بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبى الأمى الذى أرسله ربه معلما ومربيا وهاديا للناس أجميعن وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثره وسار وفق شريعته إلى يوم الدين ، أما بعد .
فليس من المصادفة أن نجد الأصوليين لا يستدلون على حجية القياس من الكتاب والسنة فقط بل ويستشهدون بالنصوص من القرآن والسنة على جدوى هذا المسلك وعلى كونه ضرورة من الضرورات لا تستقيم الحياة بدونها .
فيقولون إن التعبد بالقياس جائز عقلا وواقع شرعا عند الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة رحمهم الله واستدلوا لإثباته بأدلة كثيرة منها:
1- قوله تعالى:﴿ فاعتبروا يا أولى الأبصار ﴾(1 ) والاعتبار من العبور وهو الانتقال من شيء إلى آخر والقياس فيه انتقال بالحكم من الأصل إلى الفرع فيكون مأمورا به.
2- ما ورد فى الحديث المشهور من تصويب النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضى الله عنه حين قال: إنه يجتهد حيث لا كتاب ولا سنة فإن الاجتهاد حيث لا نص يكون بالإلحاق بالمنصوص ، فعن معاذ رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن فذكر كيف تقضي إن عرض لك قضاء قال أقضي بكتاب الله قال فإن لم يكن في كتاب الله قال فسنة رسول الله قال فإن لم يكن في سنة رسول الله قال أجتهد رأيي ولا آلو قال فضرب صدري فقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسوله (2 ).
3- ما ورد من تنبيه على أصل التعليل وأن الحكم يدور مع علته وهو أصل القياس سواء فى العقليات أو الشرعيات ومن ذلك حديث بيع التمر بالرطب، فعن سعد بن أبى وقاص ط قال : سئل رسول الله عن اشتراء الرطب بالتمر فقال رسول الله : أبينهما فضل ؟ قالوا : نعم الرطب ينقص فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فلا يصح وفى رواية (( أينقص الرطب إذا يبس ؟ قالوا نعم . قال فلا إذا .)) (3 )
فلو لم يكن ذكر تقدير نقصان الرطب بالجفاف لأجل تقرير أصل التعليل لكان تقديره بعيدا ؛ إذ لا فائدة فيه حينئذ والجواب يتم دونه .
4- وقد طبق النبى منهج البحث العلمى الذى استمده الأصوليون من القرآن والسنة ليس فقط فى المجال الشرعى – على أساس أنه كان يجتهد فى الشرع – بل وفى مجالات العلوم الأخرى ليبين للناس هذا المبدأ العظيم ليستعملوه فى حياتهم .
فمثلا فى علم النبات نجد الحديث الذى رواه ابن ماجة وابن حبان عن عائشة عن عائشة وعن ثابت عن أنس أن النبى -- مر بقوم يلقحون فقال « لو لم تفعلوا لصلح ». قال فخرج شيصا فمر بهم فقال « ما لنخلكم ». قالوا قلت كذا وكذا قال « أنتم أعلم بأمر دنياكم ». (4 )
فإما أنه كان يرشدهم لمبدأ التجربة أو أنه يرشد لمبدأ القياس فى علم النبات وأنه مشروط بالخبرة العملية أو أنه أراد الأمرين معا ،وفى الحديث فوائد لا تحصى سواء فيما يتعلق بالمنهج أو بالعقيدة .
وفى مجال علم الحيوان نجد قصة الرجل الذي ولدت امرأته غلاما أسود، فمثل له النبى بالإبل الحمر التي يكون الأورق من أولادها،ففى الصحيح عن أبى هريرة أن أعرابيا أتى رسول الله -- فقال يا رسول الله إن امرأتى ولدت غلاما أسود وإنى أنكرته. فقال له النبى -- « هل لك من إبل ». قال نعم. قال « ما ألوانها ». قال حمر. قال « فهل فيها من أورق » قال نعم. قال رسول الله -- « فأنى هو ». قال لعله يا رسول الله يكون نزعه عرق له. فقال له النبى -- « وهذا لعله يكون نزعه عرق له »(5 ).
ووجه الاستدلال من القصة: أن النبي قاس ولد هذا الرجل المخالف للونه بولد الإبل المخالف لونه لألوانها، وذكر العلة الجامعة وهي نزع العرق.
وفى مجال المعاملات والحقوق جاء فى الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالت إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها ؟ قال ( نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضية ؟ . اقضوا الله فالله أحق بالوفاء )( 6) فهو تنبيه منه على قياس دين الخلق على دين المخلوق بقياس الأولى.
ومن الواضح جدا أن النبى كان يعلمهم هذا النوع من الاستدلال وقد قصد لذلك وإلا لقال لها : حجى عنها ، ولانتهى الأمر وربما كان ذلك أبلغ وأسهل لولا أن المقصود من وراء ذلك إرشاد الأمة وتعليمها بهذا المنهج، وأن ذلك فى حد ذاته مطلب شرعى .
ونفس الأمر ينطبق على حديث عمر رضى الله حين سأله عن القبلة للصائم فقال (( أرأيت لو تمضمضت))(7 ) ..
فالقياس الأصولى نشأ بدوافع شرعية ،وقام على أسس إسلامية مستمدة من القرآن والسنة؛ ولذلك أهمية كبرى خاصة بالنظر إلى الجو العلمى الذى كان يسود العالم فى تلك الحقبة والذى اعتمد فى أحسن أحواله على مناهج غير عملية كبلت العقل وساهمت فى جمود البحث العلمى والتفكير العملى فى شتى المجالات ، و ليس من المألوف فى أى حضارة من الحضارات حدوث تحول منهجى فى طريقة البحث بهذا الشكل بل لعلها المرة الوحيدة التى حدث فيها هذا التحول الهائل والذى لا يدرك أبعاده إلا المشتغلين بعلم المنهج.
------
(1 ) سورة الحشر :2
(2 ) الحديث أخرجه أحمد (36/333، رقم 22007) ، وأبو داود (3/330، رقم 3594) ، والترمذى (3/616، رقم 1327) ، الدارمى ( سنن الدارمى1/72، رقم 168) من حديث الحارث بن عمرو عن ناس من أصحاب معاذ رضى الله عنه ، قال الترمذى: لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وليس إسناده عندى بمتصل، قال ابن الجوزى :(( هذا حديث لا يصح وان كان الفقهاء كلهم يذكرونه في كتبهم ويعتمدون عليه ولعمرى إن كان معناه صحيحا إنما ثبوته لا يعرف لأن الحارث بن عمرو مجهول وأصحاب معاذ من أهل حمص لا يعرفون وما هذا طريقه فلا وجه لثبوته)) ( العلل المتناهية فى الأحاديث الواهية ، تحقيق خليل الميس ، دار الكتب العلمية بيروت ، ط1 ، 1403، 2/759)
(3 ) رواه أحمد ( 2/122، رقم 1544)،والترمذى ( 2/528،رقم 1225) ،والنسائى (4/22، رقم 6137)، وابن ماجة (2/761، رقم 2264)، والبيهقى ( 5/295، رقم 10868)، والحاكم ( 2/50، رقم 2283 ) وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبى ، وقال الترمذى هذا حديث حسن صحيح .
(4 ) رواه مسلم (7/95، رقم 6277).
( 5) رواه مسلم (4/212 ، رقم 3841)
( 6) رواه البخارى (2/656 ، رقم 1754)
( 7) خرجه أحمد (1/21 ، رقم 138) ، وأبو داود (2/311 ، رقم 2385) ، والنسائى (2/198، رقم 3048) ، والدارمى (2/22 ، رقم 1724) ، وابن حبان (8/313 ، رقم 3544) ، و الحاكم (1/596 ، رقم 1572) وقال : صحيح على شرط الشيخين .