[4]
ومما ينبغي الجواب عليه في هذا المقام ، وهو مما يردّ به عليهم ما يستشهد به بعضهم من قوله تعالى : { لا إكراه في الدين } [ البقر : 265 ] والردّ عليهم من وجوه :
الوجه الأول :
أن الله تعالى أعقب هذه الآية بقوله : {
فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } والطاغوت : ما تجاوز العبد به حدّه من معبود أو متبوع أو مطاع.
ومن الكفر بالطاغوت اعتقاد بطلان ما سوى دين الإسلام والكفر به ، والإيمان بالله وحده لا شريك له ، وإفراده سبحانه بالتعلق.
أما من آمن بالله ولم يكفر بالطاغوت فدعا إلى تعددية الأديان ، وحرية الاعتقاد والفكر فإن توحيده مردود عليه لا ينفعه ، لأنه ما أتى بشرط من شروط كلمة التوحيد وهو الكفر بالطاغوت .
و كلمة التوحيد هي العروة الوثقى القائمة على نفي وإثبات ، الكفر والنفي واعتقاد بطلان عبادة كل أحد إلا الله فهو المعبود بحق و ما سواه من المعبودات والآلهة باطل لا يستحق من العبادة شيئاً .
فمن دعا إلى تعددية الأديان وحرّية الاعتقاد مريدا به ما أشرنا إلى معناهما فقد كفر بالله وآمن بالطاغوت . قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله "
الذي يجيز أن يكون الإنسان حرا الاعتقاد ، يعتقد ما شاء من الأديان فإنه كافر ، لأن كل من اعتقد أن أحدا يسوغ له أن يتدين بغير دين محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه كافر بالله عز وجل يستتاب ، فإن تاب وإلا وجب قتله ".
(10 )
الوجه الثاني :
أن المتعلقين بهذه الآية فسّروها على ما تهوى أنفسهم وتشتهيه وتفسير هذه الآية كما يلي :
قال ابن كثير رحمه الله : "
أي لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام " إلى أن قال : "
من هداه الله الإسلام وشرح صدره ، نوّر بصيرته دخل فيه على بينة ، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره ، فإنه لا يفيده الدخول فيه مكرها مقسوراً " ا.هـ
وقال ابن الجوزي رحمه الله : "
المعنى أن دين الإسلام في غاية الوضوح وظهور البراهين على صحته بحيث لا يحتاج أن يكره أحد على الدخول فيه بل يدخل فيه كل ذي عقل سليم من تلقاء نفسه دون إكراه ويدل على ذلك قوله قد تبين الرشد من الغي أي قد تبين أن الإسلام رشد وأن الكفر غي فلا يفتقر بعد بيانه إلى إكراه " ا.هـ
(11)
وقال الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله مبينا معنى هذه الآية : "
قد ذكر أهل العلم رحمهم الله في تفسير هذه الآية ما معناه : أن هذه الآية خبر معناه : النهي، أي : لا تكرهوا على الدين الإسلامي من لم يرد الدخول فيه ، فإنه قد تبين الرشد ، وهو دين محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعهم بإحسان ، وهو توحيد الله بعبادته وطاعة أوامره وترك نواهيه مِنَ الْغَيِّ وهو : دين أبي جهل وأشباهه من المشركين الذين يعبدون غير الله من الأصنام والأولياء والملائكة والأنبياء وغيرهم .
وكان هذا قبل أن يشرع الله سبحانه الجهاد بالسيف لجميع المشركين إلا من بذل الجزية من أهل الكتاب والمجوس .
وعلى هذا تكون هذه الآية خاصة لأهل الكتاب والمجوس إذا بذلوا الجزية والتزموا الصغار فإنهم لا يُكرهون على الإسلام؛ لهذه الآية الكريمة ، ولقوله سبحانه في سورة التوبة : {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}.
فرفع سبحانه عن أهل الكتاب القتال إذا أعطوا الجزية والتزموا الصغار .
و ثَبَتَ في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الجزية من مجوس هجر .
( أما من سوى أهل الكتاب والمجوس ) من الكفرة والمشركين و الملاحدة فإن الواجب مع القدرة دعوتهم إلى الإسلام فإن أجابوا فالحمد لله ، وإن لم يجيبوا وجب جهادهم ، حتى يدخلوا في الإسلام ، ( ولا تقبل منهم الجزية ) ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلبها من كفار العرب ، ولم يقبلها منهم ، ولأن أصحابه رضي الله عنهم لما جاهدوا الكفار بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لم يقبلوا الجزية إلا من أهل الكتاب والمجوس، ومن الأدلة على ذلك قوله سبحانه : {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فلم يخيّرهم سبحانه بين الإسلام وبين البقاء على دينهم ، ولم يطالبهم بجزية ، بل أمر بقتالهم ، حتى يتوبوا من الشرك ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة .
فدل ذلك على أنه لا يقبل من جميع المشركين (ما عدا أهل الكتاب والمجوس إلا الإسلام) وهذا مع القدرة . والآيات في هذا المعنى كثيرة
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة تدل على هذا المعنى منها : قول النبي صلى الله عليه وسلم : « أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله عز وجل » [متفق على صحته] ، فلم يخيرهم النبي صلى الله عليه وسلم بين الإسلام وبين البقاء على دينهم الباطل ، ولم يطلب منهم الجزية .
فدلّ ذلك : أن الواجب إكراه الكفار على الإسلام ، حتى يدخلوا فيه ( ما عدا أهل الكتاب والمجوس ) ؛ لما في ذلك من سعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة ، وهذا من محاسن الإسلام ، فإنه جاء بإنقاذ الكفرة من أسباب هلاكهم وذلهم وهوانهم وعذابهم في الدنيا والآخرة ، إلى أسباب النجاة ، والعزة والكرامة والسعادة في الدنيا والآخرة ، وهذا قول أكثر أهل العلم في تفسير الآية المسئول عنها .
أما أهل الكتاب والمجوس فخصوا بقبول الجزية والكف عن قتالهم إذا بذلوها لأسباب اقتضت ذلك ، ( وفي إلزامهم بالجزية إذلال وصغار لهم ) ، وإعانة للمسلمين على جهادهم وغيرهم ، وعلى تنفيذ أمور الشريعة ونشر الدعوة الإسلامية في سائر المعمورة ، كما أن في إلزام أهل الكتاب والمجوس بالجزية؛ حملا لهم على الدخول في الإسلام ، وترك ما هم عليه من الباطل والذل والصغار؛ ليفوزوا بالسعادة والنجاة والعزة في الدنيا والآخرة." ا.هـ
(12)
يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله : "
أي لا أحد يُكرَه في دين الله بل من دخل في دين الله دخله اختيارا لأنه قد تبين الرشد من الغي فأي إنسان يتأمل الإسلام بمحاسنه عبادة وأدبا وخلقا لا بد أن يدخل الإسلام مختارا لأنه فطرة الله ولهذا قال : ( قد تبين الرشد من الغي ) وهذه الجملة تعليل للحكم السابق أي: لا إكراه في الدين : لأنه تبين الرشد من الغي فمن دخل في الدين دخله اختيارا لا بإكراه . وليس معنى الآية كما يظن بعض الناس لا إكراه على الدين ، وأن هذه الآية قد نُسخت لوجوب الجهاد . لأن الآية لا تدل على هذا المعنى بل الجهاد قائم لمن عاند واستكبر وأما من تمشى على الفطرة فلا يحتاج إلى جهاد ولا إكراه على الدين والمراد بالدين هنا دين محمد صلى الله عليه وسلم لأنه هو الدين المقبول عند الله قال تعالى (إن الدين عند الله الإسلام ) وقال تعالى : ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه)... " أ.هـ
(13)
وبهذا تنقطع شبهتهم وخلاصة الكلام في هذه الآية :
1- أن التوحيد ينفع صاحبه إذا كان داخلاً فيه عن قبول و انقياد واستسلام وتحقيق لمراد الله تعالى وما لم يكن كذا فلا فيغني عنه شيئاً.
2- و إذا كان الأمر كذلك فلا يكره على الدخول في الإسلام من لم يقبله عن إيمان وانقياد إذ أن ذلك لا ينفعه عند الله .
3- وإذا كان الأمر كذلك فمن أبى الدخول في الإسلام عن انقياد وقبول لحكم الله فمنهم من يخيّره ولي الأمر بين إعطاء الجزية أو القتال وهم أهل الكتاب والمجوس ، ومنهم من لا يُقبل من إلا الإسلام غير الكتابيين والمجوس من الديانات فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو الجهاد بالقتال والذبح.
4- ثم إن من بقي منهم على دينه من أهل الكتاب والمجوس و أعطى الجزية ثم مات على كفره فهو خالد مخلّد في النار . ومن ضربت عليهم الجزيّة فهم في ذلّة و صَغَار فلا يظهرون شعائر دينهم ولا يسمح لهم – كما يدعوا إلى ذلك دعاة التعددية - بالطعن في الإسلام ولا بنشر مذاهبهم كما قرر ذلك أهل العلم في باب أحكام أهل الذمّة بل يخضعون لحكم الإسلام و سلطته .
والوجه الثالث :
أن هذا التخيير وعدم الإكراه في دخول الإسلام والإيمان به من عدمه هو تخيير بعد البيان أن الله لا يقبل إلا ما ارتضاه من دين وهو دين الإسلام كما قال تعالى: {
وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بما كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً }[ الكهف : 29 ]
قال ابن كثير رحمه الله : "
( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليفكر ) هذا من باب التهديد و الوعيد و الشديد " ا.هـ
فأي حريّة في أمر المآل فيه ما بين جنّة ونار ؟!
وقال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله : "
الذي يريد الحرية التي لا ضابط لها إلا القانون الوضعي هذا متمرد على شرع الله يريد حكم الجاهلية وحكم الطاغوت فلا يكون مسلماً . والذي ينكر ما علم من الدين بالضرورة من الفرق بين المسلم والكافر ويريد الحرية التي لا تخضع لقيود الشريعة وينكر الأحكام الشرعية من الأحكام الشرعية الخاصة بالمرأة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومشروعية الجهاد في سبيل الله هذا قد ارتكب عدة نواقض من نواقض الإسلام، نسال الله العافية. " ا.هـ
(14)
وبعد ؛ فيعلم بهذا ضلال دعوة محمد المحمود للتعددية العقائدية والتعددية الفكرية أيّا كان مراده وقصده و أنه بدعوته هذه على خطر عظيم لمخالفته قواعد الشريعة وأصول الإسلام. وأن الواجب على القادر أن يناصحه بما أوتي من قدرة وعلم وبما أوتي من الحكمة وقوّة العقل ومعرفة مداخله و مخارجه
كما أن الواجب على كل مسلم الحذر من دعاة السوء دعاة الباطل ولو تسمّو اسم السلفية أو الدعوة إلى الله أو زعموا السير على منهاج الوسط والاعتدال والحياد ماداموا على غير جادّة الحق فالدعاوى لا تغني والأسماء لا تغير الحقائق .
" فالحق معدن نفيس و إيايك ثم إياك أن تُسلِم عقلك لك سائح " (15 )
وبهذا اكتمل البحث أسأل الله أن أكون وفقت فيه للصواب والحق واستغفر الله مما خالطه من الخطأ والنسيان والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
حرره/ صالح بن محمد السويح في 2/6/1429هـ
______________________________ _________
1) انظر الاعتصام ( 2/200-201 )
2) انظر كتاب براءة أهل السنة من الوقيعة في علماء الأُمة للشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد رحمه الله.
3) المرجع السابق .
4) انظر المرجع السابق
5) انظر إتحاف القاري بالتعليقات على شرح السنّة للبربهاري بشرح الشيخ صالح الفوزان ( 1/91-92 ) ، ط-1 ، مكتبة الرشد ناشرون
6) المرجع السابق
7) انظر مجموع مقالات ورسائل الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله ( 1/249)
8) انظر إتحاف القاري بالتعليقات على شرح السنّة للبربهاري بشرح الشيخ صالح الفوزان (1/43) ، ط-1 ، مكتبة الرشد ناشرون .
9) مقال بعنوان ( الفكر الإسلامي يخالف الوحي والفقه ) للشيخ سعد الحصين ، انظر موقع الشيخ في الانترنت .
10) انظر من مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد العثيمين ( 3/99 )
11) انظر زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي (1 / 304 – 306 ).
12) انظر موقع الشيخ عبدالعزيز ن باز رحمه الله .
13) أحكام في القرآن الكريم للشيخ محمد العثيمين ( 2/256 )
14) انظر موقع الشيخ صالح الفوزان .
15) هذه من عبارات الأخ ناصر الكاتب حفظه الله