السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
سئل الإمام الشوكاني رحمه الله : ( عـن معنى حديث بني الإسلام على خمسة أركان وما يترتب عليه ، وما المراد من بناء الإسلام على خمسة ، هل يصير له حكم البناء القائم على أركان إذا أختل البعض منها أختل أصل البناء ، فإذا كان هذا المراد فأصل الإسلام وأساسه كلمة التوحيد المحتوية على النفي والإثبات ، فالمنفي كل فرد من أفراد حقيقة الإله غير مولانا جلّ وعلا ولا ثبت في تلك الحقيقة فرد واحد وهو مولانا جلّ وعلا ، فلا توجد تلك الحقيقة لغيره ، فهذا التركيب الشريف مكلف من معرفة في قولنا لا إله إلا الله هو نفي الإلهية عن كل شيء وأنها نهايته ، فهل لابد لكل مكلف من معرفة قولنا لا إله إلا الله واستحضار هذا المعنى عند التلفظ بها أصلاً ، والموجب لهذا الاستشكال أني تتبعت أشياء منها ما صار خُلقاً وعادة عند تشييع الجنائز من التهليل فتنطق طائفة بالنفي وتقتصر عليه والطائفة الآخرة تنطق بالاستثناء فقط وأنكرت ذلك أنا وغيري مراراً ولا أحد فهم وجه الإنكار .
وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحقها " .
ومن حقها فيهم اشتملت عليه ، وإذا كان الأمر في هذا الركن المشتمل على التوحيد على هذه الصفة فهل يكون ذلك في سائر الأركان ، فالصلاة الواجبة أو مـالا تصح إلاّ به قطعاً لا يتم الإسلام إلا بهما فما حكم من تركها مستمراً أو في بعض الأحيان أو ترك ما لا يتم إلاّ به قطعاً ، وكذلك الزكاة والصوم والحج فهل يثبت حكم الإسلام لمن أتى بالبعض وترك البعض الآخر، فمن تفضلاتكم وعميم إحسانكم الإفادة على كل واحد من الخمسة الأركان ، وفيمن أتى بالأكثر منها وترك الأقل مثل أن يأتي بالصلاة والصوم والحج ويقول الشهادة ويترك الزكاة مثل ثعلبة بن حاطب أو تساهل بالصلاة وأتى بالأركان الآخرة وهل يستوي التارك لركن واحد وهو والتارك للجميع أصلاً ؟.
فأجاب رحمه الله تعالى : معنى قوله صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمسة أركان أن هذه الخمسة هو التي عليها عُمدة الإسلام لا يتم إلا باجتماعها فهو من باب الإستعارة تشبيهاً للأمر المعنوي وهو الإسلام بالأمر الحقيقي الموجود في الخارج وهو الشيء المبني ، فكما أن الأبنية الموجودة في الخارج لا تتم إلاّ بما لا بد منه ، كذلك الإسلام لا يتم إلا بهذه الأمور الخمسة وقد أشار إلى هذا المعنى الحقيقي الشاعر بقوله :
والبيت لا ينبني إلا بأعمدة * ولا عمود إذا لم تًرس أوتاد .
وقـد أشار إلى معنى هذا الحديث ما صح عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - في الصحيحين وغيرهما مـن طرق أنـه لما سُئل عـن الإسلام فقال : " أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقيم الصلاة وتوتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ". فأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن ما مـاهية الإسلام هي هذه الخمسة ، ومما يؤيد أنه لا يتم الإسلام إلا بالقيام بهذه الأركان ما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم من الحكم بكفر من ترك أحدهما كما في قوله – صلى الله عليه وآله وسلم - : " بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة " ، ومثل قوله تعالى : " ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " ، ومثل ما صح عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما من طرق أنه قال : " أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويُقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويصوموا رمضان ويحجوا البيت " .
ثم عقب ذلك بأن من جاء بهذه فقد عصم ماله ودمه فأفاد ذلك أن دم من لم يُقم بهذه غير معصوم وكذلك ماله ولا يكون ذلك إلاّ لعدم خروجه من دائرة الكفر إلى دائرة الإسلام إلا بها ، وكذلك أجمع الصحابة رضي الله عنهم على قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه : " والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة " فقاتل هو والصحابة رضي الله عنهم المانعين من الزكاة وحدها وحكموا عليهم بالردة وسمّوا قتالهم قتال أهل الردة .
وأما ما ذكر السائل عافاه الله : من أنه هل يجب تصور معنى لا إله إلا الله فهذا التركيب يفهمه كل عربي لا يخفى على أحد كما يفهم معنى قول القائل ما في الدار إلا زيد وما جاءني إلاّ عمرو وهذا يكفي في القيام بكلمة الشهادة التي هي مفتاح باب دار للإسلام وأعظم ركن من أركانه ، وإذا قالها الكافر وجب الكف عنه حتى يشرح الله صدره للإسلام فيقوم ببقية الأركان ،
ولهذا ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لأسامة بن زيد رضي الله عنه لما قتل كافراً بعد أن قال لا إله إلا الله واعتذر بأنه قالها تعوذاً من القتل فقال له صلى الله عليه و آله وسلم : " أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله " ثم كرر عليه ذلك حتى تمنى أسامة رضي الله عنه ما تمنّاه وفي قصة أخرى أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم : " ما أُمرت أن أفتش عن قلوب الناس " أو كما قال .
وأما ما ذكره السائل عافاه الله : من أنه قد يقول بعض من يحمل الجنازة بالنفي فقط ثم يجيبه الآخر بالإثبات فلا يخفى أن هؤلاء لهم عذر واضح وهو أنهم قد جعلوا أنفسهم بمنزلة الشخص الواحد فكأنّ مجموع النفي والإثبات قائم بكل واحد منهم وهم لا يريدون غير هذا ولو قيل للنافي كيف قلت : " لا إلـه " فقط ، فإن ذلك يستلزم نفي إلهية الرب سبحانه لقال لـم أُرد هذا ، بل أردت أنه الإله وحده اكتفاء بالإستثناء الواقع من الآخرين فهذا اللفظ وإن كان مستنكراً وبدعة ، ولكنه لا يستلزم مـا فهمه السائل والعمدة على ضمائر القلوب ومقاصد النفوس ، ومثل هذا في الابتداع ما يلهج به كثير من المتصوفين في أنه يُهمل اللفظ الدال على النفي ويقتصر على اللفظ الدال على الاستثناء تحرّجاً منه عن مدلول بلفظ النفي الشامل وهو جهل منه فإن الكلام بتمامه ، ولا يتم إلا بمجموع النفي والإثبات وهو شأن كل استثناء متصل ومع هذا فتعليم الشارع لأمته أن يقولوا : لا إله إلا الله يدخض كل شبهة ويرفع كل جهل وقد جاء بذلك القرآن الكريم في غير موضع ، فهذا المتصوف الجاهل تحرج عن تعليم الله عزوجل ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وظن بجهله أنه قد جاء بما هو أولى من ذلك مع أنه جاء بكلام غير مفيد وتركيب ناقض ، وليس بمعذور كما عُذر الجماعة الذي يقول أحدهم بالنفي والآخر بالإثبات لأن أؤلئك قد نزلوا أنفسهم منزلة الشخص الواحد ، وأما قول السائل فهل يكون ذلك في سائر الأركان .. إلخ .
فنقول : نعـم لابد أن يأتي بكل واحد منها على الصفة المُخزية التي لا اختلال فيها باعتبار ما هو الواجب الذي لا تتم الصورة الشرعية إلا به فإن انتقض من ذلك ما يخرج ما جاء به عن الصورة الشرعية فهو بمنزلة من ترك ذلك من الأصل لكنه إذا كان ذلك لجهله بالوجوب عليه وترك التعلّم لمـا يلزمه فهو من هذه الحيثية أثم بترك واجب التعلم مع ظنه بأن الذي افترضه الله عليه هو ما فعله على تلك الصورة الناقصة يدفع عنه معرّة الكفر ولا يدفع عنه معرّة الإثم ،
وقد ثبت أن بعض أهل الكفر تكلم بكلمة الشهادة ثم عرض الجهاد فجاهد وقُتل فأخبر النبي صلى الله عليه وآله بأن الله تعالى أدخله الجنة ولم تُصل ركعة فجعل اشتغال هذا بواجب الجهاد عُذراً ، والجاهل لو علم أن صلاته الواجبة لا تتم بالصلاة التي جاء بها على الصورة الناقصة لجاء بالصورة التامة وبادر إلى تعلّمها لكن اجتمع تفرطُ أهل الجهل عن التعلم وتفريط أهل العلم عـن التعليم فاشتركت الطائفتان في الإثم ، لأن الله سبحانه أوجب على العلماء أن يعلًموا وأخذ الله عليهم الميثاق فذلك كما في قوله : " وإذا أخذ الله ميثاق الذين أُوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه " وفي الآية الأخرى : " إن الذين يكتمون " إلى أخر الآية المصرحة باستحقاقهم للعنة الله عزوجل ولعنة اللاعنين .
فهؤلاء فرّطوا فيما أوجب الله عليهم من التعليم كما فرط الجاهلون فيما أوجب الله عليهم من التعلم
، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية والحمد لله أولاًوآخراً ، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه ) إهـ الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (4/1833 )