الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتّقين، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله صلّى الله وسلّم عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فهذه كلمة موجزة في بيان جهود الشّيخ العلاّمة الورع الزّاهد الفقيه الأصولي المحقق المدقق الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر بن حمد آل سعدي في بيان العقيدة، فأقول:
إنّ من يُطالع سيرة الشّيخ رحمه الله ويَطَّلع على مؤلفاته العظيمة النافعة يجد أنّ هذا الإمام قد بذل حياته ونذر أوقاته لخدمة العلم، حيث عرف منذ حداثة سنّه ونعومة أظفاره برغبته القويّة، وحرصه الشّديد على تحصيل العلم، فكان لا يصرفه عنه صارف، ولا يشغله عنه أي أمر من الأمور، باذلاً له حياته صارفاً فيه أوقاته، زاهداً في كل ما يشغله عن العلم والتعلّم، فحفظ القرآن عن ظهر قلب في الحادية عشرة من عمره، ثم أقبل على العلماء يواظب على دروسهم، وأكبَّ على كتب أهل العلم يقرأها وينهل من معينها، فانقطع رحمه الله للعلم وتحصيله حفظاً وفهماً ودراسة ومراجعة واستذكاراً وتطبيقاً، حتى نال في وقت مبكر من عمره علوماً كثيرة وفنوناً مختلفة.
وقد بارك الله فيه وفي أوقاته ونفع به، فاستفاد منه خلق كثير في حياته، ولا يزالون ينتفعون من مؤلفاته بعد وفاته، فله رحمه الله مؤلفات كثيرة تربو على خمسين مؤلفاً في سائر فنون الشريعة ، فله مؤلفات عديدة في العقيدة الإسلامية، وفي التفسير وعلومه وفي الفقه وأصوله وفي محاسن الدين وآدابه وغير ذلك، وهي سهلة الأسلوب قريبة المأخذ واضحة المعاني جامعة شاملة.
وبذل رحمه الله جهوداً كبيرة في خدمة العقيدة خاصة والانتصار لها والذّب عنها ونهج في ذلك منهج السلف واقتفى آثارهم وترسم خطاهم، وذلك بتلقي العقيدة وأخذها من منبعها الأصيل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفهم السلف الصالح، لا بالأهواء والتشهي، والبدع والظنون الفاسدة.
ومن تأمّل كتبه وسبرها عرف شدّة عنايته بهذه العقيدة وحرصه على نشرها وتصديه لمخالفيها حيث أكثر فيها التأليف شرحاً وتوضيحاً وتقريراً وتأصيلا وردّاً على المخالفين، ومن هذه المؤلفات ما يلي:
1 ـ الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين.
وهذه الرسالة مع أنها صغيرة الحجم فإنها عظيمة النفع لما اشتملت عليه من ردود رصينة وقوية تكشف بطلان دعوى هؤلاء الملاحدة الكفرة.
2 ـ انتصار الحقّ.
وهي رسالة صغيرة عبارة عن محاورة هادفة حصلت بين رجلين كانا متصاحبين رفيقين يدينان بدين الحق، ويشتغلان في طلب العلم فغاب أحدهما مدة طويلة، ثم التقيا فإذا الغائب قد تغيرت أحواله وتبدلت أخلاقه، فسأله صاحبه عن سبب ذلك فإذا هو قد تغلبت عليه دعاية الملحدين الذين يدعون لنبذ الدين ورفض ما جاء به المرسلون.
فدارت بينهما هذه المحاورة وانتهت بإقناع الناصح زميله بفساد ما ذهب إليه.
3 ـ توضيح الكافية الشافية.
وهذا الكتاب نثر فيه الشيخ ابن سعدي نونية ابن القيم رحمه الله المسماة بـ"الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية".
4 ـ التوضيح والبيان لشجرة الإيمان.
وهي رسالة صغيرة تشتمل على مباحث الإيمان تعريفه والأمور التي يستمد منها، وفوائده وثماره وغير ذلك من المباحث المتعلقة به.
5 ـ التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة.
وهي رسالة صغيرة علق فيها الشيخ ابن سعدي تعليقاً مختصراً على العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
6 ـ تنزيه الدّين وحملته ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلاله.
وهي رسالة صغيرة ردَّ فيها الشيخ ابن سعدي على عبد الله بن علي القصيمي الذي انتكس وألحد في آخر زمانه، فأصبح يعادي الإسلام ويدعو إلى الإلحاد وإنكار وجود الله والسخرية من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم إلى غير ذلك من الكفريات وألف في ذلك كتابا أسماه (هذي هي الأغلال).
7 ـ الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين من الكافية الشافية.
وهو شرح مختصر للجزء المتعلق بتوحيد الأنبياء والمرسلين من الكافية الشافية لابن القيم، وكان الشيخ قد شرح هذا الجزء شرحاً موسعاً، ثم رأى تلخيصه في هذا الكتاب. وعليه فيكون للشيخ ابن سعدي ثلاثة مؤلفات حول نونية ابن القيم، هذان الكتابان وكتاب "توضيح الكافية الشافية" وقد سبق ذكره.
8 ـ الدرّة البهيّة شرح القصيدة التائية في حلّ المشكلة القدرية.
ناظم القصيدة التائية هو شيخ الإسلام ابن تيمية، نظمها جواباً لسؤال أورده عليه من قال إنّه ذميٌّ ليشبِّه على المسلمين ويشككهم في القضاء والقدر.
وقد شرحها الشيخ ابن سعدي في هذه الرسالة شرحاً متوسطاً جلَّى فيه عن معانيها وكشف عن غوامضها، وأضاف إليها خاتمة جليلة ذكر فيها أمثلة متنوعة تكشف مسألة القضاء والقدر وتبينها.
9 ـ الدرّة المختصرة في محاسن دين الإسلام.
وهي رسالة صغيرة ذكر فيها جملة من محاسن الدين الإسلامي ومزاياه.
10 ـ الدين الصحيح يحلّ جميع المشاكل.
وهي رسالة صغيرة عرض فيها جملة من مشاكل الحياة المهمة، وبين حلولها السليمة المأخوذة من الكتاب والسنة، وهي خمسة مشاكل:
مشكلة الدين والعقيدة، ومشكلة العلم، ومشكلة الغنى والفقر، ومشكلة السياسة الداخلية، ومشكلة السياسة الخارجية.
11ـ الرياض الناضرة والحدائق النيّرة الزاهرة في العقائد والفنون المتنوعة الفاخرة.
وهو مجلد واحد مشتمل على آداب متفرقة وفنون متنوعة وفوائد منثورة جعلها في اثنين وثلاثين فصلاً.
12 ـ سؤال وجواب في أهمّ المهمّات.
وهي رسالة صغيرة في العقيدة ألفها على طريقة السؤال والجواب اشتملت على اثنين وعشرين سؤالاً في جوانب متعددة من أمور العقيدة.
13 ـ فتح الربّ الحميد في علم العقائد وأصول التوحيد.
وهو جزء من كتابه "فتح الرحيم الملك العلاّم في علم العقائد والتوحيد والأخلاق والأحكام المستنبطة من القرآن".
حيث كان عند الشيخ رحمه الله توجّه إلى إفراد النوع الأول وهو العقائد والتوحيد باسم "فتح الربّ الحميد" وأعدَّ له مقدمة خاصّة.
14 ـ القول السديد في مقاصد التوحيد.
وهو تعليق مختصر على كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، بيّن فيه الشيخ ابن سعدي مقاصد أبواب الكتاب ومناسبتها للترجمة.
15 ـ منظومة في السير إلى الله والدار الآخرة.
وهي منظومة تتكون من ثمانية عشر بيتاً مع شرح لها ، في الحثّ على عبادة الله ومحبّته والإنابة إليه، والحث على سلوك الطريق الموصل إلى دار السلام.
إضافة إلى أن الشيخ رحمه الله له مباحث مفيدة في العقيدة منثورة في سائر مؤلفاته كالفتاوى، وتفسيره القيم، وخلاصته، وكتابه "فتح الملك العلاّم"، وكتابه "القواعد الحسان" وغير ذلك من كتبه النافعة.
وقد استفاد كثيراً من كتب من سبقه من علماء الإسلام المتقدّمين، ولاسيما من كتب العالمين الجليلين شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن قيم الجوزيّة اللذين ظهر تأثّره بهما في مؤلفاته، فقد أكبَّ على كتبهما مطالعة واستذكاراً وحفظاً وفهماً وتلخيصاً وشرحاً.. فحصل له بسبب ذلك انتفاع كبير وخير عظيم.
وتأثّره رحمه الله بشيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم يظهر من نواح متعدّد، أجملها في ما يلي:
1 ـ أجمع كلُّ من ترجم له من تلاميذه وغيرهم على عنايته بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم واشتغاله بها طيلة حياته وحثّه الدّائم لتلاميذه بالعناية بها.
2 ـ ثناؤه الدّائم عليهما وعلى مؤلفاتهما في كتبه.
فمن ذلك قوله رحمه الله في كتابه "طريق الوصول": ((إنّ كتب الإمام الكبير شيخ الإسلام والمسلمين تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية ـ قدّس الله روحه ـ جمعتْ فأوعتْ جميع الفنون النّافعة والعلوم الصّحيحة، وجمعت علوم الأصول والفروع، وعلوم النقل والعقل، وعلوم الأخلاق والآداب الظاهرة والباطنة، وجمعتْ بين المقاصد والوسائل، وبين المسائل والدلائل، وبين الأحكام وبين حكمها وأسرارها، وبين تقرير المذهب الحقّ والردّ على جميع المبطلين، وامتازت على جميع الكتب المصنَّفة بغزارة علمها وكثرته وقوّته وجودته وتحقيقه، بحيث يجزم من له اطلاع عليها وعلى غيرها أنها لا يوجد لها نظير يساويها أو يقاربها)).
وقال في الكتاب نفسه: ((وقد سلك شمس الدين ابن قيم الجوزيّة مسلك شيخه، بالتحقيق للعلوم الأصوليّة والفروعيّة والظاهرة والباطنة، وكان أعظم من انتفع بشيخ الإسلام، وأقومهم بعلومه وأوسعهم في العلوم النقليّة والعقليّة)).
وقال في "المواهب الربانيّة" في أثناء شرحه لاسم الله تعالى (اللَّطيف) وآثاره، قال رحمه الله: ((ولا يخفى لطف الباري في وجود شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في أثناء قرون هذه الأمة، وتبيين الله به وبتلاميذه من الخير الكثير والعلم الغزير، وجهاد أهل البدع، والتعطيل والكفر، ثم انتشار كتبه في هذه الأوقات، فلا شك أنّ هذا من لطف الله لمن انتفع بها، وأنه يتوقف خير كثير على وجودها، فلله الحمد والمنّة والفضل)).
وله رحمه الله قصيدة نونية تتكون من ثلاثين بيتاً نظمها في مدح هذين الشيخين الجليلين ومؤلفاتهما، منها:
يا طلبا لعلوم الشرع مجتهداً
يبغي انكشاف الحقّ والعرفان
احرص على كتب الإمامين اللذيـ
ـن هما المحك لهذه الأزمان
العالمين العاملين الحافظيـ
ـن المعرضين عن الحطام الفاني
عاشا زماناً داعيين إلى الهدى
من زائغ ومقلد حيران
أعني به شيخ الورى وإمامهم
يعزى إلى تيمية الحران
والآخر المدعو بابن القيم
بحر العلوم العالم الرباني
فهما اللذان قد أودعا في كتبهم
غرر العلوم كثيرة الألوان
فيها الفوائد والمسائل جمعت
من كل فاكهة بها زوجان
إن رمت معرفة الإله وما له
من وصفه وكماله الرباني
أو رمت تفسير الكتاب وما حوى
من كثرة الأسرار والتبيان
أو رمت معرفة الرسول حقيقة
وجلالة المبعوث بالفرقان
أو رمت فقه الدين مرتبطاً به
أصل الدليل أدلة الاتقان
أو رمت معرفة القصائد كلها
للمبطلين وردها ببيان
أو رمت معرفة الفنون جميعها
من نحوها والطب للأبدان
تلق الجميع مقرراً وموضّحاً
قد بيناها أحسن التبيان
3 ـ تأثره بهما في أسلوبه في الكتابة، وفي تقريره للمسائل، وتأصيله للقواعد، وردوده على المنحرفين، وكثرة نقله واقتباسه من أقوالهما.
4 ـ عنايته بالتأليف حول كتبهما، حيث له عدّة مؤلفات تدور حول كتب هذين العالمين إما شرحاً وتوضيحاً، أو نثراً، أو تلخيصاً.
فله حول كتب ابن تيمية:
ـ الدرة البهية في شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية.
ـ والتنبيهات اللّطيفة فيما احتوتْ عليه الواسطية من المباحث المنيفة.
وله حول نونية ابن القيم ثلاثة مؤلفات سبق الإشارة إليها.
وله أيضاً كتاب "طريق الوصول إلى العلم المأمول بمعرفة القواعد والضوابط والأصول".
وهذا الكتاب من أبرز كتبه الدّالة على شدّة عنايته بكتب الشّيخين، وهذا يظهر لنا من ناحيتين:
النّاحية الأولى: سبب تأليف الكتاب، إذ ألفه رحمه الله ليكون بديلاً لكتاب ابن تيمية المسمى "قواعد الاستقامة"، فقال: ((طالما بحثنا عنه لتحصيله من مظانه فلم يتيسر، لكثرة فوائد)).
والنّاحية الأخرى: مادة هذا الكتاب، فهو عبارة عن أكثر من ألف قاعدة وأصل وضابط وتعريف، استخرجها من أكثر من ستين كتاباً من كتب شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم بعد قراءة متأنية في هذه الكتب.
هذا وإنّ المقصود مما تقدّم الإشارة إلى بعض جهود هذا الإمام في عنايته بالعقيدة السلفيّة والذّب عنها، وكنت أفردت رسالة علميّة في هذا الموضوع وهي مطبوعة بعنوان "الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وجهوده في توضيح العقيدة". والله تعالى أعلم.
وأسأل الله أن يغفر للشيخ عبد الرحمن بن سعدي وأن يرحمه ويجزيه خير الجزاء، وأن يجعل هذه الجهود العظيمة في ميزان حسناته، وأن ينـزله الفردوس الأعلى، وأن يبارك في عقبه إنه سميع مجيب.
وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتبه عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر .