النشاطات العسكرية في الشرق الاوسط والتلوث البيئي
د. عماد علو
اكاديمي
المقدمة
مازال الجدل الأكاديمي والحزبي والانتخابي في الشرق الاوسط بعيدا عن اثارة وتوجيه الانظار الى خطورة التلوث البيئي الذي تسببت به مخلفات النشاطات العسكرية المكثفة التي جرت في العقود الثلاثة الماضية في الشرق الاوسط. صحيح أن الخط البياني لهذا التلوث يتصاعد، جوا وبرا وبحرا، شاملا الهواء والتربة والمياه السطحية والجوفية، ولكن الإجراءات التي توانت معظم حكومات المنطقة على اتخاذها لتطويق ما يمكن من آثار هذا التلوث على الإنسان وسائر الكائنات الحية والمناخ والبيئة عموما، وخاصة الأمطار الحمضية والدفيئة ما زالت لاتتناسب والمخاطر المحتملة التي يمكن ان تشهدها منطقة الشرق الاوسط نتيجة مخلفات النشاطات العسكرية المكثفة في الشرق الاوسط التي اشرنا اليها.
حيث كانت هذه الإجراءات تصطدم أحيانا باعتبارات واحتياجات الأمن القومي وفق احتمالات المواجهة بين العرب واسرائيل من ناحية، وبمصالح دول الجوار الاقليمي و الدول الكبرى من ناحية ثانية، وبتدني التزام بعض الدول أو تهربها من تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه من ناحية ثالثة.
ما مخلفات النشاطات العسكرية؟
الذي نقصده بمخلفات النشاطات العسكرية في الشرق الاوسط هي جميع المخلفات الناجمة عن الحروب والعمليات العسكرية والتجارب العسكرية والمناورات بالذخيرة الحّية والانشطة والفعاليات الصناعية الحربية التي جرت او مازالت تجري في منطقة الشرق الاوسط. والحروب التي جرت في المنطقة منذ ثلاثة عقود شملت الحروب العربية- الاسرائيلية والحرب العراقية- الايرانية والحرب في افغانستان وحرب الخليج الثانية عام1991 والحروب الامريكية لاحتلال افغانستان والعراق، والعمليات العسكرية التي مازالت تنفذها القوات الامريكية والقوات المتحالفة معها لادامة احتلالها للعراق وافغانستان. كذلك التجارب العسكرية والنووية المختلفة التي تجريها دول المنطقة مثل الهند وباكستان واسرائيل واخيرا" ايران وتركيا. وقد نجم عن النشاطات العسكرية في الشرق الاوسط انواع مختلفة من المخلفات تركت نتائج كارثية على البيئة والانسان والحيوان في مناطق مختلفة من الشرق الاوسط قد لاتكون حدثت فيها نشاطات عسكرية اصلا". ويمكننا تقسيم مخلفات النشاطات العسكرية الى عدة انواع. فبحسب تاثير تلك المخلفات يمكن تقسيمها الى:
1- مخلفات ذات تأثير مباشر: حيث تسبب تاثيرا" مباشرا" على البيئة وصحة الانسان والنباتات والحيوان مثل حقول الالغام، القنابل غير المنفلقة، بقايا الاسلحة الكيمياوية والبيولوجية والذخائر المشعة مثل اليورانيوم المستنفد وغيرها.
2- مخلفات ذات تأثير غير مباشر: وهي التي ينجم عنها تاثيرات على المدى الطويل على البيئة والصحة العامة والثروتين الحيوانية والنباتية وهذا النوع تسببه العمليات العسكرية التي تستهدف البنى التحتية ذات العلاقة بالبيئة والصحة مثل منظومات الصرف الصحي ومحطات الماء والكهرباء وشبكة المواصلات البرية والمعامل ومراكز الابحاث والجامعات والمعاهد والمدارس..الخ.
كما يمكننا تقسيم مخلفات النشاطات العسكرية بحسب انواعها الى مايلي:
* مخلفات كيمياوية ذات درجات سمية متفاوتة، سواء الناجمة عن استخدام الاسلحة الكيمياوية او التقليدية ضد اهداف ينجم عنها مخلفات كيمياوية ضارة او سامة، او ماينجم عن تجارب الاسلحة او مخلفات الآليات والطائرات والسفن العسكرية.
* مخلفات بيولوجية قد تنجم عن استخدام الاسلحة البيولوجية او مخلفات القواعد العسكرية والمختبرات والتجارب العسكرية المختلفة.
* مخلفات نووية مشعة نتيجة الاستخدام المباشر للاسلحة النووية او لأسلحة تدخل في صناعتها مواد مشعة
الانموذج العراقي
يعتبر العراق اليوم أنموذجا" مثاليا للتلوث البيئي في الشرق الاوسط والذي سببته مخلفات الانشطة العسكرية. اضافة الى التلوث البيئي الذي سببته مخلفات الانشطة العسكرية ابان الحرب العراقية- الايرانية حيث استخدمت فيها مختلف انواع الاسلحة وبضمنها الاسلحة الكيمياوية من قبل الطرفين المتحاربين. ثم تفاقم الأمر أكثر في أثناء حرب الخليج الثانية التي شنتها الولايات المتحدة وحلفاؤها ضد العراق في مطلع عام 1991، حيث كانت الدعاية الغربية تروج لمخاطر داهمة وشيكة لاستخدام عراقي مؤكد لأسلحة كيماوية وجرثومية، الا ان العراق لم يستخدم أيا من تلك الأسلحة، بينما استخدمت القوات الأمريكية أسلحة وذخائر يدخل اليورانيوم المستنفد في صنعها، إضافة إلى أسلحة وذخائر أخرى محظورة دوليا، مما ضاعف أعداد القتلى والمصابيين العراقيين- وخاصة المدنيين- ثم لم يلبث أن ظهر مدى خطورة هذه الأسلحة والذخائر على الجنود الأمريكيين أنفسهم ممن استعملوها، وكذلك على حلفائهم من جنود بريطانيين وسواهم، إذ مات أو أصيب نحو مئة وثلاثين ألف جندي أمريكي وبريطاني، من أصل سبعمئة ألف جندي شنوا تلك الحرب، بأمراض غامضة، مثلما عرف لاحقا بـ (أعراض حرب الخليج) او (لعنة العراق). تفاقم الأمر أكثر مع استمرار التلوث الناجم عن تلك الأسلحة والذخائر، التي استخدم المزيد منها في العمليات العسكرية الأمريكية- البريطانية ضد العراق في سنوات محاصرته، وصولا إلى غزوه واحتلاله عسكريا بالكامل عام 2003، وما أعقب ذلك من عمليات عسكرية مختلفة مازالت تستخدم فيها مختلف انواع الاسلحة والذخائر لغرض ادامة الموقف القتالي لقوات الاحتلال في العراق..
نتائج التلوث البيئي في العراق
لم تسمح القوات الامريكية او البريطانية المحتلة بنشر اي تقارير عن حجم التلوث البيئي الناجم عن مخلفات الفعاليات العسكرية التي شنتها لاحتلال العراق او تلك التي مازالت تشنها منذ نيسان 2003.!. ولم يتحرك بشكل فعلي لحد الان اي من أنصار البيئة والمؤسسات العلمية ومنظمات المجتمع المدني المهتمة بالصحة والسلامة العامة ضد كافة النشاطات المدنية والعسكرية التي تسبب التلوث الإشعاعي والكيماوي والبيولوجي والتي نجمت عن مخلفات النشاطات العسكرية المكثفة في العراق خاصة و الشرق الاوسط بشكل عام نتيجة هذا التواجد العسكري الضخم في المنطقة وكثافة الفعاليات والنشاطات العسكرية التي تجري في المنطقة وتستخدم فيها اسلحة محرمة دوليا يدخل في تصنيعها ذخائر مشعة، اذ ان الخطر لم يعد يقتصر على الإصابات المباشرة، وإنما ثبت أن آثاره المدمرة تنتقل عبر الأجيال على شكل مواليد مشوهين، وإصابات بقصور في الوظائف العضوية أو العقلية، وأمراض سرطانية معقدة، وأمراض وراثية ومعدية خطيرة وهذا ما ظهر بشكل جلي وواضح في العراق. ولقد تثبتت دراسة ميدانية أجراها المركز الطبي لأبحاث اليورانيوم، وهو مركز علمي دولي مستقل، من وجود تلوث إشعاعي خطير جدا في عشر مدن في وسط العراق وجنوبه ووصلت تأثيراته الى بعض دول الخليج مثل الكويت وشمال المملكة العربية السعودية. وقد تجاوز هذا التلوث الحد الأقصى المسموح به عالميا بمئات الأضعاف.وقد أجرى الدراسة التي نشرت في شهر أيلول (سبتمبر) من العام 2005 فريق برئاسة العالم الأمريكي (آساف دوراكوفيش)، بالتعاون مع العالم الألماني (سيغفرت هورست غونتر) والباحث العراقي(محمد الشيخلي) والباحث الكندي (تيد ويمان). كما سبق ان أكد تقرير أعده برنامج الأمم المتحدة للبيئة مؤرخ في 20-10-2003، لكنه لم ينشر سوى يوم 7-1-2005، أن الحرب التي خاضتها الولايات المتحدة ضد العراق تسببت بمشكلات بيئية بالغة الخطورة، وخاص بسبب استخدام اليورانيوم المنضب في العمليات الحربية وقد أكد التقرير أن العمليات العسكرية الأمريكية والبريطانية في العراق قد أدت إلى تفاقم مشكلات بيئية يتعاظم خطرها يوما بعد يوم، وأوجدت ضغطا هائلا على البيئة وعلى المجتمع في العراق. كذلك فإن الحرائق في المنشآت النفطية والصناعية وأنابيب نقل النفط والغاز أدت إلى إطلاق كميات هائلة من الغازات التي تؤذي البشر والحيوانات والنباتات. كما أن احتراق ثلاثمئة وخمسين ألف طن من الكبريت الصافي والخام بالقرب من الموصل تسبب في انتشار الغازات والأبخرة السامة المشبعة بالكبريت إلى سورية وتركيا وعدد من جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية!
نتائج التلوث البيئي في لبنان وفلسطين
وللبنان وفلسطين حصة من التلوث البيئي الناجم عن مخلفات العمليات العسكرية الاسرائيلية في كل من لبنان وفلسطين. فقد اعترف ناطق عسكري إسرائيلي لصحيفة يديعوت أحرونوت في بأن الجيش الإسرئيلي يستخدم قذائف أمريكية الصنع تحتوي عل يورانيوم مستنفد، وأنه قد أطلق عددا من تلك القدائف مثلا في العام 1985م ضد مجموعة فلسطينية في جنوب لبنان، كما أن قوات البحرية الإسرائيلية تستخدم مثل هذه القذائف بكثرة، وقد أطلقت سفنها العديد منها ضد مجموعات لبنانية في جنوب لبنان وقد تاكد ايضا ان القوات الاسرائيلية استخدمت في حربها ضد حزب الله اللبناني قنابل عنقودية ومسمارية وانشطارية وأسلحة محرمة أخرى في جنوب لبنان وعلى الرغم من طي ملفات هذه الجرائم بضغوط أمريكية، فإن خطر النفايات وقذائف اليورانيوم المستنفد الاسرائيلية لازالت تشكل خطرا على سكان جنوب لبنان. وتم تسجيل إصابة ثلاثين من أصل مئتي لبناني يقطنون قرية زوطر الجنوبية القريبة من قلعة الشقيف بأمراض سرطانية، كذلك ارتفعت نسبة التشوهات الخلقية بين المواليد الجدد ارتفاعا كبيرا"، مما عزز ترجيح الأطباء والخبراء بأن هذه الإصابات السرطانية مرتبطة بكثافة القصف الاسرائيلي لتلك المنطقة بقذائف اليورانيوم المستنفد. وهذا الاسلوب في الفعاليات العسكرية اتبع ايضا في العراق من قبل القوات الامريكية التي لاتختلف في عقيدتها العسكرية واساليب قتالها كثيرا" عن القوات الاسرائيلية. وقد اعترفت دراسة إسرائيلية صدرت يوم 18- 5- 2005 عن معهد الشؤون العامة لمحاربة الانتهاكات في المناطق الفلسطينية بعنوان "نفايات في المناطق الفلسطينية "بدفن النفايات النووية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967. وقد أكدت الدراسة التي وضعها عدد من كبار خبراء البيئة الإسرائيليين أن السلطات الإسرائيلية تدفن نحو ثمانين طنا من النفايات النووية والكيماوية شديدة الخطورة في مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، وخاصة قرب المدن الكبرى مثل نابلس والخليل وغزة. ويعتقد العديد من علماء الجيولوجيا ان التجارب النووية التي تجريها اسرائيل تحت الارض في صحراء النقب ربما تكون وراء الزلازل التي ضربت الاراضي المصرية وشمال المملكة العربية السعودية في السنوات الماضية.
الخاتمة
لقد أنذرت دراسات برنامج الأمم المتحدة للبيئة من تفاقم الكارثة البيئية والصحية الناجمة عن مخلفات النشاطات العسكرية والحروب في فلسطين والعراق ومناطق أخرى ساخنة (صحيفة تشرين، دمشق، 27-9-2005، ص 10) وهي مخاطر تتجاوز البلدان التي تقع العمليات الحربية على أرضها وفي أجوائها ومياهها إلى مجتمعات وأراضي ومياه وأجواء البلدان المجاورة، وبلدان بعيدة كذلك أحيانا.ولم تتخذ اجراءات جدية من قبل حكومات الشرق الاوسط للتصدي لآثار هذا التلوث البيئي الخطر. ويبدو ان الجدل الدائر حول الملف النووي الايراني قد ابتعد عن تسليط الاضواء على المخاطر البيئية المحتملة في حالة تعرض المفاعلات النووية الايرانية لاي ضربات عسكرية محتملة من قبل القوات الامريكية او الاسرائيلية. الا ان عددا" من الاكاديميين يعتقدون ان النشاط الزلزالي في ايران قد يتكفل بتعريض المنطقة لمخاطر التلوث البيئي نتيجة التسرب الاشعاعي من تلك المفاعلات (كما حدث للمفاعل النووي الياباني في آب الماضي نتيجة تعرضه لزلزال) قبل ان تقوم واشنطن وتل ابيب بتنفيذ تهديدها بضرب المنشآت النووية الايرانية!.