تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: مختصر لـ(فقه الخلاف د.ياسر برهامي حفظه الله) *مهم لطلاب العلم*

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Dec 2008
    المشاركات
    69

    افتراضي مختصر لـ(فقه الخلاف د.ياسر برهامي حفظه الله) *مهم لطلاب العلم*

    مختصر فقه الخلاف
    ..
    بسم الله الرحمن الرحيم
    في هذه الفترة التي نمر بها في ساحة الدعوة إلى الله تعالى يسعى العلماء العاملون وطلبة العلم المخلصون بقصارى جهدهم إلى توحيد الكلمة ولم الشمل ورأب الصدع والتوحد لإعلاء كلمة الله ، وكل ذلك إنما يتأتى بتضييق فجوة الخلاف بين أبناء الأمة وتجاوز ما يسعنا مجاوزته إلى غيره للتقدم خطوات للأمام بعد إحياء الصحوة الإسلامية في نفوس أبناء الأمة .
    وما كنا نظن أن يخرج علينا من ينادي بطمس الخلاف أصلاً ليصنع من ذلك إطارًا مطاطيًا يسع كل الأفكار المنحلة الشاذة بحجة التوحد لدفع العدو المشترك ، ولذا توجب علينا توضيح فقه الخلاف بين المسلمين وأنواعه وأحكامه ؛ فكانت هذه الكلمات ...
    الاختلاف أمر قدري كوني
    قال الله تعالى :  وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ  (هود : 118-119)
    قال ابن كثير رحمه الله : قال الحسن رحمه الله : الناس مختلفون على أديان شتى إلا من رحم ربك ، فمن رحم ربك غير مختلف . فقيل له لذلك خلقهم ؟ قال : خلق هؤلاء لجنته ، وخلق هؤلاء لناره ، وخلق هؤلاء لرحمته ، وخلق هؤلاء لعذابه . وكذا قال عطاء والأعمش . اهـ
    وقد دلت الأدلة على أن الاختلاف بين الناس واقع لا محالة وقضاء الله به نافذ لسبق الكلمة منه بتأجيل الفصل والقضاء بين الناس إلى أجل مسمى .
    ولكن هل يعني هذا أن نستسلم لهذا القدر ؟
    كلا ، فهذا الاختلاف من قدر الله الذي أمرنا شرعًا أن نفر منه إلى قدر الله بالائتلاف والاجتماع ، فندفع القدر بالقدر ، ننازع القدر المكروه بالقدر المحبوب ، والواجب إتْباع الشرع والإيمان بالشرع ، وليس ترك الشرع والاحتجاج بالقدر .
    قال تعالى :  وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ  ( آل عمران : 103)
    دلت الآية على أن الاجتماع يكون على حبل الله المنزل من السماء إلى الأرض، وهذا هو الاجتماع المأمور به شرعًا .
    وهذا يوضح لنا المنهج الصحيح فيما يكون عليه الاجتماع ، ليس كما يظن البعض أن نجتمع على أي شيء وأن أصل الأصول أن تجتمع القلوب ، فهذا وهم كبير أن تجتمع القلوب على غير حبل الله المتين وعلى غير البينات ، فلن يتحقق هذا الاجتماع الموهوم ، ولو فرضنا تحققه لكان غير مشروع ؛ لأن الله لم يأمرنا بأي اجتماع وإنما أمرنا باجتماع معين.
    وقال تعالى :  وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ  (آل عمران : 105)
    دلت الآية على أنه ليس أي افتراق منهيًا عنه ، وإلا فأهل الإسلام يفارقون أهل الكتاب وأهل الملل الباطلة ؛ فهل هذا الافتراق مذموم ؟ . هم المذمومون عليه ؛ ذلك أنهم خالفوا البينات .
    وقال النبي  ناهيًا عن الاختلاف : (( إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم )) رواه مسلم
    وقال  : (( لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم )) ( صحيح الجامع : 5070) ، ورواه مسلم بلفظ : بين وجوهكم. وفي هذا الحديث دليل صريح على أن الاختلاف في الظاهر يؤدي إلى الاختلاف في الباطن .
    وكذلك من أوضح الأدلة على ذلك ما رواه أبو داود عن أبي ثعلبة الخشني قال : كان الناس إذا نزلوا منزلا تفرقوا في الشعاب والأودية ، فقال رسول الله  : (( إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان )) فلم ينزلوا بعد ذلك منزلا إلا انضم بعضهم إلى بعض حتى يقال لو بسط عليهم ثوب لعمهم . (صحيح الترغيب : 3127)
    فالواجب الشرعي عند الاختلاف يكون بأمرين :
    1- السعي إلى التوحد والاجتماع على سنة رسول الله  بفهم وتطبيق الخلفاء الراشدين ومن معهم من الصحابة رضي الله عنهم.
    2- محاربة البدع والأهواء المفرقة للأمة حتى يقل أنصارها وأتباعها .
    أنواع الخلاف الواقع بين المسلمين
    ينقسم الخلاف الواقع بين المسلمين إلى : اختلاف تنوع ، واختلاف تضاد .
    واختلاف التضاد ينقسم إلى : خلاف سائغ ( أي معتبر غير مذموم ) ، وخلاف غير سائغ مذموم ( أي غير معتبر مذموم )
    أولاً : اختلاف التنوع
    وهو ما لا يكون فيه أحد الأقوال مناقضًا للأقوال الأخرى ، بل كل الأقوال صحيحة ؛ ولذا فتسميته خلافًا من باب المجاز فقط .
    أمثلة هذا الاختلاف
    1- وجوه القراءات وأنواع التشهدات والأذكار .
    2- ومنه الواجب المخير مثل كفارة اليمين ، فهو مخير بين إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة ، فأي واحد من الثلاثة أجزأه ، ولكن لا يجوز الانتقال إلى الصوم إلا إذا عدمت هذه الثلاثة .
    3- ومنه تنوع الهمم في الأعمال الصالحة ، فيجتهد في نوع خاص من الأعمال كالصلاة أو الصوم أو الصدقة أو الجهاد ، وكذا تنوع الهمم في طلب العلم ، فيجتهد في علم معين مثل علم التفسير أو علم الحديث أو علم التجويد . ولكن مع أداء الواجب في غيرها .
    4- ومنه تنوع الأعمال بين الجماعات الإسلامية ، فبعضها تجعل همها الأكبر طلب العلم بأنواعه ، وبعضها تجعل همها التبليغ والدعوة ، وبعضها الجهاد في سبيل الله ، ولا شك أن هذا كله مطلوب وليس بمذموم ، بل تحقيق التكامل فيه بين الاتجاهات الإسلامية هو ما يحقق للصحوة كل خير .
    ..
    محاذير هذا الاختلاف
    1- أن يكون انشغال الأفراد والجماعات بما يرونه أفضل الأعمال سببًا لتركهم الواجبات الأخرى التي تمثل الحد الأدنى من الإسلام ، فلابد من تحقق القدر الأدنى الذي لا يسع المسلم جهله من معاني الإسلام والإيمان وصلاح القلوب ؛ فلا يجوز أن يكون الاشتغال بعلم الحديث مثلاً سببًا للجهل بالعقيدة أو الفقه بالحلال والحرام ، وكذلك لا يجوز لطلاب العلم في وقت الجهاد أن يتركوا الجهاد العيني زعمًا بانشغالهم بطلب العلم ، كما أنه لا يجوز للمجاهدين أن يتركوا الواجب عليهم من العلوم التي هي فرض عين عليهم زعمًا بانشغالهم بالجهاد ، فإن جهلهم ومعاصيهم من أعظم أسباب هزيمتهم . وأما فروض الكفايات فلا يجوز تقديمها ابتداءًا على فروض الأعيان . وعلى الجماعات الإسلامية التي تهتم كل منها ببعض فروض الكفايات أن تتعاون مع بعضها لشد أزرها وتحقيق التكامل والتعاون فيما بينها ، مع تقديم النصح لما يرونه من أخطاء داخل أي منها .
    2- تربية الأفراد داخل هذه الجماعات على تحقير العلوم الأخرى التي ليس لجماعته اهتمام كبير بها ؛ ففي الحديث : (( بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم )) ، فقد ربى النبي  الصحابة على عدم تحقير أي عمل صالح يصدر من أي مسلم ومسلمة بل ربما كان فيه نجاته ، كما في حديث البغي التي دخلت الجنة في كلب سقته .
    3- أن يكون عقد الولاء والبراء على هذه الأعمال المتنوعة والأولويات المختلفة ، وتقديمه على أصل الولاء لدين الله والمنهج الإسلامي الصحيح منهج أهل السنة والجماعة بشموله وتوازنه . قال تعالى : (( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ )) ( المائدة : 55)
    فهذا النوع من الخلاف ينبغي استثماره لتحقيق التكامل بين المسلمين على اختلاف طبقاتهم .
    ..
    ثانيًا : اختلاف التضاد
    وهو أن يكون كل قول من أقوال المختلفين يضاد الآخر ويحكم بخطئه أو بطلانه في أصل الحكم الشرعي لا الفتوى فحسب .
    ووقوع هذا النوع من الخلاف بين الملل والعقائد والأديان من المعلوم بالضرورة والمجمع عليه بين المسلمين . ولم يخالف في ذلك إلا الزنادقة المنافقون الذين ينادون بوحدة الأديان ومساواة الملل تحت مسمى الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي .
    ولا خلاف بين العلماء أن من لم يكفر اليهود والنصارى بل حتى لو شك في كفرهم فهو كافر مرتد مكذب لله ورسوله  . قال تعالى : (( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )) ، وقال النبي  : (( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة لا يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا أدخله الله النار )) (متفق عليه)
    ..
    هل المصيب للحق واحد أم كل مجتهد مصيب ؟
    الصحيح الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضي الله عنهم ، وعليه أئمة العلم أن الحق واحد في قول أحد المجتهدين ، ومن خالفه فهو مخطئ في الأصول أو الفروع ، في العقائد أو الأعمال ، في الأمور العلمية أو العملية .
    والدليل على ذلك قوله تعالى : (( وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً )) ، والدلالة من الآية أنهما لو استويا في إصابة الحكم لم يكن لتخصيص سليمان بالفهم معنى ، وهي تدل أيضًا على أن المجتهد الذي بذل وسعه في البحث عن الحق فأخطأه أن الإثم مرفوع عنه ، بل يثاب على اجتهاده ، لأن الله سبحانه مدح كلاً منهما وأثنى عليهما بقوله : (( وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ))
    وقال النبي  : (( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر )) (متفق عليه)
    وأما إجماع الصحابة فقد قال ابن قدامة رحمه الله : أما الإجماع؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم اشتهر عنهم في وقائع لا تحصى إطلاق الخطأ على المجتهدين . (روضة الناظر : 196)
    قال ابن قدامة رحمه الله : قال بعض أهل العلم : هذا المذهب ( وهو أن الاجتهاد لا ينقسم إلى خطأ وصواب ) أوله سفسطة وآخره زندقة؛ لأنه في الابتداء يجعل الشيء ونقيضه حقًا ، وبالآخرة يخير المجتهديْن بين النقيضيْن عند تعارض الدليليْن ويختار من المذاهب أطيبها .
    ولذا فتعليل الأحكام بالخلاف ليس بحجة
    قال ابن عبد البر رحمه الله : الاختلاف ليس بحجة عند أحد علمته من فقهاء الأمة إلا من لا بصر له ولا معرفة عنده ولا حجة في قوله . ( جامع بيان العلم ص356)
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ولا يجوز تعليل الأحكام بالخلاف فإن تعليلها بالخلاف علة باطلة في نفس الأمر ، فإن الخلاف ليس من الصفات التي يعلق الشارع بها الأحكام في نفس الأمر ، وإنما ذلك وصف حادث بعد النبي  ، وليس يسلكه إلا من لم يكن عالمًا بالأدلة الشرعية في نفس الأمر لطلب الاحتياط .
    أنواع اختلاف التضاد
    ينقسم اختلاف التضاد إلى خلاف سائغ (أي معتبر وغير مذموم) ، وخلاف غير سائغ (أي غير معتبر ومذموم)
    ( 1 ) الخلاف السائغ
    وهو ما لا يخالف نصًا من كتاب أو سنة صحيحة أو إجماع أو قياس جلي ، سواء كان في العقائد أو الأحكام .
    والنص هو ما لا يحتمل إلا معنى واحدًا .
    أسباب وجود الخلاف السائغ
    1- من هذه الأسباب أن الشرع لم ينصب دليلًا قاطعًا على كل المسائل ، بل جعل لبعضها دليلاً ظنيًا يحتاج إلى بحث واجتهاد ونظر .
    2- ومنها أن قدرة العباد على البحث والاجتهاد مختلفة ، فما يقدر عليه البعض يعجز عنه البعض الآخر .
    3- ومنها أن أفهام العباد مختلفة متفاوتة قد فضل الله بعضهم على بعض فيها ، فما يراه الواحد قد يغيب عن الآخرين .
    4- ومنها أن طريقة التعلم والتعليم بين علماء المسلمين في بلادهم مختلفة ، وقد فطر الله العباد على التأثر بما تعلموه أولاً
    ويترتب على ما سبق
    أن الخلاف السائغ ينشأ نتيجة عدم وصول الدليل إلى المخالف ، وإذا وصله قد لا يثبت عنده إما لضعف أو لنسخ أو لغير ذلك ، وإذا ثبت قد لا يرى فيه دلالة أصلاً ، أو يجمع بينه وبين أدلة أخرى .
    إذا علمنا أن هذه الأسباب لا يمكن إزالتها عرفنا الآتى :
    1- أن الاجتهاد في معرفة الراجح من أقوال أهل العلم بحسب ما وصل إليه من الأدلة وما استنبطه منها لن يلغي اجتهاد غيره .
    2- أن هذا الراجح راجح نسبي أي أنه راجح عند بعض أهل العلم مرجوح عند البعض الآخر .
    3- لا يجوز أن تضيق الصدور بوجود هذا النوع من الخلاف بين أهل العلم خاصة بين أهل السنة وأتباع السلف .
    4- لا يمكن أن تجتمع الأمة كلها في كل المسائل على قول واحد ، فلن يحدث هذا إلا إذا زالت أسباب هذا الخلاف كلها ، وذلك بعيد .
    5- ليكن شعارنا في ذلك دائمًا (يسعنا ما وسع السلف ، ولا يسعنا ما لم يسعهم) .
    ما هو الواجب تجاه هذا النوع من الخلاف ؟
    يختلف ذلك حسب مرتبة كل إنسان في العلم
    1- العالم المجتهد يلزمه البحث والاجتهاد وجمع الأدلة والنظر في الراجح منها ، فما ترجح عنده قال به وعمل به وأفتى .
    2- طالب العلم المميز (القادر على الترجيح) عليه أن يعمل بما ظهر له دليله من أقوال العلماء .
    3- العامي المقلد (العاجز عن معرفة الراجح بنفسه) عليه أن يقلد الأعلم الأورع الأوثق إلى نفسه من أهل العلم ، ويسألـه عن الراجح فيعمل به في نفسه ، ويجوز نقله لغيره من غير إلزام لهم ومن غير إنكار على من خالفه بأي من درجات الإنكار .
    أما ما يفعله كثير من أهل زماننا في مسائل الخلاف السائغ أو غير السائغ بأخذ ما يشتهي ، لا بحسب الأدلة والاجتهاد ، بل بمجرد موافقته ما يظنونه مصلحة أو تيسيرًا على الناس وأن الرسول  لم يخير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ، وبحجة أن المسألة خلافية ، فهذا من الجهل العظيم المخالف للإجماع الذي نقله ابن عبد البر وغيره أنه لا يجوز تتبع رخص العلماء فضلاً عن الزلات والسقطات .
    قال ابن قدامة رحمه الله : قال بعض أهل العلم : هذا المذهب ( وهو أن الاجتهاد لا ينقسم إلى خطأ وصواب ) أوله سفسطة وآخره زندقة؛ لأنه في الابتداء يجعل الشيء ونقيضه حقًا ، وبالآخرة يخير المجتهديْن بين النقيضيْن عند تعارض الدليليْن ويختار من المذاهب أطيبها .اهـ . وقد سبق نقل كلام ابن تيمية وابن عبد البر أن التعلق بالخلاف ليس بحجة أصلا .

    مصادمة السنة بآراء الرجال ليس من الخلاف السائغ

    قد تكون المسألة اجتهادية من مسائل الخلاف السائغ عند العلماء ، ولكن يكون البعض قد استبانت له سنة رسول الله  فلا يقول بها ، بل يعارضها بأقوال العلماء المجردة عن الدليل عنده ، فهو يعرف السنة ويعرف أن بعض أهل العلم خالفها ، ولا يعرف وجهه ولا دليله . فلا تكون هذه المسألة في حقه من الخلاف السائغ بل هذا مخالف للإجماع .
    قال الشافعي رحمه الله : أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله  لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس .
    وقال لرجل سأله عن مسألة فأجابه فيها بحديث ، فقال له : أتقول به يا أبا عبد الله ؟ قال : أتراني خرجت من الكنيسة ، أتراني أشد على وسطي زنارًا ؟ أقول قال رسول الله  ولا أقول به ؟ نعم على العين والرأس.
    وسئل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عن مسألة فأجاب فيها ثم قال : ائت ابن مسعود فسله فسوف يوافقني . فقال ابن مسعود : قد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين إن وافقته ، ولكن أقول بقول رسول الله  . وذكر الحديث .
    وقد قال ابن مسعود ذلك عن نفسه لأنه علم الحديث بخلاف أبي موسى الذي لم يعلمه . وهذا من أدب ابن مسعود رضي الله عنه .
    أمثلة للخلاف السائغ
    أولاً : في الأمور الاعتقادية والعلمية :
    هذا النوع من الخلاف يندر وجوده في أمور الاعتقاد ؛ لأن الأصول الكبرى من الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وربوبيته وألوهيته ، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ، كلها إما من المعلوم من الدين بالضرورة أو المجمع عليه بين المسلمين.
    ولكن قد يوجد في بعض تفاصيل ذلك بعض الخلاف السائغ ، ومن ذلك :
    الخلاف في رؤية النبي  ربه ليلة الإسراء ، والخلاف في الخضر هل هو نبي أم لا ؟ وكذا في مريم ، والخلاف في عصمة الرسل من الصغائر غير المزرية ، والخلاف في رؤية الله في الآخرة هل هي خاصة بالمؤمنين فقط ؟ أم يراه المؤمنون والمنافقون ثم يحجب المنافقون ؟ أم يراه كل أهل الموقف ثم يحجب الكفار والمنافقون ؟والخلاف في أول المخلوقات هل هو العرش أم القلم أم الماء ؟
    ومنه : الخلاف في كثير من مسائل التكفير ؛ مثل تكفير تارك الصلاة وباقي المباني الأربعة عدا الشهادتين تكاسلاً ، وكذا تكفير بعض أهل البدع كالخوارج والرافضة والمعتزلة.
    ومنه : الاختلاف في تحقيق المناط في قضايا تكفير الأعيان بناءً على استيفاء الشروط وانتفاء الموانع.
    ثانيًا : في الأمور الفقهية والعملية :
    والخلاف في هذه الأمور كثير جدًا ، ولكن نشير إلى بعض المسائل التي عمت بها البلوى ، مما قد يسبب شقاقًا ونزاعًا بين أبناء الصحوة .
    فمنه : الخلاف في كثير من مسائل الطهارة مثل : الخلاف في جواز استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة ، والخلاف في وجوب المضمضة والاستنشاق في الوضوء أو استحبابهما ، والخلاف في وجوب غسل الجمعة.
    ومن مسائل الصلاة من هذا النوع من الخلاف : الخلاف في قراءة الفاتحة خلف الإمام خاصة في الجهرية ، والخلاف في وضع اليدين على الصدر بعد الركوع وإرسالهما ، والخلاف في النزول على اليدين أم على الركبتين في السجود ، والخلاف في وجوب بعض الصلوات غير الصلوات الخمس مثل صلاة العيدين وتحية المسجد والوتر ، والخلاف في وجوب صلاة الجماعة وصلاة القصر ، والخلاف في مشروعية صلاة الحاجة والتسابيح والغائب ، وكذا في القنوت في صلاة الصبح .
    ومن هذا النوع أيضًا الخلاف في زكاة الزروع في غير ما نص عليه الرسول  ، والخلاف في وجوب زكاة الحلي المعد للزينة ، والخلاف في جواز إخراج القيمة في الزكاة .
    ومنه : الخلاف في مسألة اختلاف المطالع في رؤية الهلال ، والخلاف في وجوب الكفارة على من أفطر متعمدًا في رمضان بأكل أو شرب ، والخلاف في الحامل والمرضع إذا أفطرتا في رمضان هل تقضيان ما عليهما أم تفديان أم كلاهما ، والخلاف في جواز الزيادة على إحدى عشرة ركعة في صلاة التراويح .
    ومنه : الخلاف في وجوب الحج هل هو على الفور أم على التراخي ، والخلاف في وجوب العمرة واستحبابها ، والخلاف في وجوب طواف الوداع واستحبابه . والخلاف في وجوب الأضحية والعقيقة أواستحبابهما .
    ومنه : الخلاف وقوع الطلاق المعلق أم عدم وقوعه ، وفي وقوع طلاق الثلاث بلفظ واحد هل يقع ثلاثًا أم واحدًا ، وفي وجوب كفارة اليمين ، وفي حد الخمر هل هو أربعون جلدة أم ثمانون ؟
    ومنه : الخلاف في وجوب ستر المرأة وجهها عن الرجال الأجانب أم استحبابه فقط ، وفي وجوب الختان أم استحبابه فقط في حق كل من الرجال والنساء .
    ومنه : الخلاف في التصوير الشمسي (الفوتوغرافي) فقط هل هو داخل في النهي أم لا ؟ ، والخلاف في أكل اللحوم المستوردة من الدول الغربية هل يجوز أكلها أم يحرم ؟، والخلاف في أخذ ما زاد عن القبضة من اللحية، والخلاف في تحريم الإسبال بدون خيلاء أم كراهيته فقط، والخلاف في جواز زيارة المرأة للقبور، والخلاف في جواز التوسل إلى الله بحق بعض المخلوقين .
    تنبيـه
    يظن البعض أن الخلاف السائغ يكون بين الوجوب والاستحباب أو بين الكراهة والتحريم فقط ، والحق أنه أوسع من ذلك فقد يُختلف في الشيء الواحد فيقول البعض باستحبابه والبعض بحرمته ، أو يقول البعض بسنيته والبعض ببدعيته ، ولعل ما مر من الأمثلة يوضح ذلك .
    ..
    ( 2 ) الخلاف غير السائغ
    وهو ما خالف نصًا من كتاب أو سنة صحيحة أو إجماع أو قياس جلي ، سواء كان في العقائد أو الأحكام .
    وقد قدمنا أن النص ما لا يحتمل إلا معنىً واحدًا ، مع التنبيه أنه لا مجال للقياس في العقائد .
    أمثلة الخلاف غير السائغ
    وهذا النوع من الخلاف يكثر في المسائل الاعتقادية وهو أقل في الفروع العملية .
    أولاً : في الأمور الاعتقادية والعلمية :
    وهذا منه ما يكون كفرًا نوعًا وعينًا ، ومنها ما يكون كفرًا نوعًا لا عينًا ، ومنها ما يكون بدعة ضلالة وليست كفرًا .
    فمن النوع الأول وهو ما يكفر فيه المخالف نوعًا وعينًا
    1- غلاة النفي والتعطيل في أسماء الله وصفاته ؛ كغلاة الجهمية والباطنية والفلاسفة .
    2- الحلولية والاتحادية .
    3- غلاة الصوفية الذين يعتقدون بآلهة مدبرة للعالم مع الله في الضر والنفع وتصريف الأمور والتشريع ويصرحون بصرف العبادة لها من دون الله .
    4- غلاة القدرية الأوائل نفاة العلم الإلهي ، وكذلك من ينفي كتابة المقادير في اللوح المحفوظ .
    5- غلاة الجبرية الذين يصرحون بنسبة الظلم إلى الله تعالى .
    6- غلاة المرجئة الذين يقولون أن الإيمان هو المعرفة فقط ، ويصرحون بإيمان إبليس وفرعون ، ولا يحرمون ما علم تحريمه بالضرورة ولا يوجبون الفرائض المعلومة من الدين بالضرورة . ولذا أطلق عليهم (المرجئة الإباحية)
    7- غلاة الرافضة والشيعة الباطنية ، الذين يعتقدون الإلهية في غير الله كالعلويين والنصيريين والدروز ، أو يعتقد خطأ الرسالة أو تحريف القرآن .
    8- من يعتقد أن الشريعة الإسلامية غير صالحة إما مطلقًا أو لهذا الزمان ، ويفضل عليها شرائع البشر الوضعية ، أو يساويها بها أو يجوزها أو يلزم الكافة بها ، أو يجحد حكم الله من أصله .
    9- من يعتقد بمساواة الملل وعدم كفر اليهود والنصارى .
    ومن النوع الثاني وهو ما يكون كفرًا نوعًا لا عينًا
    1- المعتزلة : الذين يثبتون أسماء الله دون الصفات .
    2- الخوارج : الذين يكفرون الصحابة رضي الله عنهم ويكفرون مرتكب الكبيرة ويخلدونه في النار .
    3- الرافضة : الذين يكفرون الصحابة ، ويعتقدون أن أول الخلفاء علي رضي الله عنه .
    4- القدرية : الذين يثبتون علم الله وكتابة المقادير ، وينفون مشيئته وخلقه لأفعال العباد .
    5- الصوفية : الذين يطوفون بقبور الأولياء ، ويصرفون لهم العبادة كطلب المدد والنذر والذبح .
    6- من يلزم الناس في التشريع العام بقوانين وأحكام تخالف شرع الله ويحتمه عليهم .
    7- ومنه تهنئة الكفار بأعيادهم الكفرية أو بمناصبهم الطاغوتية بزعم سماحة الإسلام أو مصلحة الدعوة .
    والصحيح في هذا النوع من الخلاف أن هذه الأقوال البدعية أقوال كفرية ، ولكن نظرًا لكثرة الجهل وانتشار البدع وعدم تميز أصحاب العقائد الكفرية عن غيرهم من أهل البدع غير المكفرة لم يمكن إطلاق الكفر على عمومهم وعوامهم قبل إقامة الحجة على أعيانهم .
    ومن النوع الثالث وهو ما يبدع فيه المخالف مع الاتفاق على عدم تكفيره
    1- الشيعة الزيدية : الذين يقرون بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان ، ولكنهم يفضلون عليًا عليهم .
    2- المرجئة : الذين يقولون أن الإيمان هو القول والتصديق فقط ، دون عمل القلب والجوارح .
    3- الأشاعرة والماتريدية : الذين يثبتون سبع صفات فقط لله ويؤلون باقيها .
    4- ومنه الاحتفال بالموالد والأعياد البدعية والمشاركة فيها بزعم الاختلاط بالناس لدعوتهم .
    5- ومنه موالاة أهل البدع مع السكوت على بدعهم كالروافض والصوفية .
    6- ومنه الدخول في الأحزاب والهيئات العلمانية دون الضوابط الشرعية المتفق عليها .
    7- ومنه تأصيل ترك الحديث في مسائل العقيدة والسياسة وأمراض الأمة والبدع والولاء والبراء .
    ثانيًا : في الأمور الفقهية والعملية
    فمن ذلك :
    1- عند الشافعية : القول بجواز زواج الرجل بنته التي خلقت من ماء الزنا منه ، والقول بعدم مشروعية تكبيرة الإحرام في الصلاة ، والقول بحرمة الختان قبل بلوغ عشر سنين .
    2- عند المالكية : القول بكراهية صيام الستة الأيام من شوال .
    3- عند الحنابلة : القول بوجوب صوم يوم الشك ، والقول بوجوب الكفارة في الحلف بالنبي  .
    4- عند الحنفية : القول بعدم اشتراط النية في الغسل ، وبعدم وجوب الطمأنينة في الصلاة ، وبصحة النكاح بدون ولي ، وبجواز شرب النبيذ المسكر كثيره من غير عصير العنب .
    5- عند ابن حزم الظاهري : القول بنفي القياس جملة ، وجواز سماع الملاهي ، وتفضيل نساء النبي  على كل الصحابة .
    6- قول بعض المعاصرين بجعل دية المرأة كدية الرجل .
    7- قول الشوكاني بطهارة الدم المسفوح وتابعه عليه بعض المتأخرين ، وهو مخالف للإجماع الذي نقله الإمام أحمد وابن عبد البر والنووي والقرطبي وابن رشد وابن قدامة رحمهم الله أجمعين .
    أسباب وجود الخلاف غير السائغ
    1- الجهل ونقص العلم وظهور البدع واختلاف المناهج
    قال النبي  : (( إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا )) (متفق عليه)
    فتأمل في أول اختلاف وقع على ظهر الأرض بظهور أول شرك في قوم نوح عليه السلام ، ألم يكن بسبب نقص العلم وموت العلماء ؟ وتأمل كيف تسلط الأعداء على أمتنا الإسلامية عندما ظهرت البدع وعم الجهل. فانظر إلى غزو الصليبيين لبيت المقدس كيف وقع بعد ظهور دولة العبيديين أخزاهم الله ، وكيف تسلط الأوربيون على المسلمين بعد أن ساد التصوف في الدولة العثمانية حتى حاربوا دعوة التوحيد التي قادها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله .
    2- التعصب المذموم للأسماء والأشخاص ، وضعف الولاء والبراء على الكتاب والسنة
    وهذا من أخطرها تدميرًا للعمل الإسلامي ، وهذا ما جعل الكثير ممن نحسب منهم الصدق والإخلاص يقولون بعدم مشروعية العمل الجماعي بالكلية ، واعتبار الجماعات العاملة على الساحة أحزابًا باطلة يجب التحذير منها .
    وقد حذرنا النبي  من دعوى الجاهلية حينما تنادى المهاجرون : يا للمهاجرين ، وتنادى الأنصار : يا للأنصار ، فقال  : (( أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ، دعوها فإنها منتنة )) (رواه مسلم) ، مع أن اسم المهاجرين والأنصار من أشرف الأسماء ، وهي الأسماء التي سماهم الله بها في كتابه ، وسماهم الرسول  بها في سنته .
    3- البغي والتنافس على الدنيا ورئاستها
    قال تعالى : (( وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ )) (الشورى : 14) ، وقال النبي  : (( ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم )) (متفق عليه)
    فتأمل رحمك الله في التاريخ كيف قتل عثمان رضي الله عنه ظلمًا وعدوانًا بسبب تنافس من قتلوه على الرياسة وليسوا لها أهلاً ؟ بل تأمل حال المسلمين عندما سقطت بغداد عاصمة الخلافة في أيدي التتار ، فما حركوا ساكنًا بل ظل كل أمير وملك مشغولاً بملكه ورياسته .
    ثم انظر إلى حال المسلمين اليوم وتكالب الأعداء عليهم ، وتداعي الأكلة من دول الغرب الكافر على بلاد المسلمين حتى مزقوها وشتتوها وشردوا أهلها ، وكل ذلك بسبب انشغال المسلمين بالدنيا وتنافسهم عليها . فإنا لله وإنا إليه راجعون .
    والحق أن كثيرًا مما يجري بين الاتجاهات الإسلامية المعاصرة من اختلافات مريرة على المناهج والأفكار والأولويات والأعمال سببه البغي وحب الرياسة وكثرة الأتباع ، وإلا لما أثمرت هذه الثمار المرة في التعاملات التي تجري بين هذه الاتجاهات وأفرادها .
    4- ظهور رؤوس الضلال الدعاة على أبواب جهنم
    وهذا من أعظم أسباب الخلاف غير السائغ ، كما في حديث حذيفة رضي الله عنه : كان الناس يسألون رسول الله  عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني . قال : قلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال : ((نعم)). قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال : ((نعم وفيه دَخَن)). قلت : وما دخنه ؟ قال : ((قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر)). قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : ((نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها)). قلت : يا رسول الله صفهم لنا . قال : ((هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا)) . قلت : فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال : ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)) . قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : ((فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)) . (متفق عليه) .
    قال النووي : دعاة على أبواب جهنم ... قال العلماء : هؤلاء من كان من الأمراء يدعو إلى بدعة أو ضلال آخر كالخوارج والقرامطة وأصحاب المحنة . (شرح صحيح مسلم : 6/37)
    ولا شك أن منهم كذلك أهل البدع المعاصرة المنتسبين إلى الإسلام الداعين إلى الكفر والنفاق من أصحاب المذاهب الإلحادية كالعلمانيين والديمقراطيين والاشتراكيين والقوميين وأصحاب القوانين الوضعية ، وكذا سائر الأحزاب القائمة على خلاف مبادئ دين الإسلام بالإضافة إلى دعاة البدع القديمة كالروافض والقبوريين والخوارج والمرجئة ، وما أكثرهم في زماننا .
    ..
    وسائل العلاج في الخلاف غير السائغ
    1- الانتصار للسنة ومحاربة البدعة وقمعها ، بل على منهج وطريق واحد هو طريق أهل السنة والسلف رضوان الله عليهم ، ولن يتحقق ذلك إلا بنشر العلم بالكتاب والسنة بالتفسير السلفي السني وبالحديث الصحيح الثابت عن رسول الله  ، فالاجتماع المأمور به ليس مجرد الاجتماع ولو على أي منهج .
    2- إذكاء روح العمل الإسلامي الشامل في نفوس طلاب العلم ، وبيان مسئوليتهم عن أمتهم وأن عاطفتهم نحو قضايا المسلمين هي في الحقيقة جزء من إيمانهم ، وأن عملهم في الدعوة المنظمة التي تهدف إلى إقامة الفروض الضائعة في الأمة الإسلامية هو علامة انتفاعهم بالعلم ، وأن التزامهم بالسمع والطاعة لمن هو أعلم منهم وأمثل في قيادة هذه الدعوة هو علامة على انتفاء الكبر والحسد والرياء وحب الرياسة من قلوبهم .
    3- تربية الأفراد على تعميق روح الولاء والبراء على الكتاب والسنة ، وأن يكون عملهم لنصرة الإسلام لا غير . وأنه لا بد من قبول الحق والمعاونة عليه ممن جاء به وعلمه كائنًا من كان .فنحن كدعوة سلفية ، موقفنا في مثل هذه المسائل أن ما استطعنا أن نقوم بها بالضوابط الشرعية قمنا بها ، وطلبنا من غيرنا أن يعيننا عليه وأن ينضبط في عمله بالشرع .
    4- معرفة حرمة المسلم وحرمة البغي والاستطالة عليه أيًا كان ، طالما بقى في دائرة الإسلام ولم يخرج منها إلى الكفر ، فنتعامل بشرع الله مع من عاملنا به ومع من لم يعاملنا ، فما عاقبت من لم يتق الله فيك بمثل أن تتقي الله فيه .قال رسول الله  : (( بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم . كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) (رواه مسلم)
    5- جمع الناس على علمائهم على أن يقدموا أمثلهم وأعلمهم ، فإن تعذر الجمع استقل كل أهل بلد بعالمهم كحل مؤقت أقل في الضرر من تركهم بلا قيادة ، وإن كان لابد من السعي إلى تحقيق الأمر الأول وهو الاتفاق على تقديم واحد منهم . ولا خلاف أنه لابد أن يكون من أهل السنة والجماعة
    6- الاتفاق على تحذير الناس من الدعاة على أبواب جهنم ومعرفة ضررهم وانعدام ولايتهم شرعًا ، وإن استقرت واقعًا .
    وللأسف أن البعض من أبناء الصحوة يرى هؤلاء الدعاة على أبواب جهنم ولاة أمور شرعيين ، وليسوا فقط قد فرضوا على المسلمين أمرًا واقعًا بالقوة لا بالحق . ولا شك في ضرورة وأهمية التفرقة بين الأمر الكوني الواقع والأمر الشرعي الذي هو الحق دون ما سواه.
    ومن أسباب الشبهة التي دخلت على البعض في هذا المقام كلام أهل العلم في ثبوت الولاية بالاستيلاء والتغلب ولو لم يكن مستوفيًا شروط الإمامة. والحقيقة أن كلام العلماء في ذلك إنما هو في استيلاء من هو صالح للإمامة ليقود الناس بكتاب الله ، فإن خلا الزمان عن ذلك واستولى كافٍ ذو استقلال بالأشغال للذب عن بيضة الإسلام وحوزته فهذا حكم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الذي توكل له الأمور التي كانت منوطة بالأئمة لأنهم إنما تولوا الأمور ليكونوا ذرائع إلى إقامة أحكام الشرائع . (راجع غياث الأمم ص239–278) .
    والأدلة التي استدلوا بها تدل على ذلك ، فإن منها قول النبي  : (( لو استعمل عليكم عبد حبشي يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا)) ، والحديث ظاهر في أنه لابد أن يقودهم بكتاب الله ، فالغرض إقامة الدين وسياسة الدنيا بالدين .وليس المقصود وجود صورة الولاية حتى ولو كانت حربًا على الدين وأهله وولاية للكفار ونصحًا لهم وسعيًا لمصلحتهم على حساب المسلمين وبلادهم ، إضافةً لذلك أنهم ما تولوا الرياسة والولاية أصلاً باسم الدين ولا نسبوا أنفسهم إلى القيام بواجباته ، بل هم يقسمون صراحة على إقامة دساتيرهم وقوانينهم الوضعية التي يعلم الكافة مخالفتها للشرع مخالفة كفرية ، بل لا يتولى أحد منصبه إلا بمثل هذا القسم .فأين العقد الذي عقدته له الأمة ممثلة في أهل الحل والعقد منها ؟ وأين المقصود الشرعي للإمامة رسمًا أو حقيقة واقعة حتى يمكن من أجله تصحيح الولاية للقيام بالمصالح والمقاصد الشرعية وعد إهدارها ولو بدون عقد ولاية من أهل الحل والعقد ؟
    وهذه المسألة -أي عدم اعتبارهم ولاة أمور شرعيين- ليست مبنية على تكفير أعيانهم ، ولكن لعدم انطباق شروط الولاية عليهم . وكذلك لا يعني عدم تكفيرهم بالأعيان لجهل أو تأويل أو إكراه أن تصحح ولايتهم دون نظر إلى شروط الولاية الأخرى . فالإسلام شرط آخر من شروط الولاية تبطل بفقده كولاية شرعية ابتداءً أو عند طروء الكفر كما هو مبين في موضعه .
    ..
    مفاهيم خاطئة في علاج الخلاف غير السائغ
    1- ليس العلاج كما يتوهم البعض هو التوسط بين أهل السنة وأهل البدعة ، ومحاولة التوفيق بين المذاهب المتباينة والأقوال المتناقضة ، أو سكوت كل فريق عن الآخر ، مثل محاولات التقريب بين السنة والصوفية ، فتكون دعوة سلفية وحقيقة صوفية ؛ فالخلاف بين أهل السنة والصوفية حقيقي عقائدي في توحيد الربوبية والألوهية والقدر والولاية والشريعة والاتباع ومنهج التزكية وغيرها . وكذلك محاولات التقريب بين السنة والشيعة لصالح ما يسمونه جهادًا ، بزعم أن الخلاف مع الشيعة خلاف سياسي مضى زمنه والسكوت عنه أولى . بل إن الخلاف مع الشيعة خلاف اعتقادي في صفات الله وملائكته وأنبيائه والخلافة والإمامة وغيرها ، ولهم مقالات كفرية في ذلك ؛ فكيف يتم التقارب مع مثل هؤلاء .وأي جهاد هذا الذي يريدونه ؟؟ فإن التاريخ دائمًا يثبت موقف الرافضة في صف أعداء الإسلام وسوء ماملاتهم لأهل السنة إذا ظهروا عليهم .
    2- وليس العلاج كما يتوهم البعض كذلك أن يعمل كل امرئ بمفرده بحجة أن العمل الجماعي المنظم بدعة أو حزبية أو غيرها من الشبهات . فكيف سيتم لهؤلاء تحقيق فروض الكفايات مثلاً التي تتطلب اجتماعهم وعدم تفرقهم كالجمعات والأعياد والحدود والجهاد وغير ذلك ؟ وكيف سيتم لهؤلاء إعادة الخلافة على منهاج النبوة وبناء دولة الإسلام إذا كانوا أوزاعًا متفرقين ؟ فهل يريدون أن يكون كل فرد خلافة مستقلة بنفسه ؟ وهل هؤلاء لا يرجعون إلى شيوخهم ويسمعون ويطيعون لكلامهم بل وأوامرهم ، دون أن يسموه عملاً جماعيًا ؟ ألا يعد تجمعهم هذا على شيخ ما -يبدع العمل الجماعي وينسبون أنفسهم إليه- هو نفسه عملاً جماعيًا في صورة تبديع العمل الجماعي ؛ فوقعوا فيما ينكرون وهم لا يشعرون ولا محيص لهم عنه ؟
    3- وليس العلاج كذلك بإلغاء الأسماء فإن النبي  أنكر على الصحابة التعصب لاسم المهاجرين والأنصار ، لكنه لم يلغ الاسم حتى بعد ذلك ، وفي هذا دليل واضح على أن مجرد التسمي بأسماء معينة والاجتماع عليها ليس مذمومًا ؛ كأسماء السلفية والسنة والجهاد وأهل الحديث وغيرها ، كأسماء البلدان كالمصري والخراساني والنووي والعسقلاني والدمشقي والبغدادي ، أو أسماء المذاهب كالحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي . ولكن عندما ينقلب هذا الاجتماع إلى ولاء وبراء وحب وبغض ، يضيع من خلاله الحب في الله والبغض في الله صارت جاهلية يجب الابتعاد عنها كما حذرنا النبي  ، وهذا للأسف حال كثير من الناس اليوم ، يتعصب لجماعة معينة أو لبلد معين أو لعالم معين ، ويغضب لذلك ويتغاضى عن الأخطاء التي تصدر عن طائفته دون النظر إلى مصالح باقي المسلمين ، ويزداد الأمر سوءًا إذا رأى أن جماعته هي وحدها جماعة المسلمين ، وأن من فارقها فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه . وعلاج ذلك أن تحارب العصبية المحرمة لهذه الأسماء ، لا أن يحارب التسمي بها بالكلية ؛ فإن العلماء لم يحرموا التسمية بأسماء البلدان والمذاهب حتى بعد ظهور العصبية ، بل تحارب العصبية دون تحريم ما أحله الله .
    ..
    الموقف من العلماء الذين قالوا ببعض البدع أو الأقوال الباطلة
    أهل السنة متفقون على عدم ذم من اجتهد فأخطا أيًا ما كان خطؤه ممن هو معروف بالخير والصلاح ، كالصحابة رضي الله عنهم والأئمة الأعلام ومن سار على نهجهم . ولا يستوي عندهم من قضى عمره في العلم النافع والعمل الصالح والدعوة إلى الحق ونصرة السنة وأهلها ، ومن قضى عمره في الصد عن سبيل الله ومحاربة السنة ونصرة البدعة ، وكان خطؤه نتيجة تقصيره في طلب العلم والإعراض عنه .
    فنقول في حق هؤلاء العلماء :
    إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث ، ولا يعني ذلك أن نصحح الأقوال الباطلة أو نسكت عن البدع المخالفة للحق ، بل كما قال ابن القيم رحمه الله في حق شيخه الهروي : (وشيخ الإسلام حبيب إلى نفوسنا ولكن الحق أحب إلينا منه) ، فلا بد من النظرة المتوازنة التي ترى الحسنات والسيئات ، وتزن كل الأقوال بميزان الشريعة وتزن أصحابها بما عندهم من الخير والشر معًا .
    ومن هنا فإن موقفنا من العلماء أمثال ابن حجر والنووي والقرطبي وغيرهم ممن قال بتأويل بعض الصفات هو نفس الموقف من شيخ الإسلام ابن تيمية في القول بحوادث لا أول لها عند من يفسرها بمخلوقات لا أول لها ، وهو نفس الموقف من ابن القيم في الانتصار للقول بفناء النار ، وهو نفس الموقف تجاه علماء السلف الأفاضل الذين وقعت منهم الزلات ؛ نعرف لهم فضلهم ومنزلتهم ، ونترحم عليهم ونترضى عنهم ؛ لما عاشوا عليه وماتوا عليه من الخير العظيم ، ونعرف خطأ هذه الأقوال وبدعيتها دون أن يستلزم ذلك تبديع المعين ، ولا نبيح لأحد أن يتجرأ عليهم أو يقدح فيهم ، كما يفعل بعض من لا يفقه أدب الخلاف عند أهل العلم .
    ..
    مشروعية الإنكار في الخلاف غير السائغ
    أطلق كثير من العلماء ممن تكلم في شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن من شروط إنكار المنكر أن يكون المنكر غير مختلف فيه ، وربما قال بعضهم (أن يكون المنكر غير مختلف فيه) ، وقد ورد في كلامهم أيضًا ما يقيد هذا الإطلاق ، إلا أن بعض المنتسبين للجماعات الإسلامية استدل به على عدم مشروعية الإنكار في أي أمر خلافي دون اعتبار لنوع الخلاف فيه .
    ولهذا كان لزامًا أن نذكر الأدلة على مشروعية الإنكار ، وطريقة الصحابة في ذلك :
    1- قال تعالى : ((وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) (آل عمران : 104)
    2- قوله صلى الله عليه وسلم : ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) (رواه مسلم) ، فإذا ما ثبت قطعًا بالنص أو الإجماع أن أمرًا ما هو من المنكرات فهو داخل في هذا العموم ولا يضر مخالفة من خالف ، وإنما قلنا بترك الإنكار في مسائل الخلاف السائغ لاتفاق الصحابة على عدم الإنكار فيها إلا لدرجة التعريف ؛ فيبقى ما دل عليه النص أو الإجماع مما ليس من الخلاف السائغ ، فيدخل تحت العموم في وجوب الإنكار .
    3- قال البخاري رحمه الله في صحيحه : باب إذا اجتهد العالم أو الحاكم فأخطأ خلاف الرسول  من غير علم ، فحكمه مردود لقول النبي  : ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))
    4- وقال أيضًا : باب إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد ، وذكر فيه قصة قتل الأسرى ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ((اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد)) (مرتين) ، وهو صريح في الإنكار على من خالف السنة ولو كان متأولاً مجتهدًا .
    5- عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنهما قال : قال رسول الله  : ((لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها)) ، فقال بلال بن عبد الله : والله لنمنعهن . فأقبل عليه عبد الله فسبه سبًا سيئًا ما سمعته سبه مثله قط ، وقال أخبرك عن رسول الله  وتقول أنت لنمنعهن . (رواه مسلم) ، قال النووي : فيه تعزير المعترض على السنة المعارض لها برأيه .
    6- عن عروة بن الزبير أن عبد الله بن الزبير قام بمكة فقال : إن ناسًا أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة (يُعَرِّض بابن عباس في فتواه في جواز نكاح المتعة وكان قد عمي في آخر عمره) فناداه فقال : إنك لجلف جاف ؛ فلعمري لقد كانت المتعة تفعل على عهد إمام المتقين رسول الله  ، فقال له ابن الزبير : جرب بنفسك ، فوالله لئن فعلت لأرجمنك بأحجارك . (رواه مسلم)
    7- روى أبو عمر ابن عبد البر في التمهيد بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : تمتع النبي  (يقصد متعة الحج) . فقال عروة بن الزبير : نهى أبو بكر وعمر عن المتعة . أُراهم سيهلكون ؛ أقول قال رسول الله  ويقولون قال أبو بكر وعمر .
    8- روى ابن عبد البر أيضًا بسنده عن صفوان بن مُحرز أنه سأل عبد الله بن عمر عن الصلاة في السفر فقال : (صلاة المسافر ركعتان ؛ من خالف السنة كفر) . (صححه الألباني في صلاة التراويح) . والكفر هنا كفر النعمة كما بينه ابن عبد البر في التمهيد .
    قال ابن القيم رحمه الله :
    وقولهم أن مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح ؛ فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى أو العمل. أما الأول ؛ فإن كان القول يخالف سنة أو إجماعًا شائعًا وجب إنكاره اتفاقًا ، وإن لم يكن كذلك فإن بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله . وأما العمل ؛ فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره بحسب درجات الإنكار . وكيف يقول فقيه : لا إنكار في المسائل المختلف فيها والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتابًا أو سنة وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء ، وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم ننكر على من عمل بها مجتهدًا أو مقلدًا . انتهى
    ..
    هل تحتاج المسألة إلى اجتهاد لنعلم هل هي من الخلاف السائغ أم لا ؟
    قد يكون الأمر مختلفًا فيه بين الفقهاء حسب ظهور الدليل عندهم وخفائه ، فقد ينتشر الأمر في زمان دون زمان ، أو مكان دون مكان ؛ مما يغير في نوعية الخلاف في ذلك الزمان أو المكان حسب ظهور الدليل وخفائه ؛ ولذا وجب الرجوع إلى أهل العلم في المسائل المختلف فيها لنعلم هل هي من الخلاف السائغ أم لا .
    ..
    الإنكار والعقوبة الدنيوية لا تستلزم التفسيق والتبديع والعقوبة الأخروية للمعين
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
    ومما ينبغى أن يُعلم في هذا الموضع أن الشريعة قد تأمرنا بإقامة الحد على شخص في الدنيا ، إما بقتل أو جلد أو غير ذلك ، ويكون في الآخرة غير معذب، مثل قتال البغاة والمتأولين ، مع بقائهم على العدالة ، ومثل إقامه الحد على من تاب بعد القدرة عليه توبة صحيحة ، فإنا نقيم الحد عليه مع ذلك ، كما أقامه النبي  على ماعز بن مالك وعلى الغامدية ، مع قوله ‏:‏ ((‏لقد تابت توبة لو تابها صاحب مَكْسٍ لغفر له)) ‏، ومثل إقامة الحد على من شرب النبيذ المتنازع فيه متأولاً ، مع العلم بأنه باق على العدالة ، بخلاف من لا تأويل له ، فإنه لما شرب الخمر بعض الصحابة واعتقدوا أنها تحل للخاصة تأول قوله ‏: ((‏لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ)) (المائدة :93) ، اتفق الصحابة مثل عمر بن الخطاب وعلى بن أبي طالب وغيرهما ، على أنهم إن أقروا بالتحريم جلدوا ، وإن أصروا على الاستحلال قتلوا ‏.‏ (مجموع الفتاوى : 12/498)
    وقال أيضًا
    وكذلك يعاقب من دعا إلى بدعة تضر الناس في دينهم ، وإن كان قد يكون معذورًا فيها في نفس الأمر لاجتهاد أو تقليد . وكذلك يجوز قتال البغاة‏ وهم الخارجون على الإمام أو غير الإمام بتأويل سائغ مع كونهم عدولًا ، ومع كوننا ننفذ أحكام قضائهم ونسوغ ما قبضوه من جزية أو خراج أو غيرذلك‏ ؛ إذ الصحابة لا خلاف في بقائهم على العدالة ، وذلك أن التفسيق انتفى للتأويل السائغ ‏.‏ وأما القتال ‏؛‏ فليؤدوا ما تركوه من الواجب ، وينتهوا عما ارتكبوه من المحرم ، وإن كانوا متأولين . وكذلك نقيم الحد على من شرب النبيذ المختلف فيه ، وإن كانوا قومًا صالحين ، فتدبر كيف عوقب أقوام في الدنيا على ترك واجب ، أو فعل محرم بين في الدين أو الدنيا ، وإن كانوا معذورين فيه ؛ لدفع ضرر فعلهم في الدنيا ، كما يقام الحد على من تاب بعد رفعه إلى الإمام وإن كان قد تاب توبة نصوحًا ، وكما يغزو هذا البيت جيش من الناس ، فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خسف بهم وفيهم المكرَه فيحشرون على نياتهم ، وكما يقاتل جيوش الكفار وفيهم المكره كأهل بدر لما كان فيهم العباس وغيره ، وكما لو تترس الكفار بمسلمين ولم يندفع ضرر الكفار إلا بقتالهم ، فالعقوبات المشروعة والمقدورة قد تتناول في الدنيا من لا يستحقها في الآخرة ، وتكون في حقه من جملة المصائب كما قيل في بعضهم ‏:‏ القاتل مجاهد والمقتول شهيد ‏.‏ اهـ ‏.‏ (مجموع الفتاوى : 10/376)
    مما سبق في كلام شيخ الإسلام يتبين لنا أنه مع وجود التأويل السائغ يبقى المخالف على العدالة ، ولا يمنع ذلك من عقوبته الدنيوية . أما مع زوال التأويل السائغ بإقامة الحجة فقد يفسق أو يبدع أو يكفر حسب درجة المخالفة ، كما سبق بيانه في أقسام الخلاف غير السائغ وحكم المعين .
    ..
    واقع المسلمين اليوم إلى أي خلاف ينتمي ؟
    بالنظر إلى حال المسلمين وواقعهم اليوم نجد الساحة الإسلامية تموج بالاختلافات والمنازعات ، وقد اختلفت وجهات النظر تجاه هذه الاختلافات .
    ونحن نرى أن هذه الاختلافات منها ما يرجع إلى اختلاف التنوع ، وهذا يجب استثماره والتعاون عليه ، فبه يحصل التكامل المطلوب في كثير من الواجبات مع تجنب المحاذير المذكورة آنفًا.
    ومنها ما يرجع إلى اختلاف التضاد السائغ ، وهذا يجب احتماله وأن يسعنا كما وسع السلف وألا يفسد الود بيننا ، ولكن يلزم ضبطه بقواعد أهل السنة ، والرجوع إلى أهل العلم في ذلك.
    ومنها ما يرجع إلى اختلاف التضاد غير السائغ ، وهذا يجب علاجه بمحاربة البدع والضلالات والأقوال الباطلة ، والاجتماع على منهج أهل السنة والجماعة والعمل على نشره بتفاصيله .
    ولا شك أن أفضل المؤهلين لتحقيق هذه المعالجة المطلوبة هي الجماعة الملتزمة بمنهج أهل السنة على طريقة السلف ، وهي تحتاج إلى توحيد جهودها وتقارب صفوفها وبذل الوسع في نشر منهجها ، ومد يد العون إلى إخوانهم من أصحاب المناهج الأخرى ؛ لتحقيق هذه المعالجة والسير معًا لنصرة هذا الدين ولإعلاء كلمة الله في أرضه .
    إلى هنا انتهى ما أردنا بيانه لإخواننا .
    نسأل الله أن نكون قد وفقنا في طرحه
    سبحانك اللهم وبحمدك .. أشهد أن لا إله إلا أنت .. أستغفرك وأتوب إليك
    والحمد لله رب العالمين
    منقول

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Dec 2008
    المشاركات
    69

    افتراضي رد: مختصر لـ(فقه الخلاف د.ياسر برهامي حفظه الله) *مهم لطلاب العلم*

    مهم لطلاب العلم

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Dec 2008
    المشاركات
    69

    افتراضي رد: مختصر لـ(فقه الخلاف د.ياسر برهامي حفظه الله) *مهم لطلاب العلم*

    للرفع

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jul 2009
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    1,091

    افتراضي رد: مختصر لـ(فقه الخلاف د.ياسر برهامي حفظه الله) *مهم لطلاب العلم*

    وللأسف أن البعض من أبناء الصحوة يرى هؤلاء الدعاة على أبواب جهنم ولاة أمور شرعيين ، وليسوا فقط قد فرضوا على المسلمين أمرًا واقعًا بالقوة لا بالحق . ولاشك في ضرورة وأهمية التفرقة بين الأمر الكوني الواقع والأمر الشرعي الذي هو الحق دون ما سواه.
    ومن أسباب الشبهة التي دخلت على البعض في هذا المقام كلام أهل العلم في ثبوت الولاية بالاستيلاء والتغلب ولو لم يكن مستوفيًا شروط الإمامة. والحقيقة أن كلام العلماء في ذلك إنما هو في استيلاء من هو صالح للإمامة ليقود الناس بكتاب الله ، فإن خلا الزمان عن ذلك واستولى كافٍ ذو استقلال بالأشغال للذب عن بيضة الإسلام وحوزته فهذا حكم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الذي توكل له الأمور التي كانت منوطة بالأئمة لأنهم إنما تولوا الأمور ليكونوا ذرائع إلى إقامة أحكام الشرائع . (راجع غياث الأمم ص239–278) .
    والأدلة التي استدلوا بها تدل على ذلك ، فإن منها قول النبي  : (( لو استعمل عليكم عبد حبشي يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا)) ، والحديث ظاهر في أنه لابد أن يقودهم بكتاب الله ، فالغرض إقامة الدين وسياسة الدنيا بالدين .وليس المقصود وجود صورة الولاية حتى ولو كانت حربًا على الدين وأهله وولاية للكفار ونصحًا لهم وسعيًا لمصلحتهم على حساب المسلمين وبلادهم ، إضافةً لذلك أنهم ما تولوا الرياسة والولاية أصلاً باسم الدين ولا نسبوا أنفسهم إلى القيام بواجباته ، بل هم يقسمون صراحة على إقامة دساتيرهم وقوانينهم الوضعية التي يعلم الكافة مخالفتها للشرع مخالفة كفرية ، بل لا يتولى أحد منصبه إلا بمثل هذا القسم .فأين العقد الذي عقدته له الأمة ممثلة في أهل الحل والعقد منها ؟ وأين المقصود الشرعي للإمامة رسمًا أو حقيقة واقعة حتى يمكن من أجله تصحيح الولاية للقيام بالمصالح والمقاصد الشرعية وعد إهدارها ولو بدون عقد ولاية من أهل الحل والعقد ؟
    وهذه المسألة -أي عدم اعتبارهم ولاة أمور شرعيين- ليست مبنية على تكفير أعيانهم ، ولكن لعدم انطباق شروط الولاية عليهم . وكذلك لا يعني عدم تكفيرهم بالأعيان لجهل أو تأويل أو إكراه أن تصحح ولايتهم دون نظر إلى شروط الولاية الأخرى . فالإسلام شرط آخر من شروط الولاية تبطل بفقده كولاية شرعية ابتداءً أو عند طروء الكفر كما هو مبين في موضعه .
    إنا لله وإنا إليه راجعون!
    عليك بفتاوي الأئمة المجتهدين: كابن باز وابن عثيمين والألباني والفوزان والعباد وابن جبرين....إلخ!
    فهم ولاة أمر شرعيون

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Dec 2008
    المشاركات
    69

    افتراضي رد: مختصر لـ(فقه الخلاف د.ياسر برهامي حفظه الله) *مهم لطلاب العلم*

    الشبهة التاسعة :
    قولهم بإمامة الحكام بغير ما أنزل الله ووجوب السمع والطاعة لهم حتى يكفروا عينًا .بل إن بعضهم يبالغ فيوجب ذلك حتى مع الكافر عينًا .
    والجواب عن ذلك :
    أننا نؤمن أن من تولى بمقتضى الدساتير والقوانين الوضعية أنهم ليسوا ولاة أمور شرعيين ، مسلمين كانوا أو كفارًا ، أقيمتعليهم الحجة أو لم تُقم ، بل هم أنفسهم لا يقولون عن أنفسهم أنهم ولاة أمور شرعيون، ولم يدَّعوا يومًا أنهم أخذوا بيعة من أحد ، بل ما هو إلا قسم يقسم عليه أناس أغلبهم من الفسقة والمنافقين في تثبيت ملك كبيرهم ، يقسمون فيه على احترام الدستور وسيادة القانون ، فهل يقول عاقل فضلاَ عن عالم أن هذه بيعة ، بل وينسبها للشرع ؟؟!!
    فلسنا هنا بصدد الحديث عن إسلام فلان أو كفر علان ، إنما نرد على من نصَّب محاربي الدين ولاية الأمر ، وألبس مغتصبي البلاد والعباد حلل الخلافة ، مستخدماً في ذلك النصوص على غير مرادقائليها ، ومُنـزلها على غير الواقع الذي قيلت فيه ، فنوضح له بالأدلة الشرعيةوالعقلية أن هؤلاء الحكام ليسوا من الإمامة الشرعية في شيء ، وأن إسلامهم وكفرهملا علاقة له بصحة إمامتهم في هذه الحالة ..
    فإن المتغلب بالسيف تثبت له الولاية الشرعية ، مع أن هذه الطريقة ليست بالطريقة الشرعية، إذ إن العلماء حرموها ، ولكنهم قالوا أنه لو حدث وقهر ذو الشوكة المسلمين بالسيفنثبت له الولاية الشرعية لأجل مصلحة المسلمين من حفظ دينهم وأعراضهم ودمائهم ،فطالما أن هذا المتغلب ستتحقق منه المقاصد الشرعية من الإمامة من إقامة للدينوسياسة للدنيا به ، وطالما أنه سيقود الأمة بكتاب الله وسيقيم في الأمة الصلاة ؛لذلك ستثبت له الإمامة الشرعية بهذه الطريقة غير المأذون فيها شرعاً .
    أماإن كان المتغلب قد تغلب وقهر المسلمين وليس في قهره لهم أي تحقيق لمقاصد الإمامة ،بل في قهره لهم تضييع لمقاصد الإمامة وتضييع لمصالح المسلمين وإبعادهم عن دينهموإجبارهم على التحاكم بشرع الكفار ، فهو يقود الأمة بأحكام الكافرين ، ولا يقيمفيهم الصلاة ، ويحملهم على البعد عن دين الله حملاً ، فلا يقول عالم بل عاقل بأن هذا المتغلب سنحكم له بالولاية الشرعية لا سيما أنه انتزعها بغير حق وبطريق غيرشرعي .
    والعمدة في ذلك ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أمر عليكم عبد مجدع يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا)) (رواه مسلم) ، وفي رواية للترمذي وأحمد: ((ما أقام لكم كتاب الله)) . فشرط لصحة الإمامة أن يحكم بشرع الله وإن كان فاسقاً .
    وعلى ذلك تحمل الأحاديث المطلقة الواردة في طاعة الأئمة مثل حديث حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي ، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس)). قال : قلت كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك ؟ قال : ((تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع)) (رواه مسلم)

    قال البغوي رحمه الله :
    وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : حقٌّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة ، فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا . (معالم التنزيل 2/240)
    قال النووي رحمهالله :
    فأمر صلى الله عليه وسلم بطاعة ولي الأمر ولو كان بهذه الخساسة ما دام يقودنا بكتاب الله تعالى ، قال العلماء معناه ما داموا متمسكين بالإسلام والدعاءإلى كتاب الله تعالى على أي حال كانوا في أنفسهم وأديانهم وأخلاقهم . (شرح النووي على مسلم : 4/422)

    وكذلك فإن الأنظمة المدنية الحديثة تقسم السلطات إلى تشريعية وقضائية وتنفيذية ، بخلاف النظام الإسلامي الذي يجعل لولي الأمر سلطات تشمل جوانب متعددة ولا قيد عليها إلا التزام شرع الله تعالى ، فمتى قلنا عن الأنظمة المدنية أنهم ولاة أمور بالمعنى الشرعي ، فهل يجوز لنا شرعًا مقاضاتهم -وهم يجيزون ذلك- ؟؟ أم أننا سنمتنع من مقاضاتهم شرعًا وإن سمحوا هم به ؟ ، كالذي رأى أن من يرشح نفسه للرئاسة خارج عن الإمام وإن كان النظام المدني يفتخر فيه رئيس الدولة بتطبيق الديموقراطية وخوض انتخابات تعددية !!
    لذلك نقول أن المتغلب بالقهر لا تثبت الإمامة له بهذا التغلب المجرد، وإنما ينبغي أن تراعَى مقاصد الإمامة في ذلك ، وإلا للزمنا القول بإمامةقطاع الطرق الذين يقهرون الناس إمامة شرعية ، فلو أن عصابة قامت بالهجوم على قريةمن القرى النائية واستطاعوا أن يقهروا أهلها فإنهم سيكونون بهذا التغلب المجرد أئمةشرعيين تجب لهم الطاعة في أعناق أهل القرية ، وينبغي على أهل القرية أن يصبرواعليهم وإن أخذوا مالهم وجلدوا ظهورهم لأنهم متغلبين ، ولم يقل بذلك عاقل ، فماالفرق إذن بين هؤلاء وهؤلاء ؟!! الجواب : لا فرق ..
    هذا هو محل الخلاف الحقيقي . فنحن لا نختلف في حكم إمامة المتغلب ، ولكن لا يجوز تعميمها على الذين استولوا على بلاد الله ليقودوا الناس إلى الهاوية لا بكتاب الله ،وهذا شرط واضح قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم وشرحه العلماء .

    ومما يؤكد ما قلناهما ذكره النووي رحمه الله في شرح حديث حذيفة في الفتن ، إذ قال رحمه الله :
    قوله صلى الله عليه وسلم : ((دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها)) ، قال العلماء : هؤلاء من كان من الأمراء يدعو إلى بدعة أو ضلال آخر كالخوارج والقرامطة وأصحاب المحنة . (شرح صحيح مسلم : 6/37)
    فتأمل كيف حكم على الخوارج والقرامطة وأصحاب المحنة أنهم دعاة على أبواب جهنم لا يسمع لهم ويطاع ، مع ما كان فيه بعض هؤلاء من تغلب على بعض البلاد الإسلامية ، فتأمل حال مبتدعة زماننا ممن يظاهرون الدعاة على أبواب جهنم !!
    ...
    ولنتأمل فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في التتار ، إذ نقل الإجماع على وجوب قتالهم ، لعدم التزامهم ببعض الشرائع ، مع نطقهم للشهادتين ظاهرًا . مع التنبيه على أنه لم يحكم لجميعهم بالكفر بل نقل أن فيهم الفاسق والمبتدع والزنديق . وسيأتي بيان حكم الطائفة الممتنعة مفصلاً من كلام شيخ الإسلام رحمه الله ..

    سئل رحمه الله :ما تقول الفقهاء أئمة الدين في هؤلاء التتار الذين قدموا سنة تسع وتسعين وستمائة ، وفعلوا ما اشتهر من قتل المسلمين وسبي بعض الذراري والنهب لمن وجدوه من المسلمين ، وهتكوا حرمات الدين من إذلال المسلمين وإهانة المساجد لا سيما بيت المقدس) وأفسدوا فيه وأخذوا من أموال المسلمين وأموال بيت المال الحمل العظيم وأسروا من رجال المسلمين الجم الغفير وأخرجوهم من أوطانهم ، وادعوا مع ذلك التمسك بالشهادتين وادعوا تحريم قتال مقاتلهم لما زعموا من اتباع أصل الإسلام ولكونهم عَفَوْا عن استئصال المسلمين . فهل يجوز قتالهم أو يجب وأيما كان فمن أي الوجوه جوازه أو وجوبه ؟ أفتونا مأجورين .
    فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
    كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم وغيرهم ، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه ، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه ، كما قاتل أبو بكر الصديق والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة . وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم بعد سابقة مناظرة عمر لأبي بكر رضي الله عنهما ، فاتفق الصحابة رضي الله عنهم على القتال على حقوق الإسلام عملا بالكتاب والسنة . وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه الحديث عن الخوارج ، وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة مع قوله : ((تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم)) .
    فعُلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه ليس بمسقط للقتال . فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله وحتى لا تكون فتنة . فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب .
    فأيما طائفة امتنعت من بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحج ، أو عن التزام تحريم الدماء والأموال والخمر والزنا والميسر أو عن نكاح ذوات المحارم ، أو عن التزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية على أهل الكتاب وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته - التي لا عذر لأحد في جحودها وتركها - التي يكفر الجاحد لوجوبها ، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها ، وهذا ما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء . وإنما اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة إذا أصرت على ترك بعض السنن كركعتي الفجر والأذان والإقامة - عند من لا يقول بوجوبهما - ونحو ذلك من الشعائر . هل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا ؟. فأما الواجبات والمحرمات المذكورة ونحوها فلا خلاف في القتال عليها .
    وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة الخارجين على الإمام أو الخارجين عن طاعته ؛ كأهل الشام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه . فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين أو خارجون عليه لإزالة ولايته ، وأما المذكورون فهم خارجون عن الإسلام ؛ بمنزلة مانعي الزكاة وبمنزلة الخوارج الذين قاتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه . ولهذا افترقت سيرة علي رضي الله عنه في قتاله لأهل البصرة والشام وفي قتاله لأهل النهروان ، فكانت سيرته مع أهل البصرة والشاميين سيرة الأخ مع أخيه ومع الخوارج بخلاف ذلك . وثبتت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما استقر عليه إجماع الصحابة من قتال الصديق وقتال الخوارج ، بخلاف الفتنة الواقعة مع أهل الشام والبصرة ؛ فإن النصوص دلت فيها بما دلت والصحابة والتابعون اختلفوا فيها . على أن من الفقهاء الأئمة من يرى أن أهل البغي الذين يجب قتالهم هم الخارجون على الإمام بتأويل سائغ ؛ لا الخارجون عن طاعته . وآخرون يجعلون القسمين بغاة . وبين البغاة والتتار فرق بين . فأما الذين لا يلتزمون شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة ؛ فلا أعلم في وجوب قتالهم خلافا .
    فإذا تقررت هذه القاعدة فهؤلاء القوم المسئول عنهم عسكرهم مشتمل على قوم كفار من النصارى والمشركين ، وعلى قوم منتسبين إلى الإسلام - وهم جمهور العسكر - ينطقون بالشهادتين إذا طلبت منهم ويعظمون الرسول ، وليس فيهم من يصلي إلا قليلًا جدا ، وصوم رمضان أكثر فيهم من الصلاة ، والمسلم عندهم أعظم من غيره ، وللصالحين من المسلمين عندهم قدر ، وعندهم من الإسلام بعضه وهم متفاوتون فيه . لكن الذي عليه عامتهم والذي يقاتلون عليه متضمن لترك كثير من شرائع الإسلام أو أكثرها ؛ فإنهم لا يوجبون الإسلام ولا يقاتلون من تركه ؛ بل من قاتل على دولة المغول عظموه وتركوه وإن كان كافرًا عدوا لله ورسوله ، وكل من خرج عن دولة المغول أو عليها استحلوا قتاله وإن كان من خيار المسلمين ، فلا يجاهدون الكفار ولا يلزمون أهل الكتاب بالجزية والصغار ، ولا ينهون أحدا من عسكرهم أن يعبد ما شاء من شمس أو قمر أو غير ذلك ، بل الظاهر من سيرتهم أن المسلم عندهم بمنزلة العدل أو الرجل الصالح أو المتطوع في المسلمين ، والكافر عندهم بمنزلة الفاسق في المسلمين أو بمنزلة تارك التطوع . وكذلك أيضا عامتهم لا يحرمون دماء المسلمين وأموالهم ؛ إلا أن ينهاهم عنها سلطانهم أي لا يلتزمون تركها ، وإذا نهاهم عنها أو عن غيرها أطاعوه لكونه سلطانا لا بمجرد الدين . وعامتهم لا يلتزمون أداء الواجبات ؛ لا من الصلاة ولا من الزكاة ولا من الحج ولا غير ذلك . ولا يلتزمون الحكم بينهم بحكم الله ؛ بل يحكمون بأوضاع لهم توافق الإسلام تارة وتخالفه أخرى . وإنما كان الملتزم لشرائع الإسلام الشيزبرون وهو الذي أظهر من شرائع الإسلام ما استفاض عند الناس . وأما هؤلاء فدخلوا فيه وما التزموا شرائعه . وقتال هذا الضرب واجب بإجماع المسلمين ، وما يشك في ذلك من عرف دين الإسلام وعرف حقيقة أمرهم ؛ فإن هذا السِّلم الذي هم عليه ودين الإسلام لا يجتمعان أبدا . وإذا كان الأكراد والأعراب وغيرهم من أهل البوادي الذين لا يلتزمون شريعة الإسلام يجب قتالهم وإن لم يتعد ضررهم إلى أهل الأمصار فكيف بهؤلاء ؟.
    نعم يجب أن يسلك في قتاله المسلك الشرعي من دعائهم إلى التزام شرائع الإسلام إن لم تكن الدعوة إلى الشرائع قد بلغتهم ، كما كان الكافر الحربي يدعى أولا إلى الشهادتين إن لم تكن الدعوة قد بلغته . فإن اتفق من يقاتلهم على الوجه الكامل فهو الغاية في رضوان الله وإعزاز كلمته وإقامة دينه وطاعة رسوله ، وإن كان فيهم من فيه فجور وفساد نية بأن يكون يقاتل على الرياسة أو يتعدى عليهم في بعض الأمور وكانت مفسدة ترك قتالهم أعظم على الدين من مفسدة قتالهم على هذا الوجه : كان الواجب أيضا قتالهم دفعا لأعظم المفسدتين بالتزام أدناهما ؛ فإن هذا من أصول الإسلام التي ينبغي مراعاتها . ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة الغزو مع كل بر وفاجر ؛ فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه إذا لم يتفق الغزو إلا مع الأمراء الفجار أو مع عسكر كثير الفجور ، فإنه لا بد من أحد أمرين ؛ إما ترك الغزو معهم فيلزم من ذلك استيلاء الآخرين الذين هم أعظم ضررا في الدين والدنيا ، وإما الغزو مع الأمير الفاجر فيحصل بذلك دفع الأفجرين وإقامة أكثر شرائع الإسلام وإن لم يمكن إقامة جميعها . فهذا هو الواجب في هذه الصورة وكل ما أشبهها ؛ بل كثير من الغزو الحاصل بعد الخلفاء الراشدين لم يقع إلا على هذا الوجه . وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة : الأجر والمغنم)) ، فهذا الحديث الصحيح يدل على معنى ما رواه أبو داود في سننه من قوله صلى الله عليه وسلم : ((الغزو ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل)) وما استفاض عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم إلى يوم القيامة)) إلى غير ذلك من النصوص التي اتفق أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف على العمل بها في جهاد من يستحق الجهاد مع الأمراء أبرارهم وفجارهم ؛ بخلاف الرافضة والخوارج الخارجين عن السنة والجماعة ، هذا مع إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه : ((سيلي أمراء ظلمة خونة فجرة ، فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم فليس مني ولست منه ولا يرد علي الحوض . ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه . وسيرد علي الحوض)) .
    فإذا أحاط المرء علما بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الجهاد الذي يقوم به الأمراء إلى يوم القيامة وبما نهى عنه من إعانة الظلمة على ظلمهم ، علم أن الطريقة الوسطى التي هي دين الإسلام المحض جهاد من يستحق الجهاد كهؤلاء القوم المسئول عنهم مع كل أمير وطائفة هي أولى بالإسلام منهم إذا لم يمكن جهادهم إلا كذلك ، واجتناب إعانة الطائفة التي يغزو معها على شيء من معاصي الله ، بل يطيعهم في طاعة الله ولا يطيعهم في معصية الله إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . وهذه طريقة خيار هذه الأمة قديما وحديثا . وهي واجبة على كل مكلف . وهي متوسطة بين طريق الحرورية وأمثالهم ممن يسلك مسلك الورع الفاسد الناشئ عن قلة العلم وبين طريقة المرجئة وأمثالهم ممن يسلك مسلك طاعة الأمراء مطلقا وإن لم يكونوا أبرارا . ونسأل الله أن يوفقنا وإخواننا المسلمين لما يحبه ويرضاه من القول والعمل . والله أعلم . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم . (مجموع الفتاوى : 28/502-508)

    يتبين لنا من فتوى شيخ الإسلام هذه ما يلي :
    1- أن التتار مع تغلبهم لم يعتبرهم أحد من أهل العلم ولاة أمور واجبي الطاعة .
    2- الإجماع على وجوب قتال التتار ومن هم على شاكلتهم في الامتناع عن التزام بعض شرائع الدين كالعلمانيين .
    3- أن قتالهم واجب حتى مع أئمة الجور ؛ لأنهم أولى بالإسلام منهم .
    4- أن شيخ الإسلام رحمه الله جعل حكم هؤلاء المذكورين كحكم الخوارج ومانعي الزكاة ، وهم عنده ليسوا كالبغاة المتأولين وليسوا كالمرتدين عن أصل الإسلام ، بل هم نوع ثالث خارجون عن بعض شرائع الدين . وأنه لا يحكم بالكفر إلا لمن وقع منهم في الكفر فعلاً دون باقي أفرادهم بعد إقامة الحجة عليهم .
    ...حكم الطائفة الممتنعة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
    واختلفوا في قتل أسيرهم واتباع مدبرهم والتذفيف على جريحهم إذا كان لهم فئة يلجئون إليها . فجوز ذلك أبو حنيفة ومنعه الشافعي ، وهو المشهور في مذهب أحمد ، وفي مذهبه وجه أنه يتبع مدبرهم في أول القتال . وأما إذا لم يكن لهم فئة فلا يقتل أسير ولا يذفف على جريح كما رواه سعيد وغيره عن مروان بن الحكم قال : خرج صارخ لعلي يوم الجمل لا يُقتلن مدبر ولا يُذفف على جريح ومن أغلق بابه فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن . فمن سلك هذه الطريقة فقد يتوهم أن هؤلاء التتار من أهل البغي المتأولين ويحكم فيهم بمثل هذه الأحكام كما أدخل من أدخل في هذا الحكم مانعي الزكاة والخوارج . وسنبين فساد هذا التوهم إن شاء الله تعالى .
    والطريقة الثانية أن قتال مانعي الزكاة والخوارج ونحوهم ليس كقتال أهل الجمل وصفين ، وهذا هو المنصوص عن جمهور الأئمة المتقدمين ، وهو الذي يذكرونه في اعتقاد أهل السنة والجماعة ، وهو مذهب أهل المدينة كمالك وغيره ومذهب أئمة الحديث كأحمد وغيره . وقد نصوا على الفرق بين هذا وهذا في غير موضع حتى في الأموال . فإن منهم من أباح غنيمة أموال الخوارج ، وقد نص أحمد في رواية أبي طالب في حرورية كان لهم سهم في قرية فخرجوا يقاتلون المسلمين فقتلهم المسلمون فأرضهم فيء للمسلمين ، فيقسم خمسه على خمسة وأربعة أخماسه للذين قاتلوا يقسم بينهم أو يجعل الأمير الخراج على المسلمين ولا يقسم مثل ما أخذ عمر السواد عنوة ووقفه على المسلمين . فجعل أحمد الأرض التي للخوارج إذا غُنمت بمنزلة ما غُنم من أموال الكفار .
    وبالجملة فهذه الطريقة هي الصواب المقطوع به ؛ فإن النص والإجماع فرق بين هذا وهذا وسيرة علي رضي الله عنه تفرق بين هذا وهذا ، فإنه قاتل الخوارج بنص رسول الله وفرح بذلك ، ولم ينازعه فيه أحد من الصحابة . وأما القتال يوم صفين فقد ظهر منه من كراهته والذم عليه ما ظهر ، وقال في أهل الجمل وغيرهم : إخواننا بغوا علينا طهرهم السيف وصلى على قتلى الطائفتين . وأما الخوارج ففي الصحيحين عن علي بن أبي طالب . قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((سيخرج قوم في آخر الزمان حداث الأسنان سفهاء الأحلام ، يقولون من خير قول البرية ، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ؛ فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة)) . وفي صحيح مسلم عن زيد بن وهب أنه كان في الجيش الذي كانوا مع علي الذين ساروا إلى الخوارج فقال علي : أيها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن ، ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء ، يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم ، لا تجاوز صلاتهم تراقيَهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضي لهم على لسان محمد نبيهم لنكلوا عن العمل ، وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد ليس له ذراع على عضده مثل حلمة الثدي عليه شعرات بيض )) . قال فيذهبون إلى معاوية وأهل الشام ويتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم . والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم فإنهم قد سفكوا الدم الحرام وأغاروا في سرح الناس فسيروا على اسم الله . قال : فلما التقينا وعلى الخوارج يومئذ عبد الله بن وهب رئيسًا ، فقال لهم : ألقوا الرماح وسلوا سيوفكم من حقوتها فإني أناشدكم كما ناشدوكم يوم حروراء ، فرجعوا فوحشوا برماحهم وسلوا السيوف وسحرهم الناس برماحهم ، قال : وأقبل بعضهم على بعض وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان . فقال علي : التمسوا فيهم المخدج ، فالتمسوه فلم يجدوه ، فقام على سيفه حتى أتى ناسًا قد أقبل بعضهم على بعض ، قال : أخروهم ، فوجدوه مما يلي الأرض ، فكبر ثم قال : صدق الله وبلغ رسوله . قال : فقام إليه عبيدة السلماني . فقال : يا أمير المؤمنين . الله الذي لا إله إلا هو أسمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ . قال : إي والله الذي لا إله إلا هو حتى استحلفه ثلاثا وهو يحلف له أيضا . فإن الأمة متفقون على ذم الخوارج وتضليلهم وإنما تنازعوا في تكفيرهم . على قولين مشهورين في مذهب مالك وأحمد وفي مذهب الشافعي أيضا نزاع في كفرهم . ولهذا كان فيهم وجهان في مذهب أحمد وغيره على الطريقة الأولى : أحدهما أنهم بغاة . والثاني أنهم كفار كالمرتدين ، يجوز قتلهم ابتداء وقتل أسيرهم واتباع مدبرهم ومن قدر عليه منهم استتيب كالمرتد فإن تاب وإلا قتل ، كما أن مذهبه في مانعي الزكاة إذا قاتلوا الإمام عليها ، هل يكفرون مع الإقرار بوجوبها ؟ على روايتين ، وهذا كله مما يبين أن قتال الصديق لمانعي الزكاة وقتال علي للخوارج ليس مثل القتال يوم الجمل وصفين . فكلام علي وغيره في الخوارج يقتضي أنهم ليسوا كفارا كالمرتدين عن أصل الإسلام وهذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره وليسوا مع ذلك حكمهم كحكم أهل الجمل وصفين بل هم نوع ثالث . وهذا أصح الأقوال الثلاثة فيهم. (مجموع الفتاوى : 28 / 514)

    وقال رحمه الله :
    وأما قتال الخوارج ومانعي الزكاة وأهل الطائف الذين لم يكونوا يحرمون الربا ؛ فهؤلاء يقاتلون حتى يدخلوا في الشرائع الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم . وهؤلاء إذا كان لهم طائفة ممتنعة فلا ريب أنه يجوز قتل أسيرهم واتباع مدبرهم والإجهاز على جريحهم ؛ فإن هؤلاء إذا كانوا مقيمين ببلادهم على ما هم عليه فإنه يجب على المسلمين أن يقصدوهم في بلادهم لقتالهم حتى يكون الدين كله لله . فإن هؤلاء التتار لا يقاتلون على دين الإسلام ؛ بل يقاتلون الناس حتى يدخلوا في طاعتهم ، فمن دخل في طاعتهم كفوا عنه وإن كان مشركا أو نصرانيا أو يهوديا ، ومن لم يدخل كان عدوا لهم وإن كان من الأنبياء والصالحين . وقد أمر الله المسلمين أن يقاتلوا أعداءه الكفار ويوالوا عباده المؤمنين . فيجب على المسلمين من جند الشام ومصر واليمن والمغرب جميعهم أن يكونوا متعاونين على قتال الكفار وليس لبعضهم أن يقاتل بعضا بمجرد الرياسة والأهواء . فهؤلاء التتار أقل ما يجب عليهم أن يقاتلوا من يليهم من الكفار وأن يكفوا عن قتال من يليهم من المسلمين ويتعاونون هم وهم على قتال الكفار . وأيضا لا يقاتل معهم غير مكره إلا فاسق أو مبتدع أو زنديق كالملاحدة القرامطة الباطنية وكالرافضة السبابة وكالجهمية المعطلة من النفاة الحلولية ، ومعهم ممن يقلدونه من المنتسبين إلى العلم والدين من هو شر منهم ؛ فإن التتار جهال يقلدون الذين يحسنون به الظن وهم لضلالهم وغيهم يتبعونه في الضلال الذي يكذبون به على الله ورسوله ويبدلون دين الله ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق . (مجموع الفتاوى : 28 / 551)

    فمن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية السابق ذكره يتبين لنا أن قتال الطائفة الممتنعة عن بعض شرائع الدين ليس من جنس قتال البغاة المتأولين ، وليس كذلك من جنس قتال المرتدين عن أصل الإسلام ، وإنما هم نوع ثالث يقاتلون عمومًا ، دون ثبوت حكم الكفر لجميع أفرادهم ، فإن منهم الفاسق والمبتدع والزنديق كما مر في كلام شيخ الإسلام رحمه الله .
    ..

    ولكن قد ورد في كلام شيخ الإسلام رحمه الله إطلاق لفظ الردة عليهم ، مثل قوله : ( وقد اتفق الصحابة والأئمة بعدهم على قتال مانعي الزكاة وإن كانوا يصلون الخمس ويصومون شهر رمضان ، وهؤلاء لم يكن لهم شبهة سائغة ؛ فلهذا كانوا مرتدين ، وهم يقاتلون على منعها وإن أقروا بالوجوب كما أمر الله ) (مجموع الفتاوى : 28 / 519) . فما بيان كلامه ذلك ؟

    نقول :
    هذا الكلام محمول على من ثبتت ردته عن أصل الإسلام منهم ، فإن منهم الفاسق والمبتدع والزنديق كما سبق . وقد يحمل الكلام على ارتدادهم عن بعض الشرائع بمعنى امتناعهم عن أدائها . وقد ورد في كلام شيخ الإسلام رحمه الله ما يشهد له . وقد سبق كلامه في الحكم عليه بأنهم ليسوا كالبغاة وليسوا كالمرتدين ، بل هم نوع ثالث .

    قال رحمه الله :
    وإذا كانت الردة عن أصل الدين أعظم من الكفر بأصل الدين ، فالردة عن شرائعه أعظم من خروج الخارج الأصلي عن شرائعه ؛ ولهذا كان كل مؤمن يعرف أحوال التتار ويعلم أن المرتدين الذين فيهم من الفرس والعرب وغيرهم شر من الكفار الأصليين من الترك ونحوهم ، وهم بعد أن تكلموا بالشهادتين مع تركهم لكثير من شرائع الدين خير من المرتدين من الفرس والعرب وغيرهم ، وبهذا يتبين أن من كان معهم ممن كان مسلم الأصل هو شر من الترك الذين كانوا كفارا ؛ فإن المسلم الأصلي إذا ارتد عن بعض شرائعه كان أسوأ حالا ممن لم يدخل بعد في تلك الشرائع ، مثل مانعي الزكاة وأمثالهم ممن قاتلهم الصديق . وإن كان المرتد عن بعض الشرائع متفقهاً أو متصوفاً أو تاجراً أو كاتباً أو غير ذلك فهؤلاء شر من الترك الذين لم يدخلوا في تلك الشرائع وأصروا على الإسلام . (مجموع الفتاوى : 28 / 535)
    ففي كلامه السابق بيان لما قد يساء فهمه من بعض كلامه أنه يحكم على التتار بالكفر بالعموم ، بل قد سبق حكمه فيهم صريحًا أنهم ليسوا كالمرتدين عن أصل الإسلام ، وإن كان يطلق عليهم مرتدين عن بعض شرائعه ، ولكن ذلك لا يقتضي الحكم عليهم بالكفر بالعموم ؛ فالردة هنا بالمعنى اللغوي بمعنى امتناعهم عما كانوا يفعلونه –وسيأتي كلام الخطابي في ذلك- . وقد اتضح مقصود شيخ الإسلام رحمه الله هاهنا في تفرقته بين الردة عن أصل الدين وبين الردة عن بعض الشرائع ، وأيضًا في قوله ( المرتدين الذين فيهم .. ) فإن فيه إشارة إلى أنه ليسوا كلهم مرتدين ، بل بعضهم مرتد عن أصل الدين وبعضهم مرتد عن بعض شرائعه ، ليس حكمه كالأول .
    قال الإمام الخطابي رحمه الله :
    وقد بينا أن أهل الردة كانوا أصنافا ؛ منهم من ارتد عن الملة ودعا إلى نبوة مسيلمة وغيره ، ومنهم من ترك الصلاة والزكاة وأنكر الشرائع كلها ، وهؤلاء هم الذين سماهم الصحابة كفارا ؛ ولذلك رأى أبو بكر رضي الله عنه سبي ذراريهم وساعده على ذلك أكثر الصحابة . واستولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه جارية من سبي بني حنيفة فولدت له محمدا الذي يدعى ابن الحنفية . ثم لم ينقضِ عصر الصحابة حتى أجمعوا على أن المرتد لا يُسبى . فأما مانعوا الزكاة منهم المقيمون على أصل الدين فإنهم أهل بغي ، ولم يسموا على الانفراد منهم كفارا وإن كانت الردة قد أضيفت إليهم لمشاركتهم المرتدين في منع بعض ما منعوه من حقوق الدين ؛ وذلك أن الردة اسم لغوي وكل من انصرف عن أمر كان مقبلا عليه فقد ارتد عنه ، وقد وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة ومنع الحق ، وانقطع عنهم اسم الثناء والمدح بالدين وعلق بهم الاسم القبيح لمشاركتهم القوم الذين كان ارتدادهم حقا . (شرح صحيح مسلم : 1 /204)

    فهذا الإمام الخطابي رحمه الله يحكم لهم بإطلاق اسم الردة وإن لم يكونوا مرتدين بالمعنى الشرعي الذي يعني الخروج من الإسلام ، وإنما معناه الخروج عن بعض الشرائع . إلا أنه جعلهم أهل بغي ، وقد بينا الراجح في ذلك من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمها الله .
    ..
    تنبيه مهم :
    قتال الطائفة الممتنعة تابع للمصلحة والمفسدة والقدرة والعجز ، فلا يجب قتالهم على من تغلبوا عليه ولم تتحقق له القدرة لقتالهم ، بل هو كالأسير بالنسبة لهم .
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
    وقد تكلمت على قتال الأئمة في غير هذا الموضع . وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت ، فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد . فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة ، فينظر في المعارض له فإن كان الذي يَفُوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورا به ؛ بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته ؛ لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة ، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها ، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر ، وقل أن تُعْوِزَ النصوص من يكون خبيرًا بها وبدلالتها على الأحكام . (مجموع الفتاوى : 28/129)
    وسيأتي بيان ذلك مفصلاً في الرد على الشبهة العاشرة إن شاء الله تعالى .
    ...باقي أقوال العلماء في بيان مقاصد الإمامة الشرعية
    قال الماوردي رحمه الله في بيان ما يجب على الإمام :
    والذي يلزمه (أي الإمام) من الأمور العامة عشرة أشياء :
    أحدها : حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة ، فإن نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه أوضح له الحجة وبين له الصواب وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود ، ليكون الدين محروسًا من خلل والأمة ممنوعة من زلل .
    الثاني : تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم النصفة ، فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم .
    الثالث : حماية البيضة والذب عن الحريم ؛ ليتصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال .
    والرابع : إقامة الحدود ؛ لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك ، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك .
    والخامس : تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة ؛ حتى لا تظفر الأعداء بغِرة ينتهكون فيها محرمًا ، أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دمًا .
    والسادس : جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يُسلم أو يدخل في الذمة ليقام بحق الله تعالى في إظهاره على الدين كله .
    والسابع : جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصًا واجتهادًا من غير خوف ولا عسف .
    والثامن : تقدير العطايا وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير .
    التاسع : استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم من الأعمال ويكله إليهم من الأموال ، لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة والأموال بالأمناء محفوظة .
    العاشر : أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال ؛ لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة ، ولا يعول على التفويض تشاغلا بلذة أو عبادة ، فقد يخون الأمين ويغش الناصح ...... إلخ (الأحكام السلطانية : 26-30)

    قال النووي رحمه الله:
    (قال القاضي : فلو طرأ عليه كفروتغييرللشرعأو بدعة خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته ووجب على المسلمين القيام عليهوخلعه ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك ، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليهم القيامبخلع الكافر ، ولا يجب في المبتدع إلا إذا ظنوا القدرة عليه فإن تحققوا العجز لميجب القيام ، وليهاجر المسلم عن أرضه إلى غيرها ويفر بدينه . قال : ولا تنعقدلفاسق ابتداء ، فلو طرأ على الخليفة فسق قال بعضهم يجب خلعه إلا أن تترتب عليه فتنة وحرب ، وقال جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين : لا ينعزل بالفسقوالظلم وتعطيل الحقوق ، ولا يخلع ، ولا يجوز الخروج عليه بذلك ، بل يجب وعظه وتخويفهللأحاديث الواردة في ذلك . قال القاضي: وقد ادعى أبو بكر بن مجاهد في هذاالإجماع ، وقد رد عليه بعضهم هذا بقيام الحسن وابن الزبير وأهل المدينة على بنيأمية وبقيام جماعة عظيمة من التابعين والصدر الأول على الحجاج مع ابن الأشعث ،وتأول هذا القائل قوله : (أن لا ننازع الأمر أهله) في أئمة العدل ،وحجةالجمهور أن قيامهم على الحجاج ليس بمجرد الفسق بل لما غير من الشرع وظاهر منالكفر . قال القاضي: وقيل أن هذا الخلاف كان أولاً ثم حصل الإجماع على منعالخروج عليهم . والله أعلم . (شرح النووي على مسلم : 6/314)
    قال القرطبي رحمه الله :
    قال ابن عطية: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام؛ من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب . هذا ما لا خلاف فيه . وقد مدح الله المؤمنين بقوله: ((وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)) ، قال أعرابي: ما غُبنت قط حتى يُغبن قومي؛ قيل: وكيف ذلك؟ قال: لا أفعل شيئا حتى أشاورهم . وقال ابن خويز منداد: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون ، وفيما أشكل عليهم من أمور الدين ، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب ، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح ، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها . وكان يقال: ما ندم من استشار . وكان يقال: من أعجب برأيه ضل . (تفسير القرطبي : 4/250)
    قال الشوكاني رحمه الله :
    لما أمر الله سبحانه القضاة والولاة إذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالحق أمر الناس بطاعتهم هاهنا ، وطاعة الله تعالى هي امتثال أوامره ونواهيه ، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم هي فيما أمر به ونهى عنه ، وأولو الأمر هم الأئمة والسلاطين والقضاة ، وكل من كانت له ولاية شرعية لا ولاية طاغوتية ، والمراد طاعتهم فيما يأمرون به وينهون عنه ما لم تكن معصية ، فلا طاعة لمخلوق في معصية الله .. (فتح القدير: 2/166)

    وقال رحمه الله رحمه الله :
    والحاصل أن الغرض المقصود للشارع من تنصيب الأئمة هو أمران ؛ أولهما وأهمهما إقامة منار الدين وتثبيت العباد على صراطه المستقيم ودفعهم عن مخالفته والوقوع في مناهيه طوعا وكرها ، وثانيهما تدبير المسلمين في جلب مصالحهم ودفع المفاسد عنهم ، وقسمة أموال الله فيهم وأخذها ممن هي عليه وردها فيمن هي له ، وتجنيد الجنود ، وإعداد العدة لدفع من أراد أن يسعى في الأرض فسادا من بغاة المسلمين وأهل الجسارة منهم من التسلط على ضعفاء الرعية ونهب أموالهم وهتك حرمتهم وقطع سبلهم ، ثم القيام في وجه عدوهم من الطوائف الكفرية إن قصدوا ديار الإسلام ، وغزوهم إلى ديار الكفر إن أطاق المسلمون ذلك ووجدوا من العدد والعدة ما يقوم به .
    فهذا هو موضوع الإمام الذي ورد الشرع بنصبه . وعلى المسلمين إخلاص الطاعة له في غير معصيةالله وامتثال أوامره ونواهيه في المعروف غير المنكر ، وعدم منازعته وتحريم نزع أيديهم من طاعته إلا أن يروا كفرا بواحا ، كما وردت بذلك الأدلة المتواترة التي لا يشك في تواترها إلا من لا يعرف السنة المطهرة . (السيل الجرار : 3/332)

    ويقول العلامة ابنحجر آل بوطامي رحمه الله في كتابه القيم (العقائد السلفية)
    ولكن ينعزل الإمام ولا تكون له ولاية على مسلمإذا أتى بما يلي :
    فذكر 1- الكفر والردة بعد الإسلام . واستدلالشيخ رحمه الله بالقرآن والسنة وكلام أهل العلم ، وهذه الحالة مُجْمَععليها .
    ثم ذكر 2- ترك الصلاة والدعوة إليها . وذكر حالين : إما بالجحود وهذا كفر ، وإما تهاونًا وكسلًا ؛ فذكر الخلاف في كونها كبيرةمن الكبائر أم كفرًا .
    ثم قال : ( فعلى أي الحالين يجب عزل الإمام الذي يترك الصلاة عملًا بالأحاديث الواردةفي ذلك ، والتي نهت عن منابذة أئمة الجور ، ونقض بيعتهم ، وعن مقاتلتهم بشرطإقامتهم الصلاة ) . وذَكَرَ الشيخ ذِكْرَ القاضي عياض إجماع العلماء على عزل الإمام لو تركإقامة الصلاة والدعوة إليها .
    ثم ذكر الحالة الثالثة: 3- ترك الحكم بماأنزل الله .
    ثمقال الشيخ رحمه الله تحت هذا العنوان :
    (ويشترط للسمع والطاعة أن يقود الإمام رعيته بكتاب الله . أما إذا لم يُحكم فيها شرع الله، فهذا لا سمع له ولا طاعة ، وهذا يقتضي عزله ، وهذا من صور الحكم بغير ما أنزل الله المفسقة ،أما المكفِّرة فهي توجب عزله ولو بالمقاتلة) .. انتهى (العقائد السلفية ص726)
    يتبع
    ...
    ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Dec 2008
    المشاركات
    69

    افتراضي رد: مختصر لـ(فقه الخلاف د.ياسر برهامي حفظه الله) *مهم لطلاب العلم*

    بل إنه قد ذهب بعض أهل العلم إلى بطلان الإمامة بالفسق الطارئ :
    قال الجصاص في قوله تعالى ((قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)) :
    فثبت بدلالة هذه الآية بطلان إمامة الفاسق وأنه لا يكون خليفة ، وأن من نصب نفسه في هذا المنصب وهو فاسق لم يلزم الناس اتباعه ولا طاعته . (أحكام القرآن : 1/170)

    قال الماوردي رحمه الله :
    (فصل) وإذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمة فقد أدى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم ، ووجب له عليهم حقان الطاعة والنصرة ما لم يتغير حاله . والذي يتغير به حاله فيخرج به عن الإمامة شيئان : أحدهما جرح في عدالته والثاني نقص في بدنه . فأما الجرح في عدالته وهو الفسق فهو على ضربين : أحدهما ما تابع فيه الشهوة . والثاني ما تعلق فيه بشبهة ، فأما الأول منهما فمتعلق بأفعال الجوارح وهو ارتكابه للمحظورات وإقدامه على المنكرات تحكيما للشهوة وانقيادا للهوى ، فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها ، فإذا طرأ على من انعقدت إمامته خرج منها ، فلو عاد إلى العدالة لم يعد إلى الإمامة إلا بعقد جديد . وقال بعض المتكلمين : يعود إلى الإمامة بعوده إلى العدالة من غير أن يستأنف له عقد ولا بيعة لعموم ولايته ولحوق المشقة في استئناف بيعته . (الأحكام السلطانية ص30)

    قال أبو محمد ابن حزم رحمه الله :
    ويقال لهم : ما تقولون في سلطان جعل اليهود أصحاب أمره والنصارى جنده ، وألزم المسلمين الجزية ، وحمل السيف على أطفال المسلمين ، وأباح المسلمات للزنا ، أو حمل السيف على كل من وجد من المسلمين وملك نساءهم وأطفالهم ، وأعلن العبث بهم ، وهو في كل ذلك مقر بالإسلام معلن به لا يدع الصلاة ؟. فإن قالوا : لا يجوز القيام عليه ، قيل لهم : أنه لا يدع مسلماً إلا قتله جملة ، وهذا إن ترك أوجب ضرورة ألا يبقى إلا هو وحده وأهل الكفر معه ، فإن أجازوا الصبر على هذا خالفوا الإسلام جملة وانسلخوا منه ، وإن قالوا : بل يقام عليه ويقاتل -وهو قولهم- قلنا لهم : فإن قتل تسعة أعشار المسلمين أو جميعهم إلا واحداً وسبى من نسائهم كذلك وأخذ من أموالهم كذلك ، فإن منعوا من القيام عليه تناقضوا ، وإن أوجبوا سألناهم عن أقل من ذلك ، ولا نزال نحطهم إلى أن نقف بهم على قتل مسلم واحد أو على امرأة واحدة ، أو على أخذ مال أو على انتهاك بَشَرة بظلم ، فإن فرقوا بين شيء من ذلك تناقضوا وتحكموا بلا دليل ، وهذا ما لا يجوز ، وإن أوجبوا إنكار كل ذلك رجعوا إلى الحق . (الفِصَل : 2 / 15)

    ثم قال رحمه الله :
    قال أبو محمد : والواجب إن وقع شيء من الجور وإن قل أن يُكلم الإمام في ذلك ويُمنع منه ، فإن امتنع وراجع الحق وأذعن للقود من البَشَرة أو من الأعضاء ولإقامة حد الزنا والقذف والخمر عليه فلا سبيل إلى خلعه ، وهو إمام كما كان لا يحل خلعه . فإن امتنع من إنفاذ شيء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع وجب خلعه وإقامة غيره ممن يقوم بالحق ؛ لقوله تعالى : ((وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)) ، ولا يجوز تضييع شيء من واجبات الشرائع . وبالله تعالى التوفيق .
    ..

    والجواب عما ذكره هؤلاء العلماء من بطلان الإمامة بالفسق :
    1- قد قدمنا أن بعض العلماء نقل الإجماع على عدم بطلان الإمامة بالفسق .
    2- ما ذكره ابن حزم من وجوب القيام على الأئمة لأدنى شيء من الجور ، فنقول : إن الحد الذي يفرق به بين وجوب الصبر على الجور ولزوم القيام عليهم هو ما إذا زادت مفسدة الظلم والغَشَم على مفسدة الخروج كما بين ذلك الإمام النووي رحمه الله .
    قال النووي رحمه الله :
    قال إمام الحرمين رحمه الله : ويسوغ لآحاد الرعية أن يصد مرتكب الكبيرة وإن لم يندفع عنها بقوله ما لم ينته الأمر إلى نصب قتال وشهر سلاح . فإن انتهى الأمر إلى ذلك ربط الأمر بالسلطان . قال : وإذا جار والي الوقت ، وظهر ظلمه وغَشَمُه ، ولم ينزجر حين زُجر عن سوء صنيعه بالقول ، فلأهل الحل والعقد التواطؤ على خلعه ولو بشهر الأسلحة ونصب الحروب . هذا كلام إمام الحرمين . وهذا الذي ذكره من خلعه غريب ، ومع هذا فهو محمول على ما إذا لم يخف منه إثارة مفسدة أعظم منه . (شرح صحيح مسلم : 2/25)
    والكلام على المصالح والمفاسد سيأتي تامًا في الرد على الشبهة العاشرة إن شاء الله تعالى .
    3- ادعى ابن حزم نسخ الأحاديث القاضية بوجوب الصبر على أئمة الجور مثل قوله صلى الله عليه وسلم : ((تسمع وتطيع الأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع)) (رواه مسلم) .
    والجواب عن ذلك أن بعض هذه الأحاديث فيها الإخبار عن أمور مستقبلية في الفتن ، مثل الإخبار عن الدعاة على أبواب جهنم ، وكسر باب الفتن بمقتل عمر ، وغيرها ، فهذه الأحاديث لا تنسخ ، خاصة مع ثبوت الإجماع بموافقتها .
    4- كلام ابن حزم رحمه الله يصدق على من علم من حاله أنه قتل المسلمين لأجل إسلامهم ، فإن هذا كفر وردة ولو قتل مسلمًا واحدًا ، بخلاف ما لو ظلم مسلمًا أو أكثر ، أو أخذ أموالهم أو ضربهم أو قتلهم ، مع تعظيمه للإسلام جملة وإقامته للدين .
    ...

    وبعد ذلك ، حُق لنا أن نتساءل ؛
    بعد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كلام العلماء رحمهم الله فيما يجب على الإمام وما تصح به ولايته وما ينقضها ، هل لأحد أن يقول بصحة ولاية من تغلب رافعًا الراية الجاهلية العلمانية المعاندة للإسلام ؟؟
    وإذا كان ما ذكره العلماء رحمهم الله هو في انتقاض ولاية من كان يقيم الشرع وينفذ الحدود ، فكيف بمن تغلب وهو غير مبال بأحكام الله وحدوده ولا معظم لدماء المسلمين وأعراضهم . كيف يصح أن تُنسب تلك الولاية للشرع مع ما يقوم به هؤلاء من إبطال للشرع ؟؟ ..
    ...
    فإن قيل
    : فما الواجب على المسلمين في حال عدم وجود الإمام الشرعي الذي يقود الأمة بكتاب الله ؟
    نقول :
    إن الأمة الإسلامية مطالبة بالأوامر الشرعية التي يسميها العلماء فروض الكفاية ، وهى في أكثرها لا يمكن لفرد ولا لأفراد متفرقين القيام بها ، بل الأمة في مجموعها مطالبة بها ، والأئمة وكلاء عنها في إقامتها ، وهى تشمل إقامة الجمع والجماعات والحسبة والإمارة والخلافة والجهاد بنوعيه الدفع والطلب ونظام القضاء والحكم بين الناس بمقتضى الشريعة الإسلامية ، وتنفيذ هذه الأحكام من حدود وحقوق وتعزيرات وغيرها ، ونظام المال الإسلامى القائم على سد حاجات المسلمين وخاصة فقراءهم وأراملهم وأيتامهم وغيرهم ، ووجود أنواع المهن والصناعات التي يحتاج إليها المسلمون وغير ذلك مما بينه أهل العلم . وأدلة ذلك كتاباً وسنة وإجماعاً من أوضح الأدلة .
    وهى كما يرى كل منصف مضيعة في واقعنا الحاضر جزئياً أو كلياً في الأقطار المختلفة ، إما واقعياً في البلاد التي يتولى حكامها زمام الأمور باسم الإسلام ، أو واقعياً ورسمياً معاً في البلاد التي يتولى حكامها زمام الأمور باسم القانون والدستور ويقسمون على احترامه وحمايته ، فالعقد بينهم وبين ممثلى الأمة في زعمهم لم يتم على إقامة هذا الدين .
    فهل تسقط هذه الفروض عن المسلمين ؟ أم هل يمكن للأفراد المتفرقين القيام بها ؟
    ونحن بلاشك لا ننكر إمكانية القيام ببعض هذه الصور دون قيادة كغسل ميت وتكفينه ، ولكن هل يتصور إقامة الجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإقامة الخلافة إلا باجتماعٍ وطاعةٍ وقيادة . ولاشك أن هذه الأمور لا توجد في الأمة بين يوم وليلة ، بل هى من أشق الأمور في التربية والتنشئة ، ولابد من السير على مبادئها للوصول إلى غاياتها . ومن يتصور الوصول إلى الغايات وهو يهدم المبادئ وينكرها فلا شك أنه يتناقض .
    والصورة المثلى لعودة الخلافة من غيبتها أن يكون أهل الحل والعقد من أهل السنة والجماعة مجتمعين على مطاع هو أمثل أهل العلم منهم للقيام بالمقدور عليه من فروض الكفاية ، فإن تعذر ذلك استقل كل أهل بلد بعالمهم إلى أن يتيسر جمعهم ، وإن كان لابد لهم أن يأخذوا بالأسباب التي تؤدى إلى جمعهم لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . (بتصرف من بحث العمل الجماعي/ مجلة صوت الدعوة)
    ودليل ما ذكرناه :
    1- قول الله عز وجل : ((وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)) (المائدة : 2)
    2- قول الله عز وجل : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)) . (النساء : 59)
    وأولو الأمر هم العلماء والأمراء الذين يقودون الناس بكتاب الله كما ذكره ابن كثير في تفسيره (2/345) ، والطبري في تفسيره (8/495) ، والبغوي في تفسيره (2/239) . وسيأتي بيانه في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
    3- حديث غزوة مؤتة . قال الحافظ ابن حجر : قال الطحاوي : هذا الأصل يؤخذ منه أن على المسلمين أن يقدموا رجلاً إذا غاب الإمام يقوم مقامة إلى أن يحضر . (فتح الباري : 7 / 513)
    4- ما رواه أبو داود في سننه عن عقبة بن مالك قال : بعث النبي صلي الله عليه وسلم سرية ، فسلحت رجلاً منهم سيفاً فلما رجع قال : لو رأيت ما لامنا رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ((أعجزتم إذا بعثت رجلاً منكم فلم يمض لأمري أن تجعلوا مكانه من يمضى لأمري)) (حسنه الألباني)

    ...
    وإليك أقوال العلماء في بيان ما قلناه
    قال الإمام البغوى في شرح السنة :
    إن الأمور الموكولة إلى الأئمة إذا غابوا عنها ، فإنه يتولاها من وجد من المسلمين ، من غير إمرة من الأئمة والخلفاء . اهـ

    قال أبو المعالي الجوينى رحمه الله :
    فإذا شغر الزمان عن الإمام ، وخَلِيَ عن سلطان ذي نجدة واستقلال وكفاية ودراية ، فالأمور موكولة إلى العلماء . وحقٌ على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم ، فإن فعلوا ذلك فقد هُدوا إلى سواء السبيل ، وصار علماء البلاد ولاة العباد ، فإن عَسُر جمعهم على واحد استبد أهل كل صُقع وناحية باتباع عالمهم ، وإن كثر العلماء في الناحية فالمتبع أعلمهم ، وإن فُرض استواؤهم -وفرضهم نادر لا يكاد يقع- فإن اتفق فإصدار الرأي عن جميعهم مع تناقض المطالب والمذاهب محال ، فالوجه أن يتفقوا على تقديم واحد منهم ، فإن تنازعوا وتمانعوا وأفضي الأمر إلى شجار وخصام ، فالوجه عندي في قطع النزاع الإقراع ، فمن خرجت له القرعة قُدم . (غِيَاث الأمم ص391)

    وقال رحمه الله :
    أما ما يسوغ استقلال الناس فيه بأنفسهم ، ولكن الأدب يقتضي فيه مطالعةَ ذوي الأمر ومراجعةَ مرموق العصر ؛ كعقد الجمع وجر العساكر إلى الجهاد واستيفاء القصاص في النفس والطرف ، فيتولاه الناس عند خلو الدهر .
    ولو سعى عند شغور الزمان طوائفُ من ذوي النجدة والبأس في نقض الطرق والسعاة في الأرض بالفساد ، فهو من أهم أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإنما ينهى آحاد الناس عن شهر الأسلحة استبدادًا إذا كان في الزمان وَزَرُ قَوَّام على أهل الإسلام .
    فإذا خلى الزمان عن السلطان وجب البَدَار على حسب الإمكان إلى درء البوائق عن أهل الإيمان .
    ونَهْيُنا الرعايا عن الاستقلال بالأنفس من قبيل الاستحثاث على ما هو الأقرب إلى الصلاح والأدنى إلى النجاح ؛ فإن ما يتولاه السلطان من أمور السياسة أوقع وأنجح وأدفع للتنافس وأجمع لشتات الرأي . وفي تمليك الرعايا أمور الدماء وشهر الأسلحة وجوه من الخبل لا ينكره ذوو العقل .
    وإذا لم يصادف الناس قَوَّامًا بأمورهم يلوذون به ، فيستحيل أن يؤمروا بالقعود عما يقتدرون عليه من دفع الفساد ؛ فإنهم لو تقاعدوا عن الممكن عم الفساد البلاد والعباد ، وإذا أُمروا بالتقاعد في قيام السلطان كفاهم ذو الأمر المهمات ، وأتاها على أقرب الجهات .
    وقد قال العلماء : لو خَلِيَ الزمان عن السلطان ؛ فحق على قُطان كل بلده وسكان كل قرية أن يقدموا من ذوي الأحلام والنهى وذوي العقول والحِجَى من يلتزمون امتثال إشارته وأوامرِه وينتهون عن مناهيه ومزاجِرِِه ، فإنهم لو لم يفعلوا ذلك ترددوا عند إلمام المهمات ، وتبلدوا عند إظلال الواقعات .
    ولو انتُدب جماعة في قيام الإمام للغزوات وأوغلوا في مواطن المخافات ؛ تعين عليهم أن ينصبوا من يرجعون إلى رأيه ؛ إذ لو لم يفعلوا ذلك تَهَوًّوْا في ورطات المخافات ، ولم يستمروا في شيء من الحالات . اهـ (غِيَاث الأمم ص387)

    قال العز بن عبد السلام رحمه الله :
    لا يتصرف في أموال المصالح العامة إلا الأئمة ونوابهم . فإذا تعذر قيامهم بذلك وأمكن القيام بها ممن يصلح لذلك من الآحاد ، بأن وجد شيئا من مال المصالح ، فليصرف إلى مستحقيه على الوجه الذي يجب على الإمام العدل أن يصرفه فيه ، بأن يقدم الأهم فالأهم ، والأصلح فالأصلح ، فيصرف كل مال خاص في جهاته أهمها فأهمها ، ويصرف ما وجده من أموال المصالح العامة في مصارفها أصلحها فأصلحها ؛ لأنا لو منعنا ذلك لفاتت مصالح صرف تلك الأموال إلى مستحقيها ، ولأثم أئمة الجور بذلك وضمنوه ، فكان تحصيل هذه المصالح ودرء هذه المفاسد أولى من تعطيلها . وإن وجد أموالا مغصوبة، فإن عرف مالكيها فليردها عليهم، وإن لم يعرفها فإن تعذرت معرفتهم بحيث يئس من معرفتهم صرفها في المصالح العامة أولاها فأولاها، وإنما قلنا ذلك لأن الله قال: ((وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)) , وهذا بر وتقوى . وقال صلى الله عليه وسلم : ((والله في عون العبد ما كان في عون أخيه)) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ((كل معروف صدقة)) ، فإذا جوز رسول الله صلى الله عليه وسلم لهند أن تأخذ من مال زوجها أبي سفيان ما يكفيها وولدها بالمعروف ، مع كون المصلحة خاصة ، فلأن يجوز ذلك في المصالح العامة أولى ، ولا سيما عند غلبة الظلمة للحقوق . ولا شك أن القيام بهذه المصالح أتم من ترك هذه الأموال بأيدي الظلمة يأكلونها بغير حقها ، ويصرفونها إلى غير مستحقها . ويحتمل أن يجب ذلك على من ظفر به ، كمن وجد اللقطة في مضيعة ، وإذا جوز الشرع لمن جحد حقه أن يأخذ من مال جاحده إذا ظفر به إن كان من جنسه ، وأن يأخذه ويبيعه إن كان من غير جنسه ، مع أن هذه مصلحة خاصة ، فجواز ما ذكرناه مع عمومه أولى . وقد خير بعض أصحاب الشافعي واجد ذلك بين أن يصرفه في مصارفه ، وبين أن يحفظه إلى أن يلي المسلمين من هو أهل يصرف ذلك في مصارفه . وينبغي أن يتقيد بما ذكره بعض الأصحاب بوقت يتوقع فيه ظهور إمام عدل . وأما في مثل هذا الزمان المأيوس فيه من ذلك فيتعين على واجده أن يصرفه على الفور في مصارفه ، لما في إبقائه من التغرير به وحرمان مستحقيه من تعجيل أخذه ، ولا سيما إن كانت الحاجة ماسة إليه بحيث يجب على الإمام تعجيلها. (قواعد الأحكام في مصالح الأنام ص70)

    وقال رحمه الله في ذكر أمثلة تعارض المصالح والمفاسد :
    المثال السابع والعشرون: تصحيح ولاية الفاسق مفسدة ، لما يغلب عليه من الخيانة في الولاية ، لكنا صححناها في حق الإمام الفاسق والحاكم الفاسق ؛ لما في إبطال ولايتهما من تفويت المصالح العامة ، ونحن لا ننفذ من تصرفاتهم إلا ما ينفذ من تصرف الأئمة المقسطين والحكام العادلين ، فلا نبطل تصرفه في المصالح لأجل تصرفه في المفاسد ، إذ لا يترك الحق المقدور عليه لأجل الباطل . والذي أراه في ذلك أنا نصحح تصرفهم الموافق للحق مع عدم ولايتهم لضرورة الرعية ، كما نصحح تصرفات إمام البغاة مع عدم إمامته ؛ لأن ما ثبت للضرورة تقدر بقدرها ، والضرورة في خصوص تصرفاته ، فلا نحكم بصحة الولاية فيما عدا ذلك ، بخلاف الإمام العادل فإن ولايته قائمة في كل ما هو مفوض إلى الأئمة .
    المثال الثامن والعشرون: تولي الآحاد لما يختص بالأئمة مفسدة ، لكنه يجوز في الأموال إذا كان الإمام جائراً يضع الحق في غير مستحقه ، فيجوز لمن ظفر بشيء من ذلك الحق أن يدفعه إلى مستحقيه ؛ تحصيلًا لمصلحة ذلك الحق الذي لو دفع إلى الإمام الجائر لضاع ، ولكان دفعه إليه إعانة على العصيان ، وقد قال الله تعالى: ((وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)) . (قواعد الأحكام في مصالح الأنام ص91)

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
    وأما إذا كان الذنب لحقِّ الله كالكذب والفواحش والبدع المخالفة للكتاب والسنة أو إضاعة الصلاة بالتفريط وواجباتها ونحو ذلك فهذا لا بد فيه من التوبة . وهل يشترط مع التوبة إظهار الإصلاح في العمل ؟ على قولين للعلماء . وإذا كان لهم شيخ مطاع فإن له أن يعزر العاصي بحسب ذنبه تعزيرا يليق بمثله أن يفعله بمثله ، مثل هجره مدة كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة المخلفين . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون : يسوسون الناس في دينهم ودنياهم ، ثم بعد ذلك تفرقت الأمور ، فصار أمراء الحرب يسوسون الناس في أمر الدنيا والدين الظاهر ، وشيوخ العلم والدين يسوسون الناس فيما يرجع إليهم فيه من العلم والدين . وهؤلاء أولو أمر تجب طاعتهم فيما يأمرون به من طاعة الله التي هم أولو أمرها . وهو كذلك فسر أولو الأمر في قوله : ((أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)) بأمراء الحرب : من الملوك ونوابهم وبأهل العلم والدين الذين يعلمون الناس دينهم ويأمرونهم بطاعة الله ؛ فإن قوام الدين بالكتاب والحديد كما قال تعالى : ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)) . وإذا كان ولاة الحرب عاجزين ومفرطين عن تقويم المنتسبين إلى الطريق كان تقويمهم على رؤسائهم ، وكان لهم من تعزيرهم وتأديبهم ما يتمكنون منه إذا لم يقم به غيرهم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وهو أضعف الإيمان)) (مجموع الفتاوى : 11/551)
    وقال رحمه الله :
    خاطب الله المؤمنين بالحدود والحقوق خطاباً مطلقاً ، كقوله تعالى : ((وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ)) ، وقوله تعالى : ((الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا)) ، وقوله تعالى : ((وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ)) ، وكذلك قوله تعالى : ((وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً)) . لكن قد عُلم أن المخاطب بالفعل لابد أن يكون قادراً عليه ، والعاجزون لا يجب عليهم ، وقد علم أن هذا فرض على الكفاية وهو مثل الجهاد ، بل هو نوع من الجهاد ، فقوله : ((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ)) ، وقوله : ((وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ)) ، وقوله : ((إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ)) ونحو ذلك هو فرض على الكفاية من القادرين ، والقدرة هي السلطان ؛ فلهذا وجب إقامة الحدود على ذي السلطان ونوابه .
    والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد والباقون نوابه . فإذا فرض أن الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها وعجز من الباقين أو غير ذلك فكان لها عدة أئمة ، لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود ويستوفي الحقوق ؛ ولهذا قال العلماء : إن أهل البغي ينفذ من أحكامهم ما ينفذ من أحكام أهل العدل . وكذلك لو شاركوا الإمارة وصاروا أحزابا ، لوجب على كل حزب فعل ذلك في أهل طاعتهم . فهذا عند تفرق الأمراء وتعددهم . وكذلك لو لم يتفرقوا ، لكن طاعتهم للأمير الكبير ليست طاعة تامة ، فإن ذلك أيضا إذا أسقط عنه إلزامَهم بذلك لم يُسقط عنهم القيامَ بذلك ، بل عليهم أن يقيموا ذلك . وكذلك لو فُرض عجز بعض الأمراء عن إقامة الحدود والحقوق ، أو إضاعته لذلك ، لكان ذلك الفرض على القادر عليه . وقول من قال : (لا يقيم الحدود إلا السلطان ونوابه) إذا كانوا قادرين فاعلين بالعدل ، كما يقول الفقهاء : (الأمر إلى الحاكم) إنما هو العادل القادر . فإذا كان مضيعا لأموال اليتامى أو عاجزا عنها ، لم يجب تسليمها إليه مع إمكان حفظها بدونه . وكذلك الأمير إذا كان مضيعًا للحدود أو عاجزًا عنها ، لم يجب تفويضها إليه مع إمكان إقامتها بدونه . والأصل أن هذه الواجبات تقام على أحسن الوجوه ، فمتى أمكن إقامتها من أمير لم يحتج إلى اثنين ، ومتى لم يقم إلا بعدد ومن غير سلطان أقيمت إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها ؛ فإنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن كان في ذلك من فساد ولاة الأمر أو الرعية ما يزيد على إضاعتها لم يدفع فساد بأفسد منه . والله أعلم . (مجموع الفتاوى : 34 / 175)

    قال الشوكاني رحمه الله :
    وينبغي أن تعلم أن تنصيب الأئمة الثابت في هذه الشريعة ثبوتا لا ينكره من يعرفها من أقواله صلى الله عليه وسلم ثم وقوعه بالفعل بعد موته صلى الله عليه وسلم من الصحابة فمن بعدهم ليس فيه ما ينفي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أفراد المسلمين ، وإن كان الأئمة هم المقدمون في ذلك والأحقَوْن به ، لكن إذا فعلوا كان ذلك مسقطا لهذا الفرض المعلوم بالأدلة القطعية من الكتاب والسنة والمجمع عليه من جميع الأمة ، وإن لم يفعلوا أو لم يطلعوا على ذلك فالخطاب باق على أفراد المسلمين لا سيما على العلماء ؛ فإن الله سبحانه قد أخذ عليهم البيان للناس فقال : ((وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ)) ، وقال في الآية التي بعدها : ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)) . فإذا كان البيان لا يتم إلا بإيقاع حكم الله بالحكم مع التمكن من ذلك ؛ فما لا يتم الواجب إلا به واجب كوجوبه .
    ثم قال رحمه الله : وإذا كان الأمر هكذا فليس ها هنا ما يسقط وجوب الأمر بالمعروفوالنهي عن المنكر والقيام ببيان حجج الله والإرشاد إلى فرائضه والزجر عن مناهيه ، ولا يصلح وجود الإمام مسقطا لذلك ، لكنه إذا قام بشيء منه وجب على المسلمين معاضدته ومناصرته ، وإن لم يقم به فالخطابات المقتضية لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المسلمين على العموم باقية في أعناقهم ، معدودة في أهم تكليفاتهم ، لا خلوص لهم عنها إلا بالقيام بها على الوجه الذي أمر الله به وشرعه لعباده ، وهكذا العلماء ؛ فإنه بعد دخولهم في هذا التكليف دخولا أوليا مخاطبون بتكليف البيان على الوجه الذي ذكرناه وإذا تقرر لك مجموع ما ذكرناه عرفت الصواب ولم يبق بينك وبين دركه حجاب . اهـ (السيل الجرار : 3/331)

    قال ابن قدامة رحمه الله :
    وأمر الجهاد موكول إلى الإمام ، ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك .... فإن عُدم الإمام لم يؤخر الجهاد ؛ لأن مصلحته تفوت بتأخيره . وإن حصلت غنيمة قسمها أهلها على موجب الشرع . (المغنى : 10 / 368)

    قال الحافظ ابن كثير رحمه الله :
    وفي بكرة يوم الجمعة المذكور ؛ دار الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله وأصحابه على الخمارات والحانات ، فكسروا آنية الخمور وشققوا الظروف وأراقوا الخمور ، وعزروا جماعة من أهل الحانات المتخذة لهذه الفواحش ، ففرح الناس بذلك . (البداية والنهاية : 14 / 13)

    وقال رحمه الله :
    وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في مستهل هذا الشهر -وكان يوم السبت- إلى نائب الشام في المرج ، فثبتهم وقوى جأشهم وطيب قلوبهم ، ووعدهم النصر والظفر على الاعداء ، وتلا قوله تعالى : ((وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ)) ، وبات عند العسكر ليلة الأحد ، ثم عاد إلى دمشق وقد سأله النائب والأمراء أن يركب على البريد إلى مصر يستحث السلطان على المجئ ، فَسَاقَ وراء السلطان -وكان السلطان قد وصل إلى الساحل- فلم يدركه إلا وقد دخل القاهرة وتفارط الحال ، ولكنه استحثهم على تجهيز العساكر إلى الشام إن كان لهم به حاجة ، وقال لهم فيما قال : إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطانا يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الأمن . (البداية والنهاية : 14 / 18)

    ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •