشاعرة فقالوا في كلام الله أنه معنى واحد لا يتجزأ ولا يلحقه التعاقب وهو الأمر بكل مأمور ,والنهي عن كل منهي عنه , والخبر عن كل مخبر عنه ؛ إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً , وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة , وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً .
وسبب ذلك أن التعاقب يلزم منه أن يتكلم به شيئا بعد شيء وهذا يلزم منه التجدد في هذه الصفة ؛ وتجدد الفعل أو الصفة الفعلية يلزم منها الحدوث وذلك من صفات المحدثات فقالوا لا يلحقه التعاقب ؛ وكذا قولهم أنه معنى واحد لأنه لو كان في نظرهم أنواعا مختلفة أو متجزئة للزم من ذلك مشابهته للمحدثات فلذلك كابروا المعقول والمعلوم والمحسوس في هذا القول الذي تفردوا به .
كيف دخل هذا التخليط عليهم ؟
قال شيخ الإسلام : وقال الحافظ أبو نصر السحزي في رسالته المعروفة إلى أهل زبيد في الواجب من القول في القرآن : ( اعلموا - أرشدنا اله وإياكم - أنه لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم من أول الزمان إلى الوقت الذي ظهر فيه ابن كلاب والقلانسي و الأشعري وأقرانهم الذين يتظاهرون بالرد على المعتزلة وهم معهم بل أخس حالا منهم في الباطن من أن الكلام لا يكون إلا حرفا وصوتا ذا تأليف واتساق وإن اختلفت به اللغات وعبر عن هذا المعنى الأوائل الذي تكلموا في العقليات وقالوا : الكلام حروف متسقة وأصوات مقطعة وقالت - يعني علماء العربية - : الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى فالاسم مثل زيد وعمرو والفعل مثل جاء وذهب والحرف الذي يجيء لمعنى مثل هل وبل وقد وما شاكل ذلك فالإجماع منعقد بين العقلاء على كون الكلام حرفا وصوتا فلما نبغ ابن كلاب وأضرابه وحاولوا الرد على المعتزلة من طريق مجرد العقل وهم لا يخبرون أصول السنة ولا ما كان السلف عليه ولا يحتجون بالأخبار الواردة في ذلك زعما منهم أنها أخبار آحاد وهي لا توجب علما وألزمتهم المعتزلة الاتفاق على أن الاتفاق حاصل على أن الكلام حرف وصوت ويدخله التعاقب والتأليف وذلك لا يوجد في الشاهد إلا بحركة وسكون ولا بد له من أن يكون ذا أجزاء وأبعاض وما كان بهذه المثابة لا يجوز أن يكون من صفات ذات الله تعالى لأن ذات الحق لا توصف بالاجتماع والافتراق والكل والبعض والحركة والسكون وحكم الصفة الذاتية حكم الذات .
قالوا : فعلم بهذه الجملة أن الكلام المضاف إلى الله تعالى خلق له أحدثه وأضافه إلى نفسه كما نقول : ( خلق الله وعبد الله وفعل الله )
( قال : فضاق بابن كلاب وأضرابه النفس عند هذا الإلزام لقلة معرفتهم بالسنن وتركهم قبولها وتسليمهم العنان إلى مجرد العقل ) فالتزموا ما قالته المعتزلة وركبوا مكابرة العيان وخرقوا الإجماع المنعقد بين الكافة .
درء التعارض (1|278)
قال شيخ الإسلام : وهذا الكلام فاسد بالعقل الصريح و النقل الصحيح فإن المعنى الواحد لا يكون هو الأمر بكل مأمور و الخبر عن كل مخبر و لا يكون معنى التوارة و الإنجيل و القرآن و احدا و هم يقولون إذا عبر عن ذلك الكلام بالعربية صار قرآنا و إذا عبر عنه بالعبرية صار توراة و هذه غلط فإن التوارة يعبر عنها بالعربية و معانيها ليست هي معاني القرآن و القرآن يعبر عنه بالعبرية و ليست معانيه هي معاني التوراة وهذا القول أول من أحدثه ابن كلاب و لكنه هو و من اتبعه عليه كالأشعري .
مجموع الفتاوى (8|424)
وأما الرد عليهم في هذه المسألة
أولا : اعترف العز بن عبد السلام أن هذا من إشكالات مذهب الأشاعرة فلما سئل : كيف يعقل شيء واحد هو أمر ونهي وخبر واستخبار , فقال أبو محمد : ما هذا بأول إشكال ورد على مذهب الأشعري .
الفتاوى الكبرى (6|625)
وقد رد شيخ الإسلام على قولهم هذا بما يلي :
1- إن هذا القول انفردوا به عن سائر الفرق كما ذكره الرازي .
2- يقال للأشاعرة موسى لما كلمه الله أفهم كلامه كله أو بعضه إن قلتم كله ؛ فقد صار موسى يعلم علم الله , وهذا من أعظم الباطل , وإن قلتم بعضه فقد تبعض كلام الله , وأنتم تقولون إنه لا يتبعض ,وفي هذا إبطال لقولكم .
3- إلزامهم أن يقولوا في الصفات ما قالوه في الكلام وبالعكس , وذلك أنه إذا جاز أن يجعلوا الحقائق المتنوعة كآية الدين وآية الكرسي وقصة موسى وقصة نوح , والأمر بالصلاة , والنهي عن الزنا , وعن الربا , والقرآن, والتوراة , والإنجيل شيئاً واحداً ؛ فيلزمهم أن يجوزوا أن يكون العلم والقدرة والكلام والسمع والبصر والحياة والإرادة صفة واحدة ....
قال شيخ الإسلام : فقال جمهور العقلاء لهم تصور هذا القول يوجب العلم بفساده وقالوا لهم موسى سمع كلام الله كله أو بعضه إن قلتم كله لزم أن يكون قد علم علم الله وإن قلتم بعضه فقد تبعض وقالوا لهم إذا جوزتم أن تكون حقيقة الخبر هي حقيقة الأمر وحقيقة النهي عن كل منهى عنه والأمر بكل مأمور به هو حقيقة الخبر عن كل مخبر عنه فجوزوا أن تكون حقيقة العلم هي حقيقة القدرة وحقيقة القدرة هي حقيقة الإرادة فاعترف حذاقهم بأن هذا لازم لهم لا محيد لهم عنه ولزمهم إمكان أن تكون حقيقة الذات هي حقيقة الصفات وحقيقة الوجود الواجب هي حقيقة الوجوب الممكن .
مجموع الفتاوى (9|283)

4- يقال لمن قال إن القرآن حروف وأصوات قديمة أزلية , وأن الباء ليست قيل السين : هذا بعينه وارد عليك فيما أثبته من المعاني وهو المعنى القائم بالذات ؛ فإن الذي نعلمه بالضرورة في الحروف نعلم نظيره بالضرورة في المعاني فالمتكلم منا إذا تكلم ببسم الله الرحمن الرحيم فهو بالضرورة ينطق بالاسم الأول لفظاً ومعنى قبل الثاني ؛ فيقال في هذه المعاني نظير ما قاله في الحروف .

قال شيخ الإسلام : فإن الذي نعلمه بالضرورة في الحروف نعلم نظيره بالضرورة في المعاني فالمتكلم منا إذا تكلم ببسم الله الرحمن الرحيم فهو بالضرورة ينطق بالاسم الأول لفظا ومعنى قبل الثاني فيقال في هذه المعاني نظير ما قاله في الحروف .
فيقال من اعترف بأن معنى اسم الرحمن الرحيم بعد معنى بسم الله وادعى أن هذا المعنى لا أول له فقد خرج عن المعقول إلى جحد الضرورة وإن زعم أن الرب تكلم بمعاني الحروف دفعة واحدة من غير تعاقب ولا ترتيب قيل له معاني الحروف حقائق مختلفة لا شك في اختلافها فإن المعنى القائم بنفس المتكلم المفهوم من الحمد لله رب العالمين ليس هو المعنى القائم بالنفس من تبت يدا أبي لهب ولا شك في أن المعنى في صيغ الأمر ليس هو المعنى في صيغ الأخبار .
الفتاوى الكبرى (6|541)
5- إن النصوص قد وردت بما يدل على تعدد الكلام , وبطلان قول من زعم أنه معنى واحد ومنها :
أ- الآيات الواردة بأنها كلمات , ومنها قوله تعالى :{ وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته } وقوله تعالى : {ما نفدت كلمات الله} .
ب- كما وردت أحاديث كثيرة فيها الاستعاذة بكلمات الله التامة
ج- ومنها ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء فجعل قل هو الله أحد جزءا من أجزاء القرآن .
مسلم (811)
6-إن أئمة الأشاعرة اعترفوا بفساد قول ابن كلاب والأشعري في كلام الله , ومن هؤلاء أبو حامد الإسفراييني , وأبو محمد الجويني , وأبو الحسن الكرجي , والعز بن عبد السلام وغيرهم .
انظر "موقف ابن تيمية من الأشاعرة" (3|1295) للشيخ المحمود