بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين وعلى آله وأصحابه أجمعين .. أما بعد
فقد اشتهر إمام الحرمين بمذهبه فى الضرورى، وذكر ابن تيمية وغيره أن الجوينى قال إن العلوم كلها ضرورية(1 ) وقبل الحديث عن مذهب إمام الحرمين فى الضروريات ينبغى التنبيه على أن إمام الحرمين يستعمل عبارة (( ضرورى )) أحيانا بالمعنى الاصطلاحى خاصة إذا قرنت بمقابلها الاصطلاحى وهو (( النظرى )) وقد يستبدل هذا المعنى الاصطلاحى بغيره كلفظ (( المهجوم عليه ))،وكثيرا ما يستعملها بالمعنى اللغوى الذى يعنى الإلجاء والإكراه ولا يقصد بها غيره كما فى قوله: ((إن العلوم كلها ضرورية )).
وكان إمام الحرمين لا يضع حدا بين الضرورى والنظرى ويقول :((ولا حاصل للفصل بين النظرى والضرورى))(2 ) لأن ذلك يختلف عنده من شخص لآخر، ويرى أن العلوم كلها تدرك عن طريق واحد وهو: تسديد الفكر من ذى نحيزة صحيحة إلى جهة المعلوم مع زوال الموانع، ثم يترتب على ذلك حصول العلم بالضرورة سواء احتاج لمزيد من التأمل وإعمال الفكر أو لا، ويقول:((النظر عندنا مباحثة في أنحاء الضروريات وأساليبها، ثم العلوم الحاصلة على أثرها كلها ضرورية .. وتلك الأنحاء يئول حاصل القول فيها إلى تقاسيم منضبطة بالنفي والإثبات منحصرة بينهما، يعرضها العاقل على الفكر العقلي ويحكم فيها بالنفي والإثبات، فإن كان ينقدح فيها نفى أو إثبات قطع به، وليس للدليل تحصيل إلا تجريد الفكر من ذي نحيزة صحيحة إلى جهة يتطرق إلى مثلها العقل، فإذا استد النظر وامتد إلى اليقين والدرك فهو الذي يسمى نظرا ودليلا))(3 )
ويرجع ذلك لاختلاف حدة القرائح أو لكون المعلوم نفسه يصعب إدراكه بطبيعته؛ فلا يقال إن هذا علم ضرورى وذاك نظرى يحتاج لنظر لأنها جميعا تحصل بنفس الطريقة ولها نفس الصفة بعد حصولها، وإنما يقع التفاوت بينها لعاملين:
أحدهما يرجع إلى ذات المعلوم.
والثانى يرجع إلى ذات المدرك وآلة إدراكه .
فهناك أولا التفاوت بين المعلومات؛ فبعضها أعسر فى إدراكه من البعض، أو بعبارة إمام الحرمين ((بعضها مهجوم عليه والآخر غير مهجوم عليه))، ووضع لذلك عدة أمثلها أوضحها المثال الهندسى: ككون الخطوط المستقيمة الخارجة من مركز الدائرة إلى محيطها متساوية، إلى غير ذلك من الأمثلة التى تسمى المصادرات ((فإذا بنى المهندس على هذه المقدمات شكلا، وركب عليها دعاوي، وبرهنها بما يستند إلى تلك المقدمات فقد يحتاج في ترتيب الاستخراج إلى فكر طويل، وإذا أحاط بما يبغيه فعلمه به على حسب علمه بالمقدمات وكذلك القول في العدديات))( 4)
فالهندسة الإقليدية القديمة علم استنباطى مبنى على مصادرات أو مسلمات منها: أن القطع المستقيمة الخارجة من مركز الدائرة إلى محيطها متساوية، يمكن أن يبنى عليها قواعد أخرى تتفاوت فى تعقيدها مثل: المثلث الذى قاعدته على محيط الدائرة ورأسه مركز الدائرة متساوى الساقين ، والعمود الساقط من مركز الدائرة على أى وتر فيها ينصفه، والزاوية المحيطية تساوى نصف الزاوية المركزية المشتركة معها فى القوس .. فهذه يمكن أن يدركها المرء بمزيد من التأمل يختلف كلما زاد تركيب القاعدة، و لا يقال إن بعضها نظرى والآخر ضرورى بل كلها تشترك فى نفس النوع والخلاف بينها فقط فى طول الفكر أو قصره، ولا يمكن أن يقال إن بعضها يدرك بإعمال النظر دون البعض الآخر بل إن بعضها يدرك بإعمال نظر أكثر من الآخر .
والثانى : التفاوت فى حدة القرائح وكلالها :
ذلك أن المرء قد((يفكر فيطيل فكره أو يقصره على التفاوت في احتداد القرائح وكلالها فيعلم من غير وسيلة ما يسمى دليلا))( 5)
وهنا يفرق إمام الحرمين بين أمرين:
الأول: ما تتفاوت القرائح بحيث يوصف أحدها بالحدة، ويوصف الآخر بالكلال، ويضاف إليه أيضا نشاط العقل وتبلده حيث إن بعض القرائح قد تتميز بالحدة ولكن تصاب بنوع من التبلد لعارض ما.
((أما ما يحمل على تبلد العقل فهو ما يقتضيه طارئ من الاعتلال أو الاختلال، ولا يكاد ينكر ذلك العاقل من نفسه، ثم يتصدى له طوران أحدهما أن يعلم قصوره والمطلوب مضطرب العقل، والثاني أن يتمارى أنه مضطرب العقل أم لا.. وبالجملة لا يحكم لمن هذا حاله بتوقف العقل كحكمنا الأول فيما تقدم ))(6 )
وهذا يختلف عن محارات العقول والتى يصعب على العقول النفوذ فيها، وكذلك تختلف عن مواقف العقول التى لا يمكن للعقل أصلا أن يخوض فيها ولا علاقة لذلك بكلاله أو تبلده ((ومما يتعين على الطالب الاهتمام به في مضايق هذه الحقائق أن يفصل بين موقف العقل وبين تبلده وقصوره لفرض عوائق تعوق))(7 ).
وهذه الأمور يمكن تمييزها عن غيرها، وتسمى بمحارات العقل: يقول إمام الحرمين : ((فنقول لا يجول العقل في كل شيء بل يقف في أشياء وينفذ في أشياء ..
فإذا تقرر ذلك فالقول الضابط في مقصود الفصل أن كل ما يتجه فيه تقسيم مضبوط وينقدح تعيين أحدهما فهو الذي يتطرق العقل إليه، وما لا ينضبط فيه التقسيم أو ينضبط ولا يهتدي العقل مع الفكر الطويل إلى تعيين أحدهما فهو من محارات العقل ))( 8)، ويمثل لذلك بمسألة الرؤية فيقول :((جواز رؤية الباري سبحانه وتعالى من النظر في أن مصحح الرؤية ماذا، فهذا وقبيله لا يحصره النفى والإثبات؛ فلا ينتهي النظر فيه قط إلى العلم))( 9)
وأما مواقف العقل والتى لا يمكن للعقل أصلا أن يتناولها فهى ((الإحاطة بأحكام الإلهيات على حقائقها وخواصها، فأقصى إفضاء العقل إلى أمور جملية منها، والدليل القاطع في ذلك رأى الإسلاميين أن ما يتصف به حادث موسوم بحكم النهاية يستحيل أن يدرك حقيقة مالا يتناهى، وعبر الأوائل عن ذلك بأن قالوا: تصرف الإنسان في المعقولات بفيض ما يحتمله من العقل عليه ويستحيل أن يدرك الجزء الكل ويحيط جزء طبيعي له حكم عقلي بما وراء عالم الطبائع.
وهذه العبارات وإن كانت مستنكرة في الإسلام فهى محومة على الحقائق، ولكن لا يعدم العاقل العلم بكلى ما وراء عالم الطبائع، فأما الاحتواء على الحقيقة فهو حكم سلطنة الكل على الجزء ))(10 ).
وكذلك العلم بحقائق الأشياء وكنهها((وقد صار معظم الأوائل إلى أن درك خواص الأجسام وحقائقها من مواقف العقول ))( 11)
ثم بعد أن يصل الإنسان إلى درك تلك العلوم فلا فرق بينها فالعلم بها جميعا فى نفس القوة، وهو ضرورى من الضرورة بمعنى الإكراه والإجبار على الاعتقاد فى صحته وعدم الشك فيه وإلا لم يكن ذلك علما .
هذا هو مذهب إمام الحرمين فى تقسيم العلوم إلى ضرورى ونظرى و الذى يعرف بمذهبه فى الضرورى لكن هذه التسمية قد توقع فى اللبس فهو لا يعنى بالضرورة هنا- باستثناء عبارة: لا حاصل للتفريق بين الضرورى والنظرى – لا يعنى المعنى الاصطلاحى الذى نتحدث عنه بل المعنى اللغوى أى الإكراه والإلجاء أى أن الإنسان يكون مضطرا ومجبرا على التصديق بما تحصل له من علوم أما المعنى الاصطلاحى وهو ما لا يحتاج إلى نظر واستدلال فيعترف به لكن على أساس أنه غير مطلق بل نسبى يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال ويسميه بدلا من الضرورى المهجوم عليه .
وهذا المذهب بغض النظر عن التسميات والمصطلحات هو الأقرب للواقع؛ فوضع حد مطرد يفصل بين الضرورى والنظرى دائما ولدى جنس العقلاء مجرد تقسيم صورى وإنما يؤخذ بمثل تلك التقسيمات الصورية بهدف التحليل والتنظير فى كتب المنطق ومناهج البحث عند الحديث عن البراهين، وقد ذهب ابن تيمية مذهب إمام الحرمين فى كتابه المعروف بـ ((نقض المنطق)) وقال:(( ليس بين ما يمكن أن يعلم ابتداء من العلوم البديهية وما لا يجوز أن يعلم فصل يطرد ؛ بل هذا يختلف باختلاف قوة العقل وصفائه وكثرة إدراك الجزئيات التي تعلم بواسطتها الأمور الكلية .))(12 )
اللهم إلا إن كان بين عبارته ((قوة العقل وصفائه)) وعبارة إمام الحرمين ((حدة القرائح وكلالها)) فرقا يذكر .
يقول ابن تيمية : ((.. وهذا مما اعترفوا به هم وجميع بنو آدم أن من التصورات والتصديقات ما هو بديهى لا يحتاج إلى كسب بالحد والقياس وإلا لزم الدور والتسلسل.
وإذا كان كذلك فنقول إذا جاز هذا فى علم كلى جاز فى آخر، إذ ليس بين ما يمكن أن يعلم ابتداء من العلوم البديهية وما لا يجوز أن يعلم فصل يطرد، بل هذا يختلف باختلاف قوة العقل وصفاؤه، وكثرة إدراك الجزئيات التى نعلم بها الأمور الكلية ))( 13) ولم يكتف ابن تيمية بذلك بل إنه كان ينتقد فكرة وضع الحد بين الضرورى والنظرى ذكرها فى أكثر من موضع ينتقد فيه مذهب المتكلمين وطريقتهم وقال إن طريقة المتكلمين هى تقسيم العلم إلى ضرورى ونظرى(14 )
والسؤال الآن :
ألا يتعارض ذلك مع ما ورد فى المسودة من أن العلوم تنقسم إلى ضرورى ونظرى حيث قال: ((ومدارك العلوم تنقسم إلى ضرورى ونظرى؛ فالضروريات التى تبنى مبادئ فكر العقلاء عليها، والنظريات العقليات والسمعيات على ما سيأتى تفصيله، فالضروريات تقع بقدرة الله تعالى غير مقدورة للعباد، والنظريات -عند الأكثرين- مقدورة بالقدرة الحادثة))؟(15 )
والجواب :
ليس فى ذلك تعارض؛ لأنه عندما قسم العلوم إلى ضرورى ونظرى بحسب القسمة الصورية لم يذكر حدا حقيقيا للضرورى بل عرفه بحسب المدرِك له وما يخلقه الله تعالى فيه، ولم يذكر أن العقول تتحد وأن ما يراه زيد ضروريا يجب أن يراه عمرو كذلك كما يفعل المتكلمون حين يستدلون بتلك القسمة على أن إيمان المقلد لا يصح فيقولون: إن العلوم تنقسم إلى ضرورى: وهو ما لا يحتاج لنظر واستدلال، ونظرى: وهو ما يحتاج إلى نظر واستدلال،وأن ما ليس بضرورى فهو نظرى، وأن معرفة الله تعالى ليست ضرورية وإلا لما وقع فيها الخلاف بين العقلاء؛ فهى إذن نظرية يتطلب تحصيلها نظرا واستدلالا.. فمن لم يقدم النظر والاستدلال فى طريق معرفة الله تعالى فلا يحصلها .. هذه هى طريقة المتكلمين حين يفترضون تقسيمات ويطبقونها على واقع الأشخاص ويستخرجون منها أحكاما تتعلق بالعقيدة، وهى الطريقة التى انتقدها ابن تيمية، أما القول بأن لدى كل شخص علم ضرورى أودعه الله تعالى فيه ،لا يحتاج إلى نظر، يتفق فيه مع غيره أو لا يتفق،تضيق فيه دائرة الاتفاق بين العقلاء حتى لا تشمل سوى صاحبها كالإلهاميات أو تتسع حتى تكاد تشملهم جميعا كالبديهيات ، وأن هذا العلم الضرورى يمكن أن ينبنى عليه غيره من العلوم .. فهذا من الأمور المسلمة لدى ابن تيمية .
والخلاصة من هذا المبحث أنه يمكن القول بأن العلوم الضرورية موجودة ووجودها أوضح من أى دليل يمكن أن يستدل به عليها لكنها تختلف من شخص لآخر بحسب حدة القرائح وكلالها .
---------
(1 ) انظر آل تيمية: المسودة فى أصول الفقه ، تحقيق محيى الدين عبد الحميد ، المدنى القاهرة 501
(2 ) الجوينى إمام الحرمين :البرهان فى أصول الفقه ،تحقيق د/ عبد العظيم محمود الديب ، دار الوفاء بالمنصورة ،ط4 ، 1418 .1/103
(2 ) السابق 1/111
(4 ) السابق 1/112
(5 ) السابق والصفحة
(6 ) السابق 1/114
(7 ) السابق 1/113
(8 ) السابق 1/112-113
(9 ) السابق 1/113
(10 )السابق 1/114
(11 )السابق 1/114-115
(12 )ابن تيمية : نقض المنطق تحقيق محمد بن عبد الرازق حمزة ، وسليمان الصنيع ،وصححه محمد حامد الفقى ، مكتبة اللسنة المحمدية القاهرة ،ص 207-208
(13 )انظر السابق والصفحة
(14 ) انظر ابن تيمية : مجموع الفتاوى تحقيق أنور الباز ،و عامر الجزار ، دار الوفاء، ط3 ، 1426 - 2005 م. 13/70 ، الفتاوى الكبرى تحقيق أحمد عبد القادر عطا ، مصطفى عبد القادر عطا دار الكتب العلمية الطبعة الأولى 1408هـ - 1987م، 6/477
( 15) انظر آل تيمية : المسودة ص 50