ال
حمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين بعد أن أثبتنا حجية كل من الكتاب والسنة في باب العقيدة دون تفريق بين الأحاديث المتواترة وأخبار الآحاد من حيث الاستدلال بها، ثم ناقشنا الزاعمين الاكتفاء بالقرآن دون السنة وأبنّا بطلان منهجهم. فجدير بنا أن نتحدث عن منهج السلف في إثبات صفات الله تعالى وأسمائه، وقبل أن نشرع في شرح المنهج وذكر قواعده فلنعرف من هم السلف؟
عندما نطلق كلمة السلف إنما نعني بها من الناحية الاصطلاحية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين حضروا عصره فأخذوا منه هذا الدين مباشرة غضاً طرياً في أصوله وفروعه. كما يدخل في هذا الاصطلاح التابعون لهم الذين ورثوا علمهم قبل أن يطول عليه الأمد، والذين شملتهم شهادة الرسول لهم وثناؤه عليهم بأنهم "خير الناس" حيث يقول صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"83، كما يشمل الاصطلاح تابعي التابعين.
وهو لفظ مصطلح عليه، وقد ظهر هذا الاصطلاح، واشتهر حين ظهر النـزاع ودار حول أصول الدين بين الفرق الكلامية، وحاول الجميع الانتساب إلى السلف وأعلن أن ما هو عليه هو ما كان عليه السلف الصالح، فإذاً لا بد أن تظهر والحالة هذه أسس وقواعد واضحة المعالم وثابتة للاتجاه السلفي حتى لا يلتبس الأمر على كل من يريد الاقتداء بهم، وينسج على منوالهم ويمكن إيجاز تلك القواعد فيما يلي:
القاعدة الأولى: تقديم النقل على العقل:
ولكن تقريرنا بأن النقل مقدم على العقل لا ينبغي أن يفهم منه أن السلف ينكرون العقل والتوصل به إلى المعارف، والتفكير به في خلق السموات والأرض وفي الآيات الكونية الكثيرة لا، ولكنهم لا يسلكون في استعمال العقل الطريقة التي سلكها علماء الكلام في الاستدلال بالعقل وحده في المطالب الإلهية من محاولة الاكتفاء به أحياناً، لو استطاعوا، أو تقديسه بحيث يقدمونه على كلام الله خالق العقل والعقلاء، وعلى سنة رسوله التي هي وحي الله.
بل إن السلف من منهجهم لا يدعون التعارض بين الدليلين، بل ينفون هذا التعارض الذي يصطنعه علماء الكلام المتأثرون بفلسفة اليونان، علماً بأن المسلك الذي سلكه علماء الكلام هو في الواقع مسلك الفلاسفة غير الإسلاميين في الأصل الذين لا يثبتون النبوات، ولا يرون أن إرسال الرسل، وما جاءوا به من نصوص الصفات، ونصوص المعاد أنها حقائق ثابتة. فكان أقوى شيء عندهم في الاستدلال على إثبات الأمور "العقل" ما أثبته العقل فهو الثابت، وما نفاه العقل فهو المنفي، فورثوا التركة لعلماء الكلام.
أما المؤمنون الذين يؤمنون بالأنبياء وبالكتب المنـزلة عليهم وبما جاء فيها، ويؤمنون أن الرسل كلفوا أن يبينوا للناس ما أنزل إليهم من ربهم: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}84الآية المؤمنون الذين يؤمنون هذا الإيمان فلا يجوز لهم أن يعرضوا عما جاءهم من ربهم من الكتاب والحكمة، وعن بيان رسولهم ليلتمسوا الهدى في غيره، ويعتمدوا في إثبات الصفات على عقول الفلاسفة، أو عقول تلامذتهم المتأثرين بهم. ولو وصفوها أنها أدلة عقلية قطعية وبراهين يقينية، وهي في حقيقتها بضاعة غير "إسلامية" وهم يعلمون من أين جاءت، ومتى جاءت، ومن جاء بها، كما أشرنا آنفاً، ثم إنهم نصبوا العداء بينها وبين الوحي، فقد أغنى الله المؤمنين بكتابه المبين وسنة نبيه الأمين عن تكلف المتكلفين، ومن الوقوع في العنت معهم85.
وبالاختصار: إن السلف إنما يقدمون الأدلة النقلية على الأدلة العقلية إيماناً منهم بأن الله أرسل الرسل، وأنزل عليهم الكتب من عنده، وكلفهم ببيان ما يحتاج إلى البيان "لأمر له شأنه" وهو أن ما جاء في هذه الكتب، وبلغته الرسل يغني عن كل شيء. وأما غيره فلا يغني عنه. هذه النقطة هي "سر المسألة" فلا يسع الخلف إلا اتباع السلف على أساس أنهم أعلم وطريقتهم أحكم وأسلم.
وكل خير في اتباع من سلف
وكل شر في ابتداع من خلف86
ما أصدق مضمون هذا البيت علماً أن قائله خلفي، وكأنّ الناظم يشير بهذا البيت إلى الحديث الشريف الذي يقول فيه رسول الله عليه الصلاة والسلام: "كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".
وأما ما يسوقه بعض علماء الكلام من مصطلحاتهم الكلامية، فيطلق عليها أنها أدلة قاطعة، فلا ينبغي أن تسلم هذه الدعوى، ولا سيما إذا عارضوا بها آيات قرآنية أو سنة نبوية صحيحة، -وهو الغالب عليه- للأسباب الآتية:
السبب الأول: أن كبار أئمتهم قد أدركوا خطورة هذا الموقف على "إيمانهم" فرجعوا في آخر حياتهم عن هذا المسلك إلى منهج السلف الذي نحن بصدد بيانه وفي مقدمتهم الإمام أبو الحسن الأشعري الذي عاش أربعين عاماً في الاعتزال، وهو إمامهم ثم تاب الله عليه فتاب. وسوف يأتي مزيد بيان لهذه النقطة إن شاء الله عند الترجمة لبعضهم.
السبب الثاني: لا يجوز شرعاً، ولا يستساغ عقلاً أن يعارض كلام الخالق العليم بالمصطلحات التي وضعها المخلوق الجاهل الضعيف. وخاصة إذا تصورنا أن واضعي هذه المصطلحات من غير المسلمين في الغالب الكثير، كما أشرنا آنفاً.
السبب الثالث: أن موافقتهم فيما ذهبوا إليه تؤدي إلى الاستخفاف بأدلة الكتاب والسنة وأنها لا قيمة لها، حيث لا يستدل بها على وجه الاستقلال، وإنما تعرض عرضاً شكلياً -كما هو الواقع، وللأسف لدى كثير من الكلاميين على الرغم من إيمانهم في الظاهر.
فلا بد من العمل بهذه النصوص بالاستدلال بها ليصدق الإيمان بها، هذا ما يعنيه الإيمان بالكتاب والسنة.
ومما يوضح ما ذهبنا إليه من أن القاعدة الأساسية عند السلف في باب الأسماء والصفات "تقديم النقل على العقل" موقف عبد العزيز المكي في حواره مع بشر المريسي بين يدي المأمون، حيث حرص عبد العزيز على بيان منهج السلف وتحديده قبل الشروع في الحوار ليكون هو الأساس والمرجع عندما يختلف هو وبشر أثناء الحوار، ولما طالبه المأمون أن يوضح أصل ذلك المنهج أبان بإيجاز حيث تلا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}87.
ثم بيّن أن هذه طريقة اختارها الله لعباده المؤمنين وأدّبهم بها وعلمهم أنه لا يسعهم عند التنازع في أي شيء إلا الرجوع إلى كتابه وإلى رسوله في حياته عليه الصلاة والسلام، وإلى أخباره وسنته بعد وفاته لحل النـزاع. وكل ما خالفهما يجب رفضه وعدم الالتفات إليه. ثم قال: فقد تنازعنا أنا وبشر وبيننا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن الإيمان بالله واليوم الآخر والإيمان بالكتاب نفسه وجوب الرجوع إليهما. مكتفين بهما حكماً لحل نزاعنا. فأقر المأمون هذا المنهج الذي عرضه المكي، وحقيقته: تقديم النقل على العقل، واعتبار النقل مرجعاً أساسياً في باب الأسماء والصفات، بل وفي كل باب.
والذي يدلنا على أن هذا هو منهج السلف ومذهبهم أن الصحابة نقلوا إلينا القرآن وأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم. نقل مصدق غير مرتاب في صدق قائله وصدق ما يقوله وينقله، ثم لم يؤولوا ما يتعلق منه بالصفات من الآيات والأحاديث، بل كانوا ينكرون بعنف على من يتتبع الغوامض من نصوص هذا الباب، وربما ضربوه88 لئلا يفتن الناس بالتأويل، فدل ذلك على أن منهجهم هو اتباع النقل فقط مع عدم تأويله89.
فخلاصة قواعدهم:
1- تقديم النقل.
2- عدم التأويل.
3- عدم التفريق بين الكتاب والسنة.
وسوف نفصل ذلك في الصفحات التالية إن شاء الله.
ولقد كان اللاحق منهم يحرص على فهم هذا المنهج من السابق منهم ويأخذ بتفسيره ولا يخالفه، ويأخذ الأوائل قدوة، لأن الوحي كان ينـزل بين أظهرهم، فكانوا أعلم بتفسيره ممن بعدهم.
ويروي لنا في هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية ما كان يقوله الإمام مالك بن أنس نقلاً عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم جميعاً حيث يقول عمر: "سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سنناً الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال الطاعة لله، وقوة على دين الله، وليس لأحد من خلق الله تغييرها، ولا النظر في شيء خالفها. من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاّه الله ما تولّى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً"90.
وهو كلام يلقي ضوءاً واضحاً على ما أشرنا إليه آنفاً أن اللاحق منهم يقتدي بالسابق. ثم إنهم كانوا متفقين غير مختلفين في أصول الدين، ولم تظهر فيهم البدع والأهواء، وهم أهل الحديث وحفاظه ورواته وعلماؤه المتبعون للآثار، لا الآراء وذلك سبيل المؤمنين91، واقفين عند قوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا}92.
ومن سبيلهم في باب الاعتقاد، الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه التي وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم لا يزيدون ولا ينقصون ولا يفسرونها فيما يخالف ظاهرها الذي يظهر من وضع اللفظ العربي، ولا يشبهونها بصفات المخلوقين، بل يمرونها كما جاءت ويردون علم حقيقتها إلى قائلها، مع اعتقاد أنها على الحقيقة وكثير ما يحيل التابعون ومن بعدهم من سألهم أو أراد أن يفهم ما أشكل عليهم يحيلونهم على علم الصحابة، والأمثلة على ذلك كثيرة في كلام الأئمة من التابعين ومن بعدهم.
ومن هذا السياق يتبين الفرق بين طريقتهم التي تُخضِع العقل للنقل وبين طريقة المتكلمين من المعتزلة والأشاعرة الذين يقدمون العقل على النقل، ويؤولون نصوص الكتاب والسنة حتى توافق العقل في زعمهم، والنصوص الصحيحة لا تخالف العقل الصريح كما سيأتي.
القاعدة الثانية: رفض التأويل93. ولفظ التأويل قد صار مستعملاً في ثلاثة معان على ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية بتعدد الاصطلاحات:
أحدها: وهو اصطلاح كثير من المتأخرين - من المتكلمين- أن التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به وهذا هو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل النصوص، وهو الذي يرفضه أتباع السلف الصالح قديماً وحديثاً، لأنه يؤدي إلى القول على الله بغير علم.
النوع الثاني: التأويل الذي هو بمعنى التفسير والبيان، وهو الغالب على اصطلاح المفسرين للقرآن كابن جرير وغيره.
النوع الثالث: التأويل الذي بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الكلام كما قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ}94، وأمثلة هذا النوع كثيرة في القرآن، ولا سيما ما يتعلق بأخبار المعاد95.
فالتأويل في اصطلاح المتكلمين إنما يعني اتخاذ العقل أصلاً حتى يكون النقل تابعاً له، فإذا ما ظهر تعارض بينهما - في زعمهم- فينبغي تأويل النص حتى يوافق العقل.
ولم يعلموا - أو هم يتجاهلون- أن الحجة العقلية الصريحة لا تعارض الحجة الشرعية الصحيحة. بل يمتنع تعارضهما إلا إذا كان هناك فساد في أحدهما أو فيهما جميعاً96، علماً بأن العقل إنما هو أمر معنوي يقوم بالعاقل سواء سمي عارضاً أم صفة، وليس هو عيناً قائمة بنفسها كما يعتبرها بعض الفلاسفة97.
فالسلف يحتكمون إلى النصوص في كل شيء كتاباً وسنة، ويكتفون بها، ولا يعارضونها بالأدلة العقلية كما ذكرناه آنفاً.
القاعدة الثالثة: عدم التفريق بين الكتاب والسنة
يرى السلف أن السنة تبين الكتاب وتوضحه وتفسره، بل السنة خير تفسير يفسر به القرآن بعد القرآن، بل قد يتوقف فهم بعض ما أجمل في القرآن إلا بواسطة السنة، وقد ترد أحكام بل صفات من صفات الله تعالى في السنة غير مذكورة في الكتاب، فيجب الأخذ بهما معاً دون محاولة تفريق بينهما، لأنها وحي من عند الله من حيث المعنى. ولقد رأينا السلف كيف استغرقوا في القرآن تلاوة وحفظاً وعكوفاً على تفسيره وتفهمه، منفذين أحكامه ومستنبطين منه القواعد في النظر العقلي، ومستمدين منه حقائق عالم الغيب هذا.
ويتضح مما تقدم أن مدلول السلفية أصبح اصطلاحاً معروفاً يطلق على طريقة الرعيل الأول، ومن يقتدون بهم في تلقي العلم، وطريقة فهمه، وبطبيعة الدعوة إليه، فلم يعد إذاً محصوراً في دور تاريخي معين، بل يجب أن يفهم على أنه مدلول مستمر استمرار الحياة وضرورة انحصار الفرقة الناجية في علماء الحديث والسنة، وهم أصحاب هذا المنهج، وهي لا تزال باقية إلى يوم القيامة، أخذاً من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي منصورين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم"98.
وموقفهم من هذا المبحث واضح مما تقدم وهو الاتباع المطلق لأنه مبحث توفيقي لا يخضع للاجتهاد أو الاستحسان أو القياس، بأن يوصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم دون تحريف للنصوص باسم التأويل، ودون تشبيه لصفاته بصفات خلقه، انطلاقاً من قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}99، {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}100، وهنا ثلاث نقاط ينبغي أن نعتبرها أسساً في هذا الباب:
1- إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يصف الله أعلم بالله من الله: {أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ}101، كما لا يصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال الله تعالى فيه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}102.
2- تنـزيه الله عز وجل من مشابهة الحوادث في صفاته في ضوء قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}103، والآية تشتمل على التنـزيه لله والإثبات معاً كما ترى.
3- عدم محاولة إدراك حقيقة صفاته كما لم تدرك حقيقة ذاته سبحانه إيماناً بقوله تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}104، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}105.
ومن التزم بهذه الأسس الثلاثة لا يكاد يتورط فيما تورط فيه المعطلون لصفات الله بدعوى التنـزيه، ولا يقع في التشبيه بالمبالغة في الإثبات بل هو دائماً على الحق الذي هو وسط بين الطرفين. وهو الذي عليه أئمة المسلمين بل كل إمام من الأئمة المشهود لهم بالإمامة يدعو إلى هذا المنهج فإليك نموذجاً من كلام بعضهم وهو شرح لما كان عليه الأمر عند الرعيل الأول:
أ- قال الإمام الأوزاعي: كنا - والتابعون متوافرون- نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من الصفات. نقل هذا التصريح عن الإمام الأوزاعي الإمام البيهقي في كتابه "الأسماء والصفات"106، وهو تصريح يدل على إجماع التابعين المبني على إجماع الصحابة المستند إلى صريح الكتاب وصحيح السنة في صفة الاستواء وغيرها من الصفات الواردة في الكتاب والسنة.
والإمام الأوزاعي -كما يصفه شيخ الإسلام ابن تيمية- أحد الأئمة الأربعة الذين كانوا في عصر تابع التابعين وهم:
1- مالك بن أنس بالحجاز المتوفى سنة 179هـ.
2- الأوزاعي بالشام المتوفى سنة 157هـ.
3- الليث بن سعد بمصر المتوفى سنة 175هـ.
4- الثوري بالعراق المتوفى سنة 161هـ.
وذكر الأوزاعي هذا الإجماع عندما ظهر جهم بن صفوان منكراً كون الله تعالى فوق عرشه، بل نافياً جميع صفات الله تعالى ذكره ليعرف الناس أن ما نادى به جهم مخالف لما كان عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومصطدم من منهجهم لئلا ينطلي على عامة الناس دعواه بأن ما انتهى إليه مؤيد بالبراهين العقلية التي هي في واقعها وهميات وخيالات لا حقيقة لها.
ب- سئل الإمام محمد بن شهاب الزهري "المتوفى سنة 125" والإمام مكحول "توفي وله بضع عشرة سنة بعد المائة" سئلا عن تفسير أحاديث الصفات؟ فقالا: أمروها كما جاءت.
وروي مثل هذا الجواب عن الإمام مالك، والليث، والثوري، فقالوا جميعاً في أحاديث الصفات: أمروها كما جاءت بلا كيف.
والزهري ومكحول -كما يصفهما الإمام ابن تيمية- من أعلم التابعين، ووصف الأربعة الذين تقدم ذكرهم، وهم مالك وزملاؤه أنهم أئمة الدنيا في عصر تابع التابعين. وفي الوقت الذي يحثون على المنهج السلفي، فإنهم يحذرون الناس عن منهج أهل الكلام. فهذا الإمام الشافعي يقول في ذم أهل الكلام والتنفير عنه: "حكمي في أهل الكلام أن يُطاف بهم في القبائل والعشائر ويضربوا بالجريد، ويُقال: هذا جزاء من ترك كتاب الله واتبع علم الكلام"107اهـ.
أما الإمام مالك108 فما أروع ما قاله! في هذا الصدد، إذ يقول رحمه الله: "أوكلما جاءنا رجل أجدل من رجل، تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد عليه الصلاة والسلام لجدل هؤلاء؟!"109.
وبعد: فلو أن مسألة من المسائل الفقهية الفرعية نالت مثل هذا الاتفاق من هؤلاء الأئمة الأعلام دون أن يشذ عنهم أو يخالف أحد تضر مخالفته اعتبرت مسألة إجماعية. وعيب على كل من يخالف هذا الإجماع وأنكر عليه العامي قبل العالم، فلا غرو إذا أنكر أتباع السلف على من يخرج على هذا المنهج الذي أجمع عليه الصحابة وعلماء التابعين، كما علمنا من كلام الإمام الأوزاعي رحمه الله.



--------------------------------------------------------------------------------

83 أخرجه أحمد في مسنده 4/427، والبخاري مكرراً في عدة مواضع 5/285، ومسلم 4/1964، 1965، عن غير واحد من الصحابة عائشة رضي الله عنها وابن مسعود وأبي هريرة وعمران بن حصين.
84 سورة المائدة آية: 67.
85 راجع صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام للسيوطي 1/223، تحقيق د. سامي النشار وسعاد علي عبد الرزاق، مجمع البحوث الإسلامية.
86 صاحب جوهرة التوحيد.
87 سورة النساء آية: 59.
88 إشارة إلى ما فعله عمر بن الخطاب حيث ضرب "صبيغاً"، ثم نفاه إلى البصرة وأمر الناس بعدم مجالسته، وصبيغ على وزن أمير وهو ابن عسيل وقصته معروفة.
89 راجع: منهج علماء الحديث والسنة للدكتور مصطفى حلمي ص: 122، ط دار الدعوة الإسكندرية.
90 ابن تيمية: الحموية الكبرى ص: 32، تحقيق محمد عبد الرزاق حمزة.
91 ابن تيمية مجموع الفتاوى 9/279.
92 سورة النساء آية: 115.
93 لأن المعنى المؤول إليه ظني بالاتفاق، كما قال الشهرستاني نقلاً عن بعض أئمة السلف، كالإمام مالك وأحمد، فلا يجوز القول في حق الله وفي صفاته بالظن، والتأويل المرفوض هو تأويل علماء الكلام الذي معناه الحقيقي التحريف فالتعطيل، وسيأتي كلامه في صلب الرسالة ص:433.
94 سورة الأعراف آية: 53.
95 راجع: ابن تيمية الحموية الكبرى ص: 33.
96 ابن تيمية مجموع الفتاوى 9/279 مطابع الرياض.
97 د. مصطفى حلمي، قواعد المنهج السلفي ص: 35-46، ط دار الأنصار بالقاهرة 1396هـ/1976م.
98 أخرجه أحمد 4/93، والبخاري في العلم 1/164، وفرض الخمس 6/217، والاعتصام بالكتاب والسنة 13/293، ومسلم 4/1524 من حديث معاوية رضي الله عنه.
99 سورة الشورى آية: 11.
100 سورة الإخلاص آية: 4.
101 سورة البقرة آية: 140.
102 سورة النجم آية: 3، 4.
103 سورة الشورى آية: 11.
104 سورة طه آية: 110.
105 انظر أضواء البيان 3/304، تفسير سورة الأعراف.
106 الأسماء والصفات ص: 408.
وصحح ابن تيمية إسناده في الفتوى الحموية الكبرى، وأورده الذهبي في سير أعلام النبلاء 8/355، وفي العلو كما في مختصره للألباني ص: 138.
107 انظر قوله في مناقب الشافعي للبيهقي 1/462.
108 تقدم قوله.
109 ابن تيمية، مجموع الفتاوى 5/29-31 بالمعنى.