تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 15 من 15

الموضوع: أمراض القلوب

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Mar 2009
    الدولة
    امريكا
    المشاركات
    168

    افتراضي أمراض القلوب

    أمراض القلب أو مرض البعد عن الله تبارك وتعالى
    أعراضه.. أسبابه... علاجه
    أولا: اعراض هذا المرض الخطير

    [size="4"][center]يتسّم مرض البعد عن الله تعالى باثني عشرة عارضا, وقلما يوجد انسان بريئا حتى ولو بعرض واحد منها, والسعيد السعيد من عافاه الله تعالى منها جميعا:
    1. الرياء....2.الغضب.. 3. التكبر ...4.التجبر..5. ضعف أو غياب التقوى..6. ضعف أو غياب الحياء..7. الاسراف في المعصية.. 8. ضعف أو غياب الاحسان..9. الكذب.. 10.غياب أو قلة الاستغفار من الذنب...11. الحرص.....12الطمع
    ومن يجد في نفسه عارضا أو أكثر فليلجأ الى الله سائلا اياه تبارك وتعالى أن يكشفه عنه, ولا نقول أنّ الانسان ملاك ولا يخطىء, بل كل انسان خطاء ولكن خير الخطائين التوابون, وهناك أعراض مبتلى بها بعضنا ولا بدّ لنا من استئصالها جذريا حتى نـُكمل ايماننا, ويـُصلح الله لنا أحوالنا, فمغفرة الله عزوجل لعبادة مرهونة بشروط حددها المولى تبارك وتعالى في سورة طه 82 بأربعة شروط فقال عزوجل: واني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثمّ اهتدى ... ومن سياق الآية الكريمة نجد كيف أنّ الله تبارك وتعالى قد قدّم التوبة على الايمان لأنه لا يكتمل ايمان قلب العبد الا بتوبة نصوح من الذنب , كما في قوله تعالى في سورة التحريم 8: يا أيها الذين آمنوا توبوا الى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من نحتها الأنهار...
    ومعنى هذه الآية كما قال عنها ابن كثير رحمه الله: اي تاب من الذنب توبة لا رجعة اليه, وآمن بقلبه فلم يشكك في ايمانه ولا يرتاب, وعمل صالحا بجوارحه, وقال ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله تعالى: ثم اهتدى: أي لم يشكك , ولم يرتاب, وقال سعيد بن جبير رحمه الله: أي استقام على السنة والجماعة, وقال قتادة رضي الله عنه: أي لزم الاسلام حتى الموت.
    يقول المولى تبارك وتعالى في سورة يونس (57) : يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدي ورحمة للمؤمنين. ويقول الامام ابن القيم في شرح هذه الآية الكريمة أنه لا شيء هناك أحق من أن يفرح العبد به من فضل الله عزوجل ورحمته وما تتضمنهاا من الموعظة الحسنة, وشفاء الصدور, والتي من أدوائها الهدي والرحمة .....
    وقال تعالى في آية كريمة ختم بها سورة الكهف: فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا... وقال العلماء شراح القرآن الكريم ومفسريه عن هذه الآية الكريمة أنها نزلت في الرياء وهو الشرك الأصغر, وروى الامام أحمد رحمه الله عن شداد بن أوس رضي الله عنه أنه بكى, فقيل: ما يبكيك؟ قال: شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبكاني, سمعته يقول: أتخوّف على أمتي الشرك والشهوة الخفيّة, قلت: يا رسول الله! أتشرك أمتك من بعدك؟ قال: نعم.. أما انهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا ولا حجرا ولا وثنا, ولكن يراؤون الناس بأعمالهم.. والشهوة الخفية: أن يصبح أحدهم صائما فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه (أي لأجلها)... وهذا الحديث الشريف يحثنا على الاخلاص في العبادة وأن تكون أعمالنا خالصة لوجه الله الكريم حتى يكتب لها القبول.
    و يقول الله عزوجل: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين.. وقال الإمام القرطبي في تفسيره لهذه الآية: أي شفاء للقلوب بزوال الريب منها وكشف غطاء القلب عن الشك.. وقال الإمام ابن كثير: ".. أي يذهب ما في القلوب من أمراضها ....
    وأمراض القلوب كلنا يعلمها والنفاق على رأسها, وكما أخبرنا القرآن الكريم بأنّ هناك صفات للمنافقين لا تعد ولا تحصى, وقد لخصها لنا النبي صلى الله عليه بأربعة عشرة علامة ذكرها في أربع أحاديث , واليكم نصوصها:
    الحديث الأول: أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا, ومن كان فيه خصلة منها كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: اذا حدّث كذب... واذا وعد أخلف (أو اذا عاهد غدر) ... واذا اؤتمن خان.. واذا خاصم فجر.
    الحديث الثاني: رواه أبو هريرة عنه صلى الله عليه وسلم فقال:انّ للمنافقين علامات يـُعرفون بها: تحيتهم لعنة.. وغنيمتهم غـُلول... وطعامهم نـُهبة... لا يقربون المساجد الا هجرا.. ولا يأتون الصلاة الا دُبـُرا... لا يَألفون... ولا يـُؤلفون... خـُشبٌ بالليل... صُخـُبٌ بالنهار.
    الحديث الثالث: أية المنافق ثلاثة: اذا حدّث كذب.. واذا وعد أخلف.. واذا أؤتمن خان.
    الحديث الرابع: وروى البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: انّ هاتين الصلاتين أثقل صلاة على المنافقين (يعني الفجر والعشاء) ولو يعلمون ما بهما من الأجر لأتوهما ولو حبوا.
    ثانيا: اسباب هذا المرض
    انّ معظم أمراض العصر التي ابتليت بها الأمة سواء العضوية منها أو النفسية مردها يعود الى مرض أصاب قلوب هذه الأمة نطلق عليه مرض البعد عن الله تبارك وتعالى كما في قوله عزوجل في سورة المطففين 14: كلا بل ران علي قلوبهم ما كانوا يكسبون.
    ويقول النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: انّ العبد اذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه, فان تاب منها صقل قلبه, وان زاد زادت... والرين هنا: هو كثرة الذنوب والخطايا , والتي اذا استقرت في القلب لبسته لبسا كما يلبس أحدنا الثوب, ويقول النسائي رحمه الله: انّ العبد اذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة سوداء , فان هو نزع واستغفر وتاب صقل الله قلبه, فان عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه, فهو الران الذي قال الله عزوجل وجل: بل ران على قلوبهم ماكانوا يكسبون.
    وعلاج هذه الأمراض علاجا مؤقتا لا يـُفيد أبدا, ولا يـُرجى منه فلاح, بل لا بدّ من العلاج الجذري وان طال أمده, وقد جاء رجل الى العالم الرباني التابعي سفيان القوري رحمه الله يشكو له هذا المرض: مرض البعد عن الله تعالى, فوصف له رحمه الله الوصفة التالية والتي عليها سيدور بحثي الطويل هذا والمكوّن من اثني عشر فصلا ليكون مرجعا لكل مبتلى به ولا أستثني نفسي من حتى ولو من عرض منها, السعيد من اعتبر وعمل لما بعد الموت.... اللهم اجعلنا جميعا وبرحمتك منهم.
    ثالثا: علاج المرض أو نص الوصفة
    يا هذا عليك بعروق الاخلاص وورق الصبر وعصير التواضع ، ضع هذا كله فى اناء التقوى وصب عليه ماء الخشية وأوقد عليه بنار الحزن على المعصية وصفه بمصفاة المراقبة ، وتناوله بكف الصدق وأشربه من كأس الاستغفار وتمضمض بالورع وابعد عن نفسك الحرص والطمع ، تشفَى من مرضك باذن الله.
    إن أشهر الأمراض التي تصيب البشر بعقيدتها, لا تخرج بحال عن الأمراض التالية: القلق والتوتر.. الحسد والغيرة... الاكتئاب والإحباط..الوسوا س والانطوائية والخجل. الحرص على الدنيا والذي يؤدي الى الخوف من المستقبل أو حتى الآخرين..الطمع بما في أيدي الناس أو الحياةالحرص على الدنيا.. الحيرة والطمع بما فيها.. الحسد... الغيرة... وما عدا ذلك من أمراض عضوية ونفسية فهي حتما مشتقة منها وبمسميات مختلفة.
    انّ الله عزوجل عندما أوجد هذه الأمراض , أوجدها من رحمته وحبه لعباده لتكون سببا في التوصل اليه في الدعاء والعبادة الصادقة المخلصة, كما في قوله تعالى: وقال ربكم ادعوني أستجب لكم, وقوله عزوجل: واذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداع اذا دعان, فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون.
    انّ القرآن الكريم وما يتضمنه من أوامر ونواهي هو الدواء الوحيد لجميع أمراضنا, وهو أهم وسيلة علاجية جذرية تساعدنا على التخلص من همومنا ومشاكلنا, كما في قوله تعالى: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين
    ومن يتمعّن في هذه الآية الكريمة سيجد أنها لا تخصّ أحدا سوى المؤمنين, لذا كان وجوبا أن يكون القرآن شفاء لمن يؤمن به أنه كذلك, ومن لا يعتقد هذا الاعتقاد فلن يؤثلر فيه, كما في قوله عليه الصلاة والسلام عن ماء زمزم المباركة: زمزم لما شرب له... أي يشفي من كان مؤمن بأنها شافية ونيته بشربها صادقة.
    وأختم هذه المقدمة التي أعتبرها أساسية تمهيدا للدخول في البحث الطويل الذي سيتناول بمشيئة الله تعالى اثني عشرة عنصرا ان نحن تمكنا من الأخذ بها جميعا نكون قد نجونا بأنفسنا ونلنا رضا الخالق تبارك وتعالى, ولا أخاطبك أيها القاريء الفاضل هذه الخطاب الا لأنك قاريء مسلم تستوعب تماما ما أقصده وما أرنو اليه, سواء على مستوى حياتك العملية والعلمية والنفسية والاجتماعية والأسرية, وفوق كل ذلك علاقتك بربك سبحانه وتعالى وبكتابه الكريم وبنبيه صلى الله عليه وسلم انطلاقا من : رضانا بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا....
    تابعوا هذا البحث القيّم المكون من 12 عرضا مرضيا لأمراض القلوب ليكون باكورة مقالاتي على هذا صفحات هذا المنبر العلمي
    والله فوق كل ذي علم عليم.

    الرجاء ممّن يجد أيّ خطأ مطبعي في آية قرآنية أو حديث نبوي شريف أن ينوِّه اليه وأجره على الله عزوجل, وهذا ليس حصرا على مقالاتي فحسب, وانما على جميع المقالات المنشورة , وجزاكم الله خيرا.

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Mar 2009
    الدولة
    امريكا
    المشاركات
    168

    افتراضي رد: أمراض القلوب

    العرَضْ الأول الرياء وعلاجه بعروق الاخلاص


    يقول المولى تبارك وتعالى في سورة البيّنة:وما أمرواا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء وذلك دين القيّمة
    ويقول عزوجل في آية عظيمة ختم بها سورة الكهف: فمن كان يرجو لقاء ربّه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا

    ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: إنّ الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه قيل: وما إتقانه يا رسول الله ؟ قال : يخلصه من الرياء والبدعة.

    كيف يتحقق الاخلاص؟

    بالعمل والطاعة لله وحده لا شريك له, والمقصود بالعمل هو الاتيان بأركان الاسلام من صلاة وصيام وزكاة وحج, وما يتفرع عن هذه الأركان من واجبات وشروط, كقراءة القرآن والصدقات النافلة وجميع أعمال البرّ التي يتقرّب بها العبد لخالقه تبارك وتعالى, وكل عمل لا يتوفر فيه ابتغاء وجه الله الكريم فهو باطل ومردود على صاحبه, واذا قال أحدنا لشخص ما أنني أساعدك أو أفعل أو أخدمك هذه الخدمة لوجه الله الكريم فانه ينبغي عليه أن يكون صادقا في قوله حتى لا يـُكتب عند الله مُرائيا, فالرياء ليس عكس الاخلاص كما يفهم البعض, ولكنه اذا غاب الاخلاص من قلب الانسان ظهر الرياء , وان تبرأ الواحد منا من الرياء كان مخلصا لله تعالى, ونستنبط من هذا أنّ أحدهما يظهر خلال غياب الآخر, وكما ورد في القرآن الكريم في سورة الماعون تغليظ شديد اللهجة بألا نكون مرائين في أعمالنا , وقد توعد الله تعالى المرائين بالويل, والويل كما قال عنه ابن عباس رضي الله عنهما عبارة عن واد في جهنم لو سيّرت فيه جبال الدنيا لذابت من شدة حرارته, وسيكون مسكن كل من يرائي الله تعالى في أعماله ويمنع الأمر بالمعروف , ومسكن من يتهاون بالصلاة فيؤخرها عن وقتها, واذا كان الأمر كذلك, فما بالنا بمن يترك الصلاة بالكلية؟ فهو حتما كافر كما سنرى لاحقا.

    أيضا لم تخلوا الأحاديث النبوية الشريفة من التحذير من هذه الصفة الوبيلة, فقال عنها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها الشرك الصغر لقوله عليه الصلاة والسلام:

    أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر, فقيل: وما هو يا رسول الله؟ قال عليه الصلاة والسلام: الرياء.. يقول الله تعالى يوم يجازي العباد بأعمالهم: اذهبوا الى الذين كنتم تراؤونهم بأعمالكم, فانظروا هل تجدون عندهم جزاء

    وهذا كما في قوله تعالى في سورة الزمر 47: وبدا لهم من الله مالم يكونوا يحتسبون

    عقوبة عدم الاخلاص في العبادة

    انّ عقوبة الرياء أو عدم الاخلاص في العبادة هي عقوبة المشرك بالله عزوجل لما فيها من ضرر بين الناس, ذلك أنّ الرياء كالنفاق تماما : هو اظهار شيء وابطان شيء مخالف له, ولأنّ المرائي عادة لا يبتغي بعمله وجه الله عزوجل وانما يبتغي وجه من من يرائيه, لذا فقد أوجب الله تعالى عليه هذا القصاص, فالعمل انما يـُؤجر عليه مَن عمل له, فان كان قصد به رضا الله عزوجل فقد وجد ثوابه وأجره عند الكريم الذي لا يظلم مثقال ذرة من خردل أو أقلّ منها, بينما ان كان العمل يقصد به غير وجه الله عزوجل فيطلب منه الله يوم القيامة أن يطلب أجره ممّن راءى له العمل.

    حال المراؤون يوم القيامة

    واقرؤوا معي الحديث النبوي الشريف بآذان القلوب كي نستوعب مخاطر الرياء ومصير من لا يخلص في الطاعة أو العمل, فقد روي مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: انّ أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد في سبيل الله, فأتي به, فعرفه نعمته فعرفها, قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت.. قال: كذبت! ولكنك فعلت ليقال هو جريء وقد قيل , ثمّ أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار

    ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال, فأتي به فعرفه نعمته فعرفها, قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحبّ أن ينفق فيها الا أنفقت فيها لك.. قال: كذبت! ولكنك فعلت ليقال هو جواد, وقد قيل, ثمّ أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.

    ورجل تعلم العلم وعلمّه وقرأ القرآن, فأتي به فعرفه نعمته فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته, وقرأت فيك القرآن.. قال: كذبت! ولكنك تعلمت ليقال هو عالم.. وقرأت ليقال هو قارىء وقد قيل, ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.

    اذا تأملنا الآية الكريمة التالية في سورة البينة: وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب الا من بعد ما جاءتهم البينة
    وهي التي سبقت قوله تعالى: وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيّمة

    لوجدنا كيف أنّ الله تبارك وتعالى جعل الاخلاص في العبادة سببا في قبول الأعمال, وأتبعه باقامة الصلاة وايتاء الزكاة لأنهما عبادتين متلازمتين لا تفترقان أبدا, احداهما بدنيّة والثانية معنوية, وعليهما يقوم الدين كله اذا توفر عنصر الاخلاص فيهما.. فمن قبلت صلاته فقد قبل منه سائر العمل , وان فسدت فلا يرجى خيرا من أعمال البرّ الأخرى, لماذا؟
    لأنّ الصلاة هي الفيصل بين الايمان والكفر لقوله عليه الصلاة والسلام: العهدالذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر
    وقوله عليه الصلاة والسلام: بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة...
    بمعنى أنّ الله تبارك وتعالى اذا وافاه عبده يوم القيامة كافرا أو مشركا أو منافقا , فلا يقبل له أيّ عمل صالح عمله بالدنيا طالما أنه مات على الكفر.

    يقول الله تبارك وتعالى في سورة مريم 59-60

    فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا

    والغي هو: واد في جهنم بعيد عقره خبيث طعمه, شديدة حرارته, تشتغيث جهنم نفسها من شدة حره

    اذن نيّة المصلي يجب أن تكون خالصة لله تعالى وحده, وليس حتى يقول عنه الناس أنه مصلّ , قال عليه الصلاة والسلام: ربّ مصّل ٍ لا خير فيه, وقال عمر رضي الله عنه: لا تنظروا الى صلاة المرء وصيامخ ولكن انظروا الى صدقه في الحديث.

    ونيّة الصائم يجب أن تكون خالصة لوجه الله تعالى لا ليقال عنه أنه صائم, وكذلك الزكاة والحج وقراءة القرآن والصدقات وسائر القربات والعبادات الأخرى, فالمخلص في عبادته هو الذي يكتم حسناته كما يكتم سيئاته, والاخلاص ألا تحبّ محمدة الناس على شيء فعلته حتى لا تدخل نفسك في متاهات الرياء, والاخلاص أن يعافيك الله عزوجل من الرياء.. قال الفضيل بن عيّاض رضي الله عنه: ترك العمل لأجل الناس رياء... والعمل لأجل الناس شرك.. والاخلاص أن يعافيك الله منهما...وكل عمل لم يكن خالصا لوجه الله الكريم فهو رياء ومردود على صاحبه لا ثواب له في الآخرة, لقوله صلى الله عليه وسلم: انّ الله لا يقبل من العمل الا ما كان خالصا
    انله وابتغيَ به وجهه.

    لماذا فرضت الصلاة؟

    انّ الله تبارك وتعالى ما فرض الصلاة علينا الا لتؤدى على أكمل وجه, ليختبر الله عزوجل الصبر فينا, أي. الصبر على الطاعة وهو الجزء الثاني من هذا البحث القيّم فتابعوه.. فالله تبارك وتعالى في أيات القرآن الكريم والتي تخصّ الصلاة , كانت خطاباته الجليلة عزجل لنا ب: وأقيموا الصلاة, ويقيموا الصلاة, ويقيمون الصلاة, وأقم الصلاة, وليس صلي أو صلوا, ومعنى أقيموا أي أدّوها كما أمرنا الله تعالى أن تؤديها, بأركانها , وخشوعها , وشروطها, وواجباتها, وأوقاتها, امتثالا لأمره عزوجل , فلا يشغلنا عنها شاغل, لا شغل, ولا عمل, ولا زوجة ولا أبناء, ولا مال, ولا أصحاب, ولا ملهيات, والله تبارك وتعالى لعلمه الذي سبق حكمه قد بيّن لنا كيف أنّه سيكون من أبناءنا وأزواجنا من هم أعداؤنا, وأمرنا أن نتخذهم أعداء لنا ان هم خالفوا شرع الله ومنهجه القويم, لماذا؟ لأنّ الله تبارك وتعالى يعلم أنّ تقصيرنا في اعطاء الصلاة حقها انما ناتج عن أحد هذه الأسباب: زوجة.. أبناء.. شغل أو عمل , الحرص على دنيا زائلة وسيأتي يوما ويقسم المجرمون أنهم ما لبثوا فوقها الا ساعة: يوم يقسم المجرمون أنهم ما لبثوا الا ساعة , واقرؤوا قوله تعالى في آيات بينات جليلات ختم بها سورة التغابن تبيّن لنا واقع ابن آدم الحقيقي:
    يا أيها الذين آمنوا انّ من أزواجكم وأولادكم عدوّا لكم فاحذروهم, وان تعفوا وتصفحوا وتغفروا فانّ الله غفور رحيم* انما أموالكم وأولادكم فتنة, والله عنده أجر عظيم* فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم, ومن يوق شحّ نفسه, فأولئك هم المفلحون

    وما ذكر الله عزوجل الزوجة والولد والمال الا لأنهم زينة الحياة الدنيا أي شهواته, ولأنهم سبب هلاك ابن آدم اذا لم يحسن التوفيق بين عبادة الله تبارك وتعالى وشهواته, بمعنى أنّ الزوج أو الأب يلتهي بأسرته وشغله عن العمل الصالح والطاعات فيتقاعس عن الصلاة أو يصليها دون اطمئنان فيكون حاله كحال المسيء صلاته, وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم لصحبه الكرام عن المسيء صلاته: ترون هذا لو مات, مات على غير ملة محمد صلى الله عليه وسلم, ينقر صلاته كما ينقر الغراب الدم... وكما نفهم من الحديث أنّ الله تعالى لم يقبل لنا صلاة العجلة الخالية من الاطمئنان فحسب, بل اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم أنّ صلاة السرعة ليست مقبولة, والا ما تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: مات على غير ملة محمد صلى الله عليه وسلم الا الكفر؟

    وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد في ايثار أزواجنا وأبناءنا وأشغالنا على اخلاصنا في العبادة, بل تفضيلهم يقودنا الى ترك الجماعات التي هي من سنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأولياء الله الصالحين, وما أوجد الله المساجد الا لاعمارها..ولا يعمرها الا بنو آدم.. الا المصلين.. الا عباد الله المخلصين., يقول الله عزوجل في الحديث القدسي الجليل : وعزتي وجلالي اني لأهمّ بأهل الأرض عذابا, فاذا نظرت الى عمّار بيوتيفاذا كان الله تبارك وتعالى قد شفع أهل الأرض قاطبة وأمّنهم من العذاب ببركة عمّار المساجد, فما بالنا باكرام الله عزوجل لمن يعمّر هذه المساجد؟ وهو الكريم الذي يضاعف الأجر لمن يشاء , والله عنده حسن الثواب.

    سؤال يترك في الحلق غصّة ونحن ننفق أوقاتنا هباء منثورا في متابعة مسلسلات وأفلام وبرامج ما أنزل الله بها من سلطان, ومسامرة أهل وأبناء وأصدقاء واهدار الأوقات بالساعات دون فائدة ترجى, على حين صلاتنا نصليها كصلاة الخائف من , من يحمل لنا عصاة ويلحقنا بها, واني من هذا المنبر المبارك أقول لكم أيها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها أعطوا الصلاة حقها ووقتها وخشوعها وتدبرها وأركانها واطمئنانها كي يتقبلها الله منا ولا يضرب بها وجوهنا.
    فمزيدا من التدبر والخشوع والاطمئنان في الصلاة رحمكم الله أيها المسلمون, فالصلاة أول سؤال يباغتنا في القبر وعليها تقاس جميع الأعمال.

    سبحان ربك ربّ العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله ربّ العالمين

    ترقبوا الجزء الثاني من هذا البحث : الصبر على الطاعة

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Mar 2009
    الدولة
    امريكا
    المشاركات
    168

    افتراضي رد: أمراض القلوب

    العَرَضْ الثاني الغضب ويعالج بالصبر على الطاعة


    يقول المولى تبارك وتعالى في سورة البقرة 155-157

    ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من االأموال والأنفس والثمرات, وبشر الصابرين* الذين اذا أصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا اليه راجعون* أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة, واولئك هم المهتدون

    وهذه الآية الكريمة لأكبر دليل على امتحان وابتلاء الله عزوجل عباده المؤمنين , فتارة يختبرهم بالسراء وبحبوحة العيش وتارة بالضراء من خوف وجوع ونققص في المال والنفس والولد والثمرات والرزق وضنك المعيشة والمرض وموت الأحباب وما الى ذلك من مصائب الدنيا, ويريد الله عزوجل من الفئة الأولى الشكر على نعمائه ليتحقق فيهم نصف الايمان الأول, ومن الفئة الأخرى الصبر على المصائب والبلايا ليتحقق فيهم نصف الايمان الثاني,كما في قوله تعالى: لئن شكرتم لأزيدنكم , والصبر ليس له جزاء الا الجنة كما أخبرت الآيات الكريمات , وان جزعنا ’ فالله عزوجل يعلم الصادق فينا من الكاذب والصابر من الجازع, وهذا ما تجلى في قوله عزوجل في سورة العنكبوت: أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا أمنا وهم لا يفتنون* ولقد فتنا الذين من قبلهم, فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين

    فالابتلاء من الله تعالى يكون على المؤمنين أشدّ من غيرهم, أوكما في الحديث: أشدّ الناس بلاء الأنبياء, ثمّ الصالحون, ثمّ الأمثل فالأمثل, يبتلى الرجل على حسب دينه, فان كان دينه في صلابة زيد في البلاء.. وهذه الآية الكريمة تماما كقوله تعالى: أم حسبتم أن تتركوا ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين

    أي الذين صدقوا في دعوى الايمان, ممن كذبوا في أقوالهم ودعواهم, والله تعالى يعلم ما كان وما يكون وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون, وهذا مجمع عليه عند أئمة السنة والجماعة, وبهذا يقول ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عزوجل: الا لنعلم: أي لنرى, وذلك لأن الرؤية انما تتعلق بالموجود, والعلم أعمّ من الرؤية, ذلك أنّ العلم يتعلق بالمعدوم والموجود معا, بينما الرؤية تتعلق بالموجود والمحسوس, لذا كان علم الله تعالى السابق الأزلي أعم من الروية الحسية, لهذا فقد أتبع الله تعالى الآيات في سورة العنكبوت بقوله عزوجل: أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون... وهذا يعني أنّ الذين يسيئون الظن فهم لا يحسنون كيفية الخلاص من هذه الفتنة والامتحان باللجوء الى ذكر الله تعالى , وما ذلك الا نابعا عن ضعف ايمانهم أو انعدامه, ولا لعلمهم بأنّ ما وراء ذلك من العقوبة والنكال لقاء ظنهم السيء ذاك ما هو أشدّ واغلظ من هذا بكثير, ولهذا قال المولى عزوجل: ساء ما كانوا يحكمون أي بشيء ما يظنون.

    ما هو الصبر؟

    الصبر


    * هو حبس النفس عن الجزع، واللسان عن الشكوى، والجوارح عن لطم الخدود وشق الثياب ونحوهما. وهو خُلق فاضل من أخلاق النفس,. وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها..

    * هو أن يعوّد الانسان نفسه على تحمّل متاعب الحياة في جميع ميادينها ومشاكلها ومتاعبها وآلامها وأحزانها, وما يتعرض اليه الانسان من فقر وجوع أو استقبال صدمة موت عزيز بقلب مؤمن بقضاء الله وقدره, ابتغاء وجه الله عزوجل ومرضاته, مؤمنا ايمانا كاملا بأنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه, ذلك أنّ الله تعالى قدّر للخلائق جميعا في سابق علمه الأزلي كل ما سيتعرضون له في حياتهم من مولدهم الى مماتهم والى ماشاء الله من بعد, وهو تماما كما في قوله تعالى في سورة الحديد 23- 24:

    ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم الا في كتاب من قبل أن يبرأها, انّ ذلك على الله يسير* لكيلا تأسوا على مافاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم, انّ الله لا يحبّ كل ّ مختال فخور.

    وقال قتادة رضي الله عنه عن تفسير قوله تعالى: ما أصاب من مصيبة في الأرض هي السنون ويعني الجدب والقحط ونقص من الثمرات والزرع وما الى ذلك من المعايش, أما عن قوله تعالى ولا في أنفسكم فيقول: هي الأوجاع والأمراض والبلايا والعاهات وكل مصيبة تصيب الانسان في الدنيا من موت عزيز الى ما هنالك من المصائب في الدنيا

    وقال رضي الله عنه: وبلغنا أنه ليس أحد يصيبه خدش عود, ولا نكبة قدم, ولا خلخال عرق الا بذنب, وما يعفو الله عنه لأكثر, ولعلّ هذه الآية الكريمة دليل على القدرية نفاة علم الله تعالى السابق قبحهم الله.

    وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قدّر الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة

    وفي قوله تعالى: ان ذلك على الله يسير: أي أنّ علمه عزوجل بالأشياء قبل كونها سهل عليه عزوجل, لأنه سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما يكون وما سيكون الى أبد الأبدين, أما عن قوله عزوجل: لكيلا تيأسوا على مافاتكم: أي أعلمناكم بتقدم علمنا وسبق كتابتنا للألشياء قبل حدوثها وكينونتها , وما تقديرنا للكائنات قبل وجودها لتعلموا أنذ ما أصابكم لم يكن ليخطئكم, وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم, فلا تحزنزا ولا تتذمروا ولا تيأسوا على ما فاتكم من الخير, وقوله تعالى: ولا تفرحوا بما آتاكم: ولا تفخروا على الناس بما أنعم الله عليكم, فانّ ذلك لم يكن بشطارتكم ولا بسعيكم ولا بكدكم, وانما هو من قدر الله سبحانه وتعالى ورزقه الواسع الكريم الذي يرزق من يشاء بغير حساب, فلا تتخذوا نعم الله أشرا وبطرا تفخرون بها على الناس وأنتم منها بلا حولا ولا قوة, ولهذا ختم الله الآية بقوله: ان الله لا يحب كل مختال فخور.. مختال في نفسه متكبر على غيره, معتقدا أنّ ما به من نعمة بمجهوده, متناسيا أنذ ما به من نعمة فمن الله, ولذا كان من دعاءه صلى الله عليه وسلم في الصباح والمساء قوله: اللهم ما أصبح بي أو امسي بي من نعمة أو بأحد من خلقك فهي منك وحدك لا شريك لك, فلك الحمد.

    ورحم الله من قال:

    واذا أتتك مصيبة فاصبر لها صبر الكريم فانه بك أرحم

    واذ شكوت الى ابن آدم انما تشكو الرحيم الى الذي لا يرحم


    ولنا في أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام أسوة حسنة في الصبر , ولسنا هنا في معرض الحديث عن صبر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام, فهما بلغنا من الصبر درجاته من المحال أن نصل اليهم صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين.

    أنواع الصبر


    الصبر صبران: الصبر على الطاعات... والصبر على المعاصي, ويدخل في كليهما الصبر على البلاء حسب الحال, وقد ذكر الصبر بنوعيه في القرآن الكريم في أكثر من تسعين موضعا, وأفضل انواعه ما كان على الطاعات.

    أولا- الصبر على الطاعات


    الصبر على الطاعات من افضل أنواع البر, لأجل ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه, وعندما سألته السيدة عائشة عن ذلك وقد غفر الله ما تقدم له من ذنبه وما تأخر, اجابها عليه الصلات والسلام: أفلا أكون عبدا شكور

    لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يذكرون الله وكأنما على رؤوسهم الطير من الوقار والسكينة، لقد كان الصحابة رضوان اله عنهم يؤمهم النبي صلى الله عليه وسلم بالأعراف والصافات في صلاة المغرب, ومن من أئمة اليوم من يفعل ذلك, وان فعل فمن أين سنأتي بمصلين يصبرون على ذلك؟

    لأجل لك كان الصبر نصف الايمان, هذا الخلق الفاضل من أخلاق النفس الرفيعة المقبلة على الطاعت بنهم ارضاء لخالقها تبارك وتعالى, كان لا بد لنا العودة الى السلف الصالح في وصفهم للصبر في هذا الوقت من الزمن الذي كثرت فيه المصائب, وعمّت الفتن, وزادت الشهوات, وبعدما أصبح القابض على دينه كالقابض على جمرة من نار, وبعدما باتت حاجة الناس لهذه الفضيلة الرائعة فضيلة الصبر كحاجة أحدنا لقدح كأس ماء بارد في جو شديد الحرارة, فنسأل الله تعالى أن يرزقنا جميعا حلاوة الايمان ونؤدي طاعاتنا الى الله من صلاة وصيام وزكاة وحج وما الى ذلك من أعمال البر التي ترضي خلقنا ونحن مقبلين عليها لا مدبرين... فالصبر كما ورد في الحديث ليس له جزاء الا الجنة.

    ذلك أنّ النفس الصابرة تقود صاحبها الى الجنان, ذلك أنذ من يمنع النفس عن شهواتها فقد قادها في سيرها الى رضا الله عزوجل وبات يفعل أعماله كلها في رضا الله تعالى , ومن رضي الله عنه فقد رزق الجنة لقوله تعالى: أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة...... وقوله تعالى: انما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
    وقوله عزوجل: والله يحب الصابرين... وانّ الله مع الصابرين... ولئن صبرتم لهو خير للصابرين... وبشّر الصابرين...ولئن صبرتم لهو خير للصابرين....


    وهكذا نجد القرآن الكريم يعج بآيات الحث على الصبر في الطاعات ذلك أنذ النفس البشرية أساسا مجبولة على الشهوات ومنفرة لكثير من العبادات, فهي تكره الصلاة بسبب الكسل وايثار الراحة عليها, وتكره الزكاة لحب النفس البشرية حبا كثيرا كما في قوله تعالى: وتحبون المال حبا جما... وتكره الصيام كي تكون النفس مطواعة للشهوة فتكره النفس المارة بالسوء أن تقيدها عبادة.. وعلى ذلك قس كل طاعة من الطاعات تجد لها من ينفرها ويقبل على شهواتها.



    ثانيا: الصبر على المعاصي


    وهذا النوع الثاني من الصبر والذي أدنى درجة من الصبر على الطاعات, لماذا؟ لأنّ الصابر على الطاعة صابر على المعصية بصورة تلقائية والعكس ليس صحيحا, فان وجدت نفسا صابرة على الطاعة, فصبرها على أعمال البر ستمنعها من ارتكاب الآثام وستكون حذره في ارتكاب الآثام, بينما ان وجدت نفس صابرة على الآثام فليس شرطا أن تكون صابرة على الطاعة, وقد لا تجدها تقبل على الطاعة أساسا الا ان كانت فريضة, فعلى مستوى الصلاة تجد كثير من الناس تصلي القروض فقط ولا تأتي بالنوافل, وعلى مستوى الصيام تجد كثير من الناس لا تصوم الا شهر رمضان لأنه فرض في السنة مرّة, وعلى مستوى الزكاة هناك كثير من الناس ان كان وجدتهم يؤدون زكاة أموالهم بشكل دوري تجدهم لا يتصدقون على الفقراء والمساكين وأعمال البر الأخرى ويكتفون باخراج الزكاة الذي هو فريضة واجبة, وعلى مساوى الحج تجدهم يحجون مرة فريضة العمر ومن بعدها يتقاعسون عن حج التطوع .. وهكذا... بينما الصابر على الطاعات نجده يبتعد عن جميع المعاصي وان وقع في معصية نجده سريهع التوبة فلا يتمادى فيها... وكا في قوله تعالى: الا الذين صبروا وعملوا الصالحات.. نجد أن الله تعالى هنا قدّم الصبر على العمل اتقاء للرياء والسمعة الذسي يذهب الثواب كله.

    وعن قوله تعالى في سورة البقرة 45-46: واستعينوا بالصبر والصلاة وانها لكبيرة الا على الخاشعين * الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم اليه راجعون (ا يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الصبر صبران: صبر عند المصيبة حسن... وأحسن منه الصبر عن محارم الله.. اي عن الشهوات.

    وقال عنها أبو العالية رضي الله عنها: الصبر على مرضاة الله لأنّ الصبر طاعة وكذلك الصلاة... وللك سمي شهر الصيام شهر الصبر لما فيه من الكف عن الشهوات والمعاصي والجوارج.. ولذا قرن الله الصبر بآداء العبادات وأعلاها الصلاة.


    صور من الصبر على المعاصي


    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله: كان صبر يوسف عليه السلام عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب، وبيعه، وتفريقهم بينه وبين أبيه، فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره، ولا كسب له فيها، ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر، أما صبره عن المعصية، فصبر اختيار ورضا، ومحاربة النفس، ولا سيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة.

    وقال رحمه الله: الصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرَّمات وأفضل، فإن مصلحة فعل الطاعة أحب إلى الشارع من مصلحة ترك المعصية، ومفسدة عدم الطاعة أبغض إليه وأكره من مفسدة وجود المعصية.

    ويقول الشافعي رحمه الله عن سورة العصر: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر لو لم ينزل من القرآن إلا هذه السورة لكانت كافية وحجة على الأمة.

    ويقول رحمه الله: رأيتُ بالمدينة ـ المنورة ـ أربع عجائب, وهنا أذكر منها ما يخص بحثنا: أنّ شيخاً قد أتى عليه تسعون سنة، يدور نهاره أجمع حافياً راجلاً على القينات يعلمهن الغناء، فإذا أتى الصلاة صلى قاعداً.

    ومعه الحق الامام الشافعي رحمه الله أن يعجب, وكيف لا يعجب وقد غدا الناس غير الناس؟ وكيف له لا يعجب وقد باتت المساجد مهجورة؟ وهجران المساجد احدى علامات النفاق العشرة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم؟ وكيف لا يعجب والبائع قابع في دكانه من الصباح الى المساء دون كلل أو ملل , على حين , حين تسأله لمَ لمْ تحضر على صلاة العشاء يـُطالعك لك بحجة التعب والارهاق؟

    وكيف لا يعجب, ومنا من يعكف على متابعة مباريات كأس العالم ومسابقات ملكات الجمال على حين المسجد لا نعرف له دربا اللهم الا من صلاة يتيمة اسبوعية هي صلاة الجمعة؟ كيف لا يعجب ونحن نتابع مهرجانات الرقص الشرقي أو نتصفح الانترنت ونجلس بالساعات الطوال مع غرف الدردشة على حين ننقر ركعتي الفجر ونضع رؤوسنا على الوسادة ونغط في نوم عميق؟
    كيف لا يعجب وفينا يخرج من المسجد ويبقى يتحدث مع أخيه المصلي بالساعة والساعتين في أمور الدنيا خارج المسجد, اذا استغرقت صلاة الامام ربع ساعة أو اطمئن في ركوع أو سجود يقيمون الدنيا على رأسه..

    نعم وفي الحديث أنّ: من أمّ الناس فليخفف .. ولكن صلاة أربع ركعات بربع ساعة هو وقتها الطبيعي ولكن الناس تريد مواكبة عصر السرعة فطبقوها على الصلاة حتى بدت خاليه من أيّ خشوع, حتى لتكاد صلاتهم تلامس صلاة المسيء صلاته.. وماذا تقول اذا قلت لك أنّ الامام الألباني ذكر في كتابه صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يؤم الصحابة بصلاة المغرب بالصافات ومان أحدهم يتذمّر أبدا, من من أئمة اليوم يقرأ الصافات في ثمان ركعات تراويح؟

    ماذا تقول ان قلت أنه ورد عن أبو بكر رضي الله عنه أنه أم الناس في صلاة الفجر بالبقرة, وأن عمر بن الخطاب رضي عنه يوم مقتله كان يؤمّ الناس بسورة يوسف؟ وكثيرا ما كان رضي الله عنه يقرأ في صلاة الفجر بسورتي هود والنحل, هل كان الرعيل الأول كله صحيح البدن معافى في جسده ويعيش في بحبوحة من العيش؟ أو في ظل وماء ورفاهية متناهية كما نعيش نحن اليوم؟ ربما لو كانوا يتنعمون النعيم الذي نحن فيه اليوم لوصلوا ليلهم بنهارهم في العبادة لا يفترون ابدا

    وذكر الامام الألباني رحمه الله قصة الأعرابي الذي شكا معاذ رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم بسبب اطالته للصلاة, حيث أن معاذ بن جبل رضي الله عنه بعد أن يصلي العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم, يؤمّ مجموعة من الصحابة لم يدركوا صلاة العشاء في جماعة, وكان يقرأ البقرة في الركعة الأولى وسورة القمر في الثانية, فعاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وقال له: أفتانٌ أنت يا معاذ! اذا صليت بالناس يا معاذ فاقرأ بسور المفصل, والشمس وضحاها والسماء ذات البروج؟

    أين نحن من صلاتنا اليوم؟ وأين موقعها من الاخلاص؟ لا نكاد نضع رؤوسنا في الركوع أو السجود الا ونرفعه.. ماذا دهانا وقد غدت صلاتنا خالية من أيّ اطمئنان؟ وأين نحن من الخشوع والاطمئنان في الصلاة التي هي من أجلِّ العبادات وأفضل القربات؟

    يقول المولى تبارك وتعالى في سورة طه 132: وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها, لا نسألك رزقا, نحن نرزقك, والعاقبة للمتقين,

    كثير من الناس يستشهدون بهذه الآية على أن الاصطبار يعود للأهل من زوجة وأبناء, والحقيقة عكس ذلك تماما, فالاصطبار يعود الى الصلاة وليس الى الاهل, ولعلّ هذه الآية من أولويات الآيات التي تدعو الى الصبر على الطاعة, وهل هناك أهم من الصلاة كطاعة؟ وكما هو معلوم بأنّ الخشوع في الصلاة هو ركن من أركان الصلاة, وترك أيّ ركن في الصلاة يبطلها, ذلك أنّ الخشوع في الصلاة هو سرها ومقصودها، وأنّ الاطمئنان في الركوع والسجود هو فرض في الصلاة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لمن لم يطمئن في صلاته : صلّ فانك لن تصلّ " ثلاث مرات، وقد جاء عن أبو هريرة وعمر بن الخطاب وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين أنه: كم من مصلٍّ سبعين سنة، ليس له من صلاته شيء ، ربما أكمل ركوعها ولم يكمل سجودها، أوأكمل سجودها ولم يكمل ركوعها.

    لأجل ذلك ولأنّ الرعيل الأول كان مقبلا على العبادة بقلب خاشع ذليل وجـِلْ خائف مستكين فقد مدحهم بقوله تبارك وتعالى فقال فيهم: وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً.. وبقوله عزوجل: أولئك يجزون الغرفة بما صبروا، ويلقون فيها تحية وسلاماً, وقوله جل وعز: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار.

    ان القرآن الكريم حين تناول فضيلة الصبر لم يتناولها على أنها فرض كفاية ان قام بها البعض سقطت عن البعض الآخر, ولكنه تناولها على أنها فرض عين لا يصلح الايمان الا بها, ذلك أنّ الصبر نصف الايمان كما ورد في الحديث, لما لهذه الفضيلة أهمية قصوى في نجاح حياة الفرد والمجتمع في الحياة, اذ لولا الصبر لما وجدنا طبيبا ولا مهندسا ولا عالما ولا دارسا ولا معلما, ولا حتى حافظا لكتاب الله تعالى , وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم, ولولا صبر الرعيل الأول لما وصل الينا هذا الدين العظيم معبأ بكتب تنتظر من يقرؤها.. نعم لولا صبر من سبقونا للايمان الصبر المأمورين به في القرآن الكريم, لما وصل الينا هذا الدين بهذا الكم من الثراء من حياة واجتهاد علماءنا رحمهم الله.

    ثالثا: الصبر على الابتلاء

    والابتلاء هنا له شعبه ومنافذه الكثيرة نوجزها بكل شيء تعافه النفس البشرية ولا تحتمله من أمراض وعاهات وفقر وموت عزيز وحبيب وصديق وجار وصاحب ومعيل وأم , وقد أجملها الله تبارك وتعالى في هذه الايات الكريمات من سورة البقرة 152 - 157 :

    واستعينوا بالصبر والصلاة وانها لكبيرة الا على الخاشعين

    ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص في الأموال والأنفس والثمرات, وبشر الصابرين* الذين اذا أصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا اليه راجعون* أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة* وأولئك هم المهتدون.


    لو عدنا الى الآيات الكريمات التي سبقت هذه الآيات لوجدنا أنها تناولت أمر الله تعالى لنا بالشكر, وأعقبها بهذه الآيات الكريمات ليبين لنا أهمية الصبر والارشاد والاستعانة بالصبر والصلاة, وعباد الله تعالى المؤمنين عبدان: اما أن يكون في نعمة فيشكر الله سبحانه وتعالى عليها, واما يكون في نقمة فيصبر عليها كما جاء في الحديث الشريف: عجبا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء الا كان خيرا له, ان أصابته سراء فشكر كان خيرا له, وان أصابته ضراء فصبر كان خيرا له.

    وأخيرا نقول

    أنّ الله تبارك وتعالى في قوله: واستعينوا بالصبر والصلاة, يبيّن لعباده المؤمنين بأن يستعينوا بالصبر على اتمام الطاعات وبالصلاة لاتقاء ما حرّم الله عزوجل عليهم , وكما نلاحظ أنه سبحانه وتعالى قدّم الصبر على الصلاة لأنّ الصلاة بحد ذاتها تحتاج الى صبر ومجاهدة لاعطاءها حقها الوافر من خشوع وبركوع وسجود وقيام ومحافظة على مواقيتها والاتيان بنوافلها التي تتبع الفرائض وما يكون من قيام ليل وتهجد وقيام رمضان وما الى ذلك من صلوات التطوع, وهي تماما كقوله تعالى: واني لغفّار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثمّ اهتدى, وهنا في هذه الآية الكريمة قدّم الله عزوجل التوبة على الايمان لأنّ الايمان دون توبة لا يصح, على الطاعات ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة, كان اذا حزبه أمر ما لجأ الى الصلاة يستعين بها عليه, وكان يقول لبلال رضي الله عنه أرحنا بها يا بلال, وليس منها كما يفعل بعضا من مصلوا هذه الأيام.

    وعن زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنهما انه قال: اذا جمع الله الأولين والآخرين ينادي مناد: أين الصابرون ليدخلوا الجنة قبل الحساب؟ فيقوم عتق (جماعة) من الناس فتتلقاهم الملائكة فيقولون: الى أين يا بني آدم؟ فيقولون: الى الجنة.. فيقولون: قبل الحساب؟ فيقولون: نعم... قالوا: من أنتم؟ يقولون: نحن الصابرون.. قالوا: وما كان صبركم؟ قالوا: صبرنا على طاعة الله, وعن معصية الله حتى توفانا الله... قالوا: أنتم كما قلتم.. ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين.. قلت: ويشهد بهذا قوله تبارك وتعالى: انما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.

    وقال سعيد بن جبير رحمه الله: الصبر اعتراف العبد بما اصاب منه واحتسابه عند الله رجاء ثوابه. وقد يجزعرجل وهو متجلد لا يرى منه الا الصبر.

    وفي الحديث أنه: ما من مسلم يصاب بمصيبة فيذكرها وان طال عهدها فيحدث لذلك استرجاعا الا جدّد الله له عند ذلك, فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب.

    وعن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: انا لله وانا اليه راجعون.. اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها, الا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها.

    ربنا تقبّل منا انك أنت السميع العليم, وصلى الله وسلم وبارك على المرسل رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وآخر دعوانا أن الجمد لله ربّ العالمين.

    والله فوق كل ذي علم عليم.

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Mar 2009
    الدولة
    امريكا
    المشاركات
    168

    افتراضي رد: أمراض القلوب

    العرَضْ الثالث والرابع:
    التكبـــُّر والتجبــُّر ويــُعالجان بالتواضــــــــ ــــــع




    ما هو التواضع؟ انه بكلمة واحدة فقط هو خلـُقْ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام, ولو توقفنا عند هذا التعريف لاكتفينا بتعريف التواضع وقد أعطيناه حقه كامى بالتعريف, ذلك أن حُسْنُ الخلق قوة وثقة بالنفس وثمرة ناضجة من ثمار الايمان بالله تبارك وتعالى, ويكفينا شرفا أنه خلق الأنبياء صلوات ربي وسلامه عليهم أحمعين.

    التواضع هو قبول الحق من أي كان وان كان من عبد حبشي أو من عدو، وهو خفض الجناح ولين الجانب، وعدم شعور النفس بأنّ لها فضلا على الآخرين, ولهذا خاطب الله عزوجل نبيه صلى الله عليه وسلم في سورة آل عمران 159: فبما رحمة من الله لنت لها, ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك, فاعف عنهم واستغفر لهم وشاةرهم في الأمر, فاذا عزمت فتوكل على الله , انّ الله يحبّ المتوكلين.

    نعم هذا هو خلق المصطفى المختار صلى الله عليه وسلم , القائل فيه ربّ العزة تبارك وتعالى في آية عظيمة ختم بها سورة التوبة: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم.

    هل التواضع عكس التجبر؟ لا.. هو ليس كذلك, ولكن متى غاب التجبر ظهر التواضع, وان غاب التواضع ظهر التجبر, وهذا يعني أنّ احدهما يظهر باختفاء الآخر, أو ان غاب أحدهما ظهر الآخر.

    التواضع هو الرفعة والمجد والسؤدد , وهو خلق الانسان الصادق المؤمن.. وهو الذي يحدد شخصية الانسان الصحيحة ويبلورها باطار خلق كريم عنوانه التواضع, لأجل هذا نجد كيف أن الله تعالى يلاطف نبيه المختار صلى الله عليه وسلم بالتواضع , كما في قوله تعالى: واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين.


    يقول المولى تبارك وتعالى في سورة القصص 83: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا, والعاقبة للمتقين

    ما معنى هذه الآية الكريمة؟ معناها أنّ كل من كان في قلبه مثال ذرة من كــِبـَـرْ محروم من نعيم الآخرة المقيم الذي لا يحول ولا يزول, ذلك أنّ الجنة جعلها الله تعالى مأوى للمتواضعين المتذللين لجبروت الله عزوجل وجل, الذي لا يتكبرون على عباد الله, الذين يمشون على الأرض هونا واذا خاطبهم الجاهلين قالوا سلاما, اته مأوى للقوب الطيبة السليمة التي لا تعرف الحقد ولا البغض ولا الكره, القلوب الطيبة التي تتمنى الخير كل الخير لكل الناس بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والعقائدية, فهم قبل ذلك عباد الله وخلقه وكما علمنا الصادق الأمين صلوات ربي وسلامه عليه أنّ الدين هو المعاملة, واقضية لانتماء الديني, مولانا سبحانه وتعالى وحده مَن يُحاسب فيه ويَجزي عليه, فان كان خيرا أفلح وفاز, وان كان غير ذلك خاب وخسر.

    بقول المولى تبارك وتعالى في الحديث القدسي الجليل: الكبرياء ردائي والعظمة اواري فمن نازعني فيهما أدخلته ناري.

    ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة مِن كـِبَر ٍ.

    ويقول عليه الصلاة والسلام: انه قد أوحي اليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد, ولا يبغي أحد على أحد.

    وهذا ليس معناه ألا يتجمل الانسان ويرتدي أحسن ما عنده, فأن تظهر بمظهر لبق وحسن أمر مطلوب ومحمود ومندوب لقوله عليه الصلاة والسلام: انّ الله جميل يحبّ الجمال.

    ورحم الله من قال:

    ليس الجمال بأثواب تزيننا انّ الجمال جمال العلم والأدب

    ويقول المولى تبارك وتعالى في سورة الاسراء 38:

    ولا تمش في الأرض مرحا انك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا

    وهذه آية صريحة وواضحة وضوح الشمس في كبد السماء ترشدنا الى أنّ الله عزوجل يمقت كل متجبر متبختر متمايل في مشيته تمايل التيه والفخر والكبرياء, تمايل الجبارين المفسدين في الأرض, والانسان مهما علا شأنه يبقى من حيوان منوي حقير أطلق عليه القرآن الكريم: ما مهين..و منيٍّ يُمنى

    فالتيه والفخر والجبروت كلها صفات مذمومة لبني البشر, وما خسف الله عزوجل بقارون الأرض وجعله يتجلجل فيها الى يوم القيامة الا نتيجة تجبره وتكبره على خلق الله, ولذا قال عزوجل في الحديث القدسي الجليل: الكبرياء ردائي والعظمة ازاري من نازعني فيهما أدخلته ناري. وبقول عزوجل في قارون بسورة القصص 81:

    فخسفنا به وبداره الأرض فماكان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين

    انّ من علامات تواضع العبد لله عزوجل أن يرى في نفسه الحقارة أمام جبروت الله عزوجل, فمن تواضع لعزة الله عزوجل وجبروته وكبرياؤه فهو في نفسه حقير وعند مولاه عزوجل كبير, وكان البختري رحمه الله قد رأى ذات يوم رجلا يمشي وهو يخطر في مشيته فقال له: يا هذا انّ الذي أكرمك به لم تكن هذ مشيته... وكذلك الفاروق عمر رضي الله عنه كان قد رأى رجلا يخطر في مشيته فقال له: انّ للشياطين اخوانا..

    وروى ابن حيان رحمه الله عن خولة بنت قيس رضي الله عنها أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: اذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم سلط بعضهم على بعض (أي سلط الله أبناء شرارها على خيارها).

    وإنما كرهت مشية المطيطاء لما فيها من روائح للكبر والخيلاء والزهو والعجب ; فلهذا نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه المشية , ومشية المطيطاء عبارة عن مد اليدين أثناء المشي زُهُوا وتيها وفخرا وعجبا ولسان حاله يقول: يا أرض استدي ما حدا قدّي.

    أجل ذلك امرنا الله عزوجل أن نتحلى والأخلاق الحميدة والتخلق بأخلاق الأنبياء الأصفياء الأتقياء الصالحين والذي التواضع من خلقهم

    وهذا لقمان الحكيم عليه السلام يملي على ابنه وصاياه النبيلة فيقول له قوله تعالى في السورة التي سُميت باسمه: ولا تصعّر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا, انّ الله لا يحبّ كل مختال فخور* واقصد فسي مشيك واغضض من صوتك, انّ انكر الأصوات لصوت الحمير

    لقمان الحكيم عليه السلام يطلب من ابنه ألا يعرض بوجهه عن الناس حين يكلمهم أو يكلموه باحتقاره اياهم أو استكبارا عليهم, ولكن أن يلن جانبه لمن يحدثه بأن يبسط لهم وجهه كما جاء في الحديث: ولو أن تلقى أخاك ووجهك اليه منبسط.. وكما قال ابن عباس ري الله عنهما: لا تتكبر فتحتقر عباد الله وتعرض عنهم بوجهك اذا كلموك.
    وليكن بعلمنا جميعا أن التشدق في الكلام هو من الكـِبَرِ المنهي عنه شرعا.

    ومعنى قوله تعالى: ولا تمش في الأرض مرحا: أي لا نمشي مشيء الخيلاء المتكبرين المتجبرين.

    انّ الرجولة ليست في مشي مشية الخـُيَلاء ولا في رفع الأصوات, فرفع الأصوات صفة مذمومة, الى درجة التحريم كما في قوله تعالى: انّ أنكر الأصوات لصوت الحمير, فالرجولة في الاسلام ليست برفع الصوت وانما بالتخلق بخلق الأنبياؤ عليهم صلوات الله وصلامه, فأن نخفض جناحنا وأصواتنا للمؤمنين نكن رجالا.. وكما ورد في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه: اذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله... واذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان الرجيم فانها رأت شيطانا.

    ابليس والتكبر

    أول معصية ظهرت على الأرض كانت بسبب التكبر, عندما لم يذعن ابليس لأمر الله بالسجود لآدم عليه الصلاة والسلام, وما رفضه الا استكبارا واستعلاء وتكبرا وتجبرا, فكانت النتيجة حلول الغضب الالهي عليه, يقول المولى عزوجل: قال فاهبط فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها.

    وليس هناك جزاء للمتكبرين سوى جنهم, فهي مأواهم ال ماشاء الله, يقول الموالى عزوجل: أليس في جهنم مثوى للمتكبرين.


    أنواع التواضع

    هناك نوعان للتواضع نوع محمود ونوع مذموم.

    الأول: محمود وهو التواضع لله عزوجل, ويتجلى بعدم الاستطالة على خلق الله بعدم أذيتهم والتطاول عليهم والازداراء بهم.وفي الحديث وما تواضع أحد لله الا رفعه الله.

    والثاني: مذموم وهو مايكون لغيرالله, لقوله تعالى في الحديث القدسي الجليل: الكبرياء ردائي والعظمة ازاري من نازعني فيهما أدخلته ناري.

    والتواضع رفعة وعزة ومكانة عظيمة, كما في قوله عزوجل في شأن المسيح بن مريم عليه الصلاة والسلام في سورة مريم 23: وبرّا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا وقوله صلى الله عليه وسلم: وما تواضع أحد لله الا رفعه الله.

    انّ أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام هم أشد الخلق تواضعا, وما اتخاذهم الرعي كمهنة الا قمة التواضع, فما من نبي الا وقد رعى الغنم, لما روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم, قالوا حتى أنت يا رسول الله؟ قال عليه الصلاة والسلام: نعم كنت أرعاها على قراربط لأهل مكة.

    ها هم أنبياء الله صلوات ربي وسلامه عليهم, ونحن أبناءنا اليوم يستعرون من هذه المهنة النبوية الشريفة, حتى الآباء لتتكبّر على أن تعمل أبناءهم بهذه المهنة ولسان حالهم يقول: أنا أجعل أبنائي ترعى الغنم؟ وكثير من الأبناء تأبى هذه المهنة الشريفة والآباء تشد على أيدي أبناءها.

    انّ الله تبارك وتعالى أمر انبياءه الكرام عليهم الصلاة والسلام بأن يأمروا أقوامهم بأن يتواضعوا, وروى مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: وانّ الله أوحى الىّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد.

    صور من التواضع

    هذه صورة حية واحدة من صور تواضع النبي صلى الله عليه وسلم, لا لشيء ولكن كي يتعظ بها من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فيدعها , فعن قيس بن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فأخذته الرعدة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هوّن عليك فإنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد.

    ويبلغ التواضع قمته عند النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح عندما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وذقنه على راحلته متخشعا , هل هناك تواضع أعظم من ذلك ؟ قائد يظفر بخصومه الذين أخرجوه من بلده ، وقاتلوه ، وشتموه .. ، ثم عندما يظفر بهم يقول لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء.. وليس هذا فقط بل عند انتصاره على أعداءه يطأطيء رأسه خضوعا واذلالا لخالقه تبارك وتعالى وهو يدخل معاقل الأعداء دخول الفاتحين تواضعاً لله وشكراً, فما أعظمك يا رسول الله من قائد وفاتح ونبي كريم, صلى الله عليك وسلم وما أجلك من مربّ دانت له رقاب العرب جميعا.

    وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه الذي ما سبق أحد عن كثرة صلاة وصيام بقدر ما في قلبه من التواضع, ذلك الخلق الكريم الذي اكتسبه من صحبته لخير البرية جمعاء صلوات ربي وسلامه عليه, والذي رغم مكانته رضي الله عنه كان هو وصحبه اذا قرأت عليهم آية من كتاب الله الكريم سكن غضبهم وهدأ.

    وهذا عمر الفاروق رضي الله عنه ولشدة تواضعه رضي الله عنه كان دائما يؤنب نفسه ويقول: والله لتتقيّن الله يا ابن الخطاب أو ليعذبنّك....
    هذا هو جبار الجاهلية الذي كان الجميع يهابه لشدته, حتى الشيطان نفسه كان يهابه ويخافه ولا يجرؤ أن يتواجد في المكان الذي يتواجد فيه عمر رضي الله عنه, هذا العملاق المارد كان اذا تلي عليه آية من كتاب الله الكريم يـُذعن اليها ويهدأ ويسكن كل شيء فيه اذلالا وتواضعا كحملا وديعا لا يقوى على شيء, على حين نجد جبابرة هذه الآيام يـُتلى عليهم قرآنا كاملا ولا نجدهم تهتز شعرة واحدة في أبدانهم.

    وذات يوم وعمر رضي الله عنه يخطب الجمعة في الناس فسمع بطنه يقرقر من الجوع فضرب عليه ثم قال: قرقر أو لا تقرقر والله لن تشبع حتى يشبع أبناء المسلمين.
    وأما عن تواضع عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه فحدّث ولا حرج, فقد روى البخاري عن محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما, قال: قلت لأبي : أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أبو بكر . قلت : ثم من ؟ قال : ثم عمر ، وخشيت أن يقول عثمان قلت : ثم أنت ؟ قال : ما أنا إلا رجل من المسلمين .

    وأما عن تواضع أبو موسى الأشعري رضي الله عنه فحدّث ولا حرج, ففي عهد الفاروق امير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه, انتدب مر أبو موسى الأشعري رضي الله عنهما ليكون واليا على الكوفة , وما أن وصل رضي الله عنه الكوفة حتى اعتلى احدى منابر مساجدها ووقف خطيبا في الناس فقال: يا أهل الكوفة انّ أمير المؤمنين رسلني اليكم لأكنس لكم شوارعكم وأعلمكم دينكم.

    انّ الوالي في ذلك العهد كان بمثابة محافظ مدينة في عهدنا اليوم, أو احدى وزراءها, ومَنْ اليوم من أصغر موظف يـَكنـُسُ المكان الذي يجلس فيه حتى يكنس شوارع المسلمين؟

    وهناك صورا عن التواضع في حياة الصحابة الكرام والتابعين لو أتينا عليها كلها لانتهى بنا العمر وما أوفيناها حقها, ويكفيهم فخرا وشرفا أنّ الله تبارك وتعالى رضي الله عنهم ورضوا عنه, كم نتمنى على الله عزوجل أن يرحمنا برحمته ويدخلنا في عباده الصالحين , ومن أراد ان يقف على تواضع الجيل الذي رباه النبي صلى الله عليه وسلم فليبادر الى متابعة قصص الصحابة الكرام في هذا الموقع ليقف على صور حية للمسلم الحق , وكيف الحاكم والمحكوم في ضوء الاسلام العظيم سواء.

    نعم هذا هو التواضع الجميل الذي وبلا شك أورثه لنا النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله تعالى عليهم أجمعين, .

    واذا كان التواضع من خلق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهم المعصومون أساسا عن كل خطأ وزلل, فكيف سينقلب حالنا نحن البشر اذا تخلقنا به؟ حتما سينقلب أمرنا كله من حال حال ونصل الى الحال الذي كان عليه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ويرضى مولانا علينا كما رضي على من قبلنا.

    وأختم حديثي بخير الحديث قوله تبارك وتعالى:

    تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا, والعاقبة للمتقين

    [/center][/size]

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Mar 2009
    الدولة
    امريكا
    المشاركات
    168

    افتراضي رد: أمراض القلوب

    العرض الخامس غياب أو ضعف التقوى وتعالى بتقويتها



    ما هي التقوى؟

    لغة : هي مخافة الله عزوجل وأن تجعل بينك وبين ما تخاف منه جنّة ووقاية.

    واصطلاحا: هي العمل بطاعة الله عزوجل رجاء الثواب والمغفرة وطمعا في الفوز بجنته سبحانه وتعالى وترك معاصي الله عزوجل كوقاية من عذاب جهنم, وهي تتمثل في اتباع أوامر اله تبارك وتعالى والانتهاء عن نواهيه عزوجل والقيام بالحدود الشرعية كما امر سلحانه وتعالى.

    وللتقوى أقسام كثيرة جاء بها القرآن الكريم بصيغ كثيرة خاطب الله تعالى بها الناس عامة مؤمنهم وفاجرهم وكافرهم كما في قوله تعالى في بداية سورة الحج: يا أيها الناس اتقوا ربكم انّ زلزلة الساعة شيء عظيم.

    وخاطب بها المؤمنون كما في قوله تبارك وتعالى في سورة آل عمران 102: يا أيها الذين ’منوا اتقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ الا وأنتم مسلمون.

    وخاطب بها النبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى في بداية سورة الأحزاب: يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين.

    ومن خلال سياق الآيات الكريمة نجد أنّ الله عزوجل أمر جميع زخلقه بها كل حسب ما يقتضيه أمر الخطاب, وفي النهاية تهدف الى هدف واحد هو الخوف من الله تبارك وتعالى بأن نتقي عذابه وسخطه وغضبه سبحانه وتعالى ابتغاء لمرضاته مبتعدين عن الشرك والكفر والفسوق والعصيان كما أمر, واعلى مراتب التقوى تقوى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ذلك أنّ قلوبهم معلقه بالله عزوجل, عابدين اياه بكل ما للاخلاص من معاني يليهم الصديقين والشهداء فالصالحون.

    انّ حقيقة التقوى لا تتحقق الا كان القلب معلق بحبّ الله والرغبة في عبادته الها واحدا لا شريك له, تأتمر باوامره وتنتهي عن نواهيه وتقيم حدوده الشرعية, وألا يكون قلبك معلقا بأحد سواه عزوجل, ومكان التقوى القلب, ذلك أنه عندما طلب مولى لقمان الحكيم رضي الله عنه أن يذبح شاة قال له: أخرج منها أطيب مضغتين وأخبث مضغتين فأخرج عليه السلام اللسان والقلب, فقال له مولاه: أمرتك أن تخرج أطيب مضغتين فيها فأخرجت اللسان والقلب, ,امرتك أن تخرج أخبث مضغتين فيها فأخرجت اللسان والقلب, فقال له لقمان عليه السلام: اذ ليس من شيء أطيب منهما اذا طابا, ولا اخبث منهما اذا خبثا... ولقمان عليه السلام كان محقا في حكمه ذلك أنذ الاخلاص في العبادة هو قمة التقوى ولا يكون الاخلاص الا في القلب... وكما في الحديث: ألا انّ في الجسد مضغة ان صلحت صلح الجسد كله وان فسدت فسد الجسد كله الا وهي القلب.

    ولهذا قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله: انّ في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.

    والتقوى في عند الامام عليّ كرّم الله وجهه لاتختلف عما سبق تعريفه فقد قال رضي الله عنه أربع كلمات: الخوف من الجليل, والايمان باتنزيل والرضا بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل.

    ولعلّ الخوف من الجليل قوله تعالى: ولمن خاف مقام ربّه جنتان

    والايمان بالتنزيل كما في قوله تعالى: فالذين آمنو به وعزروه ونصروه واتبع النور الدي أنزل معه أولئك هم المفلحون

    والرضا بالقليل: كما في قوله تعالى في سورة الضحى: ولسوف يعطيك ربك فترضى.

    والاستعداد ليوم الرحيل: كما في قوله تعالى في آية كريمة ختم بها سورة المنافقون: وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول ربّ لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين* ولن يؤخر الله نفس إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون


    اذن التقوى هي الامتثال لأوامر الله تبارك وتعالى واجتناب نواهيه واقامة حدوده الشرعية ودفع عذابه سبحانه وتعالى بطاعته وحسن عبادته.

    وقال عنها ابن عباس رضي الله عنهما: المتقون هم الذين يتقون الشرك ويعملون بطاعة الله عزوجل.

    وقال عنها ابن مسعود رضي الله عنه: هي أن يطاع الله عزوجل فلا يعصى, وأن يذكر فلا ينسى, وأن يشكر فلا يكفر.

    وبرأيي الشخصي أقول أنّ حق التقوى هو: اجتناب كل ما نهى الله عزوجل عنه وزجر.



    صفات المتقين

    انّ صفات المتقين هي كما جاءت في سورة البقرة بقوله تعالى: ألم* ذلك الكتاب لا ريب, فيه, هدى للمتقين* الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون* والذين يؤمنون بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون* أولئك على هدى من ربهم, ,اولئك هم المفلحون.

    ومن خلال سياق هذه الآيات الكريمات التي افتتح الله تبارك وتعالى كتابه الكريم من سورة البقرة نستخلص صفات المتقين, فالقرآن الكريم نور لكل تقي يتقي الشرك ويعمل بطاعة الله سبحانه وتعالى , ويتقي كلّ ما حرّم الله عزوجل عليه, ويؤدي ما افترض الله عزوجل عليه من الفرائض, وكل منن اجتمع فيه الصفات التالية هو حتما تقي كما جاء في سورة البقرة:

    1. يؤمنون بالغيب ويصدقون بكل ما غاب عن علمهم من موت وقبر وبعث وحساب وجنة ونار وميزان وصراط وما الى هناك من غيبيات لا يعلمها الا الله وحده سبحانه وتعالى.

    2. ويقيمون الصلاة على الوجه الأكمل بأركانها وفرائضها وشروطها وخشوعها وأوقاتها وسجودها وتلاوتها وركوعها وآدابها... وقال ابن عباس رضي الله عنهما: اقمتها يعني اتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع.

    3. ومما رزقناهم ينفقون: والانفاق هنا وفي جميع آيات القرآن الكريم يدخل فيه آداء الزكاة المفروضو والصدقات والانفاق في جميع وجوه البر والطاعات وفي سبيل الله وعلى الفقراء والمساكين والمحتاجين والغارمين. وقال ابن كثير رحمه الله: نادرا ما تأتي الصلاة غير مقرونة بالزكاة, وذلك لأنذ الصلاة حق الله عزوجل مشتملة على التوحيد والتمجيد والثناء على اله عزوجل بما يليق وينبغي بجلال وجهه وعظيم سلطانه, والانفاق هو الاحسان الى خلق الله عزوجل وهو حق العبد, وكل ما يخصّ الزكاة والصدقات داخل في عموم هذه الآية الكريمة.

    4. والذين يصدقون بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم عن ربّه عزوجل, وبما جاء به النبيون من قبله عليهم الصلاة والسلام.

    5. ويعتقدون اعتقادا جازما لا ريب فيه باليوم الآخر والدار الآخرة على أنها دار القرار, وسمي اليوم الآخر بهذا الاسم لأنه يلي الدنيا ولأنه دار القرار الذي ما بعده دار, والايمان بالحساب والجنة والنار والصراط والميزان والبعث وبكل شيء غيبي وذكر في القرآن الكريم.



    كيف تتحقق التقوى فينا؟

    بمحاسبة كل منا نفسه محاسبة صادقة يخرج بعدها بنتيجة ايجابية, لحظات مع النفس في عملية كشف حساب سريعة من خلال شريط حياته يراجع الواحد منا تصرفاته وأخطاءه وسلبياته, فان وجد خيرا حمد الله وان وجد غير ذلك يكون هناك متسع من الوقت لتصحيح ما فسد, وليس هناك أفضل من أن يعترف الواحد منا بخطئه, الحساب عسير والناقد بصير, يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر كبيرة ولا صغيرة الا أحصاها, وووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك احدا.

    فاليوم عمل بلا حساب, وغدا حساب بلا عمل, وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.

    كلمة أخيرة
    أقول بأنه اذا أردنا أن تتحقق فينا التقوى علينا أن نكون أكثر التزاما وحرصا على آداء العبادات بكل أمانة واخلاص, وأن نؤدي الواجبات بكل ما أمرنا به سبحانه وتعالى ونتجنب المحرمات والمعاصي ما أمكن.
    التقوى علم وعمل معا, فمن تعلم وعمل بما تعلمه فقد أفلح ونجح وكان من الفائزين ان شاء الله يوم القيامة, يقول المولى تبارك وتعالى: ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه, فأولئك هم الفائزون.

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Mar 2009
    الدولة
    امريكا
    المشاركات
    168

    افتراضي رد: أمراض القلوب

    العرض السادس: انعدام الحياء أو قلته ويعالج بخشية الله



    يقول المولى تبارك وتعالى في سورة الحشر 21:

    لو أنزلنا هذ القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدّعا من خشية الله, وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون

    ما هي الخشية؟

    الخشية ليست الخوف, فبينها وبين الخوف درجات, فهي أعلى درجة من الخوف وأخصّ منه, ذلك أنّ الخوف صفة تطلق على عامة المؤمنين, بينما الخشية فهي تطلق على فئة خاصة من المؤمنين أطلق عليهم الله تعالى أسما في كتابه الكريم السابقون.. والعلماء العارفين هم فرع من السابقون , وعلى قدر علمهم ومعرفة كل عالم منهم تكون الخشية, كقوله تعالى: انما يخشى الله من عباده العلماء, فالخشوع ومحلها القلب.. والخوف الشديد من الله تبارك وتعالى هو الذي يولد الخشية, وكثير من الناس لم يفهم معنى قوله تعالى انما يخشى الله من عباده العلماء الفهم الصحيح, فهي تعني أنه لا يخشى الله حق خشيته الا العلماء كونهم الأكثر علما ومعرفة بفهم آيات الله الكريمة وتأويلها, ولهذا كان خوف العلماء في أعلى الدرجات, وذلك لأن خوفهم مقرون بالخشية , وعلى قدر العلم والمعرفة تكون الخشية, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأعلمَكم بالله وأشدّكم له خشية.

    ويقول الامام أحمد رحمه الله عن هذه الاية الكريمة: هذا يدل على أن كل من كان بالله أعرف كان منه أخوف. والخوف: هو اضطراب القلب ووجله من تذكر عقاب الله وناره ووعيده الشديد لمن عصاه والخائف دائما يلجأ إلى الهرب مما يخافه إلا من يخاف من الله فإنه يهرب إليه.

    و كما قال أبو حفص رحمه الله: الخوف سراج في القلب به يبصر ما فيه من الخير والشر, وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله عز وجل، فإنك إذا خفته هربت إليه. فالخائف هارب من ربه إلى ربه كقوله تعالى: ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين.

    ومعنى ففروا الى الله : أي الجئوا اليه عند سماعكم آياته الكريمة واخشعوا لها حق الخشوع.

    اذا كان هذا حال الجبل الأصم مع آيات الله عزوجل, فكيف يليق بقلوبنا نحن البشر ونحن نسمع آيات القرآن الكريم تتلى علينا ونقرؤها ولا تخشع قلوبهم لها ولما فيها من الوعد الحق والوعيد الأكيد؟

    لو خلق الله عزوجل في هذا الجبل عقلا وتمييزا وادراكا كما خلقنا وكما أنزل عليه هذا القرآن العظيم لوعده ووعيده لخشع وخضع وتشقق خوفا من الله تبارك وتعالى ومهابة له تماما كما اندك وتساوى بالتراب عندما ٍسأل موسى عليه السلام ربه سبحانه وتعالى فقال: دعني أنظر اليك؟ ؟ فقال الله تعالى: انظر الى الجبل فان استقر مكانه فانك تراني, فخرّ موسى عليه السلام صعقا من المشهد العظيم الذي رآه حين تشقق الجبل واندك وذاب واختلط بالتراب من خشية الله تبارك وتعالى.

    وهذا التصوير البليغ الذي هو جزء يسير مما أتى به القرآن الكريم وقوة تأثيره في كثير من الآيات الكريمات والتي تصوّر عظمة الخالق تبارك وتعالى في خلقه عبادا حيوانات وجمادات وما الى ذلك من خلق الله وتكوينه وابداعه كل منه بسبّح الله العظيم بطريقته.

    جبل أصم لا يسمع ولا يعقل على شدته وصلابته وقسوته لو خوطب بالقرآن الكريم لرأيناه ذليلا متصدعا من خشية الخالق تبارك وتعالى, على حين الانسان المليء شعورا واحساسا لا يتأثر بآيات الله عزوجل ولا يخشع لها قلبه, وهذا المثل الأكثر من رائع والذي ضربه الله سبحانه وتعالى لنا نحن البشر فقط ليؤكد لنا كم هو الانسان ظلوم كفار, ولا يملأ عينه الا التراب, وهذا توبيخ من الله عزوجل للانسان الذي لا يخشع ولا يهاب وعيد الله, ورغم ظلمه وجبروته وطغيانه نجده لا يتخشع عند تلاوة القرآن, ولعل ّ هذه الآية الكريمة لبيان عظمة القرآن الكريم ودناءة حال الانسان.

    وقال في البحر: والغرض من توبيخ الانسان على قسوة قلبه وعدم تأثره بالقرآن الكريم الذي لو أنزل على الجبل الأصم لتخشع وتصدّع خشية وخوفا واجلالا, واذا كان الجبل على عظمته وقسوته وشدته وتصلبه قد استجاب للخشوع والتصدّع, فما بال ابن آدم على حقارته وضعفه لا يتأثر؟ أليس أولى به أن يخشع لذكر الله عندما تتلى عليه أياته؟

    يقول ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية الكريمة: لو أنّ الله عزوجل أنزل هذا القرآن على جبل لتصدّع وخشع من ثقله ومن خشية الله, فأمر الله الناس اذا نزل عليهم القرآن أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع.

    وقال الحسن البصري رحمه الله: اذا كانت الجبال الصم لو سمعت كلام الله وفهمته لخشعت وتصدّعت من خشية الله, فكيف بكم وقد سمعتم و فهمتم ؟

    وعلى ضوء ما تقدّم من أقوال العلماء والصالحين في معنى قوله تعالى يمكننا القول بأنّ من يخاف الله فلا يخيفه شيء في الدنيا, ومن لا يخاف الله ولا يخشاه فكل شيء يـُخيفه حتى البعوضة وهي تشاركه سريرة, فلنتق الله عزوجل في شئوننا كلها ولنخافه ونخشاه حق الخوف والخشية , والا نخاف ونخشى أحدا سواه. ولنعلم بأنّ الله تبارك وتعالى هو الضار وهو النافع, وهو الخافض وهو الرافع, يعز منيشاء ويذل من يشاء, لا معقب لحكمه وهو السميع العليم, يدبر الأرض في السماء والأرض وهو بكل شيء محيط, يقول المولى تبارك وتعالى: لو أنّ قرآنا سيّرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى

    لقد أمرنا الله أمرا بأن نخشاه وحده ولا نخاف أحدا سواه كما في قوله تعالى: فلا تخشوا الناس واخشون.

    وقد اعتبر المولى تبارك وتعالى الخشية منه سبحانه وتعالى رأس الأمر كله, وانّ من لا يخافه فقد نفى عنه صفة الايمان كما في قوله: فلا تخافوهم وخافون ان كنتم مؤمنين

    ان ما نشاهده هذه الأيام من بعض الناس ببعدهم الله تبارك وتعالى وتجرؤهم عليه سبحانه وتعالى بكل أنواع المعاصي ما ظهر منها وما بطن , والذنوب كبيرها وصغيرها ما هو الا بسبب فقدان الوازع الديني عن حياة هؤلاء , ما هو الا ضعف أو انعدام الخوف منه سبحانه وتعالى , ما هو الا بسبب الغفلة التي أصابت القلوب والركون الى الدنيا بمباهجها ونزواتها وشهواتها, ما هو الا بسبب الوهن الذي بيّـنهُ لنا المصطفى صلوات ربي وسلامه علينا بحب الدنيا وكراهية الموت أو نسيان الآخرة.

    وما علينا جميعا الا الثبات والوقوف بحاجز منيع من الايمان والخشية والخوف والتقوى لمواجهة تيارات الأهواء والشهوات, وما نحتاج اليه الا العودة الصادقة والأكيدة الى كتاب الله تعالى وتدبر معانيه, الا مزيدا من الصبر على طاعة الله عزوجل المانع والواقي من كل ما يهيّج القلب للهرولة نحو الشهوات القاتلة التي اذا توالت عليه رانته وجعلته صدئا لا يخشع لكلام الله عزوجل من كثرة الذنوب والمعاصي التي أحاطت به وفيه.

    انّ الخوف من الله تعالى وحده هو سلم النجاة, هو الذي يـُهيج في القلب نار الخشية التي تدفع بالإنسان المسلم إلى عمل الطاعة والابتعاد عن المعصية.

    ولهذا كلما زاد الإيمان في قلب المؤمن كلما استحضر عظمة الخالق سبحانه وتعالى في قلبه فتترجمها أركانه وجوارحه, والناس في هذه الخشية وهذا الخوف من الله عزوجل مراتب وهم متفاوتون فيما بينهم, فعلى حين الصحابة الكرام رضوان الله عنهم ضربوا أروع المثلة في الخوف والخشية من الله تعالى, فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه والذي اختاره الله عزوجل ليكون السند المين للنبي صلى الله عليه وسلم ورفيقه في الهجرة المباركة ولولا بلوغه ما بلغ من التقوى ما أيدّه الله لهذه المنزلة نجده يقول: والله لو كانت احدى قدميّ في الجنة ما أمنت انتقام الله... ويكفينا من البشر شهادة النبي صلى الله عليه بقوة ايمان أبو بكر رضي الله حين قال: لو وضع ايمان أبو بكر بكفة وايمان الأمة بالكفة الأخرى لرجح ايمان أبو بكر.. وهذا عمر الفاروق رضي الله عنه والذي بتقواه وخشيته من الله قد بلغ درجة النبوة وبشهادة النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: لو كان نبي بعدي لكان عمر بن الخطاب نجده رضي الله عنه يقول: لو نادى مناد يوم القيامة أن كل عباد الله يدخلون الجنة الا واحدا لخشيت أن أكون ذلك الواحد.. وهذا عمر بن عبد العزيز الامام العادل رضي الله عنه وكما أقرّ العلماء والمؤرخون وكتاب السـٍيَرْ أنه ما قتلته الا خشية الله, وهذا عثمان رضي الله عنه الذي حظي بشرف لقب ذو النورين , واستحياء الملائكة الكرام منه رضي الله عنه نجده ومن شدة خشيته وخوفه من الله مواظبا على العبادة فيختم القرآن كله كل ليلة في ركعة الوتر , وغيرهم غيرهم الكثير من الصحابة الكرام الذين رباهم النبي صلى الله عليه وسلم, فورثوا الخشية لأجيال قادمة سارت على منهاجهم وتتبعت آثارهم الطيبة.

    الخوف الصادق

    هو ما تحتاجه الأمة اليوم كي تسمو الى العلياء وتستعيد هيبتها وكرامتها بين شعوب العالم الذي لا يتورّع أن يكيل لها الاهانات والشتائم دون أن تحرّك ساكنا, وهذه الحالة ما هي الا نتاج اصابة جسد الأمة كله بوباء خطير قاتل اسمه مرض البعد عن الله تبارك وتعالى, وما نحن بحاجة اليه نحن المسلمين اليوم الا الخوف الصادق والخشية المحمودة التي كان عليها السلف الصالح, والخوف الصادق هو الخوف الذي يحول بين صاحبه وبين ما حرّم الله علينا, فاذا تجاوزنا ذلك الخوف واستقر في القلب استفراره الدائم والثابت بحيث لا تزعزعه اي قوة في العالم مهما عتت وتجبّرت وطغت نكون قد وصلنا الى مرضاة الله عزوجل, وبدّل الله حالنا من حال حال , بحيث يحجزنا خوفنا من الله تعالى وخشيتنا منه عن المعاصي والمحرمات ما ظهر منها وما بطن, فلا نأكل مالا حراما, ولا نشهد زورا، ولا نحلف كاذبا، ولا نخلف وعدا , ولا نخون عهدا, ولا نغش أحدا, ولا نخون أزواجنا وبناتنا وابناءنا وجيراننا ولا أصحاب الحقوق علينا, ولا نمشي بالنميمة، ولا يغتب بعضنا بعضا, ولا نترك النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ولا نزني, ولا نلوط, ولا نتشبه بالنساء, ولا بالكفرة أعداء الدين, ولا نتعاطى محرما , ولا نشرب المسكرات ولا المخدرات ولا الدخان ولا الشيشة , ولا نهجر مساجد الله , ولا نترك الصلاة في الجماعة, ولا نضيع أوقاتنا في اللهو والغفلة, بل نشمّر عن سواعد الجد نستغل أوقاتنا كلها في طاعة الله كي يتحقق فينا وعد النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الامام الترمذي رحمه الله: من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل, ألا وإن سلعة الله غالية ألا وإن سلعة الله هي الجنة.
    وهذا الحديث أطلق عليه حديث التشمير في الطاعة والاجتهاد من بداية العمر لأن الجنة غالية تحتاج إلى ثمن باهظ ومن سعى لها وعمل صالحا وسار من أول الطريق نال بغيته إن شاء الله كما في قوله تعالى في سورة طه 83 : واني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى.

    فالله تبارك وتعالى لن يغيّر فينا شيئا الا اذا غيّرنا ما بدواخلنا كقوله تعالى في سورة الرعد:

    ان الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

    اذا وصلنا الى هذه الدرجة من الخشية والخوف واستطعنا تغيير ما بدواخلنا الى ما يرضي الله عزوجل, كما ا كان السلف الصالح رحمهم الله والذين كانوا يغلّبون جانب الخوف في حال الصحة والقوة حتى يزدادوا من طاعة الله ويكثروا من ذكره ويتقربوا إليه بالنوافل والعمل الصالح.
    .[/color]

    القلب مركز الجسد النبض

    هذه المضغة التي يبنى عليها الايمان كله, ان صلحت صلح سائرالجسد, وان فسدت فسد سائر الجسد, ورجحان جانب الخوف في القلب, قلب المؤمن الصادق, هو وحده الذي يرجح الكفة, وهو وحده الذي يعصم من فتن الدنيا, وبغياب الخوف يفسد القلب ويصدا , واذا صدأ القلب انكسر, ومتى انكسر فسد الجسد كله , حيث جسد بلا قلب عبث, ولا تصلح حياة , ولا تستقيم نفس ولا يهذب سلوك الا بصلاح القلب, ولا يصلح القلب الا بالخوف والخشية, وإلا فما الذي يحجز النفس البشرية عن ارتكاب المحرمات من زنى وبغى وظلم وركون إلى الدنيا غير الخوف من الله؟ وما الذي يـُهدئ فيها هيـَجان الرغائب وسـٍعار الشهوات وجنون المطامع الا الخشية؟ وما الذي يثبت النفس في المعركة بين الحق والباطل وبين الخير والشر الا الرجاء بعفو الرحمن؟ وما الذي يدفع الإنسان إلى الخوف الله في السر والعلن سوى تقوى الجبار الذي لا يغفل ولاينام؟ وما الذي يثبت العيد على الايمان في خضم هذه الأحداث والفتن وتقلبات الأحوال من حال الى حال والمغريات المحيطة به من كل جانب إلا اليقين؟ نعم هو اليقين والاطمئنان بعفو الرحمن ومغفرته بعباده المؤمنين والإيمان بالآخرة والحساب , خشية وخوفا مما أعده الله لعباده من العذاب المقيم لكل من خالف أمره وعصاه. فلنتذكر هادم اللذات واتنذكر الآخرة في جميع الأحوال والمناسبات والظروف, فيجعل هذا من تذكرنا حسا مرهفا دائم اليقظة جاد العزيمة دائم الفكر فيما يصلح معاشنا ودنيانا وآخرتنا, مع كثير الوجل والخوف مما سيؤول إليه حالنا من أهوال الآخرة التي يشيب منها الولدان وتجهض الحبالى.

    قيل لأحد الصالحين! ما لي أرى عينيك لا تجفّ؟ قال: يا أخي إن الله توعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار، والله لو توعدني أن يسجنني في الحمام لكان حرّيا أن لا يجف لي دمع.

    وروى ضمرة عن حفص بن عمر رضي الله عنهما قال: بكى الحسن البصري فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أخاف أن يطرحني في النار غدا ولا يبالي.

    ولهذا من خاف واشتد وجله من ربه في هذه الدنيا يأمن يوم الفزع الأكبر يوم القيامة, لما رواه ابن حيان رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الجليل الذي رواه عن ربّ العزة تبارك وتعالى: وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين: إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة.

    محاسبة النفس

    ولنا في السلف الصالح صحابة النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن سار وسلك دربهم المشرق أسوة حسنة, فقد عاش هؤلاء الأبرار الصالحون حياة الزهد والرفعة والعزة والمنعة والكرامة والانفة وتلقوها غضة من النبي الكريم صلوات ربي وسلامه عليه ماذكره الذاكرون وما غفل عن ذكره الغافلون, هؤلاء هم الرعيل الأول الذين تلقوا القرآن الكريم لأول مرة من الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وعاشوا مشاهد الآخرة بقلوبهم حقيقة وواقعا كأنهم يرونها رأي العين, ولم يكن في نفوسهم أدنى شك في مجيء هذا اليوم, بل كان يقينهم بحدوثه ومجيئه واقعا ملموسا حيا لمسته شغاف قلوبهم قبل أن تلمسه أجسادهم وجوارحهم كلها والتي سخروها في طاعة الله سبحانه وتعالى.

    يقول العارف بالله يزيد بن حوشب رحمه الله: ما رأيت أخوف من الحسن (يقصد الحسن البصري) وعمر بن عبد العزيز، وكأنّ النار لم تـُخلق إلا لهما.

    ولم لا يكونا كذلك والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في رواية للامام مسلم رحمه الله: لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد. ولقوله عليه الصلاة والسلام في وصف النار مُحذرا أمته ومشفقا عليها: نار الدنيا جزء من سبعين جزءا من نار جهنم.

    لأجل ذلك كان السلف الصالح والرعيل الأول اذا رأوا نارا تضطرب فرائصهم وترتعد خوفا من دخولها, ولو علمنا حال ابن مسعود رضي الله عنه والذي من شدة خشيته وخوفه وورعه وتقواه, رغم أنّ ساقه وحدها تزن يوم القيامة بجبل أحد , ورغم قسمه بأنه لا توجد أية في كتاب الله الا ويعلم متى نزلت وأين نزلت ولم نزلت, نجده يسقط مغشيا عليه عندما مرّ ذات يوم على رجل ينفخ على الكير, وهذا عمر الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه والذي بلغ من الورع والتقوى ما أهله ليكون أحد العشرة المبشرين بالجنة نجده عندما توقد له نار يـُدني يديه منها ويقول: يا ابن الخطاب هل لك صبر على هذا.

    وهذا الأحنف رضي الله عنه: يجئ إلى المصباح بالليل فيضع إصبعه فيه ثم يقول: حس، حس ! يا حنيف، ما حـَمـَلك على ما صنعت يوم كذا وكذا ... يُحاسب نفسه, وفي الحديث: حاسبوا أنفسكم قبل أن تـُحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن تـُوزن عليكم.

    هكذا كان السلف الصالح مع الخشية

    لقد كان المسلمون يعيشون مع القرآن فعلا وواقعا عاشوا مع الآخرة واقعا محسوسا، لقد كانوا يشعرون بالقرآن ينقل إليهم صوت النار وهي تسري وتحرق وإنه لصوت تقشعر منه القلوب والأبدان كما أحس عليه الصلاة والسلام برهبة هذا الأمر وقوته حتى أنه وعظ أصحابه يوما فقال عليه الصلاة والسلام برواية للبخاري رحمه الله: إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، أطـَت السماء وحـُقَّ لها أن تئـَط , ما فيها موضع قدم إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله عز وجل، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله والله لوددت أني شجرة تعضد.

    ثم ذكر الحديث فما أتى عليهم أشد منه غطوا رؤوسهم ولهم خنين و الخنين هو البكاء مع غنّه، ولطول المطلع وشدة الحساب وتمكن العلم والمعرفة لدى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتمنى أن يكون شجرة تقطع وينتهي أمرها فكيف بنا نحن؟ عجبا لنا نتمنى على الله الأماني مع استهتارنا بالدين وبالصلاة وبكل شيء فماذا نرجو في الآخرة؟

    والله هذا حال الكثير من الناس اليوم لا يريدون أن يعملوا ولا يريدون أن يتذكروا فإذا ذكرت لهم النار قالوا: لا تقنط الناس من رحمة الله, يريدون أن نذكر لهم الجنة ونعيمها وهم لا يعملون لها, ونتغاضى عن ذكر النار ولفيحها وجحيمها وهم يعملون لها, وهذا والله هو العجب العـُجاب, يريدون أن يـُبـَشروا بالجنة ولا يـُذكروا بالقيامة وأهوالها, ولا بالنار وسمومها وعذابها, وهم على ما هم فيه من سوء العمل, وقبيح الصفات.

    قال: الحسن البصري: لقد مضى بين أيديكم أقوام لو أن أحدهم أنفق عدد هذا الحصى، لخشي أن لا ينجو من عَظـَم ِذلك اليوم، وكما في حديث رواه الامام الترمذي رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال , سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها.

    والسبب في ذلك ضعف جانب الخوف عند هؤلاء، لقد كان بعض السلف من شدة خوفه ووجله وكثرة تفكيره في أحواله الآخرة لا يستطيع النوم ولا الضحك ولا اللهو حتى يعلم أهو من الناجين أم لا ، فهذا شداد بن أوس رضي الله عنه كان إذا دخل الفراش يتقلب على فراشه لا يأتيه النوم ويقول : الله إن النار أذهبت مني النوم فيقوم يصلي حتى يُصبح.

    وهذا منصور بن المعتمر والذي قال عنه بن قدامه رحمهما الله: : كان كثير الخوف والوجل من الله تبارك وتعالى, كثير البكاء من خشية الله , إذا رأيته قلت: هذا رجل أصيب بمصيبة ولقد قالت له أمه: ما هذا الذي تصنع بنفسك تبكى عامة الليل، لا تكاد أن تسكت لعلك يا بنيّ أصبت نفسا، أو قتلت قتيلا؟ فقال: يا أمه أنا أعلم بما صنعت نفسي.

    وعن معاذ بن جبل امام العلماء يوم القيامة رضي الله عنه حدّث ولا حرج, لما حضرته الوفاة جعل يبكي, فقيل له: أتبكي وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم , وأنت من الايمان ما أنت بمكان تـُحسدُ عليه؟ فقال: ما أبكي جزعاً من الموت أن حلَ بي ,ولا دنيا تركتها بعدي، ولكن هما القبضتان، قبضة في النار ,وقبضة في الجنة, فلا أدري في أي القبضتين أنا.
    يقول الحسن بن عرفه رحمه الله: رأيت يزيد بين هارون بواسط وهو من أحسن الناس عينين، ثم رأيته بعد ذلك بعين واحدة ثم رأيته بعد ذلك وقد ذهبت عيناه فقلت له: يا أبا خالد ما فعلت العينان الجميلتان، فقال: ذهب بهما بكاء الأسحار...

    نعم انه بكاء العارفين بالله عزوجل, انه سيماء الصالحين الذين يخشون ربهم بالغيب, يقول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: لأن أدمع دمعة من خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بمئة ألف درهم.

    والغالبية منا نبيع الدين كله بالدرهم, فلا نصحو على صلاة فجر, ولا نؤدي صلاة عشاء ونحن سالمون في بيوتنا نتنعم بكل ما لذّ لنا وطاب من نعم الله, لا نشكو مرضا ولا خوفا ولا جنونا, غير آبهين لقوله تعالى في سورة القلم 42- 43: يوم يـُكشف عن ساقٍ ويُدعوْن الى السجود فلا يستطيعون*خاشعة ٍ أبصارهم ترهقهم ذلة, وقد كانوا يـُدعون الى السجود وهم سالمون.. فيأتي قائل ويقول: ولكن هاتين الآيتين نزلتا في المنافقين وتاركي الصلاة, فتأتي الاجابة من سيّد الخلق صلى الله عليه وسلم: أثقل صلاة على المنافقين صلاة الفجر والعشاء ولو علموا ما فيهما من الخير لأتوهما ولو حبوا..أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

    ولولا أنها الحقيقة بعينها, لما وجدنا المساجد تخلوا من عـُمّارها , اللهم الا من يوم عيد أو يوم جمعة, ولولا أنّ يوم الجمعة عطلة رسمية من العمل لربما خلت صلاة الجمعة من المصلين, ودليل ذلك أنّ باقي صلوات هذا اليوم يعدون المصلين على أصابهع اليدين ان لم تكن أصابع اليد الواحدة.

    اللهم ردّنا الى ديننا ردا جميلا وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين, وأعنا على شكرك وحسن عبادتك ولا تجعلنا ربنا من الغافلين.. آمين.

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Mar 2009
    الدولة
    امريكا
    المشاركات
    168

    افتراضي رد: أمراض القلوب

    العرض السابع: الاسراف في المعصية وعلاجها الصبر على المعصية


    يقول المولى تبارك وتعالى في محكم تنزيله الكريم:

    قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله , انّ الله يغفر الذنوب جميعا, انه هو التواب الرحيم

    ويقول عزوجل: وسارعوا الى مغفرة من ربكم عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.

    وحين كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتابا الى هرقل ملك الروم وذكر له هذه الآية العظيمة ردّ عليه فقال: أين طولها؟ فقال عليه الصلاة والسلام: سبحان الله! أين الليل اذا ظهر النهار.

    أن نـُوقد نار الحزن على المعصية يعني الصبر على المعصية, والصبر كما مرّ معنا هو حبس النفس عن الجزع، وكف اللسان عن الشكوى، وكف الجوارح عن لطم الخدود وشق الثياب عند المصيبة ونحوهما. وهو خُلق فاضل من أخلاق النفس،. وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها. وقيل: ( هو المقام على البلاء بحسن الصحة كالمقام مع العافية ). ومعنى هذا أن يحسن صحبة العافية بالشكر، وصحبة بلاء بالصبر. .

    والصبر للنفس هو الذي يقودها في سيرها إلى الجنة أو النار، فإن لم يكن للمطية زمام شردت في كل مذهب. فرحم الله امريء جعل لنفسه زماماً فقادها بخطامها إلى طاعة الله، وصرفها بزمامها عن معاصي الله، فإن الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذابه.

    أما عن حال الناس مع الصبر, فكما هي الناس معادن أيضا الناس درجات ومنازل في قدرة تحملهم, ولذا نجد فلانا لدية قوة صبر على المعصية أو المصيبة , فنجده يصبر على مشقة الطاعة ولا يصبر عن دواعي هواه إلى ارتكاب ما نُهي الله عنه. وهناك من يكون صبره على الشهوات والمعاصي أقوى من صبره على الطاعة, ولعل الصنف أفضل من الصنف الأول لأنّ الصبر على المعصية قد يقوده الى الصبر على الطاعة ولكن العكس لا يكون مثمرا من منطلق أنّ طاعته لم تنهاه عن المعصية, تماما كصبر بعض الناس على تحمل مشقة الصيام في الحر وفي مشقة قيام الليل في البرد، ولا يصبر عن نظرة محرمة. وكثير منهم يصبر عن النظر إلى المحرمات وعن الالتفات إلى الصور العارية، ولكنه لا صبر له على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار والمنافقين.

    فالصبر عن المعاصي أمره ظاهر، ويكون بحبس النفس عن متابعة الشهوات، وعن الوقوع فيما حرم الله. وأعظم ما يعين عليه ترك المألوف، ومفارقة كل ما يساعد على المعاصي، وقطع العادات، فإن العادة طبيعة خاصة، فإذا إنضمت العادة إلى الشهوة تظاهر جندان من جند الشيطان على جند الله، فلا يقوى باعث الدين على قهرهما. ولهذا قال النبي صلى الله عليه، وسلم: وحفت النار بالشهوات , لماذا لأن النفوس تشتهيها وتريد أن تقتحم فيها، فإذا حبس الإنسان نفسه عنها وصبر على ذلك كان ذلك خيراً له., وهذا من منطلق أنّ الصبر على المعصية أفضل بكثير من الوقوع فيها, ذلك لأنّ الوقوع فيها يخلف ألما وتعذيبا للنفس بينما الوقاية تجلب الخير والبشرى وهدوء النفس على أنه قهر نفسه طاعة لله سبحانه وتعالى.

    أن توقد النار على الغضب فتطفئه هو قمة الحلم , وما الغضب الا مفتاح كل معصية , وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الغضب لما يترتب عليه كل شر, و خلال أعرابي جاءه يسأله قائلا: أوصني يا رسول الله... فقال له النبي الكريم لا تغضب... فقال الأعرابي: زدني يا رسول الله... فقال له في الثانية: لا تغضب... فكرر الأعرابي طلبه وقال: زدني يا رسول الله فقال النبي الكريم في الثالثة: لا تغضب....

    لماذا؟ لأنّ الغضب مفتاح كل مصيبة وكلّ شر وكل معصية وكل قطيعة رحم وكل خلاف بين اثنين متحابين, لذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي الغضبان أن يتوضأ فيهدأ غضبه, وان كان واقفا أن يجلس, وان كان جالسا فليضطجع, وان كان مضطجعا فليغير اضطجاعه على الجانب الآخر , وهكذا يغير الوضعية التي يكون عليها فيهدأ شيطان الغضب بداخله..

    وقوله صلى الله عليه وسلم: ليس الشديد في الصرعة, وانما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.

    ولنا وقفة مع الغضب والذي لولا رحمة الله عزوجل لكاد أن يؤدي الى حرب شعواء قبلية بين صحابيين جليلين من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم, هما عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما, ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما, حيث كان لعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما مزرعة مجاورة لمزرعة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما في المدينة , وذات يوم دخل عمال مزرعة معاوية الى مزرعة ابن الزبير, فغضب ابن الزبير وكتب الى معاوية بدمشق وقد كان بينهما عداوة خلفتها الفتنة التي كانت قائمة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما, جاء فيها:

    من عبد الله بن الزبير الى معاوية بن هند آكلة الأكباد أما بعد,

    فانّ عمالك دخلوا مزرعتي فمرهم بالخروج منها , أو فوالذي لا اله الا هو ليكوننّ لي معك شأن ,

    والمعروف عن معاوية رضي الله عنه أنه كان أحلم الناس فاستقبل رسالة ابن الزبير برجاحة صدر وعقل تامين وعرض رسالته على ابنه يزيد قائلا له: انّ ابن الزبير أرسل لي رسالة يهددني بها فماذا ترى؟ , فما كان من يزيد الا أن قال: أرسل له جيشا أوله عنده وآخره عندك يأتيه برأسه, الا أنّ معاوية بحلمه رضي الله عنه ردّ عليه ردا جميلا واحتوى ابن الزبير رضي الله عنهما بحلمه الراقي , فقال: بل هو خير من ذلك زكاة وأقرب رحما... وكتب له الرسالة التالية:

    أما بعد,

    فو الله لو كانت الدنيا بيني وبينك لسلمتها اليك, ولو كانت مزرعتي من المدينة الى دمشق لدفعتها اليك, فان وصلك كتابي هذا فخذ مزرعتي الى مزرعتك, وعمالي الى عمالك, فانّ جنة الله عرضها السموات والأرض,.


    وما أن قرأ ابن الزبير رضي الله عنهما الرسالة حتى بكى بكاء جعله يسافر الى معاوية في دمشق وقبّل رأسه وقال: لا أعدمك الله حلما أحلك في قريش هذا المحل.

    قال احد الصالحين رحمه الله: ليس الجزع أن تدمع العين ويحزن القلب، ولكن الجزع القول السيىء والظن السيىء . وقال بعضهم: مات ابن لي نفيس، فقلت لأمه: اتقي الله واحتسبيه عند الله، واصبري. فقالت: مصيبتي به أعظم من أن أفسدها بالجزع.

    وأخيراً أسأل الله تعالى أن يرزقنا الصبر، وأن يجعلنا من الصابرين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين.

    وفوق كلّ ذي علم عليم

    العـَرَضْ الثامن: غياب الاحسان من حياتنا ويـُعالج بمراقبة الله عزوجل


    يقول المولى تبارك وتعالى سورة الملك:
    انّ الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير* وأسروا قولكم أو اجهروا به انه عليم بذات الصدور

    فخشية الله بالغيب هي المراقبة, وخشية الله بالغيب هي الاحسان, وبذلك يكون الاحسان والمراقبة مترادفان لمعنى واحد لا ينفصل أحدهما عن الآخر.

    ذلك انّ الذي يخشى الله بالغيب يخاف مقام ربه عزوجل, فيبعثه هذا الخوف على الكف عن المعاصي ويهيئه لفعل الطاعات والقربات من حيث لا يراه أحد الا الله سبحانه وتعالى, وهذا النوع من الايمان يكفر الذنوب ويجازى فاعله بالثواب الجزيل, وكما ثبت في الصحيحين: سبعة يظلهم الله تعالى في ظل عرشه يوم لا ظل الا ظله, وذكر منهم عليه الصلاة والسلام : ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: اني أخاف الله, ورجل تصدّق بيمينه فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه, وما فعل هذين الرجلين ذلك الا لمراقبتهما لله عزوجل علام الغيوب الذي يطلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور, لأنهما استحضرا عظمة الخالق في قلوبهما فخافاه عزوجل.

    المراقبة هي الاحسان, ومراقبة الله عزوجل في حركاتنا وسكناتنا وخلواتنا وفي كل شئون حياتنا هو الاحسان, والاحسان كما عرفه النبي صلى الله عليه وسلم: أن تعبد الل كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك...

    ولو أنّ كل منا راقب الله في أفعاله وأعماله ومعاملاته وأسرته ما رأينا ابنا عاقا , ولا ابنة جاحدة وما احتجنا للسجون, ذلك أنّ مراقبة الله عزوجل وحدها تكفينا كل شيء , ومن يتق الله فهو حسبه ويرزقه من حيث لا يحتسب.
    انّ المراقبة تحتاج الى تقوى الله عزوجل وخشيته , والى خوف واخلاص, وبدون تلك العناصر لا تتحقق , لذا فانا نجد سفيان الثوري رحمه الله قد ربط كل الصفات الايمانية بوصفته ربطا محكما بحيث ان انتقصت الوصفة عنصرا واحدا من عناصرها لا تجدي لها فعالية ولا تشفي من مرض الرجل الذي لجأ لسفيان رحمه الله لأن يرشده الى الشفاء من مرض البعد عن الله, فوصف له هذه الوصفة المحكمة التي تنطق بالحكمة والحق.

    ان كل تلك الصفات الحميدة من مكارم الأخلاق, ولو أننا جميعا طبقناها في حياتنا كما أمر الله لها أن تطبق, لما وجدنا امرأة مسلمة سافرة , عارية متبرجة تسير في الشارع, ففهم رسالة المرأة المسلمة لرسالتها في الحياة مرتبط أساسا بوعيها الديني والتزامها الشرعي مع خالقها تبارك وتعالى الذي أراد لها الستر , فلا تـُؤذى لا بنظرة ولا بهمسة أوكلمة أو تـُخدش حياءها, ولكن ان فقدت المرأة حياءها وخرجت للشارع تـُزاحم الرجال وهي كاسية عارية غدت ملعونة , بنص الحديث الشريف: صنفان من أهل النار لم أرهما: وذكرعليه الصلاة منهما ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات, رؤوسهنّ كأسمنة البخت , لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها.
    ولو كان رعاة هذا النوع من النساء يراقبون الله ما سمحوا لزوجاتهم وبناتهم وأخواتهم في الخروج بهذا الشكل السافر, وما سكوتهم عليهنّ الا ضرب من ضروب الدياثة, والديوث هو الذي لا يغار على عرضه وقد حرّم الله عليه الجنة لقوله صلى الله عليه وسلم: ثلاثة حرم الله عليهم الجنة, مدمن الخمر والعاق لوالديه.. والديوث الذي يقر الخبث في أهله.
    وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما و عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه والديوث ورجلة النساء.
    انّ الديّوث يشمل كل من يرضى الخبث بأهله, أو يسمح لهنّ بأن يخرجن كاسيات عاريات يفتنّ الرجال سواء بثيابهنّ العارية أو الضيقة أو الشفافة, او من سمعه الغزل بجمالهنّ ويسكت ويستحسن ذلك.

    وقال الحسن البصري رحمه الله: والله ما أصبح اليوم رجل يـُطيع امرأته فيما تهوى الا أكبـّه الله تعالى في النار, لقوله صلى الله عليه وسلم: اطلعت على النار فرأيت أكثر أهلها النساء.

    وقال عليه الصلاة والسلام: ما تركت بعدي فتنة هي أضرّ على الرجال من النساء.

    اذن المراقبة هي الاحسان, والاحسان هي أعلى مقامات الطاعة, وهو كما قال الامام احمد رحمه الله:

    اذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل عليّ الرقيب

    ولا تحسبنّ الله يغفل ساعة ولا أنّ ما يخفى عليه يغيب


    وبمسك الختام نختم بقوله تبارك وتعالى : وكان الله على كلّ شيء رقيبا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Mar 2009
    الدولة
    امريكا
    المشاركات
    168

    افتراضي رد: أمراض القلوب

    العرَضْ التاسع: الكذب ويـُعالج بتحرّي الصدق


    يقول المولى وتعالى في محكم تنزيله الكريم:
    يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين

    يأمر الله تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين وخصّ المنعم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

    واذا تمعّنا في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة والتي هي غيض من فيض من الآيات الكريمة التي تناولت الحديث عن الصدق, هذه السمة التي تنسب مباشرة الى الصالحين, فالمؤمن معروف أنه لا يكذب كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم, وهذه الصفة الحميدة اتسم بها صلوات ربي وسلامه عليه بين قومه قبل النبوة ولقـِّب ب ( الصادق الأمين) صلوات ربي وسلامه عليه.

    والصدق صفة تنتفي تماما عن المنافقين وأهل النفاق الذين يرفعون شعار الكذب , وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم الى ذلك بقوله: آية المنافق ثلاثة وان صلى وصام وزعم أنه مسلم: اذا حدّث كذب, واذا وعد أخلف, واذا أؤتمن خان.
    وقال عليه الصلاة والسلام: أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا, ومن كانت فيه خصلة منها كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها (أي حتى يتوب منها): اذا حدّث كذب, واذا عاهد غدر, واذا أؤتمن خان, واذا خاصم فجر...
    ومعنى اذا خاصم فجر: أنه لا يكتفي أنه مخاصم وانما يشنّع بالذي خاصمه حتى يفضحه, سواء كان كاذبا أم صادقا في تشنيعه لمن خاصمه.

    والصدق هو العلامة الفارقة بين أهل الايمان وأهل النفاق, واهل الجنة وأهل النار, وهو سيف بتار يُسلط على رقاب الكذابين, والذي اذا وقع على رقبة كاذب قطعها, واذا واجه باطلا أبطله وأزهقه, وكما في قوله تعالى:
    وقل جاء الحق وزهق الباطل انّ الباطل كان زهوقا

    وقوله تبارك وتعالى: وقل ربّ أدخلني مُدخل صدق وأخرجني مُخرج صدق

    وفي الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انّ الصدق يهدي الى البر, وانّ البرّ يهدي الى الجنة, وما يزال الرجل يـَصدُق ويتحرّى الصدق حتى يـُكتب عند الله صِدّيقا, وانّ الكذب يهدي الى الفجور, وانّ الفجور يهدي الى النار, وما يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يـُكتب عند الله كذابا.

    من أطاع الله وأطاع رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بكل ما أمر الله تعالى به , ونهى عما نهى عنه الله عزوجل وزجر فمأواه الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين كما في قوله تبارك وتعالى:
    ومن يطع الله ورسوله فأولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

    انّ الصدق والكذب ليسا صفتان متعاكستان , بمعنى أنّ الصدق ليس عكسه الكذب, بل يظهر كل منهما أثناء غياب الآخر, كالايمان والكفر, اذا غاب الكفر ظهر الايمان, واذا غاب الايمان ظهر الكفر, وكالقمر والشمس والليل والنهار, فهل نستطيع أن نقول أن الليل عكس النهار؟ أو القمر عكس الشمس؟ بالتأكيد لا.. ذلك أنه اذا غاب الليل ظهر النهار, واذا غاب القمر تطلع الشمس, ولو أنهما متعاكسان لظهرا في كبد السماء في وقت واحد وكل منهما بنوره الخاص به.

    وهذا ما اكده النبي صلى الله عليه وسلم لملك الروم عندما دعاه الى الاسلام بقوله : أبشر بجنة عرضها السموات والأرض, فارسل اليه ملك الروم يسأله: أين طولها؟ فردّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: سبحان الله! أين الليل اذا طلع النهار؟

    وقد قيل بأن الناس معادن في التعامل, وكذلك في الدين نجد المنافق بكذبه والمؤمن بصدقه, وهذا ما اكده المولى تبارك وتعالى في قوله الكريم : ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم, وهذه حقيقة ساطعة أساسها الصدق , ولنعلم أنّ الكذب والايمان لا يجتمعان بمكان, ذلك أنّ الصدق نجاة لصاحبه يوم القيامة ولا ينفع العبد ولا ينجيه من عذاب الآخرة الا الصدق, وهذا ما تجلى في قوله عزوجل بآية عظيمة ختم بها سورة المائدة:هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها النهار خالدين فيها أبدا.

    وقال ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية الكريمة: هذا يوم ينفع الموحدون توحيدهم.... لله عزوجل الها واحدا فدرا صمدا لا شريك له.

    حالات الصدق

    وقد ذكر العلماء حالتينت اثنتين للصدق: أولها: استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها. والصدق في الأعمال استواء الأفعال على الأمر والمتابعة عليها كاستواء الرأس على الجسد.

    ثانيها:: استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص, وذلك يكون العبد قد حصل على الصدق. ولم يرخّص االنبي صلى الله عليه وسلم في الكذب في أحوال ثلاث : في الحرب, وفي الإصلاح بين الناس, وحديث الزوجين فيما بينهما.

    وأشدّ أنواع الكذب هو الكذب على الله عزوجل ورسوله صلى الله عليه وسلم, لأنّ هذا النوع من الكذب يـُكفر صاحبه خاصة اذا تبعه تحليل حرام أو تحريم حلال, لقوله تبارك وتعالى في سورة الزمر 60: ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة.

    هذا عدا على أنّ من كذب على لسان النبي صلى الله عليه وسلم متعمدا فليتبوأ مقعده من النار لقوله عليه الصلاة والسلام: من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار..

    وقال عليه الصلاة والسلام: من كذب عليّ بني له بيت في جهنم.
    وقال عليه الصلاة والسلام: من روى عني حديثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين.

    وقال عليه الصلاة والسلام: انّ كذبا عليّ ليس ككذبٍ على غيري.

    وقال عليه الصلاة والسلام: من يـَقـُل عني ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار.

    وقال عليه الصلاة والسلام: يـُطبع المؤمن على كلّ شيء الا الخيانة والكذب.

    وقال عليه الصلاة والسلام: كبـُرت خيانة أن تحدّث أخاك حديثا هو لك بمصدّق وأنت له به كاذب.

    وقال عليه الصلاة والسلام: أفرى الفـَري على الله أن يري الرجل عينيه مالم تريا.
    ومعنى ما لم تريا: أي كأن يقول رأيت في منامي كذا وكذا وهو كاذب لم يرى شيئا.
    أو كما قال صلوات ربي وسلامه عليه

    وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى ينكت في قلبه نـَكتة ً سوداء حتى يُسوّد قلبه فيـُكتب عند الله من الكذابين.

    النـَكتة هنا هي البقعة تمتد وتنتشر ان أصرّ الكاذب على الكذب ومات عليه, وتصغر وتضعف ان تاب عن ذلك.

    مما تقدّم نقول: بأنه ينبغي على المسلم أن يحفظ لسانه عن الكلام الا كلاما ظهرت فيه المصلحة, فالسكوت سلامة وأمن واطمئنان, ولا يعدلها شيء على التمام, ولا ينبغي أبدا للانسان أن يتكلم عن شيء ليس فيه خير, لقوله عليه الصلاة والسلام: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت... لوقول ابو موسى الأشعري رضي الله عنه : يا رسول الله! أيّ المسلمين أفضل؟ قال عليه الصلاة والسلام: من سلم المسلمون من لسانه ويده.
    والسلامة من اللسان تكون هنا: بألا يطعن أحدا, ولا يقذف أحدا, لا بعرض ولا بقول, ولا باتهام يكون المتهم فيه بريء, وألا يدعو الى باطل ينشيء خلافا بين اثنين.

    ورحم الله من قال: لسانك لا تذكر به عورة امريء....... فكللك عورات وللناس ألسن

    ورحم الله من قال: لسانك حصانك.... ان صنته صانك.... وان خنته خانك.

    وعن بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انّ الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى , ماكان يظنّ أن تبلغ ما بلغت , يكتب الله له بها رضوانه الى يوم يلقاه , وانّ الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى , ما كان يظنّ أن تبلغ ما بلغت, يكتب الله له بها سخطه الى يوم يلقاه.
    الرضوان قد يتحقق: بالدعاء والتحميد والتسبيح والاصلاح بين جماعة المسلمين أو بين الزوجين, قد يكون فيها صلاح وسنة حسنة له أجرها وأجر من عمل بها الى يوم القيامة.

    والسخط قد ينحقق: بالنميمة والغيبة أو بدعة أبدعها قد يكون فيها ضلالة فيكون قد استنّ سنة سيئة عليه وزرها ووزر من عمل بها الى يوم القيامة.

    والكذابون ملعونين بنص القرآن الكريم لقوله تعالى في سورة آل عمران 61: فنجعل لعنة الله على الكاذبين.

    ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: وانّ الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى , ما كان يظنّ أن تبلغ ما بلغت, يكتب الله له بها سخطه الى يوم يلقاه.

    ولقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تنظروا الى صلاة المرء وصيامه ولكن انظروا الى صدقه في الحديث...
    لماذا؟ لأنّ الصدق روح الأعمال كلها, والبعيد عن دروب الشيطان كلها, وهو المقرّب من الرحمن ورضاه , وهو الحقيقة الخالدة التي لا شبهه فيها , وهو محور الانسان المؤمن الحق , وهو المنجي يوم القيامة من عذاب الله, ولأنّ الصدق أساس الدين كله, انه عين القين كله, انه مفتاح الجنان كلها.

    وأختم حديثي بمسك الختام قوله تعالى في آية عظيمة ختم الله تبارك وتعالى سورة المائدة في خطابه عزوجل لعبده عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام قائلا له المولى تبارك وتعالى يوم القيامة وأمام من اتخذه وأمه الهين من دون الله عزوجل:
    قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم, لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا, رضي الله عنهم ورضوا عنه, ذلك الفوز العظيم.

    اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه, واكتبنا عندك من الصادقين الذين يتحرّون الصدق برحمتك يا أرحم الراحمين.

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Mar 2009
    الدولة
    امريكا
    المشاركات
    168

    افتراضي رد: أمراض القلوب

    العرَضْ العاشر: غفلة الاستغفار ويعالج بالاكثار من الاستغفار


    لقوله عزوجل في سورة نوح عليه السلام:
    فقلت استغفروا ربكم انه كان غفارا * يرسل عليكم السماء مدرارا* ويمددكم بـموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا

    ولقوله صلى الله عليه وسلم: سيّد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا اله الا أنت خلقتني وأنا عبدُك, وانا على عهدِكَ ووعِدكَ ما استطعت, أعوذ بك من شر ما صنـَعْت, أبوءُ لك بنعمتك عليّ, وأبوءُ بذنبي فاغفر فانه لا يغفر الذنوب الا أنت.
    من قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة... ومن قالها من الليل وهو
    موقنا بها , فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة. ومعنى موقنا بها: أي مؤمنا بها, مطمئنا ومتيقنا بها


    ما هو الاستغفار؟

    الاستغفار هو طلب المغفرة من الله سبحانه وتعالى الها واحدا لا شريك له على ذنب أو ذنوب ارتكبها العبد في حقه عزوجل, أوحق العباد , وهو عبارة عن كلمات يلهج بها القلب قبل أن يلفظها اللسان, ولعلّ قوله صلى الله عليه وسلم موقنا بها لا يحيد عن هذا المعنى قيد أنملة, فأالله تعالى لا يقبل من قلب غافل عن ذكر الله ولا من قلب لاهٍ لا يستحضر عظمة الخالق تبارك وتعالى في قلبه, وهذه الذنوب أو المعاصي منها ما هي كبيرة ومنها ما هي صغيرة ومنها ما هي لمَمْ, وقد ضمِن الله عزوجل في كتابه الكريم لمن اجتنب الكبائر أن يـُكفر عنه صغائر الذنوب كما في قوله تعالى في سورة النساء 31: ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه يكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما, ولعلّ هذا النص القرآني واضحا وضوح الشمس في كبد السماء, على أنّ من اجتنب الكبائر يدخل الجنة باذنه تعالى, تماما كقوله تعالى في سورة الشورى 37: الذين يجتنبون كبائر الاثم والفاوحش الا اللمم, انّ ربك واسع المفغرة... وكما في قوله عليه الصلاة والسلام: الصلوات الخمس والجمعة الى الجمعة ورمضان الى رمضان مكفرات لما بينهنّ ما اجتنبت الكبائر, وهو تماما كقوله تعالى: انّ الحسنات يذهبن السيئات.. والحسنات هنا: كنابة عن الصلوات الخمس.
    ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة , فقد كان يستغفر الله تعالى في اليوم أكثر من مائة مرّة , وهو المعصوم المغفور له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر, فما فاعلين نحن بأنفسنا؟ والكثير منا من يغفل عن هذه الفضيلة ولا يتذكرها الا عند الذنب هذا ان قام بها.

    ومن يدري لعلّ استغفاره عليه الصلاة والسلام هذا كل يوم ليؤكد لنا أنّ الاستغفار عبادة منفصلة بحد ذاتها تشعر العبد بأنه لا غنى له عن خالقه عزوجل ولا عن حاجته لمغفرته في كل حين, نظرا لكثرة الزلل الذي نتعرض له من ليل أو نهار, حتى وان كان هذا الزلل فيما بيننا وبين انفسنا كما في قوله عزوجل في آية ختم بها سورة البقرة: وان تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه. يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.

    الاستغفار هو الرجوع الى الله تعالى عما كان عليه العبد من المعصية أو البعد عن الله عزوجل ولو بلحظة غفلة من لحظات الغفلة التي تعترينا وتحوطنا من رؤوسنا الى أخمص أقدامنا, والرجوع عنها بتوبة نصوح واعادة الحق لصاحبه ان كان هناك حقا لآدمي, واتباع الحق والانقياد له والامتثثال لأمر الله من قريب, فالله عزوجل يتوب على عباده الصادقين متابا, فيمحو السيئات ويستبدلها حسنات كما ورد في الحديث أنّ العبد عندما يقف بين يدي اله يوم القيامة ويقرأ كتابه بنفسه يقول يا رب: هناك ذنوبا أذنبتها في الدنيا ولم أرها مكتوبة هنا؟ فيقول له المولى تبارك وتعالى لقد غفرتها لك واستبدلتها لك حسنات.... ولو أننا نتعامل مع الله تبارك وتعالى وبصدق لما أغمض لنا جفن ونحن نبتهل له تبارك وتعالى شكرا وحمدا, ولكن الله تعالى الأعلم بعباده يقول: انّ الانسان لظلوم كفار, اي قليل الشكر والحمد على سعة النعم الي ينعم بها الله بها علينا نحن العباد الظالمي أنفسنا كثيرا.

    ان التوبة والانابة والاستغفار والرجوع الى الله بصدق وصفاء نفس وندم بذل وانكسار لعظمة الله تبارك وتعالى من شأنه أن يفتح علينا أبواب الرزق من مال وبنين وسقيا ماء وانبات للأرض التي نتقوّت منها.

    ألا تريد من الله عزوجل أن:

    * يمنحك قوة في الجسم أو صحة في البدن, أو السلامة من آفات الدنيا وعاهاتها وأمراضها وأدرانها؟

    * يدفع عنا كوارث الطبيعة وأعاصيرها وزلازلها وبراكينها ويقينا من المحن والبلايا والمصائب؟

    * يرزقك الذرية الصالحة والمال الحلال والرزق الواسع الكريم؟

    * يكفرعنا سيئاتنا ويرفع لنا درجاتنا؟ وهل؟ وهل؟ وهل؟


    اذن علينا جميعا بالاكثار من الاستغفار والمداومة عليه ليلا ونهارا , اجهارا واسرارا واعلانا, وعلى أية حال وان كنا أصحاء, وفمن يستغفر الله ويسأله الاجابة في أوقات الشدة والمحن عليه أن يستغفره في أوقات الرخاء ليستجيب له عند الشدة, يقول الله تبارك وتعالى في محكم تنزيله الكريم في سورة الانغال:

    * وماكان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان ليعذبهم وهم يستغفرون

    * فاعلم أنّه لا اله الا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات (محمد 19)

    * استغفروا ربكم انه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا (نوح 12)

    * كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون (الذاريات 18)

    * قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله انّ الله يغفر الذنوب جميعا, انه هو التواب الرحيم ( الزمر 53).

    الاستغفار دواء لابدّ لنا من تجرعه كل وقت وكل حين, وهو ليس كدواء المرض الدنيوي والذي بمجرّد ماما اذهب عنا العلة توقفنا عنه تناوله, أو لا نلجأ اليه الا عندما نحتاجه, وانما دواء للقلوب الصدئة التي ابتليت بها القوب حتى تكدست عليه ورانت به, ولا يجلو هذه القلوب الصدئة الا كثرة الاستغفار.

    والاستغفار يقين واطمئنان, وليست كلمات يرددها اللسان ونحن قائمين على المعصية, بل هي كلمات مستقرها القلب قبل اللسان, واللسان ما هو الا وسيلة لاظهارها , ودليل أن القلب مستودعها أنه يمكننا أن نتوب ونندم من قلوبنا دون أن نحرك ألسنتنا بكلمات الاستغفار, وكما قال الله تعالى على لسان عبده نوح عليه الصلاة والسلام: ثم اني دعوتهم جهارا* ثم اني أعلنت لهم وأسررت لهم اسرارا* فقلت لهم استغفروا ربكم انه كان غفارا...

    ألف سنة الا خمسين سنة, ونوح عليه الصلاة والسلام يدعو قومه بلا كلل أو ملل امتثالا لأمر الله وابتغاء لطاعته عزوجل, لم يترك عليه الصلاة والسلام وسيلة من وسائل الدعوة الا واستخدمها مع قومه , وكلما دعاهم ليقتربوا من الحق فروا وحادوا عنه, ولكيلا يسمعوا دعوته سدّوا آذانهم عنه, ونفس الأمر حدث مع سائلر الأنبياء والمرسلين صالوات ربي وسلامه عليهم أجمعين, وكان آخر الأنبياء والمرسلين نبينا محمد بن عبد الله صلوات ربي وسلامه عليه, وذلك عندما دعا كفار قريش كما في قوله عزوجل: وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرىن والغوا فيه لعلكم تغلبون.

    أحاديث تحثنا على الاستغفار

    والى جانب سيد الاستغفار, هناك الكثير الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة التي تحثنا على المداومة على الاستغفار, طلبا لسعادتنا, والله تبارك وتعالى هو الغني عن عباده جميعا.

    · فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: والله اني لأستغفر الله وأتوب اليه في اليوم أكثر من سبعين مرة.

    · وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: من استغفر للمؤمنين والؤمنات كتب له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة.
    · وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: أنزل الله أمانين لأمتي: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم, وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون... فاذا مضيت تركت فيهم الاستغفار الى يوم القيامة.

    · وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال, قال النبي صلى الله عليه وسلم: من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كل يوم سبعا وعشرين مرّة , كان من الذين يستجاب لهم ويرزق بهم أهل الأرض.

    · وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال, قال النبي صلى الله عليه وسلم: من لزم الاستغفار جعل الله له من كلّ ضيق مخرجا, ومن كلّ همّ فرجا, ورزقه من حيث لا يحتسب.
    · وعن البراء رضي الله عنه قال, قال النبي صلى الله عليه وسلم: من استغفر الله دبر كلّ صلاة ثلاث مرات فقال: أستغفر الله الذي لا اله الا هو الحيّ القيّوم وأتوب اليه... غفرت له ذنوبه وان كانت مثل زبد البحر.. وان كانت فرّ من الزحف.

    · وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال, قال النبي صلى الله عليه وسلم: من قال حين يأوي الى فراشه: أستغفر الله الذي لا اله الا هو الحيّ القيّو وأتوب اليه ثلاث مرات.. غفر الله ذنوبه وان كانت مثل زبد البحر.. زان كانت عدد ورق الشجر.. زان كانت عدد رمل عالج.. وان كانت عدد أيام الدنيا.

    نعم فالله تعالى يرضى عن المستغفر الصادق باستغفاره, لأذ ذلك يعني الاعتراف بالمعصية والاقرار بالذنب, وحاله ذاك يكون كالمناجي ربه تبارك وتعالى:

    الهي بك أستجير ومن يجير سواك ارحم ضعيفا يحنمي بحماك

    يا ربّ قد أخطأت فاغفر زلتي أنت المجيب لكل من ناداك

    يتبع العرَضْ العاشر الاستغفار


    وكأنه يقول: يا رب! لقد أخطأت وأسأت واذنبت وقصّرت في حقك, وتجاوزت حدودك كثيرا, وظلمت نفسي كثيرا, وغلبتني شقوتي, واطعت شيطاني, حتى قهرني وغرّتني نفسي الأمارة بالسوءبالأماني التي أعتمت عليّ سعة رحمتك التي وسعت كل شيء, فغفوت عن أوامرك وقولك الحق: انما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر... وآثرت الصلاة في البيت تلبية لرغبة شيطاني الذي يأمرني بأن ابقى عند أهلي وأبنائي واصحابي وكل ما يلهيني عن عبادتك.

    * لم نلتفت الى قولك الكريم وقولك الحق: يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله... ولا الى قولك الكريم وقولك الحق: انما أموالكم وأولادكم فتنة, ان من ازواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم,... ولا حتى الى قولك الكريم وقولك الحق: في بيوت أذن الله أن ترفع فيها اسمه, يسبح له في الغعدو والأصال* رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله واقام الصلاة...

    * ولم نلتفت الى أحاديث نبيك صلى الله عليه وسلم مع أنك أمرتنا أن نطيعه ونأخذ بأوامره ونواهيه, لم نبتفت الى أنك لم ترخص لنا الصلاة في البيوت حتى وان كنا عُميانا لا نبصر الطريق طالما نستطيع الوصول الى المساجد, حتى وان كنا في أحلك ساعات الشدة, حتى وان كنا نواجه عدوا شرسا لا يرحم ضعفنا ونحن نتذلل بين يديك, حتى وان كنا في ساحة الشرف , ساحة القتال, ساحة احتدام المعركة, ساعة لمعان السيوف , ساحة الوغى , وما فرضك علينا صلاة الخوف في سورة النساء آية 102 الا لتؤكد لنا أنّ صلاة الجماعة فرض عين وليست فرض كفاية كما يظنّ الكثير منا..

    * ولم نلتفت الى حديث حبيبك ونبيك صلى الله عليه وسلم القائل: لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام..ثمّ آمر رجلا فيؤمّ الناس, ثمّ أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب الى قوم لا يشهدون الصلاة في الجماعة فأحرّق عليهم بيوتهم في النار.

    * ولم نلتفت الى قولك الكريم وقولك الحق في سورة القلم: يوم يكشف عن ساق, ويدعون الى السجود فلا يستطيعون* خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون الى السجود وهم سالمون.. أن السجود يعني الصلاة المكتوبة بالآذان والاقامة في المساجد.

    * ولم نلتفت لقول نبيك صلى الله عليه وسلم القائل: أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله صلاته, فان صلحت فقد أفلح وأنجح, وان فسدت فقد خاب مخسر, فان انتقص من الفريضة شيء يقول الله تعالى لملائكته الكرام : انظروا هل لعبدي من تطوّع فيكمل به ما انتقص من الفريضة , ثم يكون سائر عمله كذلك.

    * ولم نلتفت الى قولك الكريم وقولك الحق: وأقيموا الصلاة على أنها تأمرنا بترك أعمالنا ومورد رزقنا ونهرول الى طاعتك ونبحث عن صحبة تصلي في جماعة فنكون قد امتثلنا اليك والى أوامرك وطاعتك, كما في قولك الكريم: رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله واقام الصلاة.. بل اتخذنا الأمر سخريا واعتقدنا أنّ المهم أن نركع أربع ركعات كيفما كانوا, بخشوع أو بلا خشوع, بتدبر أو بلا تدبّر, تعاملنا معك وأنت الكريم كما نعامل أرباب العمل, تعاملنا معك كما خاطب نوح عليه الصلاة والسلام لقومه: مالكم لا ترجون لله وقارا* وقد خلقكم أطوارا..لم نعظمك حق عظمتك, ولم نخاف من بأسك ونقمتك, وأنت الذي خلقتنا من ماء مهين وحقير, من منيّ يمنى على السرير...

    * ولم نلتفت الى نصائح نبيك صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته , رغم أمرك لنا في سورة الحشر7 بأنه: وماآتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا, وقلنا هذه الآية نزلت على من عاصروه ولسنا معنيين بها, هكذا يا ربّ دائما تجدنا نبرّر أخطاءنا وننسبها الى ما هو ليس صوابا, فصلينا بسرعة وعجلة وكأنّ هناك من يلحقنا بعصاة, فلا درينا ان كنا سبحناك في ركوعنا وسجودنا أم دعوناك قبل تسليمنا؟ ولا ندري ان كنا صلينا ثلاثا أم أربعا , فالدنيا والأولاد والزوجة والعمل وزخارف الدنيا والوهن أخذنا؟ ولا ندري كم قبلت من صلاتنا, أقبلت منا ركوع أم سجود؟ أقبلت منا رفع من ركوع أم استراحة بين سجدتين؟ أقبلت منا تلاوة أم تشهدا؟ أقبلت منا تدبّرا أم خشوعا؟ أقبلت منا خشية أو بكوة؟ أقبلت منا طهارة أو وضواءا؟ أرفعت لنا دعاء أم مناجاة؟ لقد تـُهنا في متاهات الدنيا الفانية وما التفتنا الى قولك الكريم وقولك الحق: كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا الا عشيّة أو ضحاها... ولا الى قولك الكريم وقولك الحق: يوم يُقسم المجرمون أنهم ما لبثوا الا ساعة.
    نعم يا رب! لقد أمسى حالنا حال المسيء صلاته ما أن نشرع بالصلاة حتى نـُنهيها , وكأنّ الزوجة ستهرب من البيت فتعود الى بيت أهلها, وكأن الأبناء سيهربون معها فنعود البيت فلا نجدهم ينتظروننا؟ وكأن الشغل سينفذ والرزق سينقطع ان نحن وقفنا لدقائق معدودة نناجيك وندعوك ونمتثل لأوامرك, بعدما غاب عن أذهاننا قولك الكريم وقولك الحق: وفي السماء رزقكم وما توعدون... والله خير الرازقين...انّ الله يرزق من يشاء بغير حساب...

    يا ربّ! كيف ندعوك ونحن على ذا الحال الذي لا يسّر صديق ولا عدو؟ وكيف لا ندعوك وأنت الكريم الوهاب غافر الذنب قابل التوب؟

    يا رب ! كيف لا ندعوك وأنت الغفار الكريم؟ وأنت الحنان المنان ذو الجلال والاكرام, الأرحم والأرأف علينا من الأم على وليدها؟

    يا رب! كيف لا ندعوك وأنت الكريم وقولك الحق: ألا من تائب فأتوب عليه؟ ألا من مستغفر فأغفر له؟

    نعم يا رب! أنت الحق وقولك الحق في سورة طه 83: واني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى

    ها نحن أتينا اليك نقف على بابك الكريم تائبين منيبين معترفين مقرّين فتـُب علينا توبة نصوحا من عندك تمحو بها عنا جميع الذنوب والخطايا... مؤمنين بك ايمانا لا ريب فيه ولا شك.. مؤمنين بك الها واحدا أحدا فردا لم يلد ولم يولد ولم يكن لك كفؤا أحد.. ونؤمن أنّ محمدا صلى الله عليه وسلم عبدك ورسولك.. وانّ عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام عبدك ورسولك, وكلمته ألقاها الى مريم وروح منه... اللهم انا نشهد أنّ الجنة حق والنار حق... فنسألك الجنة وما قرب اليها من قول أو عمل.. ونعوذ بك من النار وما قرب منها من قول أو عمل.

    وها نحن يارب نشهد أنك أنت الحق وقولك الحق: لا يكلف الله نفسا الا وسعها... ونعاهدك يا رب أن نأتي من الخير ما استطعنا اليه سبيلا, وأن ننتهي عما نهيتنا عنه ما استطعنا اليه سبيلا, وأن نبقى في معيتك ونعبدك بالاحسان الذي أوضحه لنا حبيبك صلى الله عليه وسلم على أنه: أن ةنعبد كأننا نراك... فان لم نكن نراك فانك ترانا.....

    وها نحن يا رب نشهد انك أنت الحق وقولك الحق: فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه, نعاهدك أن نلتزم الجماعة ما أمكننا الى ذلك سبيلا, وألا نتخلف عنها الا اذا اضطررنا اليه فلا تكلف نفسا الا وسعها.

    وها نحن يا رب نشهد أنك أنت الحق وقولك الحق بأن ندأب على عمل الصالحات ما استطعنا الى ذلك سبيلا, وان نداوم على فعل الطاعات والقربات الى أن يأتينا اليقين, فسهّل لنا أمورنا... ويسّر لنا تنفيذ عهدنا وووعدنا... فلا نرجو الا رحمتك ورضاك عنا.., ولا نسألك الا حياة الكفاف... حياة لا تحوجنا الى أحد سواك... حياة تكفي أسرنا ومن نعول... حياة لا كِبـَرَ فيها ولا جبروت... حياة ناعمة هادئة آمنة مطمئنة... ,انت الكريم القادر على اعطاءنا سؤلنا... أنت الرزاق الكريم ترزق الكافر والفاجر فكيف بالمؤمن الصادق الموحد؟ لا نرتاب يا رب أبدا بعفوك وكرمك فأنت الواحد الأحد الفرد الصمد الحنان المنان ذو الجلال والاكرام القائل في كتابك الكريم:


    هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم.

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Mar 2009
    الدولة
    امريكا
    المشاركات
    168

    افتراضي رد: أمراض القلوب

    العرَضان الحادي عشر والثاني عشر الحِرْصْ والطمع ويُعالجان بالورع

    يقول المولى تبارك وتعالى في محكم تنزيله الكريم بآيات كريمات ختم بها سورة الفرقان:

    وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا واذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما

    الى آخر الآيات الكريمات التي تصف لنا السابقون.

    ويقول المولى عزوجل في محكم تنزيله الكريم بآيات كريمات افتتح بها سورة المؤمنون:

    قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون الى آخر الآيات الكريمة التي تصف السابقون

    ويقول المولى عزوجل في محكم تنزيله الكريم في سورة المعارج:

    الا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون الى آخر الصفات الحميدة للسابقون

    ويقول المولى تبارك وتعالى في محكم تنزيله في سورة الواقعة يصف لنا السابقون:

    والسابقون السابقون * أولئك المقربون * في جنات النعيم

    هؤلاء السابقون هم الذين سيدور بحثنا حولهم, ذلك انّ الورع مرتبط بهم, وهم فقط الذين يتصفون بالورع موضوع بحثنا الجميل هذا , سائلين الله عزوجل أن يرزقنا صفاتهم الحميدة والتي سأتناولها في هذا البحث الموجز فقط لندرك أعمال هؤلاء والذي يكاد المجتمع الاسلامي يخلو من وجودهم, لماذا؟ بعما أصاب الأمة الوهن لم يعد هناك ورعا بمعناه الصحيح.

    ما هو الورع وما هي أقسامه؟

    الورع هو قمة العبودية لقوله صلى الله عليه وسلم يوصي أبو هريرة رضي الله عنه: يا أبا هريرة ! كن ورعا تكن أعبد الناس.

    الورع هو اجتناب الشبهات خوفا من الوقوع في الحرام والمحرمات, ولذا كان الصحابة رضوان الله عليهم اجمعين كانوا يهجرون أغلب الحلال خشية الوقوع في الحرام.

    الورع هو كف النفس عن ارتكاب ما تكره عاقبته.

    والورع أقسامه ثلاث:

    ورع العوام... وورع الخواص... وورع خاصة الخاصة

    النوع الأول- ورع العوام: هو ترك الشبهات خشية التردي في حمأة الرذيلة عملا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم:

    الحلال بيّن والحلال بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من الناس, فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه, ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه, الا وانّ لكل ملك حمى, وألا وانّ حمى الله محارمه, ألا وانّ في الجسد مضغة اذا صلحت صلح الجسد كله, وان فسدت فسد الجسد كله, الا وهي القلب.

    وهذا النوع واجب وهو البعد الكلي عن المحرمات وما قرب اليها من قول أو عمل, وهذا النوع للناس كافة.

    النوع الثاني- ورع الخواص: وهو كل ما يعكر صفو القلب ويجعله يعيش في دوامة القلق يصارع نفسه ويخاف هلعا ان كان عمله مقبولا أم لا... وكما قال أحد الصالحين رحمنا ورحمهم الله: لأن يتقبّل الله مني عملا أكن تقيا, ألم يقل الله عزوجل: انما يتقبّل الله من المتقين؟
    وهذا النوع هو ورع الوقوف على الشبهات وهذا النوع من الورع لا يستطيعه الكثير من الناس.

    فاهل القلوب الورعة يخشون عذاب الله عزوجل بما تهجس به قلوبهم من خواطر, وما يحيك في صدورهم ويجيش من وساوس تفسد عليهم الكثير من راحة بالهم , أو حين يرتابون في حكم ما, وهذا ما أشار اليه النبي صلوات ربي وسلامه عليه: دع ما يريبك الى مالا يريبك.... وقوله عليه الصلاة والسلام: البرّ حسن الخلق... والاثم ما حالك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس.
    وفي هذا يقول الامام العارف بالله العالم المتعلم النابغة التابعي رحمه الله رحمة واسعة: ما رأيت أسهل من الورع, ما حاك في نفسك فاتركه.

    النوع الثالث: ورع خاصة الخاصة: وهو اغلاق باب الطمع والحرص في كل ما يتعلق في الدنيا, والاخلاص المطلق في عبادة الله عزوجل, وعدم الركون الى شيء سوى مرضاته سبحانه وتعالى , وهذا النوع من الورع هو ورع العارفين بالله تعالى الذين يخشون الله حق الخشية, هو ورع المتبتلين الذين انقطعوا عن الدنيا وما يوصلهم بها من كل شيء يُلهي عن ذكر الله عزوجل, هو ورع الذين يرون أنّ كل ما يشغلهم عن طاعة الله عزوجل عبث, و شعارهم الدائم: التورّع عن كل ما سوى الله عز وجل.

    وهذا النوع من الورع هو ورع الصحابة الأجلاء الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم وأخص منهم بالذكر الخلفاء الراشدون الخمسة: أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم أجمعين لماذا؟ لأن هذا النوع من الورع يُطلق عليه ورع الكف عن الكثير من المباحات خشية أو مخافة الوقوع في الحرام, وكما قال عمر رضي الله عنه: كنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ندَعْ تسعة أعشار ِ الحلال, خشية َ الوقوع ِ في الحرام.وعلى ما أعتقد أنه من الصعب في زماننا هذا أن نجد أناسا ينتسبون الى هذا التوع من الورع الا من رحم ربي.
    كيف يكون هناك من ينتسب اليه, ونحن نعيش عصر الانترنت والموبايلات والتعامل بالربا؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول بما معنى الحديث: سيأتي زمان على أمتي من لم يتعامل فيه بالربا فسيطوله غباره.
    ,ولعلّ الزمن الذي نعيشه هو الذي تنبأ به صلوات ربي وسلامه عليه خاصة بعد انتشار البنوك الربوية, وما تفرع عنها من بطاقات الائتمان ومن بطاقات الفيزا والماستر كارد والتي تعرف ببطاقات الكريديت, والتي تتعامل بها جميع دول العالم , وان وجد من لا يتعامل بهذه البطاقات نجده يتعامل مع وسيلة أخرى قد تكون أسوأ حالا من بطافات الائتمان.

    أما الطمع لغة: فهو الشره, وهو الاستحواذ على ما فوق الحاجة.
    والطمع اصطلاحا: الحصول على ما لا يحق لك ـحذه دون عناء أو مجهود, وفي المثل العامي: عالبارد المستريج, وهذا الأمر في قانون الله عزوجل مرفوض جملة وتفصيلا, اذ لا بدّ من العمل الجاد المخلص للحصول على ما تريد النفس وتبغى, لقوله تعالى في سورة المعارج: أيطمع كل امريء منهم أن يدخل جنة نعيم
    انّ جنة الله تبارك وتعالى كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم سلعتها غالية جدا وهي بغض كل ما تتوق اليه النفس البشرية من شهوات وغيرها, لأجل ذلك قال عليه الصلاة والسلام :
    الجنة حفّت بالمكاره وانار حفّت بالشهوات

    هل يطمع كل عباد الله أن يدخلون جنات النعيم ؟ والتي فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر؟ والحال هذا منهم فرارا من الله تبارك وتعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم, ونفورهم عن الحق الذي جاء به القرآن والسنة؟
    لقد أقسم الله تبارك بعزة نفسه الكريمة ب كلا! أي فلن يكون لمن كفر وجحد ومات على الكفر ذلك, بل مأواهم جهنم وبئس المصير لأنهم عصوا أوامره وأومر نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم, واذا عدنا للوراء قليلا بالآيات الكريمات لوجدناها تتحدّث عن أهم عبادة فرضها الله علين: ألا وهي الصلاة التي ا هي الفيصل بين الكفر والايمان, والله تبارك وتعالى بدأ الأيات بالصلاة وأنهاها بالصلاة, ليُبين لعباده أهمية هذه الفريضة والتي أمرنا عزوجل باقامتها وليس بآداءها, لم يقل الله عزوجل لعباده: صلوا, وانما قال عزوجل في كتابه الكريم: وأقيموا الصلاة, ويقيمون الصلاة, أقم الصلاة, وللأسغ هناك الكثير الكثير من المسلمين ر يدركون معنى اقامة الصلاة الى الآن, ولو أنهم أدركوا معنى اقامتها الحقيقي كما كان يقيمها النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وتابعيهم باحسان, لما اتسعت المساجد من كثرة عُمّارها وروّادها على مدار الصلوات الخمس المفروضة .

    ولعلّ الطمع وشدة الحرص , هاتان الآفتان اللتين ابتليت بهما مسلموا هذه الأيام من تعوقهم من اقامة الصلاة كما أمر لها ان تـُقام. ذلك ان الطمع وشدة الحرص يمنعان كثير من المسلمين من ارتياد المساجد واعمارها, و المقصود بالحرص هو الحرص على المال لأنّ المال هو سبب كل مصيبة في الدنيا وسبب كل شرّ ومعصية, وسبب كل فتنة, ذلك أنه كلما كثر المال مع ابن آدم كلما أبعده عن ذكر الله وعن الصلاة, وليس هذا فحسب أيضا جعله بخيلا في الانفاق أواخراج ما عليه من الزكاة نتيجة حرصه على المال من النقصان والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما نقص مال من صدقة.. فالذين يبيخلون في الانفاق نسب الله عزوجل اليهم صفة الشح, كما في قوله عزوجل: ولا تحسبنّ الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم, بل هو شرّ لهم , سيطوقون بما بخلوا يوم القيامة , ولو تتبعنا آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن الحياة الدنيا ومباهجها لوجدنا كيف أنّ الله عزوجل قدّم المال على أي شيء آخر, لأن الشراهة في حب المال والاستحواذ عليه بأي وسيلة حتى وان كان من مصدر حرام يلجأ اليه معظم الدنيويون, , وشهوة المال دوما تتجلى في الاستحواذ عليه وشدة طلبه , ولو استنفذ كل جهد الانسان, ولو على حساب عمره الشريف الذي يُمكنه أن ينفقه في مرضاة الله سبحانه وتعالى , تحقيقا لقوله عزوجل في سورة الذاريات: وما خلقت الجنّ والانس الا ليعبدون

    ورحم الله من قال: الدنيا ساعة فاجعلها طاعة, والنفس طماعة عوّدها القناعة

    ولأنّ الحرص والطمع من أساسيات التشبث في الحياة الدنيا , فقد أسهب القرآن الكريم في الحديث عن هذه الحياة التي لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافر شربة ماء, أو كما قال عليه الصلاة والسلام, ولو عاينا الآخرة بمنظور الايمان الحقيقي والعقل لما هنأ أحدنا لا بشربة ماء ولما تلذذ أدما بحليلته على الفراش.
    ذات يوم دخل النبي صلى الله عليه المسجد ليجد صحابته يضحكون, فقال عليه الصلاة والسلام بما معناه:
    لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم كثيرا وما تلذذ أحدكم على الفرش

    ومن أصدق الله حديثا, ومن أصدق من الله قولا ليصف لنا حقيقة الحياة الدنيا؟

    ويقول المولى عزوجل في سورة العنكبوت 64:
    وما هذه الحياة الدنيا الا لهو ولعب , وانّ الدار الآخرة لهي الحيوان

    وأيضا في سورة الحديد 20 يخبرنا الله عزوجل عن حقيقة دنيا الفناء , ما هي الا تنافس وتفاخر في المال والأولاد والأحساب والأنساب:
    اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد
    .
    وكذلك في سورة الكهف يضرب الله عزوجل لنا مثلا في الحياة الدنيا على أنها كماء منهمر من السماء, ابتعلته الأرض فارتوى منه النبات , ثم اذا جفّ وبات عيدان يابسة , هبت عليه ريح قوية فتطاير في الهواء وكأنه شيئا لم يكن:
    لا يـُنكر أحدنا أن المال والبنون زينة الحياة الدنيا, وزحرفها وملاذها, وهذه حقيقة قرآنية بحتة, ولكن هناك ما هو أفضل من المال والأولاد, هناك ذكر الله عزوجل, هناك الباقيات الصالحات (سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله أكبر ولا جول ولا قوة الا بالله العلي العظيم) التي هم غرس ثمار الجنة, كما في قوله عزوجل في سورة الكهف 45- 46: واضرب لهم مثل الحياة كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح, وكان الله على كل شيء مقتدرا * المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا.

    هل بعد كلام الله هناك حديث وقول؟ وهل هناك أدنى شك بأنّ الحياة الدنيا تافهة ولا تساوي عند الله الكريم جناح بعوضة؟ لم لا نأخذ بنصيحة الامام علي رضي الله عنه ونتعامل مع الدنيا تعامل العقلاء الحكماء كما رضي الله عنه تعامل معها, حين طلقها بالثلاث طلاقا بائنا لا رجعة فيه, يقول رضي الله عنه: يا دنيا غرّي غيري فقد بتتك ثلاثا, وعلى هذا النهج سار السلف الصالح صحابة النبي صلى الله عليه وسلم والذين تخرجوا من جامعة المصطفى وعميدها محمد الانسان عبد الله ورسوله صلوات ربي وسلامه عليه. عليه.

    اقرؤوا الآيات الكريمات التالية لندرك جميعا كم تساوي الحياة الدنيا أمام الآخرة, ة يقول المولى تبارك وتعالى يصف أصحاب الشقاء في الآخرة: كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا الا عشيّة أو ضحاها. وهذا موافق لقوله تعالى في سورة الروم 55: ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون أنهم مالبثوا غير ساعة , كذلك كانوا يؤفكون , , وكذلك قوله تعالى في آية عظيمة ختم بها سورة الأحقاف بقوله عزوجل :
    فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم , كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا الا ساعة من نهار, فهل يهلك الا القوم الفاسقون
    وكقوله عزوجل: وبوم نحشرهم كأن لم يلبثوا الا ساعة من نهار يتعارفون بينهم

    لماذا اقسم المجرمون الكفرة هذا القسم؟ فعلوا ذلك مقياسا للأحقاب والدهور التي سيقضونها في الجحيم, كما جاء في سورة النبأ: لابثين فيها احقابا * لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا * الا حميما وغساقا * جزاء وفاقا... فالعقاب دائما يكون من جنس العمل, خاصة ونحن نتعامل مع ربّ كريم لا يظلم مثقال من ذرة ولا أقل من ذلك, ربّ كريم عادل قد حرّم الظلم على نفسه قبل أن يحرمه علينا نحن عباده, كما في قوله تعالى في الحديث القدسي الجليل : هذه أعمالكم أحصيها عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ الا نفسه... ولا يهلك الا هالك, وهذا من تمام عدله تبارك وتعالى, انه لا يعذب الا من يستحق العذاب والله وحده أعلم.

    وبعد كل تلك الآيات البينات والدلالات الواضحات عن الحياة الدنيا هل لا زال لدينا أدنى شك بأن الدنيا ما هي الا لعب، ولهو، وزينة، وتفاخر، وتكاثر في الأموال والأولاد؟ هل استوعبنا الدرس جيدا وعدنا وأوبـْنا وتبنا؟ أم سنبقى نتشبث بوهم اسمه طول الأمل يـُلهينا ويـُبعدناعن بيوت الله أطهر البقاع في الأرض؟

    ويقول الله عزوجل في الحديث القدسي الجليل: وعزتي وجلالي اني لأهمّ بأهل الأرض عذابا, فاذا نظرت الى عُمّار بيوتي , والى المتحابين فيّ, والى المستغفرين بالأسحار, صرفت ذلك عنهم

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Mar 2009
    الدولة
    امريكا
    المشاركات
    168

    افتراضي رد: أمراض القلوب

    يقول المولى تبارك وتعالى في سورة البقرة 96:

    ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يودّ أحدهم لو يعمّر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمّر , والله بصير بما يعملون.

    الحرص صفة تنسب عادة للمنافقين, لأنّ المنافق أحرص الناس على الدنيا, حتى من المشرك نفسه, يودّ لو أنه يعيش ألف سنة في الدنيا لاعتقاده بأنه كلما طالت به الحياة كلما كان اكثر نجاة من العذاب, على عكس المشرك الذي هو بالأساس لا يؤمن بوجود الآخرة, لذا تجده يستمتع بحياته أطول فترة ممكنه دون أن يلتفت الى الدنيا ان ادخر منها أم لا, على عكس المنافق والذي يكون قد عرف ما ينتظره في الآخرة من الخزي نتيجة كفره ونفاقه.

    يقول المولى عزوجل في سورة الحشر 9 وسورة التغابن 16: ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون
    والشح هو البخل الشديد مع الحرص والطمع والجشع, وهو غريزة في النفس الخبيثة اذا تمكنت منها أفسدتها, والشحّ المقصود في هذه الآية الكريمة ليس هو البخل الشديد في الانفاق في سبيل الله, وهو نوع من أنواع الظلم, لأنّ كلّ معصية ظلم, وكلّ ظلم ينتج عن معصية, فأن تأكل مال أخيك دون وجه حق فهو ظلم. وف ذلك يقول المولى عزوجل للجنة في الحديث القدسي الجليل:
    وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل
    فعن ن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اياكم والظلم , فانّ الظلم ظلمات يوم القيامة, واتقوا الشحّ فانّ الشحّ أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم .

    ونفس المعنى ورد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتقوا الظلم , فانّ الظلم ظلمات يوم القيامة, واتقوا الفحش والتفحش, فانّ الله لا يحبّ الفحش ولا التفحش , واياكم والشح, فانه أهلك من كان قبلكم, أمرهم بالظلم فظلموا, وأمرهم بالفجور ففجروا, وأمرهم بالقطيعة فقطعوا

    وقال ابن عمر رضي الله عنهما: ليس الشحّ أن يمنع الرجل ماله, وانما الشحّ أن تطمع عينه فيما ليس له, أي تأكل حق أخيك ظلما من مال وغيره, وهو قريب الى حد ما من الحسد, لأنّ الحسد هو تمني زوال نعمة الآخرين.

    وذات يوم كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يطوف حول الكعبة ويدعو دعاء لا يدعو غيره, كان يردد: اللهم قني شحّ نفسي, فسئل ولم لا تزيد على هذا الدعاء بشيء؟ أجاب رضي الله عنه: اني اذا وقيت شحّ نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل (أي شيء يغضب الله عزوجل)

    وروي في الحديث أيضا: بريء من الشحّ من أدّى الزكاة وقرّى الضيف, واعطى النائبة.

    انّ الحرص والطمع صفتان مهلكتان لا محالة ان لم يتوب منهما الانسان, وعلى الانسان المسلم أن يكون قنوعا, والقناعة عكس الحرص والطمع بل بغيابها يكون الجشع والطمعم, والقناعة تعني الرضا بالقليل والشكر عليه, وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم لثعلبة بن حاطب عندما سأله ان يدعو الله له بأن يزقه مالا, نصحه النبي صلى الله عليه وسلم نصيحة غالية لو أدركها وعمل بها لكان حاله أفضل: يا ثعلبة قليل يكفيك خير من كثير يطغيك, قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه, ألا ترضى مثل نبيك؟ ولأنّ ثعلبة لم يمتثل لنصيحة النبي المعلم البشرية الخير صلى الله عليه وسلم فقد مات على النفاق بسبب الحاحه على النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله له, ويكون لثعلبة ما أراد, ورزقه الكريم من واسع نعمه ورزقه لدرجة أن جرى المال بيديه كما تجري الأنهار, ويكون هذا المال نقمة عليه أودى به الى واد سحيق من وديان النفاق ليموت على النفاق وهو الذي شهد بدرا, وينزل فيه قرآنا يتلى الى يوم القيامة يعلن نفاقه بسبب نقضه للعهد مع الله تبارك وتعالى’ يقول المولى عزوجل في سورة التوبة 75- 78:

    ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله, لنصدّقنّ ولنكوننّ من الصالحين* فلما أتاهم من فضله, بخلوا به, وتولوا وهم معرضون* فأعقبهم نفاقا في قلوبهم الى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانول يكذبون* ألم يعلموا أنّ الله يعلم سرّهم ونجواهم وأنّ الله علام الغيوب
    قال أحد العلماء رحمهم الله: السعيد من لا يغترّ بالطمع ولا يركن الى الخدع, ومن أطال الأمل نسي العمل, وغفل عن الأجل.
    ورحم الله من فال:

    ولا خير في الدنيا لمن يكن له من الله في دار المقام نصيب

    فان تعجب الدنيا رجالا فانها متاع قليل والزوال قريب


    الحمد لله ربّ العالمين الذي جعل الآجال والأرزاق بيده وحده سبحانه وتعالى, لا بيد أحد من خلقه, ولو علمنا أنّ القناعة هي عز الاستغناء عن الناس والرضا بحياة الكفاف لملكنا الدنيا كلها من دون أن ندري, ذلك أنّ في الطمع والحرص كثير من الذل يجعلنا نركض في الدنيا ركض الوحوش في البريّة ونحن نجامل هذا ونداهن ذاك, لذا كان حريا علينا أن نصغي لنصائح المطصفى معلم البشرية الخير صلوات ربي وسلامه عليه بألا ننظرالى من هو فوقنا, وننظر الى من هو دوننا, فالحسد صفة مذمومة, وهي كما نعلم زوال النعمة عن الآخرين, وهي تأكل الحسنات كما تأكل النار الهشيم, ومن يقول أنه لا يحسد أحد على نعمة فيها أقول له: من يرضى بحياة الكفاف فانه لا يحسد, ومن لم يرضى بما قسم الله له يكن أشقى الناس, ذلك أنّ من يرنو الى ما فوق حاجته سيحسد ويحسد ويحسد , وربما يقوده الحسد الى معصية الله من حيث لا يشعر, هذه هي الحقيقة التي يجب أن يـُدركها كل منا, وهي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إن العبد ليقول الكلمة لا يلقي لها بالاً من سخط الله عز وجل يهوي بها في النار سبعين خريفاً.
    اياك أن يحبط عملك دون أن تشعر

    من يعتقد أنّ الدخول في الإسلام والنطق بالشهادتين وممارسة بعض الشعائر كالصلاة والصوم والحج ونحوها يعصم من الخروج من الإسلام, يكون على خطأ, ذلك أنّ هناك أشياء كثيرة نفعلها ومخالفة للشريعة تحبط عملنا فتخرجنا من الملة دون أن نشعر, خاصة والنبي تصلى الله عليه وسلم يقول بما معنى الحديث: يصبح أحدكم مسلماً ويمسي كافراً ، ويمسي كافراً ويصبح مسلماً.

    ويقول عليه الصلاة والسلام بما معنى الحديث: ينكر أحدُكم صلاته إلى صلاتهم، وقيامه إلى قيامهم، يخرجون من الدين كما تخرج الشعرة من العجين.
    اياكم والاستهزاء في الدين فانه يخرج من الملة

    فالاستهزاء بالدين يـُخرج من الملة من حيث لا يدري الكثير منا. لقوله تبارك وتعالى: قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم.
    لذا يجب على المسلم أن يكون معتداً بدينه معتزاً به، معظماً لشعائر الله، مبجلاً لحرماته، محباً لله ولكتابه الكريم ولرسوله وسنته صلى الله عليه وسلم، وللعلماء المتقين الذي يخشون الله والمصلحين، ولسائر العبادات والشعائر والمظاهر الإسلامية، فحب المرء لكل ذلك علامة من علامات الإيمان، واستهزاؤه وسخريته بشيء من شعائر الدين يكون قد ادخل نفسه في سمات المنافقين دون أن يشعر.فمن استهزأ أوسخر بأي أمر من أمور الدين كبيرها وصغيرها، جليلها ودقيقهـا، يكون قد أدخل نفسه في الكفر , كما في قوله تعالى السابق الذكر.
    ورحم الله من قال:

    هي القناعة فاحفظها تكن ملكا لو لم يكن لك منها الا راحة البدن

    وانظر الى من ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن؟


    ارضى بما قسم الله لك تكن أغني الناس... بهذه الكلمات القليلة نطق الفم الشريف فم رسول الله صلى الله عليه وسلم

    نعم يا رسول الله! صلى عليك الله يا علم الهدى هو ما تقول, فالقناعة حقيقة عظيمة متى تجلت في القلب استقرت فيه, ومتى استقرت فيه تمكنت منه النفس, ومتى تمكنت النفس منه أورثت لذة عظيمة وسعادة بالغة وغبطة كبيرة لا يعرف قيمتها الا الذي يعيشها ويتذوق حلاوتها, وكما ورد في الحديث أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل ذات يوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورآه يضطجع على الحصير وقد علم على جنبه الشريف فقال له: يا رسول الله! اتنام على الحصير وملوك كسرى والروم تنام على الحرير؟ وفي هدوء تام وبحكمة الأستاذ مع التلميذ, والطبيب مع المريض, قال له الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم :

    يا عمر! أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟



    ان النفس البشرية لو علمت حقيقتها ومآلها ومصيرها، لأبغضتها، ولآثرت عليها الآخرة التي هي خير وأبقى , فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا* فانّ الجحيم هي المأوى* وأما من خاف مقام ربه , ونهى النفس عن الهوى* فانّ الجنة هي المأوى* سنة خالدة لا تتغيّر ولا تتبدل, واحد + واحد = اثنان, تقوى+ خوف من الله = جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين... على حين دنيا + عصيان لله عزوجل = جحيم مقيم لابثين فيها أحقابا * لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا* الا حميما وغساقا... لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا... , ولا مقام ثالث بينهما, اما جنة واما نار, والسعيد من اعتبر وعمل لما بعد الموت وخالف هواه, وسلعة الله عزوجل : الجنة, نعم الجنة سلعتها غالية الثمن ولا يستطيع دفع ثمنها الا التقي المخلص لله في عبادته الذي يخشى الله ويخاف عذابه ولا يأمن انتقامه, فلا يأمن مكر الله الا القوم الكافرون.

    وعلى ما تقدم من آيات قرآنية كريمة يمكننا القول بأن الحياة الدنيا تافهة ولا قيمة لها ولا وزن حين لا يكون وراءها غاية أكرم وأبقى.. حين نعيشها لذاتها مقطوعة عن منهج الله تعالى فيها. ذلك المنهج الذي يجعلنا نتوق للآخرة ؛ ويجعل إحسان الخلافة فيها هو الذي يستحق وراثة الدار الباقية. فالإيمان والتقوى في الحياة الدنيا هو الذي يخرجها عن أن تكون لعبًا ولهوًا، ويطبعها بطابع الجِّد، ويرفعها عن مستوى المتاع الحيواني إلى مستوى الخلافة الراشدة، المتصلة بالملأ الأعلى. ويومئذ لن يكون ما يبذله المؤمن المتقي من عرض هذه الحياة الدنيا ضائعًا، ولا مقطوعًا.

    عن أبي بكر رضي الله عنه قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته يدفع عن نفسه شيئًا، ولم أرَ معه أحدًا، فقلت : يا رسول الله ! ما الذي تدفع عن نفسك ؟ قال: هذه الدنيا، مُثِّلت لي، فقلت لها : إليكِ عنِّي، ثم رجعَت، فقالَت : إن أفلتَّ منِّي، فلن ينفلت منِّي مَنْ بعدك. ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يقول : الدنيا خضرة حلوة، فاتقوها .

    والدنيا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعمت الدار الدنيا لمن تزوّد منها لآخرته، وبئست لمن صدّته عن آخرته، وقصرت به عن رضا ربه. فإذا قال العبد : قبّح الله الدنيا، قالت الدنيا : قبّح الله أعصانا لربه .

    طيّب الله ثراه فهو يصف لنا الحياة الدنيا كلعبة من لعب الاطفال, لعب بها الطفل مدة ثم ملّها فرماها جانبا, يقول رحمه الله: حين تقاس بمقاييسها هي، وتوزن بموازينها، تبدو في العين وفي الحِسِّ أمرًا عظيمًا هائلاً، ولكنها حين تقاس بمقاييس الوجود، وتوزَن بميزان الآخرة، تبدو شيئًا زهيدًا تافهًا، لا قيمة له..

    وعن كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

    ما ذئبان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه.

    وهذا مثل عظيم ضربه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيان فساد دين المرء مع حرصه على المال والشرف (الرفعة في الدنيا)، وأن فساد الدين بذلك ليس بأقل من فساد الغنم التي غاب عنها راعيها , وأرسل فيها ذئبان جائعان.

    بقي أن نذكر امرا مهما وهو أنّ الحياة الدنيا التي ذمّها المولى تبارك وتعالى انما للحياة الدنيا التي تلهي عن واجب أو عن ذكر الله عزوجل خاصة الصلاة المفروضة والتي عليها يعلق أعمال البرّ كلها, فان صلحت صلح سائر العمل, وان فسدت فسد سائر العمل والعياذ بالله, لذا كان حريّ بنا أن نتطرّق الى الصلاة بتفصيل أكثر نظرا لأهميتها ولتوقف قبول باقي أعمال البرّ على قبولها.

    انّ الحياة الدنيا في حقيقة الأمر ما هي الا أساسات مبنى حياة الآخرة, وبذور نبات الآخرة, ومنها زاد الجنة , ومنها اكتسبت النفوس الإيمان ومعرفة الله تعالى، ومحبته وذكره ؛ ابتغاءَ مرضاته. وخيرُ عيش سيناله أهل الجنة في الجنة ؛ إنما يكون مما زرعوه في الحياة الدنيا من أعمال البر والإحسان، فإن لم تكن كذلك، فهي مذمومة ملعونة ؛ كما جاء في الحديث الذي رواه التِّرمِذِيُّ عن أبي هريرة، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله، وما والاه، وعالم، أو متعلم

    وفي هذا البحث القيّم , بحث مرض القلوب كان لا بدّ لنا من ذكر روائع الحكمة ورأي الامام عليّ رضي الله عنه بالحياة الدنيا, الامام والصحابي الجليل وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب زوج البتول الطاهرة المطهرة فاطمة الزهراء ريحانة النبي صلى الله عليه وسلم ووالد السبطين الشهيدين سيدا شباب أهل الجنة: أبي محمد الحسن وأبو عبد الله الحسين وجدتهما خديجة الكبرى رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين وصلى الله وسلم وبارك على من ربّاهم



    يقول لامام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه يصف لنا حقارة الحياة الدنيا بأسطر قليلة ومعان جليلة لو استوعبناها حق الاستيعاب لبكينا على أنفسنا وما رأيناها الا كما أخبرنا عنها مولانا عزوجل, ومن ثم نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم, وصحابته الكرام من بعده رضوان الله عنهم أجمعين.

    النفس تبكي على الدنيا و قد علمت
    أن السلامـة فيهـا تـرك مـا فيهـا

    لا دار للمرء بعـد المـوت يسكنهـا
    إلا التي كان قبـل المـوت يبنيهـا

    فـان بناهـا بخيـر طـاب مسكـنـه
    وان بناهـا بشـر خـاب بانيـهـا

    أموالنا لـذوي الميـراث نتركهـا
    و دورنـا لخـراب الدهـر نبنيهـا

    فكم مدائن في الآفـاق قـد بنيـت
    أمست خرابا و أفنى الدهر أهليها

    أين الملوك التـي كانـت مسلطنـة
    حتى سقاها بكـأس المـوت ساقيهـا

    إن المـكـارم أخــلاق مـطـهـرة
    الديـن أولهـا و العـقـل ثانيـهـا

    والعلـم ثالثهـا و الحلـم رابعـهـا
    والجود خامسهـا و الفضـل باقيهـا

    لا تركنـن إلى الدنيـا وزهرتهـا
    فالمـوت لا شـك يفنينـا و يفنيهـا

    و اعمل لدار غـدا رضـوان خازنهـا
    و الجار أحمـد والرحمـن ناشيهـا

    شرابها عسـل مصفـى و مـن لبـن
    والخمر يجري رحيقـا فـي مجاريهـا

    والطير تجري على الأغصان عاكفـة
    تسبـح الله جهـرا فــي مغانيـهـا

    فمن يشتري الدار بالفردوس يعمرها
    بركعـة فـي ظـلام الليـل يحييهـا



    وأختم البحث بمسك الختام قوله تبارك وتعالى:

    انما الحياة الدنيا لعب ولهو وان تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم

    انتهى البحث بحمد الله ومنته, فما أصبت فيه فمن الله عزوجل وحده, وما أخطأت فمن نفسي الخاطئة ومن الشيطان.

    لا تنسونا من خالص دعاؤكم ولكم مثله ان شاء الله


    الرجاء ممّن يجد أي خطأ مطبعي سواء في آية قرآنية أو حديث نبوي فليشير اليه مشكورا لتداركه واصلاحه, وجلّ الجليل الذي لا يغفل ولا ينام, المنزه عزوجل عن كل عيب سبحانه وتعالى.

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    الدولة
    سياتل..ولاية واشنطن ..
    المشاركات
    977

    افتراضي رد: أمراض القلوب

    جزاك الله خيرا..قرأت شيئا من بحثك وسأحاول قراءته كاملا فبارك الله فيك أخي.
    أنا الشمس في جو العلوم منيرة**ولكن عيبي أن مطلعي الغرب
    إمام الأندلس المصمودي الظاهري

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Mar 2009
    الدولة
    امريكا
    المشاركات
    168

    افتراضي رد: أمراض القلوب

    جزاك الله عنا في كل خير أخي امام الاندلس ونفع الله بنا الامة ان شاء , وجعلنا جميعا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنة.

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Feb 2007
    المشاركات
    911

    افتراضي رد: أمراض القلوب

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة سمير عبد الخالق مشاهدة المشاركة
    ويقول المولى تبارك وتعالى في سورة الاسراء 38:

    ولا تمش في الأرض مرحا انك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا
    {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الارض } تعليل للنهي وقيه تهكم بالمختال . أي : إنك لن تقدر أن تجعل فيها خرقاً بدوسك وشدة وطأتك { وَلَن تَبْلُغَ الجبال } التي عليها { طُولاً } بتعاظمك ومد قامتك
    http://webcache.googleusercontent.co...&ct=clnk&gl=sa
    اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم ، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Oct 2010
    المشاركات
    10,732

    افتراضي رد: أمراض القلوب

    جزاك الله كل خير
    لا إله إلا الله
    اللهم اغفر لي وارحمني ووالديّ وأهلي والمؤمنين والمؤمنات وآتنا الفردوس الأعلى

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •