تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 21 إلى 40 من 45

الموضوع: الكبائر

  1. #21
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (21)

    لبس الحرير والذهب للرجال

    (موعظة الأسبوع)

    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    المقدمة:

    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

    - ومن الكبائر المهلكة (لبس الحرير والذهب للرجال): قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَن لبسَ الحريرَ في الدُّنيا، لم يلبَسهُ في الآخِرةِ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (*حُرِّمَ *لِبَاسُ *الحَرِيرِ *وَالذَّهَبِ *عَلَى *ذُكُورِ *أُمَّتِي *وَأُحِلَّ *لِإِنَاثِهِمْ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

    (1) أدلة تحريم الحرير والذهب على الرجال:

    - عن حذيفة -رَضِيَ اللَّهُ عنْه- قال: "نَهَانَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَأَنْ نَأْكُلَ فِيهَا *وَعَنْ *لُبْسِ *الْحَرِيرِ *وَالدِّيبَاجِ، وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ" (متفق عليه)، قال الحافظ الذهبي في كتاب الكبائر: "مَن استحل لبس الحرير من الرجال فهو كافر".

    - ولما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في يد رجل خاتمًا مِن ذهب فنزعه، وقال: (يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إلى جَمْرَةٍ مِن نَارٍ فَيَجْعَلُهَا في يَدِهِ) (رواه مسلم).

    - صور من الاستعمال المحرم: (الخواتم والحلق - الساعات - الأنسيال - القلائد - ...).

    (2) حكمة تحريم الحرير والذهب على الرجال:

    - بداية المسلم مستسلم لأمر ربه ونهيه؛ سواء ظهرت له الحكمة أو لم تظهر(1): (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) (النور: 51)، وقال -تعالى-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (الأحزاب: 36).

    - أما حكمه التحريم، فأقرب الأقوال في ذلك: "بِأَنَّهُ خُلِقَ فِي الْأَصْلِ لِلنِّسَاءِ كَالْحِلْيَةِ بِالذَّهَبِ، فَحَرُمَ عَلَى الرِّجَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَفْسَدَةِ تَشَبُّهِ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: حَرُمَ لِمَا يُورِثُهُ مِنَ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَالْعُجْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: حَرُمَ لِمَا يُورِثُهُ بِمُلَامَسَتِهِ لِلْبَدَنِ مِنَ الْأُنُوثَةِ وَالتَّخَنُّثِ، وَضِدُّ الشَّهَامَةِ وَالرُّجُولَةِ) (زاد المعاد).

    فوائد في مسائل:

    - من عظيم محاسن الشريعة، أنها جعلت تيسيرًا في الأحكام عند الأعذار: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78)، (مَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) (البقرة: 137).

    - يجوز استعمال الذهب بديلًا عن السن والأنف إذا دعت الضرورة: عن عبد الرحمن بن طرفة أنَّ جده عرفجةَ بنَ أسعدَ، "أنَّه قُطِع أنفُه يومَ الكلابِ فاتَّخذ أنفًا من ورِقٍ، فأنتن عليه، فأمره النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، فاتَّخذ أنفًا من ذهبٍ" (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).

    - كذا يجوز لبس الفضة للرجال بشرط عدم الإسراف أو التشبه بالنساء: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "اتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- خاتمًا من فضة، وجعل فصه مما يلي كفه، ونقش فيه: محمد رسول الله" (رواه البخاري)، وقال -تعالى-: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) (الأعراف: 32)، ولم يرد شيء بتحريم الفضة على الرجال.

    - ويجوز لبس الحرير للمريض بالحكة ونحوه، وعند لقاء العدو: عن أنس -رَضِيَ اللَّهُ عنْه-: "رَخَّصَ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، أَوْ رُخِّصَ لِلزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ في لُبْسِ الحَرِيرِ لِحِكَّةٍ كَانَتْ بهِمَا" (متفق عليه).

    - يحرم تزين الصبيان بالذهب؛ لأنهم داخلون في ذكور الأمة، ولضرره عليهم في التعود على لبسه.

    - يجوز لبس ما يسمى بالحرير الصناعي؛ لأنه ليس حريرًا، والأورع تركه؛ لما فيه من التشابه الشديد بالحرير: قال -صلى الله عليه وسلم-: (فمنِ اتَّقى الشُّبُهاتِ استبرأ لدِينِه وعِرضِه) (متفق عليه).

    (3) خاتمة: الذهب والحرير زينة أهل الجنة:

    - مَن أطاع الله في الدنيا بامتثال أوامره، عوَّضه الله في الجنة من جنس عمله، مع الفارق بين الدارين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*مَنْ *لَبِسَ *الْحَرِيرَ *فِي *الدُّنْيَا *لَمْ *يَلْبَسْهُ *فِي *الْآخِرَةِ) (متفق عليه).

    - لما امتنعوا عن المحرمات في الدنيا، جعل الله لهم في الجنة من جنسها أفضلها وأعظمها: قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا . أُولَ?ئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا) (الكهف: 30-31)، وقال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) (الحج: 23)، وقال -تعالى-: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَ?لِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ . جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) (فاطر: 32-33)، وقال -تعالى-: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ . فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ) (الدخان: 51-53)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أهل الجنة: (آنِيَتُهُمُ الذَّهَبُ والفِضَّةُ، وأَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ...) (متفق عليه)، وعن انس -رَضِيَ اللَّهُ عنْه- قال: أُهْدِيَ للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم- جُبَّةُ سُنْدُسٍ -الرقيق من الحرير-، وكانَ يَنْهَى عَنِ الحَرِيرِ، فَعَجِبَ النَّاسُ منها، فَقالَ: (والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ في الجَنَّةِ أحْسَنُ مِن هَذَا) (متفق عليه).

    - شبهة: كيف حرمه الله على الرجال في الدنيا، ثم يحله لهم في الآخرة؟

    - الجواب: ليس هناك تلازم بين المحرمات في الدنيا وإباحتها في الآخرة، ولا الواجبات في الدنيا على عدم وجوبها في الآخرة، فلا تقاس أحكام الدنيا على الآخرة، قال -تعالى-: (*مَثَلُ *الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) (محمد: 15)، وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (يَدْخُلُ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ جُرْدًا مُرْدًا مُكَحَّلِينَ أَبْنَاءَ ثَلاَثِينَ أَوْ ثَلاَثٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).

    فاللهم إنا نسألك الجنة وما يقرِّب منها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما يقرب منها من قول وعمل.

    والحمد لله رب العالمين.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ

    (1) عموم العبادات لا تظهر لها حكمة ظاهرة، وإنما هي من باب الامتثال والطاعة لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، مثل: (عدد الركعات في الصلاة - الوضوء - إلخ).





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #22
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (22)

    اليأس والقنوط

    (موعظة الأسبوع)



    كتبه/ سعيد محمود
    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
    المقدمة:
    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
    - اليأس من كبائر الأعمال، والمنكرات الجسام، وقبيح الخصال، وقد وَرَد في حقِّه شديد العقاب والوبال: قال -تعالى-: (وَلَا تَيْأَسُوا *مِنْ *رَوْحِ *اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ *مِنْ *رَوْحِ *اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87)، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن رجلًا قال يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْكَبَائِرُ؟ قَالَ: (الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالْإِيَاسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ الله) (رواه البزار في مسنده، وحسنه الألباني).
    - المقصود باليأس والقنوط: اليأس هو شعور يصيب الإنسان كدليل على فقدان الأمل في تحقيق أمر ما، وقد يؤدي اليأس اٍلى تحريك مشاعر وعواطف أخرى، مثل: الاكتئاب والإحباط، والقنوط هو أشد اليأس.
    (1) صور لليأس والقنوط:
    - اليأس والقنوط من مغفرة الله الذنوب: قال -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53).
    - اليأس والقنوط من زوال الشدائد وتفريج الكروب: قال -تعالى-: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا *مِنْ *رَوْحِ *اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ *مِنْ *رَوْحِ *اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87).
    - اليأس والقنوط من توبة الفاسقين، وتبدل الحال للأفضل، بما يكون فيه منعٌ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قال -تعالى-: (وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُون) (الأعراف: 164).
    - القنوط من نصر الدِّين، والتمكين للمؤمنين: عن خباب بن الأرت قال: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلَا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: (قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ *بِالْمِنْشَارِ *فَيُوضَعُ *عَلَى *رَأْسِهِ *فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ، وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) (رواه البخاري).
    (2) ذم اليأس والقنوط:
    - أطلق الغفور الرحيم -سبحانه- الدعوة لجميع العُصاة من الكفرَة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، ونهاهم عن اليأس والقنوط، وأخبر بأنه -تعالى- يغفر الذنوب جميعًا لمَن تاب منها ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت، قال -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53).
    - وعاب -سبحانه وتعالى- على الجاهلين بحكمته وقدرته، بحيث يفرحون بالنعم، وييأسون ويقنطون من زوال المحن والشدائد إذا أصابتهم: قال -تعالى-: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ) (الروم: 36)، وقال -تعالى-: (إِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا) (الإسراء: 83).
    - ووصف -سبحانه- اليائسين القانطين المستبعدين للفرج بوصف الكافرين: قال -تعالى-: (*وَلَا *تَيْأَسُوا *مِنْ *رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87).
    - وبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- عظيم رحمة الله للمؤمن والكافر إذا لم ييأس ويقنط: قال: (*إِنَّ *اللهَ *خَلَقَ *الرَّحْمَةَ *يَوْمَ *خَلَقَهَا *مِائَةَ *رَحْمَةٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً، فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ، لَمْ يَيْئَسْ مِنَ الْجَنَّةِ) (رواه البخاري).
    - وحذَّر النبي المسلم من اليأس والقنوط من تغيُّر الأحوال، وحرض على مواصلة الدعاء والسؤال والسعي في الأسباب: قال: (لَا *يَزَالُ *يُسْتَجَابُ *لِلْعَبْدِ *مَا *لَمْ *يَدْعُ *بِإِثْمٍ، *أَوْ *قَطِيعَةِ *رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الِاسْتِعْجَالُ ؟ قَالَ: (يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَيَدَعُ الدُّعَاءَ) (متفق عليه).
    (3) أعظم أسباب اليأس والقنوط:
    - الجهل بالله وصفاته وعظيم رحمته(1): قال -تعالى- في الحديث القدسي: (يَا ابْنَ آدَمَ: إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ: لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِ ي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ: إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
    وقال -تعالى-: (قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) (الحجر: 56)، وقال -تعالى-: (*وَلَا *تَيْأَسُوا *مِنْ *رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87).
    - العجلة وعدم التأني: قال النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا *يَزَالُ *يُسْتَجَابُ *لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ ؟ قَالَ: (يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَيَدَعُ الدُّعَاءَ) (متفق عليه).
    (4) علاج اليأس والقنوط:
    1- حسن الظن بالله والتعبد له بأسمائه وصفاته: قال -تعالى-: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا *مِنْ *رَوْحِ *اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ *مِنْ *رَوْحِ *اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87)، وقال -تعالى-: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف: 156)، وقال -تعالى-: (*سَيَجْعَلُ *اللَّهُ *بَعْدَ *عُسْرٍ *يُسْرًا) (الطلاق: 7)، وقال: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (الشرح: 5-6).
    2- معرفة حقيقة الدنيا والزهد فيها: فيعلم المؤمن أن هذه هي الدنيا، فما فيها مِن لذة إلا مكدرة، وأنها لا تصفو لأحدٍ، وأنه لن يستريح إلا في جنة الله في الآخرة، قال -تعالى- عن أهل الجنة ساعة دخولها: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ . الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) (فاطر: 34-35)؛ ولذا لما سُئِل الإمام أحمد: "متى الراحة؟ قال: عندما تضع أول قدميك في الجنة" (المقصد الأرشد).
    3- الإكثار من الدعاء، فالله هو القادر على رفع البلاء: قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ، فَقَالَ: اللهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، ابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلَّا *أَذْهَبَ *اللهُ *هَمَّهُ وَحُزْنَهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا)، قَالَ: فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا نَتَعَلَّمُهَا؟ فَقَالَ: (بَلَى، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
    4- الإكثار من الذكر والصلاة: قال -تعالى-: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة: 45)، وعن حذيفة -رضي الله عنه- قال: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا *حَزَبَهُ *أَمْرٌ، صَلَّى" (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
    خاتمة:
    - مهما عظم المصاب فلا تيأس: قال الله -تعالى-: (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ) (الحجر: 56) (1).
    - يعقوب -عليه السلام- بعد طول السنين ينتظر الروح والفرج، ويبعث أولاده بالأمل في الله: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا *مِنْ *رَوْحِ *اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ *مِنْ *رَوْحِ *اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87).
    - النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه في الغار والكفار بأسلحتهم فوق رأسيهما: (يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا) (متفق عليه)، (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (التوبة: 40).
    اللهم اشرح صدورنا، وفرِّج كروبنا، ويسِّر عسرنا.
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــــ
    (1) فمَن عَلِم أن الله هو الرزاق لم ييأس إذا أصابه الفقر، ومَن علم أن الله هو الشافي لم ييأس إذا أصابه المرض، ومَن علم أن الله هو القوي القهار لم ييأس إذا قهره ظالم، وهكذا في سائر الأقدار والأحوال.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #23
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (23)

    الغيبة

    (موعظة الأسبوع)



    كتبه/ سعيد محمود
    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
    المقدمة:
    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
    - الغيبة من الكبائر الخطيرة، والمنكرات المفسدة، والأخلاقيات القبيحة؛ لما لها من أثر عظيم في الإفساد بين الناس، وقد جاء الدليل على كونها من الكبائر: قال -تعالى-: (وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) (الحجرات: 12).
    - الإشارة إلى أن الغيبة من أكثر الذنوب انتشارًا بين الناس: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَتَدْرُونَ *مَا *الْغِيبَةُ؟)، قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: (ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ)، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: (إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ) (رواه مسلم).
    - تفسيرات العلماء لمعنى الغيبة من خلال حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال ابن التين -رحمه الله-: "الغِيبة ذكر المرء بما يكرهه بظهر الغيب" (فتح الباري لابن حجر).
    وعرَّفها الجوهري بقوله: "أنْ يتكلَّم خلف إنسانٍ مستور بما يَغُمُّه لو سمعه، فإن كان صدقًا سُمِّيَ غِيبَةً، وإن كان كذبًا سمِّي بُهتانًا" (الصحاح في اللغة)، وقال المناوي -رحمه الله-: "هي ذكر العيب بظهر الغيب بلفظٍ، أو إشارةٍ، أو محاكاةٍ" (فيض القدير).
    - الفرق بين الغِيبة والنَّمِيمَة: الغيبةُ: ذكر الإنسان بما يكره لما فيها من مفسدة الأعراض. والنَّمِيمَة: أن ينقل إليه عن غيره أنه يتعرَّض لأذاه؛ لما فيها من مفسدة إلقاء البغضاء بين الناس. وسيأتي التفصيل في حديث منفرد عن النميمة.
    (1) ذم الغِيبة والنهي عنها:
    - الغيبة من الذنوب التي نَفَّر القرآن منها بما تستقذره نفوس الناس جميعًا: قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) (الحجرات: 12).
    قال الشوكاني -رحمه الله-: "فهذا نهي قرآني عن الغِيبة، مع إيراد مثل لذلك، يزيده شدَّةً وتغليظًا، ويوقع في النفوس من الكراهة والاستقذار لما فيه ما لا يقادر قدره، فإنَّ أكل لحم الإنسان من أعظم ما يستقذره بنو آدم جبلةً وطبعًا، ولو كان كافرًا أو عدوًّا مكافحًا؛ فكيف إذا كان أخًا في النسب، أو في الدين؟! فإنَّ الكراهة تتضاعف بذلك، ويزداد الاستقذار؛ فكيف إذا كان ميِّتًا؟! فإن لحم ما يستطاب ويحل أكله يصير مستقذرًا بالموت، لا يشتهيه الطبع، ولا تقبله النفس، وبهذا يعرف ما في هذه الآية من المبالغة في تحريم الغِيبة، بعد النهي الصريح عن ذلك" (الفتح الرباني).
    - وعَظَّم النبي -صلى الله عليه وسلم- من شأن الأعراض، والتي تنتهكها الغيبة وتعتدى عليها: فعن أبي بكرة -رضي الله عنه-: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال يوم النحر بمنى: (فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، *كَحُرْمَةِ *يَوْمِكُمْ *هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (*إِنَّ *مِنْ *أَرْبَى *الرِّبَا الِاسْتِطَالَةَ *فِي *عِرْضِ *الْمُسْلِمِ *بِغَيْرِ *حَقٍّ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
    - وحَذَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- من المفهوم الخاطئ عند كثيرٍ من الناس لمعنى الغيبة: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَتَدْرُونَ *مَا *الْغِيبَةُ؟)، قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: (ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ)، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: (إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ) (رواه مسلم)(1).
    - وحَذَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- مما يتساهل فيه أكثر الناس من الغيبة: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت للنَّبي -صلى الله عليه وسلم-: *حَسْبُكَ *مِنْ *صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا -تَعْنِي قَصِيرَةً-، فَقَالَ: (لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ). قَالَتْ: وَحَكَيْتُ لَهُ إِنْسَانًا، فَقَالَ: (مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إِنْسَانًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
    قال النووي -رحمه الله-: "هذا الحديث من أعظم الزواجر عن الغِيبة أو أعظمها، وما أعلم شيئًا من الأحاديث بلغ في ذمها هذا المبلغ؛ فإذا كانت هذه الكلمة بهذه المثابة، في مزج البحر، الذي هو من أعظم المخلوقات؛ فما بالك بغيبة أقوى منها؟!" (فيض القدير).
    (2) عقوبة المغتاب في الدنيا والآخرة:
    - يتتبع الله عورة المغتاب ويفضحه ولو في جوف بيته: عن أبي برزة الأسلمي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَا *مَعْشَرَ *مَنْ *آمَنَ *بِلِسَانِهِ، *وَلَمْ *يَدْخُلِ *الْإِيمَانُ *قَلْبَهُ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).
    - المغتاب يعطي حسناته لمَن اغتابه: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَتَدْرُونَ مَا *الْمُفْلِسُ؟)، قَالُوا: *الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ، وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: (إِنَّ *الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ) (رواه مسلم).
    قال الغزالي: "الغِيبة هي الصاعقة المهلكة للطاعات، ومَثَل مَن يغتاب كمَن ينصب منجنيقًا، فهو يرمي به حسناته شرقًا وغربًا، ويمينًا، وشمالًا!". وقال ابن المبارك: "لو كنت مغتابًا أحدًا لاغتبت والديَّ؛ لأنَّهما أحق بحسناتي" (شرح صحيح البخاري لابن بطال)، وعن الحسن البصري أنَّ رجلًا قال له: "إنك تغتابني، فقال: ما بلغ قدرك عندي أن أُحكمك في حسناتي" (الأذكار النووية).
    - المغتابون في الآخرة يعذَّبون بتعذيب أنفسهم: عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).
    خاتمة: كفارة الغيبة:
    - الغيبة من الكبائر، وكفارتها التوبة والندم، والاعتذار لمَن حدثت في حقه الغيبة إن كانت الغيبة قد بلغت الرجل: قال ابن تيمية -رحمه الله-: "ومَن ظلم إنسانًا فقذفه أو اغتابه أو شتمه ثم تاب قبِل الله توبته، لكن إن عرف المظلومُ مكَّنه مِن أخذ حقه، وإن قذفه أو اغتابه ولم يبلغه ففيه قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد، أصحهما: أنه لا يعلمه أني اغتبتك. وقد قيل: بل يحسن إليه في غيبته كما أساء إليه في غيبته، كما قال الحسن البصري: كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته".
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ ــــــــ
    (1) بَيَّن العلماء مفهوم الحديث، وأنه مشتمل على كلِّ ما يستعمل في عيب أخيه الغائب: (قال الغزالي: اعلم أن الذكر باللسان إنما حُرِّم؛ لأن فيه تفهيم الغير نقصان أخيك، وتعريفه بما يكرهه، فالتعريض به كالتصريح، والفعل فيه: كالقول والإشارة، والإيماء والغمز، والهمز، والكتابة، والحركة، وكل ما يفهم المقصود؛ فهو داخل في الغيبة وهو حرام" (إحياء علوم الدين).
    ما لا يُعد من الغيبة: قال النووي -رحمه الله-: "اعلم أنَّ الغِيبة تباح لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها، وهو ستة أبواب:
    الأول: التظلم، فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما مما له ولاية أو قدرة على إنصافه من ظالمه، فيقول: ظلمني فلان كذا.
    الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر، ورد المعاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يعمل كذا، فازجره عنه.
    الثالث: الاستفتاء، فيقول للمفتي: ظلمني أبي، أو أخي، أو زوجي، أو فلان بكذا.
    الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم.
    الخامس: أن يكون مجاهرًا بفسقه أو بدعته، كالمجاهر بشرب الخمر، وأخذ المكس، وغيره.
    السادس: التعريف، فإذا كان الإنسان معروفًا بلقب الأعمش، والأعرج، والأصم، والأعمى، والأحول، وغيره؛ جاز تعريفه بذلك.
    وجمعها الأمير الصنعاني في بيتين:
    الـذَّمُّ لـيس بغـِـيـبةٍ فـي سِـتَّـةٍ مـُتَـظَـلِّمٍ ومُـعَرِّفٍ ومُــحَــذِّرِ

    ولمُظْهِرٍ فِسْقًا ومُسْتَفْتٍ ومَنْ طَلَبَ الإعانة في إزالة مُنْكَرِ

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #24
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (24)

    النميمة

    (موعظة الأسبوع)




    كتبه/ سعيد محمود
    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
    المقدمة:
    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
    - النميمة من الكبائر الخطيرة، والمنكرات المفسدة، والأخلاقيات القبيحة؛ لما لها من أثر عظيم في الإفساد بين الناس، وقد جاء الدليل على كونها من الكبائر: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*لَا *يَدْخُلُ *الْجَنَّةَ *نَمَّامٌ) (متفق عليه)، وفي رواية: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ *قَتَّاتٌ) (متفق عليه).
    - النَّمِيمَة هي: نَقْلُ الحديث من قومٍ إلى قوم على جهة الإفْسادِ والشَّرِّ. وقيل هي: التحريش بين النَّاس والسعي بينهم بالإفساد.
    - الفرق بين الغيبة والنَّمِيمَة؟: قال ابن حجر -رحمه الله-: "النَّمِيمَة نقل حال شخص لغيره على جهة الإفساد بغير رضاه؛ سواء كان بعلمه أم بغير علمه. والغيبة ذكره في غيبته بما لا يرضيه، فامتازت النَّمِيمَة بقصد الإفساد، ولا يشترط ذلك في الغيبة. وامتازت الغيبة بكونها في غيبة المقول فيه، واشتركتا فيما عدا ذلك".
    (1) ذم النَّمِيمَة والترهيب منها:
    - النمام يمشي بين الناس، ويحرِّش بينهم ويفسد ذات البَيْن: قال -تعالى-: (*وَلَا *تُطِعْ *كُلَّ *حَلَّافٍ *مَهِينٍ . هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ . مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ . عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) (القلم:10-13).
    - النمام يوقع الخصومة والقطيعة بين الناس: عن عبد اللّه بن مسعود -رضي الله عنه- قال: إنَّ محمدًا -صلى الله عليه وسلم- قال: (*أَلَا *أُنَبِّئُكُمْ *مَا *الْعَضْهُ؟ هِيَ النَّمِيمَةُ الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ) (رواه مسلم)، قال المناوي: (الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ). أي: كثرة القول، وإيقاع الخصومة بينهما، فيما يحكي للبعض عن البعض. (فيض القدير).
    - النمام يفسد أشد من الساحر: ذكر ابن عبد البر عن يحيي بن أبي كثير قال: "يفسد النمام والكذاب في ساعة، ما لا يفسد الساحر في سنة" (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد)، وروي: "كادت النميمة أن تكون سحرًا" (إسناده ضعيف). ومن عجيب التصنيف ولطيفه: إيراد الشيخ محمد بن عبد الوهاب هذا الحديث في باب ما جاء في شيء من السحر، في كتاب التوحيد.
    - النَّمِيمَة تفسد الدِّين: قال النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ)، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: (صَلَاحُ ذَاتِ البَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ البَيْنِ هِيَ الحَالِقَةُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
    حكاية في أثر النميمة في الإفساد بين الناس:
    قال حماد بن سلمة: "باع رجل عبدًا، وقال للمشتري: ما فيه عيب إلا النَّمِيمَة. قال: رضيت، فاشتراه، فمكث الغلام أيَّامًا، ثم قال لزوجة مولاه: إنَّ سيدي لا يحبك، وهو يريد أن يتسرى عليك، فخذي الموسى واحلقي من شعر قفاه عند نومه شعرات، حتى أسحره عليها فيحبَّك، ثم قال للزَّوج: إنَّ امرأتك اتخذت خليلًا، وتريد أن تقتلك، فتناوم لها حتى تعرف ذلك، فتناوم لها، فجاءت المرأة بالموسى، فظن أنَّها تريد قتله، فقام إليها فقتلها، فجاء أهل المرأة فقتلوا الزَّوج، ووقع القتال بين القبيلتين" (إحياء علوم الدين للغزالي).
    (2) عاقبة النمام في الدنيا والآخرة:
    - النميمة من أعظم أسباب عذاب القبر: عن ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- قال: مَرَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: (إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ. ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً، فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ، فَغَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: *لَعَلَّهُ *يُخَفَّفُ *عَنْهُمَا *مَا *لَمْ *يَيْبَسَا) (متفق عليه)(1).
    - النمام متوعد بعدم دخول الجنة: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (*لَا *يَدْخُلُ *الْجَنَّةَ *نَمَّامٌ) (متفق عليه)، وفي رواية: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ *قَتَّاتٌ) (متفق عليه).
    - النمام متوعد بالويل والعذاب يوم القيامة: قال -تعالى-: (وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ) (الهمزة: 1)، قيل: اللُّمزة: النَّمَّام. عن أبي الجوزاء، قال: "قلتُ لابن عباس: مَن هؤلاء؟ هم الذين بدأهم الله بالويل؟ قال: هم المشاءون بالنَّمِيمَة، المفرِّقون بين الأحبَّة، الباغون أكبر العيب" (جامع البيان للطبري).
    (3) ما يتوجب على المسلم عند سماع النميمة؟:
    - تمهيد: كم من بيوت خربت، وكم من أوصال وأرحام قطعت، وكم من دماء سفكت، وكم من حقوق ضيعت؟! كل ذلك وغيره بسبب قبول سماع النميمة!
    1- عليه نصح النمام وزجره: قال النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: (*مَنْ *رَأَى *مِنْكُمْ *مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ *بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ) (رواه مسلم)، وقال الحسن: "مَن نَمَّ إليك نمَّ عليك" (من أقوال الشافعي).
    2- التحقق من مقولته: قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات: 6).
    3- ألا يتسرع بإبغاض المنقول عنه، أو الانتقام منه، بل يظن به خيرًا ما استطاع: قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ) (الحجرات: 12).
    خاتمة: ما يجوز من النميمة؟
    1- نميمة واجبة: وهي التي تكون للتحذير من شرٍّ واقع على إنسان ما، فيُخبر بذلك الشر ليحذره: قال ابن الملقن: "أمَّا إذا كان فعلها نصيحة في ترك مفسدة أو دفع ضرر، وإيصال خير يتعلق بالغير لم تكن محرمة ولا مكروهة، بل قد تكون واجبة أو مستحبة" (الإعلام بفوائد عمدة الأحكام)، وقال النووي: "وهذا كله إذا لم يكن في النقل مصلحة شرعية، وإلا فهي مستحبة، أو واجبة، كمَن اطلع مِن شخص أنه يريد أن يؤذي شخصًا ظلمًا فحذَّره منه" (فتح الباري لابن حجر).
    2- نميمة مباحة: إذا كانت لحاجة تقتضيها مصلحة المسلمين عامة، كالإيقاع بين الأعداء بعضهم بعضًا، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (*الْحَرْبُ *خَدْعَةٌ) (متفق عليه)، كما فعل نعيم بن مسعود في تفريقه بين كلمة الأحزاب وبين بني قريظة، فقد جاء إلى هؤلاء فنمى إليهم عن هؤلاء كلامًا، ونقل من هؤلاء إلى أولئك شيئًا آخر، ثم لأم بين ذلك، فتناكرت النفوس وافترقت.
    - وكالإصلاح ذات بين الناس: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، *فَيَنْمِي *خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا) (متفق عليه).
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ
    (1) قال السيوطي: (قد ذكر بعضهم السرَّ في تخصيص البول، والنَّمِيمَة، والغيبة بعذاب القبر، وهو: أنَّ القبر أول منازل الآخرة، وفيه أنموذج ما يقع في يوم القيامة من العقاب والثواب، والمعاصي التي يعاقب عليها يوم القيامة نوعان: حقٌّ لله، وحقٌّ لعباده، وأوَّل ما يقضى فيه يوم القيامة من حقوق الله: الصلاة، ومن حقوق العباد: الدِّماء، وأمَّا البرزخ فيقضى فيه في مقدمات هذين الحقين ووسائلهما، فمقدمة الصَّلاة: الطهَّارة من الحدث والخبث، ومقدمة الدَّماء: النَّمِيمَة والوقيعة في الأعراض، وهما أيسر أنواع الأذى، فيبدأ في البرزخ بالمحاسبة والعقاب عليهما).



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #25
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (25)

    الحسد

    (موعظة الأسبوع)




    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    المقدمة:

    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

    - الحسد من الكبائر الخطيرة، والصفات الذميمة، وهو مِن الأمراض القلبية التي تصيب بعض الناس بسبب الغيرة، وعدم الرضا بالقضاء، وقد جاء الدليل على كونه من الكبائر: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ: *الْإِيمَانُ *وَالْحَسَدُ) (رواه النسائي، وصححه الألباني).

    تعريف الحسد:

    - هو كره النعمة عند الغير وتمني زوالها، وقد روي في بعض الآثار الإلهية: "الحاسد عدو نعمتي، متسخط لفعلي، غير راضٍ بقسمتي التي قسمت لعبادي" (كتاب مختصر منهاج القاصدين).

    - بخلاف الغبطة -فهي حسد محمود-، وهي: أن يتمنى الإنسان أن يكون له مثل الذي عند الغير، دون تمني زوال تلك النعمة عن الغير، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (*لَا *حَسَدَ *إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ) (متفق عليه).

    أنواع الحسد:

    1- حسد الكفار للمسلمين:

    الكفار يحسدون المسلمين على نعمة الهداية، ومِنَّة التوفيق: قال -تعالى-: (*وَدَّ *كَثِيرٌ *مِنْ *أَهْلِ *الْكِتَابِ *لَوْ *يَرُدُّونَكُمْ *مِنْ *بَعْدِ *إِيمَانِكُمْ *كُفَّارًا *حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة: 109).

    2- حسد الأقران بينهم (المتشابهون في الأحوال والأعمال):

    "قيل لأحدهم: ما بال فلان يبغضك؟ قال: لأنه شقيقي في النَّسَب، وجاري في البلد، وشريكي في الصناعة"، فذكر جميع دواعي الحسد(1).

    - هذا النوع شاع وانتشر في الدنيا، وبسببه تقطعت كثيرٌ من الأواصر بين الناس، وبسببه حصلت الكراهية والبغضاء بين الأقارب والأنساب، وتنافر الناس عن بعضهم: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ، هِيَ الحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ *تَحْلِقُ *الدِّينَ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (*لَا *يَزَالُ *النَّاسُ *بِخَيْرٍ *مَا *لَمْ *يَتَحَاسَدُوا) (رواه الطبراني في المعجم الكبير، وحسنه الألباني).

    ذم الحسد والتنفير منه:

    - الحسد أول ذنب وقع في السماء: قال -تعالى-: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا . قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا) (الإسراء: 61-62).

    - الحسد أول ذنب وقع في الأرض، وذلك عندما حَسَد أحد ابني آدم أخاه فقتله، فأصبح من النادمين الخاسرين: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (*لَا *تُقْتَلُ *نَفْسٌ *ظُلْمًا *إِلَّا *كَانَ *عَلَى *ابْنِ *آدَمَ *الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ) (متفق عليه).

    - الحسد يورث البغضاء بين الناس؛ لأن الحاسد يبغض المحسود، وهذا يتنافى مع واجب الأخوة بين المؤمنين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا وَكُونُوا *عِبَادَ *اللهِ *إِخْوَانًا) (متفق عليه).

    آثار الحسد وخطورته:

    للحسد خطورة على صاحبه؛ فهو يورده المهالك -والعياذ بالله-، ومن ذلك:

    1- الحاسد معترض على قضاء الله -تعالى- وقَدَرِه، ويعارض أمر الله -تعالى-: قال -تعالى-: (*أَهُمْ *يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف: 32)، وقيل: "الحسود غضبان على القدر" (كتاب المستطرف في كل فن مستطرف).

    وقال الشاعر:

    أيـا حـاسـدًا لـي عـلى نعمتي أتدري على مَن أسأتَ الأدب

    أسـأت عـلـى الله فـي حـكـمه لأنك لـم تـرض لي ما وهـب

    فــأخـزاك ربـي بـأن زادنــي وسـدَّ عـليـك وجـوه الطـلـب

    2- الحاسد يصاب بالعجب والكبر؛ لأنه لا يحب أن يعلو عليه أحدٌ، بل يحب أن يكون شأنه الشأن الأعلى؛ كل ذلك طمعًا في الدنيا، وحب الظهور فيها: قال -تعالى-: (*تِلْكَ *الدَّارُ *الْآخِرَةُ *نَجْعَلُهَا *لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص: 83).

    3- الحاسد يصاب بالحقد والعداوة والبغضاء لأصحاب النعم؛ لأنها أمراض مقترنة بالحسد: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ، هِيَ الحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ *تَحْلِقُ *الدِّينَ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).

    4- الحاسد لا يهنأ له عيش: قال عمر -رضي الله عنه-: " يكفيك من الحاسد، أنه يغتم وقت سرورك" (كتاب أدب الدنيا والدين).

    وقال أبو الليث السمرقندي -رحمه الله-: "يصل إلى الحاسد خمس عقوبات قبل أن يصل حسده إلى المحسود: أولاها: غم لا ينقطع. والثانية مصيبة لا يؤجر عليها. والثالثة: مذمة لا يُحمَد عليها. والرابعة: سخط الرب. والخامسة: يغلق عنه باب التوفيق" (المستطرف للأبشيهي).

    علاج الحسد:

    1- أن يتذكر الحاسد ويعلم أن ما أصابه مِن خير فمَن الله، وما أصابه مِن شرٍّ فمِن نفسه، وأن قضاء الله واقع لا محالة، فالله يؤتي ملكه مَن يشاء، وينزعه ممَّن يشاء، ويعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، فربما كان عطاؤه استدراجًا؛ فليرضَ بما قَسَم الله، فالله -تعالى- حكم عدل، لا يظلم مثقال ذرة، يعطي ويمنع، فمَن أعطي عليه أن يشكر، ومن مُنع عليه أن يصبر، والصبر منزلة عظيمة لا يؤتاها أي إنسان، بل هو سبيل إلى الجنة، ورضا الرحمن -جل جلاله-.

    2- أن يستحضر الأدلة الواردة في التنفير من هذه الصفة الذميمة.

    3- أن يستشعر مدى الهم والغم الذى يلحق بالحاسد، وما يصيبه من أمراض عضوية، وآلام نفسية من جراء الحسد، قال أعرابي: "قاتل الله الحسد ما أعدله، بدأ بصاحبه فقتله"(2).

    4- أن يعلم أن ذلك ينافي الإيمان، ويفسد علاقته بالأحبة والإخوان: (*لَا *يُؤْمِنُ *أَحَدُكُمْ *حَتَّى *يُحِبَّ *لِأَخِيهِ *مَا *يُحِبُّ *لِنَفْسِهِ) (متفق عليه).

    5- أن يكثر الدعاء بأن يطهِّرَ الله قلبه من الحسد على غيره.

    نسأل الله أن يطهِّرَ قلوبنا من الحسد والحقد والغل، وأن يجعلنا إخوة متحابين متعاونين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأًصحابه أجمعين.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ ـــــ

    (1) فحسد الأقران نراه اليوم واضحًا جليًّا بين الأئمة والمعلِّمين، والخطباء، والبارزين في أعمالهم، ونراه بين الطلاب أنفسهم صغارًا وكبارًا، فيكثر الحسد أيام الاختبارات، وأثناء الحفلات والزيارات وغير ذلك. فحسد الأقران اليوم هو ما تعانيه الأمة الإسلامية قاطبة؛ يحسدون شخصًا؛ لأن الله مَنَّ عليه بالعلم الوافر، ويحسدون آخر؛ لأن الله -عز وجل- مَنَّ عليه بالخُلُق الجَمِّ، ويحسدون آخر؛ لمكانته العلمية أو لمكانته في المجتمع، أو لمنصبه الذي حباه الله إياه، أو لما أغدق الله عليه من الخيرات والأموال، أو لكثرة أولاده أو زوجاته، أو يحسدون المرأة لجمالها أو لحسن أدبها، وتربيتها وإجادة طبخها، وغير ذلك كثير؛ قال -تعالى-: (أمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ) (النساء: 54).

    (2) حكاية وعظية في الترهيب من الحسد: "حكي أن رجلًا من العرب دخل على المعتصم فقربه وأدناه وجعله نديمه، وصار يدخل عليه من غير استئذان، وكان له وزير حاسد، فغار من البدوي وحسده، وقال في نفسه: إن لم أحتل على هذا البدوي في قتله، أخذ بقلب أمير المؤمنين وأبعدني منه، فصار يتلطف بالبدوي حتى أتى به إلى منزله، فطبخ له طعامًا وأكثر فيه من الثوم، فلما أكل البدوي منه قال له: احذر أن تقترب من أمير المؤمنين فيشم منك فيتأذى من ذلك، فإنه يكره رائحته، ثم ذهب الوزير إلى أمير المؤمنين فخلا به وقال: يا أمير المؤمنين! إن البدوي يقول عنك للناس: إن أمير المؤمنين أبخر، وهلكت مِن رائحة فمه، فلما دخل البدوي على أمير المؤمنين، جعل كمه على فمه مخافة أن يشم منه رائحة الثوم، فلما رآه أمير المؤمنين وهو يستر فمه بكمه قال: إن الذي قاله الوزير عن هذا البدوي صحيح، فكتب أمير المؤمنين كتابًا إلى بعض عماله يقول فيه: إذا وصل إليك كتابي هذا فاضرب رقبة حامله، ثم دعا البدوي ودفع إليه الكتاب، وقال له: امضِ به إلى فلان، وائتني بالجواب، فامتثل البدوي ما رسم به أمير المؤمنين، وأخذ الكتاب وخرج به من عنده، فبينما هو بالباب إذ لقيه الوزير فقال: أين تريد؟ قال: أتوجه بكتاب أمير المؤمنين إلى عامله فلان، فقال الوزير في نفسه: إن هذا البدوي يحصل له من هذا التقليد مال جزيل، فقال له: يا بدوي ما تقول فيمن يريحك من هذا التعب الذي يلحقك في سفرك، ويعطيك ألفي دينار، فقال: أنت الكبير، وأنت الحاكم، ومهما رأيته من الرأي أفعل، قال: أعطني الكتاب فدفعه إليه، فأعطاه الوزير ألفي دينار، وسار بالكتاب إلى المكان الذي هو قاصده، فلما قرأ العامل الكتاب أمر بضرب رقبة الوزير، فبعد أيام تذكر الخليفة في أمر البدوي، وسأل عن الوزير، فأخبر بأن له أيامًا ما ظهر، وأن البدوي بالمدينة مقيم، فتعجب من ذلك، وأمر بإحضار البدوي فحضر، فسأله عن حاله، فأخبره بالقصة التي اتفقت له مع الوزير من أولها إلى آخرها، فقال له: أنت قلت عني للناس إني أبخر؟ فقال: معاذ الله يا أمير المؤمنين أن أتحدث بما ليس لي به علم، وإنما كان ذلك مكرًا منه وحسدًا، وأعلمه كيف دخل به إلى بيته وأطعمه الثوم وما جرى له معه، فقال أمير المؤمنين: قاتل الله الحسد ما أعدله، بدأ بصاحبه فقتله، ثم خلع على البدوي، واتخذه وزيرًا، وراح الوزير بحسده" (موسوعة قصص ونوادر العرب لإبراهيم شمس الدين).



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #26
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (26)

    الإسراف والتبذير

    (موعظة الأسبوع)



    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    المقدمة:

    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

    - الإسراف والتبذير من الذنوب المفسدة للدنيا والدين، وهو من كفران نعمة رب العالمين، ومن الكبائر الموبقات: قال الله -تعالى-: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31)، وقال -تعالى-: (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا . إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (الإسراء: 26-27).

    المقصود بالإسراف والتبذير:

    - قال الراغبُ الأصفهاني: "السَّرَفُ: تَجاوزُ الحدِّ في كلِّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ الإنسانُ، وإنْ كان ذلكَ في الإنفاقِ أشهر"، وقال الشافعيُّ: "التبذيرُ: إنفاقُ الْمَالِ في غيرِ حَقِّه"، والفرقُ بينهما كما قال الجرجاني: "الإسرافُ: *صرفُ *الشيءِ *فيما *ينبغي زائدًا على ما ينبغي؛ بخلاف التبذير؛ فإنه صرفُ الشيءِ فيما لا ينبغي".

    - من صور الإسراف: أن يقوم الشخص بملء طبقه من مائدة الطعام حتى لو لم يكن محتاجًا لذلك، فهذا يعني أنه أسرف في شيء مباح -أي: الطعام-؛ لأنه قد يأكل فقط نصف هذا الطبق والباقي سيرميه - الإسراف في الماء والكهرباء، والولائم وتجهيزات الزواج وحفلاته - استبدال الهواتف والأثاثات والسيارات دون حاجة - مواقع إلكترونية للأرقام المميزة للهواتف، والسيارات، ونحوها بمبالغ خيالية!

    - من صور التبذير: مَن يشتري شيئًا مِن المحرمات (السجائر - شراء الكلاب والطيور بمبالغ كبيرة - صفقات لاعبي الكرة بأرقام قياسية - حفلة الكريسماس في دولة خليجية تعدل ميزانية دولة إفريقية!). "ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا".

    - في نفس الوقت... كم من الفقراء يموتون من الجوع! وكم من المشاريع الخيرية والدعوية وغيرها تعطلت؛ لعدم مَن ينفق عليها! وكم... وكم...!: قال -تعالى-: (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ . لِيَوْمٍ عَظِيمٍ . يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (المطففين: 4-6)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

    حكم الإسراف والتبذير:

    - حرَّم الله الإسراف؛ لما له مِن أضرار على الإنسان في الدنيا والآخرة: قال -تعالى-: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31)، وقال -تعالى-: (وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا) (الإسراء: 29)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ) (متفق عليه).

    - وشَبَّه الله المسرفين بالشياطين تنفيرًا من فعلهم: قال - -تعالى-: (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا . إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (الإسراء: 26-27)، قال ابن كثير: "أي: في التبذير والسفه، وترك طاعة الله".

    - وجعل المسرفين المبذرين من أبغض الناس إليه: قال -تعالى-: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31).

    - وجعل عليهم في الدنيا أحكامًا استثنائية بسبب إسرافهم -الحجر-: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) (النساء: 5).

    الآثار والعواقب السيئة للإسراف:

    1- الإسراف وحده سبب للإبعاد عن الله؛ لعدم محبة الله لصاحبه: قال -تعالى-: (إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأنعام: 141).

    2- الإسراف في الأكل يضرُّ بصحة الإنسان، ويجعله كسولًا وربما عاجزًا عن استدراك عمره في الأعمال الصالحة، وفيما ينفعه ويرفعه: قال -تعالى-: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ) (الأعراف: 31).

    3- الإسراف في الإنفاق في غير وجوه الخير، يعرض الإنسان للمساءلة والعتاب أو العقاب يوم القيامة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

    4- قد يكون الإسراف والتبذير طريقًا ينتهي بصاحبه إلى تطاول يده للمال الحرام، حتى يلبي لنفسه ما اعتادت عليه من الترف والرفاهية والإسراف في الإنفاق: قال ابن عاشور -رحمه الله-: "والإسراف إذا اعتاده المرء حمله على التوسع في تحصيل المرغوبات، فيرتكب لذلك مذمَّات كثيرة، وينتقل من ملذَّة إلى ملذَّة، فلا يقف عند حدٍّ" (التحرير والتنوير).

    5- يؤدي الإسراف والتبذير إلى الكبر والعجب والتفاخر والغرور، وهي من باطن الإثم الذي أمر الله باجتنابه وتركه: قال -تعالى-: )وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ) (الأنعام: 120).

    أسبابُ الإسراف والتبذير:

    1- الجهل بأحكام الشريعة، وما جاء من الوعيد على ذلك.

    2- التأثُّر بالبيئة، من باب المحاكاة والتشبه؛ لئلا يظهر أنه أقل منهم.

    3- الغِنَى بعد الفقرِ -إلا من رحم الله-، وكأنه ناقم على زمان الفقر بالإسراف والتبذير.

    4- الغفلة عن الآخرةِ بنسيان نعيمها، فيريد التنعم بكثرة التبذير والإسراف.

    5- مُصاحبة المسرفينَ والْمُبذِّرين، فيسايرهم في أحوالهم.

    الفرق بين الإسراف والسخاء؟

    شبهة: كثيرٌ من المسرفين المبذرين، يخلطون بين السخاء والإسراف، ويجهلون أن السخاء يكون في الحق، والإسراف والتبذير يكون في غير الحق: قال مجاهد: "لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذرًا، ولو أنفق مدًّا في غير حق كان مبذرًا" (تفسير ابن كثير)، (مثال: اشترى مسكنًا واسعًا بدلًا من الضيق - اشترى سيجارة).

    - والشرع لا يمنعك من الاستمتاع بمالك بحقه: لما قال -تعالى-: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (الأعراف: 32)، نبَّه قبلها: (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُوا وَاشْرَبُوا، وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا، فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ) (رواه النسائي، وابن ماجه واللفظ له، وحسنه الألباني).

    - السلف خير مثال في النفقة والاعتدال: قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لابنه عاصم: "يا بني كُل في نصف بطنك، ولا تطرح ثوبًا حتى تستخلقه، ولا تكن مِن قوم يجعلون ما رزقهم الله في بطونهم وعلى ظهورهم" (تفسير القرطبي)، وقال لجابر بن عبد الله وقد لقيه يحمل بيده لفافة: "ما هذا؟ قال: لحم اشتهيته فاشتريته، فقال: أَوَكلما اشتهيتَ اشتريت؟! ألا تخشى أن تكون من أهل هذه الآية: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُ مْ بِهَا) (الأحقاف: 20)" (تفسير القرطبي).

    قالوا في التحذير من الإسراف:

    (أصلحوا أموالكم لنَبْوة الزمان، وجفوة السلطان - مَن أصلح ماله فقد صان الأكرمين: الدِّين، والعِرْض - ما عالَ مقتصدٌ - لا عيلة على مصلحٍ، ولا مال لأخرق - لا جود مع تبذير، ولا بخل مع اقتصادٍ - التدبير يثمر اليسير، والتبذير يبدد الكثير - حسن التدبير مع الكفاف أكفى من الكثير مع الإسراف - إنَّ في إصلاح مالك جمال وجهك، وبقاء عزِّك، وصون عرضك، وسلامة دينك).

    خاتمة:

    - الإسراف والتبذير من الذنوب المفسدة للدنيا والدِّين، وهو من كفران نعمة رب العالمين، ومن الكبائر الموبقات: قال -تعالى-: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31)، وقال -تعالى-: (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا . إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (الإسراء: 26-27).

    - خير الأمور الوسط: قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان: 67)، قال ابنُ كثير: "أيْ: *ليسُوا *بمبذِّرِينَ في إنفاقِهِم، فيصرِفُونَ فوقَ الحاجةِ، ولا بُخَلاءَ على أهليهِم فيُقَصِّرُونَ في حقِّهِم فلا يَكْفُونَهُم، بلْ عَدْلًا خِيارًا، وخيرُ الأُمُورِ أوْسَطُها" (تفسير القرآن الكريم لابن كثير).

    فاللهم اهدنا إلى أحسن الأخلاق، إنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #27
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (27)

    نشوز الزوجة

    (موعظة الأسبوع)




    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    المقدمة:

    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضمن الله لمن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

    - نشوز الزوجة من الذنوب المفسدة للدنيا والدِّين، وهو من كفران نعمة رب العالمين، وهو من الكبائر الموبقات يوم الدين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا، لَعَنَتْهَا المَلاَئِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ) (متفق عليه).

    - المقصود بالنشوز: النُّشوز لغة معناه: الارتفاع والعلو، ومنه: "سمِّيَت المرأة ناشزًا، إذا علَت وارتفعت وتكبَّرَت على زوجها" (تفسير المنار)، والنشوز في اصطلاح الشرع: هو امتِناع المرأة من أداء حقِّ الزوج، أو عصيانه، أو إساءة العشرة معه، فكلُّ امرأة صدر منها هذا السلوك، أو تخلَّقَت به، فهي امرأة ناشز، ما لم تقلع عن ذلك، أو تصلح خلقها، قال ابن قدامة: "معنى النشوز: معصية الزوج فيما فَرَض الله عليها من طاعته" (المغني).

    وجوب طاعة المرأة زوجها بالمعروف:

    - عَظَّم الإسلام من شأن الحياة الزوجية، والمحافظة على بقائها، والترهيب من نقضها وهدمها: قال -تعالى-: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَ?لِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم: 21)، وقال: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء: 19)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ إبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ علَى الماءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَراياهُ، فأدْناهُمْ منه مَنْزِلَةً أعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أحَدُهُمْ فيَقولُ: فَعَلْتُ كَذا وكَذا، فيَقولُ: ما صَنَعْتَ شيئًا، قالَ ثُمَّ يَجِيءُ أحَدُهُمْ فيَقولُ: ما تَرَكْتُهُ حتَّى فَرَّقْتُ بيْنَهُ وبيْنَ امْرَأَتِهِ، قالَ: فيُدْنِيهِ منه ويقولُ: نِعْمَ أنْتَ).

    - وأوجب الإسلام على المرأة طاعة زوجها بالمعروف؛ لتتحقَّق لهما المصالح المقصودة من عقد الزواج، ولما لهذه الطاعة من أهميَّة في الحفاظ على الأسرة واستقرارها وسعادتها: قال -تعالى-: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) (النساء: 34). قال ابن كثير: "(قَانِتَاتٌ): قال ابن عباس وغير واحد: يعني مطيعات لأزواجهنَّ. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم: (إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا، قِيلَ لَهَا: ادخلي الجنة من أي الأبواب شِئْتِ) (رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني).

    - وبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن طاعة الزوج بالمعروف علامة على صلاح المرأة، وسبيل للنجاة من النار، والفوز بالجنة: فعن الحصين بن محصن أن عمَّة له أتَت النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- في حاجةٍ، ففرغَت من حاجتها، فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَذَاتُ زَوْجٍ أَنْتِ؟) قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: (كَيْفَ أَنْتِ لَهُ؟) قَالَتْ: *مَا *آلُوهُ *إِلَّا *مَا *عَجَزْتُ *عَنْهُ. قَالَ: (فَانْظُرِي أَيْنَ أَنْتِ مِنْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ جَنَّتُكِ وَنَارُكِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وسُئِلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟ قَالَ: (*الَّتِي *تَسُرُّهُ *إِذَا *نَظَرَ *إِلَيْهَا، *وَتُطِيعُهُ *إِذَا *أَمَرَ، وَلَا تُخَالِفُهُ فِيمَا يَكْرَهُ فِي نَفْسِهَا، وَلَا فِي مَالِهِ) (رواه أحمد والنسائي، وحسنه الألباني).

    - وعظَّم النبي -صلى الله عليه وسلم- من حق الزوج، وعدم مخالفته ولو كان ذلك في طاعة مستحبة تتعارض مع حقوقه؛ فكيف بالمباح؟: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*لَا *يَحِلُّ *لِلْمَرْأَةِ *أَنْ *تَصُومَ *وَزَوْجُهَا *شَاهِدٌ *إِلَّا *بِإِذْنِهِ، *وَلَا *تَأْذَنَ *فِي *بَيْتِهِ *إِلَّا *بِإِذْنِهِ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (*إِذَا *الرَّجُلُ *دَعَا *زَوْجَتَهُ *لِحَاجَتِهِ فَلْتَأْتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى التَّنُّورِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

    لماذا يعد النشوز من الكبائر؟

    - لأنَّ النشوز بكفران العشير والإحسان سبب لدخول النار: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ؛ يَكْفُرْنَ)، قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: (يَكْفُرْنَ العَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ) (متفق عليه). قال النووي -رحمه الله-: "فيه: أنَّ كفرانَ العَشِيرِ والإحسانِ من الكبائرِ؛ فإنَّ التَّوَعُّدَ بالنَّارِ من علامةِ كونِ المعصيةِ كبيرةً" (شرح النووي على صحيح مسلم).

    - لأنَّ النشوز بالامتناع عن الفراش سبب في لعن الملائكة: قَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا، لَعَنَتْهَا المَلاَئِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ) (متفق عليه).

    - لأنَّ مَن باتَتْ وزوجُها سَاخطٌ عليها متوعَّدةٌ بألا تُقْبَلَ صلاتُها: عن أبي أُمَامَةَ -رضي الله عنه- قال: قَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلَاثَةٌ لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ آذَانَهُمْ: الْعَبْدُ الْآبِقُ حَتَّى يَرْجِعَ، وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ، وَإِمَامُ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني). وقال الشوكاني في نيل الأوطار: "فيه: أنَّ إغضَابَ المرأةِ لزوجِها حتَّى يبيتَ سَاخِطًا عليها من الكبائرِ، وهذا إذا كانَ غضَبُه عليها بِحَقٍّ" (نيل الأوطار).

    - لأنَّ الله -تعالى- لا ينظرُ لامرأةٍ لا تشكرُ زوجَها: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما-: أَنَ ّرَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (لا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى امْرَأَةٍ لا تَشْكَرُ لِزَوْجِهَا، وَهِيَ لا تَسْتَغْنِي عَنْهُ) (رواه النسائي والحاكم، وصححه الألباني).

    - رتَّب الشرع أحكامًا عقابية للمرأة إذا نشزت تدل على عظيم جرمها: قال ابن قدامة -رحمه الله-: "فمتى امتنعَت من فراشه، أو خرجَت من منزله بغير إذنه، أو امتنعت من الانتقال معه إلى مسكن مثلها، أو مِن السَّفر معه؛ فلا نَفقة لها ولا سكنى، في قول عامَّة أهل العلم" (المغني).

    علاج نشوز المرأة:

    - الواجب على الزوج أن يَسلك في معالجته لنشوز زوجته العقوبات الثلاثة الواردة في الشرع بتلك الطريقة الحكيمة التي تبدأ بالعقوبة الخفيفة، ثم تتدرَّج إلى العقوبة الشديدة، ثم إلى الأكثر شدة؛ قال الله -تعالى-: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) (النساء: 34)(1).

    - الضرب وسيلة مباحة؛ إلا أن الأفضل للمسلم تركه، والترفع عنه، إلا إذا اضطر إليه: قالت عائشة - رضي الله عنها-: "ما ضَرَبَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- شيئًا قَطُّ بيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا خَادِمًا؛ إلَّا أَنْ يُجَاهِدَ في سَبيلِ اللهِ، وَما نِيلَ منه شَيءٌ قَطُّ، فَيَنْتَقِمَ مِن صَاحِبِهِ؛ إلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيءٌ مِن مَحَارِمِ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-" (رواه مسلم)، عن عبد الله بن زمعة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (*لَا *يَجْلِدُ *أَحَدُكُمُ *امْرَأَتَهُ *جَلْدَ *الْعَبْدِ *ثُمَّ *يُجَامِعُهَا *فِي *آخِرِ *الْيَوْمِ) (متفق عليه).

    خاتمة: نصيحة إلى الزوجات:

    - تأملي كيف عظم الله من حق الزوج الصالح: عن عبد الله بن أبي أوفى قال: لَمَّا قَدِمَ مُعَاذٌ مِنَ الشَّامِ سَجَدَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: (مَا هَذَا يَا مُعَاذُ؟) قَالَ: أَتَيْتُ الشَّامَ فَوَافَقْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِ مْ وَبَطَارِقَتِهِ مْ، فَوَدِدْتُ فِي نَفْسِي أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ بِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (فَلَا تَفْعَلُوا، فَإِنِّي لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللَّهِ، لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، *لَا *تُؤَدِّي *الْمَرْأَةُ *حَقَّ *رَبِّهَا *حَتَّى *تُؤَدِّيَ *حَقَّ *زَوْجِهَا، وَلَوْ سَأَلَهَا نَفْسَهَا وَهِيَ عَلَى قَتَبٍ لَمْ تَمْنَعْهُ) (رواه أحمد وابن ماجه، وقال الألباني: "حسن صحيح").

    - تأملي كيف خرجت الناشز من وصف الصلاح، وأُخِّرت عن الصالحات(2)، فضلًا عما سبق من الوعيد في حقها: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) (النساء: 34).

    - العاقلة التي تحافظ على بيتها وزوجها: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: (َألَاْ أُخبِرُكُم بِنِسَائِكُم فِي الجَنَّةِ؟! كُلُّ وَدُودٍ وَلُودٍ، إِذَا غَضِبَت أَو أُسِيءَ إِلَيهَا أَو غَضِبَ زَوجُهَا، قَالَت: هَذِه يَدِي فِي يَدِكَ، لَاْ أَكْتَحِلُ بِغُمضٍ َحتَّى تَرضَى) (رواه النسائي في الكبرى، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة: "للحديث شواهد يتقوى بها").

    فاللهم أصلح بيوت المسلمين، وألِّف بينهم، واهدهم إلى ما تحب وترضى.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ ـ

    (1) (فَعِظُوهُنَّ) أي: ببيان حُكم الله في طاعة الزوج ومعصيته، فمِن النِّساء مَن يَكفيها التذكير بعِقاب الله وغضبه، ومنهنَّ مَن يؤثِّر في أنفسهن التهديد والتحذير مِن سوء العاقِبة في الدنيا: كشَماتة الأعداء، ومنعها بعض رغباتها: كالثياب والحلي ونحو ذلك، وفي الجملة فاللبيب لا تَخفى عليه العِظات التي لها المحل الأرفع في قلب امرأته، ثم قال -تعالى-: (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ): يهجرها الزَّوج في المضجع، بأن لا يضاجعها، ولا يجامعها، بمقدار ما يَحصل به المقصود. ثم قال -تعالى- بعد ذلك: (وَاضْرِبُوهُنَّ): يضربها ضربًا غير مبرح، فإن حصل المقصود بواحد من هذه الأمور، وأطعنكم (فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا) أي: فقد حصل لكم ما تحبون، فاتركوا معاتبتها على الأمور الماضية، والتنقيب عن العيوب التي يضر ذكرها، ويحدث بسببه الشر. (تفسير السعدي - تيسير الكريم الرحمن).

    (2) النساء نوعان: الأول: (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) أي: فالصالحات من النساء من صفاتهن أنهن قانتات، أي: مطيعات لله -تعالى-، ولأزواجهن عن طيب نفس واطمئنان قلب، ومن صفاتهن كذلك أنهن حافظات، للغيب بما حفظ الله. أما القسم الثاني: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ)، والمراد بقوله: (نُشُوزَهُنَّ) عصيانهن وخروجهن عما توجبه الحياة الزوجية من طاعة الزوجة لزوجها.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #28
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (28)

    ترك صلاة الجمعة

    (موعظة الأسبوع)




    كتبه/ سعيد محمود


    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
    المقدمة:
    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضمن الله لمن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
    - ترك صلاة الجمعة كبيرة من الكبائر ومن أعظم المنكرات وأشد السيئات وله أثر سيئ على دين المؤمن: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: (لَيَنْتَهِيَنَّ *أَقْوَامٌ *عَنْ *وَدْعِهِمُ *الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ. ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ) (رواه مسلم).
    - الإشارة إلى شيوع هذه الظاهرة في بعض الناس لا سيما الشباب.
    مكانة صلاة الجمعة من الدِّين:
    - شُرعت صلاة الجمعة لجمع المكلفين القادرين على تحمل المسئوليات، أول كل أسبوع في مكان واحد، ليسمعوا فيه الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، ما يحملهم على النهوض بواجباتهم الدينية والدنيوية: قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الجمعة: 9).
    - منع المسلم ساعتها من التصرفات الدنيوية، وأمره بالتفرغ لها: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة: 9، 10)، وقال عطاء: "إذا نودي بالأذان حرم اللهو والبيع والصناعات كلها والرقاد، وأن يأتي الرجل أهله، وأن يكتب كتابًا" (فتح الباري).
    - ولذا حكمها في الدين الوجوب والإلزام: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الجُمُعة حقٌّ واجبٌ على كلِّ مُسلمٍ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
    - شرعت لها آداب وأحكام تدل على عظيم قدرها:
    - خطبة الجمعة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: (*مَنْ *تَوَضَّأَ *فَأَحْسَنَ *الْوُضُوءَ. *ثُمَّ *أَتَى *الْجُمُعَةَ *فَاسْتَمَعَ *وَأَنْصَتَ. غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ. وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم- في التحذير من الانشغال عن الخطبة: (مَنْ مَسَّ الْحَصَى فَقَدْ لَغَا) (رواه مسلم).
    - الاغتسال والتطيب والتسوك ولبس أحسن الثياب: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ *اغْتَسَلَ *يَوْمَ *الْجُمُعَةِ *وَلَبِسَ *مِنْ *أَحْسَنِ *ثِيَابِهِ، وَمَسَّ مِنْ طِيبٍ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ، ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَلَمْ يَتَخَطَّ أَعْنَاقَ النَّاسِ، ثُمَّ صَلَّى مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، ثُمَّ أَنْصَتَ إِذَا خَرَجَ إِمَامُهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ صَلَاتِهِ كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ جُمُعَتِهِ الَّتِي قَبْلَهَا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
    - التبكير إليها: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتْ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ) (متفق عليه).
    وقال ابن القيم -رحمه الله-: "لما كان في الأسبوع كالعيد في العام، وكان العيد مشتملًا على صلاة وقربان، وكان يوم الجمعة يوم صلاة، جعل الله -سبحانه- التعجيلَ فيه إلى المسجد بدلًا مِن القربان، وقائمًا مقامه، فيجتمع للرائح فيه إلى المسجد الصلاةُ، والقربان" (زاد المعاد في هَدْي خير العباد).
    عاقبة ترك صلاة الجمعة من غير عذر:
    - أوجب الإسلام الجمعة -كما سبق-، ولم يستثنِ إلا أصحاب الأعذار: عن طارق بن شهاب -رَضِيَ اللهُ عنه- أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: (الجُمُعة حقٌّ واجبٌ على كلِّ مُسلمٍ فِي جَمَاعَةٍ، إلَّا أَرْبَعَةً: عبْدٌ مملوكٌ، أو امرأةٌ، أو صَبيٌّ، أو مَرِيضٌ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
    - ولذا رتب الشرع الوعيد الشديد في ترك الجمعات لغير المعذورين: قال -تعالى-: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ? فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (مريم: 59)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: )مَنْ تَرَكَ *ثَلَاثَ *جُمَعٍ *تَهَاوُنًا بِهَا، طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ) (رواه أبو داود، وقال الألباني: "حسن صحيح")، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَيَنْتَهِيَنَّ *أَقْوَامٌ *عَنْ *وَدْعِهِمُ *الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ. ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ) (رواه مسلم). وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "من ترك الجمعة ثلاث جمع متواليات فقد نبذ الإسلام وراء ظهره" (الترغيب والترهيب للمنذري، وأبو يعلى في مسنده). وقال ابن عبد البر -رحمه الله-: "مَن طبع على قلبه وختم عليه لم يعرف معروفًا ولم ينكر منكرًا" (الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار لابن عبد البر)، وقال العلماء: "على وليِّ الأمر أن يعاقب المتخلفين عن صلاة الجمعة بلا عذر، بما يكون رادعًا لهم عن جريمتهم".
    - وإن لترك الجمع أسبابًا كثيرة من أخطرها: موت القلب، وضعف الإيمان، وقلة البصيرة وصحبة الفاسقين، وحب الدنيا وطول الأمل والغفلة عن حكمة الخلق، وهناك سبب مباشر لتركها يكثر وقوعه، وهو السهر على معصية الله والاستغراق في النوم من غير اتخاذ الأسباب المعينة على الاستيقاظ للصلاة.
    حال الصالحين مع صلاة الجمعة:
    - يستعدون لها من بعد صلاة الفجر: قال النيسابوري في تفسيره: "وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر غاصة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج!".
    - يحتسبون الخُطَا إلى المساجد يومها جهادًا في سبيل الله: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ *غَسَّلَ *يَوْمَ *الْجُمُعَةِ *وَاغْتَسَلَ، *ثُمَّ *بَكَّرَ *وَابْتَكَرَ، *وَمَشَى *وَلَمْ *يَرْكَبْ، *وَدَنَا *مِنَ *الْإِمَامِ *فَاسْتَمَعَ *وَلَمْ *يَلْغُ *كَانَ *لَهُ *بِكُلِّ *خُطْوَةٍ *عَمَلُ *سَنَةٍ *أَجْرُ *صِيَامِهَا *وَقِيَامِهَا) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
    ورَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مُعَمَّرٍ عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: "كَانَ أَنَسُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَكُونُ فِي أَرْضِهِ وَبَينَهُ وَبَينَ البَصْرَةِ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ فَيَشْهَدُ الجُمُعَةَ بِالبَصْرَةِ" (فتح الباري).
    وعن عباية بن رفاعة قال: "أدركني أبو عبس بن جبر -رضي الله عنه- وأنا ذاهب إلى الجمعة، فقال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (مَنِ *اغْبَرَّتْ *قَدَمَاهُ *فِي *سَبِيلِ *اللهِ *حَرَّمَهُ *اللهُ *عَلَى *النَّارِ) (رواه البخاري).
    - يبكرون بالحضور، ويفوزون بأعمال تجلب عليهم الثواب والأجور: قال عقبة بن علقمة: "دخل الأوزاعي المسجد يوم الجمعة، فأحصيت عليه قبل خروج الإمام صلاته أربعًا وثلاثين ركعة، كان قيامه وركوعه وسجوده حسنًا كله!" (الجرح والتعديل لابن أبي حاتم).
    - بل كانوا ينكرون على مَن جاء متأخرًا: عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "بَيْنَا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فَنَادَاهُ عُمَرُ: أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ؟ فَقَالَ: إِنِّي شُغِلْتُ الْيَوْمَ، فَلَمْ أَنْقَلِبْ إِلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْتُ النِّدَاءَ، فَلَمْ أَزِدْ عَلَى أَنْ تَوَضَّأْتُ، قَالَ عُمَرُ: وَالْوُضُوءَ أَيْضًا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ؟!" (متفق عليه).
    - وفي الجملة... كان الصالحون ينتظرون يوم الجمعة ويفرحون به؛ ففيه يزيد إيمانهم، ويتقربون فيه إلى ربهم، وتنير فيه وجوهم، وتشرح صدورهم، وتغسل فيه قلوبهم من ذنوب أسبوعهم، ويجددون فيه العهد مع ربهم، ويشعرون بهويتهم وانتمائهم لدينهم، فهو يوم عيدهم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ هَذَا يَوْمُ عِيدٍ جَعَلَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَمَنْ جَاءَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ) (رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني).
    خاتمة:
    - إنَّ حِرْصَ المُسْلِمِ عَلَى صَلَاَةِ الجُمُعَةِ دَلِيلٌ عَلَى صحة إِيمَانِهِ، وَبُعْدِهِ عَنِ الغَفْلَةِ، وَحِرْصِهِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَإِجَابَتِهِ لِنِدَاءِ الشَّرِيعَةِ الربانية: قَالَ -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) (الجمعة: 9).
    - وإنَّ التَّهَاوُنُ فِي تَرْكِ صَلَاةِ الجُمُعَةِ كبَيِرَةٌ مِنَ الكَبَائِرِ، وَمُنْكَرٌ مِنْ أَعْظَمِ المُنْكَرَاتِ، وَسَيِّئَةٌ مِنْ أَقْبَحِ السَّيِّئَاتِ: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيَنْتَهِيَنَّ *أَقْوَامٌ *عَنْ *وَدْعِهِمُ *الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ. ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ) (رواه مسلم).
    نسأل الله أن يهدي ضال المسلمين، وأن يعين الشباب على المحافظة على أداء الجمع، وإقامة أركان الدِّين.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #29
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (29)

    إتيان العرافين والمنجمين

    (موعظة الأسبوع)



    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    المقدمة:

    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

    - إتيان العرافين والمنجمين من الكبائر العظام، والذنوب الجسام؛ لما له من أثر سيئ على عقيدة المسلم وإسلامه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) (رواه مسلم)(1).

    تعريف العراف والمنجم والكاهن:

    - الكاهن هو: الذي يتكهن بما في المستقبل.

    - وأما العراف فهو: الذي يدعي معرفة الماضي.

    - وأما المنجم فهو: مَن يستدل بالنجوم على أمور الغيب، ومعلوم أن الدَّجَل يشمل ذلك كلَّه، قال البغوي -رحمه الله-: "العراف: الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة، ونحو ذلك" (شرح السنة). وقيل: هو الكاهن، والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل. وقيل: الذي يخبر عما في الضمير.

    وقال ابن تيمية -رحمه الله-: "العراف اسم للكاهن والمنجم والرَّمَّال، ونحوهم ممَّن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق" (مجموع الفتاوى لابن تيمية).

    - الإشارة إلى شيوع ذلك فيما يسمونهم بالطبقة الراقية، بعد أن كان محصورًا في طبقة الفقراء، وغير المثقفين، وهذا يدل على أن الشعوذة والدجل لا تحارب بالتقدم العلمي والتكنولوجي، بل إنها تحارب بنشر العقيدة الصحيحة.

    الترهيب من إتيان العرافين والكهان :

    - الكهان والعرافون يدعون علم الغيب، وذلك من خصائص الرب -سبحانه-: قال -تعالى-: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (النمل: 65)، وقال -تعالى-: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) (الجن: 26 ،27)، وقال -تعالى-: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ) (الأنعام: 59)، وقال -تعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ) (الأنعام: 50)، فإذا كان خير الناس محمد -صلى الله عليه وسلم- لا يعلم الغيب؛ فكيف بمَن هم دونه مرتبة وشرفًا ومكانة؟!

    - الكاهن لا يصل إلى حقيقة عمله إلا باستخدام الجن والتقرب إليهم بالتقربات الشركية(2)، فتستمتع الجن به من جهة ما صرف لها من العبادة، ويستمتع هو بالجن من جهة ما يخبره به الجن من الأمور المغيبة: قال -تعالى- في عاقبتهم في الآخرة: (*وَيَوْمَ *يَحْشُرُهُمْ *جَمِيعًا *يَا مَعْشَرَ *الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام:128) .

    وعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نَاسٌ عَنِ الْكُهَّانِ، فَقَالَ: (لَيْسَ بِشَيْءٍ)، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَا أَحْيَانًا بِشَيْءٍ فَيَكُونُ حَقًّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ، يَخْطَفُهَا مِنَ الْجِنِّيِّ، فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ، فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ) (متفق عليه).

    - الكهنة والعرافون على طريقة السحرة المجرمين: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَنِ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنَ النُّجُومِ، اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).

    - مَن جاءهم وتعامل معهم، فهو على غير طريقة المسلمين، ودينه وعقيدته على خطر عظيم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ، أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ، *أَوْ *سَحَرَ *أَوْ *سُحِرَ *لَهُ) (رواه البزار، وقال الألباني: صحيح لغيره)، وقَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).

    أحوال مَن يأتون العرافين والمشعوذين:

    مَن جاء إلى كاهن أو عراف أو منجم أو دجال، يسأله عن أمر غيبي؛ فلا يخلو حاله مما يلي:

    1- أن يسأله ولا يصدقه، فهذا لا تقبل صلاته أربعين يومًا: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) (رواه مسلم).

    2- أن يسأله ويصدِّقه، وهذا كفر بالله: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).

    3- أن يأتيه ليسمعه فقط، وهذا فسق: قال -تعالى-: (*وَقَدْ *نَزَّلَ *عَلَيْكُمْ *فِي *الْكِتَابِ *أَنْ *إِذَا *سَمِعْتُمْ *آيَاتِ *اللَّهِ *يُكْفَرُ *بِهَا *وَيُسْتَهْزَأُ *بِهَا *فَلَا *تَقْعُدُوا *مَعَهُمْ *حَتَّى *يَخُوضُوا *فِي *حَدِيثٍ *غَيْرِهِ *إِنَّكُمْ *إِذًا *مِثْلُهُمْ *إِنَّ *اللَّهَ *جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي *جَهَنَّمَ *جَمِيعًا) (النساء: 140)، فإذا كانت هذه حال السائل في الصور المتقدمة؛ فكيف بحال المسئول؟!

    4- أن يسأله بقصد فضح أمره، ولبيان عجزه للناس(3)، وهذا مستحب لمَن قدر عليه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن صيَّاد -أحد دجالي اليهود-: (إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا!) فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: هُوَ الدُّخُّ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ) (متفق عليه).

    ما يغني عن إتيان الكهان والدجالين؟

    1- حسن التوكل على الله: قال -تعالى-: (وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) (البقرة: 102)، وقال -تعالى-: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة: 51)، وقال -تعالى-: (وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) (يونس: 107).

    2- التوبة من المعاصي والكبائر: قال -تعالى-: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (الشورى: 30)، وقال العباس -رضيَ اللهُ عنهُ- في دعائه في الاستسقاء: "ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة".

    3- المحافظة على قراءة أذكار الصباح والمساء، فهي حصن من الشياطين: ففي حديث يحيى بن زكريا -عليهما السلام-: (وَآمُرُكُمْ *أَنْ *تَذْكُرُوا *اللَّهَ *فَإِنَّ *مَثَلَ *ذَلِكَ *كَمَثَلِ *رَجُلٍ *خَرَجَ *العَدُوُّ *فِي *أَثَرِهِ *سِرَاعًا *حَتَّى *إِذَا *أَتَى *عَلَى *حِصْنٍ *حَصِينٍ *فَأَحْرَزَ *نَفْسَهُ *مِنْهُمْ، *كَذَلِكَ *العَبْدُ *لَا *يُحْرِزُ *نَفْسَهُ *مِنَ *الشَّيْطَانِ *إِلَّا *بِذِكْرِ *اللَّهِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

    4- الإكثار من قراءة سورة البقرة في البيوت: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقابِرَ، إنَّ الشَّيْطانَ يَنْفِرُ مِنَ البَيْتِ الذي تُقْرَأُ فيه سُورَةُ البَقَرَةِ) (رواه مسلم).

    5- أكل سبع تمرات صباحًا قبل أن يأكل أو يشرب شيئًا: قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَن تَصَبَّحَ كُلَّ يَومٍ سَبْعَ تَمَراتٍ عَجْوَةً، لَمْ يَضُرَّهُ في ذلكَ اليَومِ سُمٌّ ولا سِحْرٌ) (متفق عليه).

    خاتمة:

    - كثيرون هم الذين فقدوا الثقة بالله، فما أن يصيبهم سحر أو مرض، أو عين، أو لم يرزق بأولاد، حتى يفزعوا إلى الدجالين والكهان: قال -تعالى-: (أَمَّن يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ?لسُّوء وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء ?لأرْضِ أَءلَـهٌ مَّعَ ?للَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ) (النمل:62)، وقال: (*وَعَلَى *اللَّهِ *فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (المائدة: 23).

    - إن الركون إلى هؤلاء يعرِّض عقيدة المسلم للخطر العظيم: قال -تعالى-: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ *فَقَدْ *ضَلَّ *ضَلَالًا *بَعِيدًا) (النساء: 116).

    - فليحذر المسلم من إتيان الكهان والعرافين لإيذاء الناس، أو ليطلب منهم قضاء الحاجات؛ فهو ظلمات بعضها فوق بعض: قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) (الأحزاب: 58)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).

    فاللهم مسكنا بالإسلام حتى نلقاك، وألحقنا بالصالحين في جنات النعيم.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ ـــــ

    (1) قوله: (مَنْ أَتَى): الإتيان له صور عديدة، منها: أن يكون بالذهاب إليه، أو بالجلوس إلى قارئة الكف، أو الفنجان، أو صاحبة الودع، أو بفتح المندل، أو بمطالعة أبراج الحظ، أو بمشاهدة بعض الفضائيات التي تبث كلامهم؛ لمعرفة المستقبل، والحظ، وطلب الزواج، والنجاح في الامتحان، ومعرفة السارق، وغير ذلك من الأمور التي اختص الله -سبحانه وتعالى- بعلمها، بل إن بعض الناس يتخذون القرارات في قضايا مهمة في حياتهم: كالزواج، والطلاق، أو السفر أو التجارة بناءً على ما قاله المنجم!

    وهناك مَن يتقدم للزواج فتسأله المخطوبة: ما برجك؟ فإذا كان برجه لا يوافق برجها كما قال العراف فيها فإنها ترفض الزواج منه! بل إن هناك مَن يحدد مواعيد الزواج باليوم والشهر بعد التشاور مع المنجم أو العراف! بل ذُكِر أن رئيس دولة كبرى كانت توضع له البرامج التي تتعلق بحياته الشخصية والعلمية بعد استشارة العرافين والكهنة!

    (2) من صور تقربهم إلى الشياطين: (تلويث المصحف بالنجاسات أو إلقاؤه في المزابل وأماكن قضاء الحاجة - أو جعل المصحف كالنعل في قدميه - وكبقائهم على الجنابة دائمًا - والإكثار من الزنا والفواحش - كل ذلك تقربًا إلى الشياطين)، بل ربما طلبوا من المريدين أعمالًا شركية، كنحو: "اذبحوا كبشًا صفته كذا، بدون اسم الله، أو ذكر اسم غير الله، أواذبحوا ديكًا، أو نحو ذلك، ثم نخبركم بمرضه وعلاجه... "، نعوذ بالله من الكفر والضلال.

    (3) مِن أقوالهم وأحوالهم الخداعة: يقولون: "خبر سار يصلك من إنسان تحبه!" ومَن الذي يوصل إليك الأخبار السارة إلا الذي يحبك؟! وفي مرة أخرى يقولون: "تواجهك بعض المشاكل المادية" ومَن الذي لا يواجه المشاكل المادية في هذا العصر؟! إلخ. وقد يخاطبون الناس بأسلوب الناصحين، كأن يقول أحدهم: "انتبه وكن حذرًا، فصحتك أغلى ما تملكه"، أو يقولون: "احذر مِن أصدقاء السوء"، وهكذا.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #30
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (30)

    مَنْعُ الزكاة

    (موعظة الأسبوع)

    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    المقدمة:

    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

    - مَنْعُ الزكاة من كبائر الذنوب التي توعَّد أهلها بألوان الوعيد، وتهدَّدهم بأنواع العذاب الشديد في الحياة وبعد الممات: قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ) (التوبة: 34-35).

    (1) نظرة الإسلام إلى المال:

    - المال مِلك لله، وأنه وسيلة لا غاية، وأن مقياس الناس أعمالهم وليس أموالهم: قال -تعالى-: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِين َ فِيهِ) (الحديد: 7)، وقال: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13).

    - فاوت الله بين أرزاق الخلق، فمنهم غني ومنهم فقير لحكمة بالغة؛ ليتكامل الكون ويتعايش الناس، ويخدم بعضهم بعضًا: قال -تعالى-: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) (النحل: 71)، وقال: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا) (الزخرف: 32).

    - مع تفاوت الناس في الأرزاق، وفي الغنى والفقر، فإن منفعة المال الذي هو بأيدي الأغنياء منفعة عامة للجميع، حيث جعل الله في هذا المال حق معلوم للفقير: قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ . لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (المعارج: 24-25)، قال قتادة وغيره: الحقّ المعلوم: الزكاة. وقال -تعالى-: (وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) (النور: 33).

    - إذًا... الزكاة حق للفقير، وليست مِنَّة ولا تفضلًا من الغني، بل هي حق للفقراء واجب على الأغنياء، فقد جعل الإسلام المجتمع كالأسرة الواحدة يكفل بعضهم بعضًا: قال -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ، مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى) (متفق عليه)(1).

    (2) مكانة الزكاة في الإسلام:

    - الزكاة ركن من أركان الدين والإيمان في الإسلام: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ) (متفق عليه).

    - جعل الإسلام الزكاة مع التوبة من الشرك وإقامة الصلاة، عنوانًا على الإسلام، واستحقاق مؤديها أخوة المسلمين: قال -تعالى-: (فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (التوبة: 11).

    - وأعلن الإسلام أن في الزكاة تنمية للمال، وحفظًا له من الزوال، بخلاف ما يتصور البخلاء: قال -تعالى-: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (سبأ: 39)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما نَقَصَتْ صَدَقةٌ مِن مالٍ... ) (رواه مسلم)(2).

    - بغير أداء الزكاة لا يكون المسلم في عداد المؤمنين الذين كتب الله لهم الفلاح وأعطاهم الفردوس الأعلى: قال -تعالى-: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ . إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ . فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِم ْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ . أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ . الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (المؤمنون: 1-11).

    (3) عقوبة مانعي الزكاة في الدنيا والآخرة:

    - البُخل بالزكاة من أَمَارات النِّفاق وموجِبَاته: قال -تعالى- في وصْف المنافقين: (وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) (التوبة: 54)، وقال -تعالى-: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَا تُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (التوبة: 67).

    - البُخل بالزكاة سبب في نزول البلايا والنقم بالمجتمعات (الفقر - الغلاء - الأمراض - ... ): قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (*وَلَمْ *يَمْنَعُوا *زَكَاةَ *أَمْوَالِهِمْ، *إِلَّا *مُنِعُوا *الْقَطْرَ *مِنَ *السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا) (رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني).

    - البُخل بالزكاة سبب في مَحْقُ بركة المال وذَهابه بأنواع موجِبات الهلاك وأسباب التَّلَف: قال -تعالى-: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَ ا مُصْبِحِينَ . وَلَا يَسْتَثْنُونَ . فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ . فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ . فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ . أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ . فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ . أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ . وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ . فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ . بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (القلم: 17-33). ورُوِي: "مَا *خَالَطَتِ *الزَّكَاةُ *مَالًا *قَطُّ *إِلَّا *أَهْلَكَتْهُ" (أخرجه الهيثمي في مَجمع الزوائد، وضعفه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (*إِذَا *أَدَّيْتَ *زَكَاةَ *مَالِكَ *فَقَدْ *أَذَهَبْتَ *عَنْكَ *شَرَّهُ) (رواه ابن خزيمة، وحسنه الألباني).

    - البُخل بالزكاة يعرض صاحبه لعقوبة دنيوية شرعية يتولاها الحكام في المجتمع الإسلامي: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا فَلَهُ أَجْرُهَا، وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ، *عَزْمَةً *مِنْ *عَزَمَاتِ *رَبِّنَا -عَزَّ وَجَلَّ-، لَيْسَ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ) (رواه أحمد والنسائي، وحسنه الألباني)، وقال أبو بكر -رضي الله عنه-: "وَاللهِ *لَأُقَاتِلَنَّ *مَنْ *فَرَّقَ *بَيْنَ *الصَّلَاةِ *وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا" (متفق عليه).

    -* البُخل بالزكاة سبب للتعرُّض للعقوبة في الآخرة: قال -تعالى-: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (آل عمران: 180)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَن آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ له مَالُهُ يَومَ القِيَامَةِ شُجَاعًا أقْرَعَ له زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَومَ القِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بلِهْزِمَتَيْهِ -يَعْنِي بشِدْقَيْهِ- ثُمَّ يقولُ أنَا مَالُكَ أنَا كَنْزُكَ، ثم تلا هذه الآية: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِن صَاحبِ كَنزٍ لا يؤدِّي حقَّهُ إلَّا جَعلَهُ اللَّهُ يَومَ القيامةِ يُحمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فتُكْوَى بِها جَبْهَتُهُ وجنبُهُ وظَهْرُهُ حتَّى يَقضيَ اللَّهُ -تَعَالَى- بَيْنَ عبادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألفَ سَنَةٍ) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (*مَا *مِنْ *صَاحِبِ *إِبِلٍ، *وَلَا *بَقَرٍ، *وَلَا *غَنَمٍ، *لَا *يُؤَدِّي *زَكَاتَهَا، إِلَّا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا كَانَتْ وَأَسْمَنَهُ، تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، وَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا، كُلَّمَا نَفِدَتْ أُخْرَاهَا، عَادَتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ) (متفق عليه).

    خاتمة:

    - لقد غفل أكثر أصحاب الأموال، عن قول ذي العزة والجلال: (وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) (النور: 33)، وعن قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَقُولُ *الْعَبْدُ: *مَالِي *مَالِي، إِنَّمَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثٌ: مَا أَكَلَ فَأَفْنَى، أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى، أَوْ أَعْطَى فَاقْتَنَى، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ) (رواه مسلم).

    - يا أصحاب الأموال... أعطوا الفقراء حقهم، وستجدون الخلف من الله: قال -تعالى-: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (سبأ: 39)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (*مَا *نَقَصَتْ *صَدَقَةٌ *مِنْ *مَالٍ) (رواه مسلم).

    - يا أصحاب الأموال... تعرضوا لنفحات المولى -جل وعلا-، ولدعاء الملائكة الأطهار في العلا، ولدعاء الفقراء واليتامى، والأرامل والثكالى: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما مِن يَومٍ يُصْبِحُ العِبادُ فِيهِ، إلَّا مَلَكانِ يَنْزِلانِ، فيَقولُ أحَدُهُما: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا) (متفق عليه).

    اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال والأقوال، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، برحمتك يا أرحم الراحمين.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـ

    (1) على هذه النظرة الإسلامية للمال، في ملكيته ومنفعته؛ تتأصل عبادة الله في المال، وهي الزكاة التي تتراوح بين 2.5%، و10% على اختلاف نوع الأموال؛ إذ إن الزكاة واجبة في جميع الأموال الثابتة والمنقولة، في الزراعة والتجارة والصناعة، وفي الأموال المدخرة والمكتنزة، وفيما ظهر على وجه الأرض أو خرج من باطنها في الجملة.

    (2) البخيل إذا كانت عنده مثلًا (مائة ألف) فيها زكاة (ألفان وخمسمائة)، فهو ينظر إلى الزكاة فيراها كثيرة جدًّا! ولا يرى (سبعة وتسعين ألفًا ونصف) كثيرة، فعند ذلك يمسك ويمنع الزكاة! ولا حول ولا قوة إلا بالله.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #31
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (31)

    اللواط

    (موعظة الأسبوع)

    كتبه/ سعيد محمود




    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
    المقدمة:
    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
    - اللواط كبيرة من أعظم الذنوب، تغضب الرب على المربوب، ويحل بها البلاء ومدلهمات الخطوب: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*لَعَنَ *اللهُ *مَنْ *عَمِلَ *عَمَلَ *قَوْمِ *لُوطٍ، *لَعَنَ *اللهُ *مَنْ *عَمِلَ *عَمَلَ *قَوْمِ *لُوطٍ) وكررها ثلاث مرات. (رواه أحمد وابن حبان، وقال الألباني: "حسن صحيح")، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
    - اللواط... ذلكم الداء الذي عَذَّب الله به قوم لوط أشد العقوبة؛ لقبحه وعظيم خطره (ذكر مواضع من القرآن تلخص القصة): (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ) (الأعراف: 8)، (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ . وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم) (الشعراء: 165، 166)، (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (النمل: 56)، (قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) (العنكبوت: 30)، (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ . مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) (هود: 82-83).
    - اللواط مخالفة للفطرة: قال الوليد بن عبد الملك: "لولا أن الله -عز وجل- قص علينا قصة قوم لوط في القرآن ما ظننتُ أن ذكرًا يعلو ذكرًا‏" (البداية والنهاية لابن كثير).
    (1) خطر اللواط صحيًّا واجتماعيًّا وشرعيًّا:
    - يتسبب اللواط في الإصابة بأمراض خطيرة: (مرض الإيدز - فساد أعضاء التناسل - التأثير على المخ - الرغبة عن النساء - التأثير على الأعصاب - مرض السويداء - الاضطراب النفسي - التيفود والدوسنتاريا - وغيرها).
    - اللواط أوسع أسباب انتشار مرض الإيدز: أول اكتشاف لمرض الإيدز كان عام 1979م في مدينة نيويورك، كان في رجل يمارس اللواط، ونسبة المصابين بالإيدز بسبب الشذوذ الجنسي في العالم تزيد على 73 %.
    - اللواط سبب في نزول النقم والبلايا في مجتمعات المسلمين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَا مَعْشَرَ المهاجرينَ، خِصالٌ خَمْسٌ إذا ابتُلِيتُمْ بهِنَّ، وأعوذُ باللهِ أن تُدْرِكُوهُنَّ: لم تَظْهَرِ الفاحشةُ في قومٍ قَطُّ؛ حتى يُعْلِنُوا بها إلا فَشَا فيهِمُ الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تَكُنْ مَضَتْ في أسلافِهِم الذين مَضَوْا…) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
    - اللواط سبب في نزول العقوبة الشرعية التي تقيمها الدولة المسلمة بصاحبه: (القتل على التفصيل الآتي).
    (2) عقوبة مَن عمل اللواط، أو السحاق، أو أتى امرأة في دبرها:
    حكم اللواط:
    - اختلف العلماء في صفة قتله بعد الاتفاق على أنه يقتل: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وأجمع الصحابة -رضي الله عنهم- على قتله.
    - ذهب الشافعي وأحمد وطائفة إلى أنه يرجم بالحجارة حتى الموت؛ لأنه زنا وفجور.
    - وذهب بعضهم إلى أنه يقتل بإلقائه من شاهق، ثم يُتبع بالحجارة؛ كما هي عقوبة قوم لوط.
    حكم السحاق:
    - قال ابن قدامة -رحمه الله-: "إذا تدالكت امرأتان فهما زانيتان ملعونتان؛ لما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إِذَا أَتَتِ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ؛ فَهُمَا زَانِيَتَانِ) (رواه البيهقي في السنن الكبرى، وضعفه الألباني)... وعليهما التعزير" .
    حكم إتيان امرأة في دبرها:
    - ملعون في الدنيا، مطرود في الآخرة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ أَتَى رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً فِي الدُّبُرِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). وقال فِي الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا: (هِيَ اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى) (رواه أحمد، وحسنه الألباني).
    - وقال أصحاب أبي حنيفة: "إنه عندنا ولائط الذكر سواء في الحكم" (تفسير القرطبي).
    خاتمة: هل لمن عمل هذه الفواحش توبة؟
    - التوبة مقبولة من الكافر؛ فهي أولى في حق مرتكب اللواط: (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ) (الأنفال: 38)، وفي الحديث القدسي: (قَالَ اللَّهُ -تبارك وتعالى-: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِ ي غَفَرْتُ لَكَ، وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ *بِي *شَيْئًا *لَأَتَيْتُكَ *بِقُرَابِهَا *مَغْفِرَةً) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
    - ابتعد أيها التائب عن أماكن المعصية السابقة وأسبابها: قال العالم لقاتل المائة نفس: (انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا؛ فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ، فَاعْبُدِ اللَّهَ مَعَهُمْ، وَلا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ؛ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ) (رواه البخاري ومسلم واللفظ له).
    - أكثِر من زيارة القبور وتذكر الموتى، وتخيل نفسك وأنت في عدادهم، وقد فارقت الدنيا، وتركت لذاتها وشهواتها، وفني كل ذلك وبقي الإثم والعار: قال -تعالى-: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى? وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ) (يس: 12).
    - الدعاء والالتجاء إلى الله -تعالى-، والانكسار أمام الخالق، وتذكر يوم الحساب، فإن في تذكر يوم الحساب، وتذكر الوقوف بين يدي الخالق الجبار رادع عن المعصية: قال -تعالى-: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) (آل عمران: 30).
    فاللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، وأحسن خاتمتنا في الأمور كلها.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #32
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (32)

    سب الصحابة

    (موعظة الأسبوع)




    كتبه/ سعيد محمود
    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
    المقدمة:
    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
    - سب الصحابة منكر عظيم، وجرم خطير، وكبيرة من الكبائر المهلكة في الدنيا والآخرة: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ *سَبَّ *أَصْحَابِي *فَعَلَيْهِ *لَعْنَةُ *اللهِ وَالْمَلَائِكَة ِ *وَالنَّاسِ *أَجْمَعِينَ) (رواه الطبراني، وحسنه الألباني)، وفي رواية ابن عمر -رضي الله عنهما-: (*لَعَنَ *الله *مَنْ *سَبَّ *أَصْحَابِي) (رواه الطبراني، وحسنه الألباني).
    - الإشارة إلى أن هناك طائفة مارقة (الشيعة الرافضة) تتعبد بسبِّ الصحابة: قال الخميني -رأس الدولة الشيعة المعاصرة- في كتابه: "إن مثل هؤلاء الأفراد الحمقى والأفاقون والجائرون غير جديرين بأن يكونوا في موضع الإمامة، وأن يكونوا ضمن أولي الأمر!" "نقلًا عن الفوائد البديعة (ص 107-108)، وكشف الأسرار (ص 108)".
    - الإشارة إلى أن هناك جهات إعلامية مأجورة تتخذ من أعراض الصحابة مادة إعلامية للطعن وتشويه صورة الإسلام: قال -تعالى- في إخوانهم المنافقين: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) (البقرة: 14).
    (1) تمهيد تاريخي مهم جدًّا بين يدي الحديث:
    - ولادة النبي -صلى الله عليه وسلم- في عام الفيل مِنَّة على البشرية وهداية لها.
    - لما بلغ الأربعين بعثه الله مبشرًا ونذيرًا، فعاداه وآذاه كبراء قومه.
    - تبعه أقوام باعوا الدنيا واشتروا الآخرة، وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وتحملوا معه الأذى.
    - ولما أُمِروا بالهجرة هاجروا وتركوا الديار والأموال والأهل: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ? أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحشر: 8).
    - ولما وَصَل النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة آواه أهلها ونصروه وعزروه، وآووا أصحابه المهاجرين بالمال والدور، بل والزوجات: قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9).
    - استمر النبي -صلى الله عليه وسلم- يجاهد ويجاهد معه الصادقون والمفلحون، والقرآن ينزل بالثناء عليهم: قال الله -تعالى-: (*مُحَمَّدٌ *رَسُولُ *اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الفتح: 29).
    - وبعد ثلاث وعشرين سنة من الدعوة والجهاد مع نبيهم -صلى الله عليه وسلم- جاء أمر الله برحيل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الدنيا: قال -تعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة: 3).
    - شدة أمر الوفاة، ولكن استمرت الراية مرفوعة: قول أبي بكر -رضي الله عنه-: "أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّهُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ، ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران: 144)" (رواه البخاري)، وهكذا انتقلت هذه النسمة إلى بارئها وبقي دين الله يحمله أصحابه.
    خلاصة: مما سبق تبيَّن لنا أن عوامل نجاح الدعوة الإسلامية ثلاثة:
    - الأول: المنهج الرباني الكامل (شرعًا)، كما قال الله -تعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة: 3)، ونصر الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين (كَوْنًا).
    - والثاني: شخصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القائد وتفانيه في الدعوة إلى وفاته: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ . قُمْ فَأَنذِرْ) (المدثر: 1، 2).
    - والثالث: الصحابة الذين نقلوا الدين ونشروه في العالم: قال الله -تعالى-: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُ مُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة: 137).
    - الإشارة إلى أن أعداء الدين من المبتدعة والمنافقين والكفرة يحاولون هدم الدعوة الإسلامية من خلال هدم هذه الأصول الثلاثة بطرق مختلفة بحسب عقيدة كل طائفة منهم؛ فالشيعة والمنافقون يسعون لهدم الإسلام بالطعن على الأصل الثالث مخالفين لأهل السنة والجماعة؛ وبهذا يكونون مخالفين في الأصلين الأولين أيضًا.
    (2) مكانة الصحابة عند أهل السنة:
    - يزكونهم بتزكية الله ورسوله لهم: قال -تعالى-: (*مُحَمَّدٌ *رَسُولُ *اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الفتح: 29)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) (متفق عليه).
    - يعتقدون براءة أهل بدر وبيعة الرضوان والسابقين الأولين من الكفر والشرك: قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا يدخُلَ النَّارَ رَجُلٌ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَ ةَ) (رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني)، ولمسلم: (لَا يَدْخُلُ النَّارَ، إِنْ شَاءَ اللهُ، مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدٌ، الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا).
    - يعتقدون سبقهم وسابقتهم على سائر الناس: قال الله -تعالى-: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 100)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لا تَسُبُّوا أصْحابِي، لا تَسُبُّوا أصْحابِي، فَوالذي نَفْسِي بيَدِهِ لو أنَّ أحَدَكُمْ أنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، ما أدْرَكَ مُدَّ أحَدِهِمْ، ولا نَصِيفَهُ) (متفق عليه).
    - يعتقدون وجوب الإمساك عن ذكرهم بسوء: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا...) (رواه الطبراني، وصححه الألباني)، وقال: (مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلا عَدْلاً) (رواه الطبراني، وحسنه الألباني).
    - يدعون لهم ويستغفرون: قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَ ا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) (الحشر: 10).
    (3) صورة من سبق الصحابة لغيرهم:
    - لقد سبقوا العالمين في كلِّ باب (الاستجابة - المحبة والاتباع - التضحية بالنفس - التضحية بالأهل والوطن -... ).
    - صورة من سبقهم في الاستجابة: قال أصحاب موسى لموسى -عليه السلام-: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة: 24)، وقال أصحاب عيسى لعيسى -عليه السلام-: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (المائدة: 112)، وأما أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة: 285)، وقال سعد بن معاذ -رضي الله عنه- يوم بدر: "فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أَرَدْتَ فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّا لَصُبُرٌ عِنْدَ الْحَرْبِ، صُدْقٌ عِنْدَ اللِّقَاءِ، لَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-" (السيرة النبوية لابن هشام).
    (4) حكم الطعن على الصحابة:
    - قال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-: "قال الجلال البُلقيني: مَن سَبَّ الصحابة -رضي الله عنهم- أتى كبيرةً بلا نزاعٍ" (الزواجر). وقال السَّفَّاريني -رحمه الله-: "وكون سَبِّ الصحابة كبيرةٌ هذا بلا خلافٍ، وإنما اختلفوا: هل يكفر مَن سبّهم أم لا؟" (شرح منظومة الكبائر). وقال القاضي عياض -رحمه الله-: "سَبُّ أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وتنقُّصهم أو أحدٍ منهم مِن الكبائر المُحرَّمة" (إكمال المعلم).
    - وسَبُّ أحدٍ مِن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أو بُغضه كبيرةٌ؛ لما يأتي:
    - لن يصل أحد إلى شرف الصحبة التي نالوها، وإن تفاوتت درجاتهم: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تَسُبُّوا أصْحابِي؛ فلوْ أنَّ أحَدَكُمْ أنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، ما بَلَغَ مُدَّ أحَدِهِمْ ولا نَصِيفَهُ) (متفق عليه).
    اختارهم الله من دون غيرهم ليكونوا الأصحاب والنصراء والخلفاء: روي عَنْ عُوَيْمِ بْنِ سَاعِدَةَ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "إن اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتعالى- اخْتَارَنِي وَاخْتَارَ بِي أَصْحَابًا، فَجَعَلَ لِي مِنْهُمْ وُزَرَاءَ وَأَنْصَارًا وَأَصْهَارًا، فَمَنْ سَبَّهُمْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفٌ وَلاعَدْلٌ" (رواه الطبراني والحاكم).
    - استقر القول بين المسلمين على فساد طوية مَن يسبهم: قال أبو زرعة الرازي -رحمه الله تعالى-: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاعلم أنه زنديق؛ وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابةُ، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا؛ ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة" (الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي).
    خاتمة: مِن واجبنا نحو الصحابة:
    - محبتهم والتعرف عليهم ومطالعة سيرتهم العطرة؛ فاتباعهم سبب الرضا: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (التوبة: 100).
    - نشر فضائلهم والتعريف بمكارمهم، فهم القدوة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال -تعالى- في حقهم: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا) (البقرة: 137).
    - الذود عن أعراضهم والدفاع عنهم بكل مستطاع: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، "مِن وسائل الدفاع عنهم: الرد على الطاعنين، والتشنيع بهم وفضحهم، والمطالبة بمعاقبتهم ومقاطعتهم، وتفعيل كل الوسائل المتاحة مِن: مخاطبة الجهات الرسمية - الحملات الإلكترونية - النشرات - المحاضرات - الخطب -..." .
    - الدعاء لهم والترضي عليهم: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَ ا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ) (الحشر: 10).
    فاللهم ارضَ عن الصحابة، واجمعنا بهم في جنات النعيم.
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــ
    فائدة لمَن أراد الزيادة: لماذا كل هذا الحقد والافتراء...؟! الجواب بذكر أسباب تاريخية في نقاط توضِّح ذلك:
    - اتساع الفتوحات الإسلامية بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عهد الخلفاء الراشدين.
    - انتصار المسلمين في معركة القادسية سنة 14هـ على الفرس، ثم سقوط دولة الفرس سنة 16هـ.
    - كثرة الحاقدين الكائدين للدين في شخص حامليه وحماته ورموزه، ومن أبرز الحاقدين: اليهود، والفرس.
    - سنة 23هـ قام المجوسي أبو لؤلؤة المجوسي بقتل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في المحراب (يوم العيد الأكبر عند الشيعة).
    - ظهور عبد الله بن سبأ اليهودي في أواخر عهد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- من يهود اليمن مدعيًا الإسلام وزاعمًا محبة آل البيت، وسعى ومَن معه في تأليب الناس على عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وغالى في علي -رضي الله عنه-، وادَّعى له الوصية بالخلافة!
    - ومن هنا كانت بداية التشيع الذي تطور مع مرور الزمن إلى أن صار دينًا يخالف دين المسلمين حيث تجاوزوا مِن الطعن على الصحابة إلى عقائد وتشريعات ليست من دين الله.
    على سبيل المثال لا للحصر: (الغلو في آل البيت بصورة شركية - سب أمهات المؤمنين - التقرب والتعبد بلعن الصحابة - اعتقاد بعضهم تحريف القرآن - التعبد عند القبور وسؤال أصحاب القبور حتى جعلوا الطواف ببعضها أفضل من الطواف بالكعبة - نشر الفاحشة بما يسمى بزواج المتعة - وغير ذلك من الخرافات والبدع التي غيروا بها دين الله).




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #33
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (33)

    الظلم

    (موعظة الأسبوع)



    كتبه/ سعيد محمود
    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
    المقدمة:
    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة التي ضمن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
    - الظلم من الكبائر العظام، والقبائح الجسام، فهو إثم عظيم، وذنب مرتعُه وخيم: قال الله -تعالى- في الحديث القدسي: (يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا...) (رواه مسلم).
    - تعريف الظلم: هو وضع الشيء في غير محله.
    (1) ذم الظلم والنهي عنه:
    - الله -سبحانه وتعالى- عَدْل ويأمر بالعدل، وينهى عن الظلم: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل: 90)، (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ) (غافر: 31).
    - أرسل الله الرسل وأنزل الكتب لمنع الظلم بأنواعه من الأرض: قال -تعالى-: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحديد: 25).
    - بيَّن -سبحانه وتعالى- أن الظلم سببٌ للبلاء والهلاك في الدنيا قبل الآخرة: قال -تعالى-: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (يونس: 13)، وقال: (فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ) (الحج: 45)، وقال: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ ? إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود: 102).
    - وبين -سبحانه وتعالى- أن من عواقب شيوع الظلم في الدنيا، تعميم العقوبة إذا رضي الناس به، مع قدرتهم على منعه: قال -تعالى-: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال: 25)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (*إِنَّ *النَّاسَ *إِذَا *رَأَوْا *الظَّالِمَ *فَلَمْ *يَأْخُذُوا *عَلَى *يَدَيْهِ *أَوْشَكَ *أَنْ *يَعُمَّهُمُ *اللَّهُ *بِعِقَابٍ مِنْهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)(1).
    (2) أنواع الظلم:
    الظلمُ نوعان: أحدهما ظلمُ النَّفْس، وهو على قسمين:
    - الأول: الشِّرْكُ بالله -تعالى-، فإنَّ المُشْرِكَ جَعَلَ المخلوقَ في مَنزِلةِ الخالق، فعَبَدَهُ وتألَّهَه، قال -سبحانه-: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان: 13).
    - الثاني: ظُلم النَّفسِ بالمعاصي على اخْتِلاف أجناسِها من كبائر وصغائر، فكُلُّ معصيةٍ يرْتكبُها العبدُ إنما هي ظُلمٌ لنفسه التي أمره الله بحفظها: قال -تعالى-: (وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (الطلاق: 1)، وقال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (يونس: 44).
    والنوع الثاني من الظلم:
    - ظُلمُ العبدِ لغيره من الناس، وهو المقصودُ بالترهيب والتحريم في أكثر النصوص التي تربي المؤمنين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اتَّقُوا الظُّلْمَ، فإنَّ الظُّلْمَ ظُلُماتٌ يَومَ القِيامَةِ...) (رواه مسلم)، وقال: (المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ ولَا يُسْلِمُهُ...) (متفق عليه)، وقال: (انْصُرْ أخاكَ ظالِمًا أوْ مَظْلُومًا) فقالَ رَجُلٌ: يا رَسولَ اللَّهِ، أنْصُرُهُ إذا كانَ مَظْلُومًا، أفَرَأَيْتَ إذا كانَ ظالِمًا، كيفَ أنْصُرُهُ؟ قالَ: (تَحْجُزُهُ -أوْ تَمْنَعُهُ- مِنَ الظُّلْمِ؛ فإنَّ ذلكَ نَصْرُهُ) (رواه البخاري).
    (3) صور من الظلم:
    - التطاوُلُ على أموالِ اليتامى والضعفاء: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (النساء: 10).
    - التَّسْويفُ والتأخيرُ في قضاء الدين مع القدرة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ) (متفق عليه).
    - حِرمانُ المرأةِ من حقِّها في الميراث من أبيها أو زوجِها أو مُوَرِّثِها أيًّا كان، أو المماطلةُ في ذلك: قال -تعالى-: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) وقال في آخرها: (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا) (النساء: 11).
    - ظلمُ الأُجَرَاء والمُستَخدَمين من عُمَّالٍ ونحوِهم ببخسِهِم حُقوقَهم، أو تأخيرِها عن أوقاتها، أو تغييرِ الاتفاقِ المُبْرَمِ معَهُم، أو إِهانَتِهم بقولٍ أو فِعْل: قال النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: (قالَ اللَّهُ: ثَلاثَةٌ أنا خَصْمُهُمْ يَومَ القِيامَةِ: ... ورَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أجِيرًا فاسْتَوْفَى منه ولم يُعطِه أَجْرَهُ) (رواه البخاري).
    - الأذى الجَسَدي أو اللفظي، أو النَّفْسي للغير: قال النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ اللهَ يُعذِّبُ الذين يُعذِّبون الناسَ في الدنيا) (رواه مسلم).
    - ظلم الزوجة بالتَّقْتيرِ عليها، أو سُوءِ مُعامَلتِها أو إهانَتِها أو هَجْرِها أو تَهْديدِها أو عَدَمِ حُسْنِ الخُلُقِ مَعَها: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (خَيْرُكُمْ *خَيْرُكُمْ *لِأَهْلِهِ، *وَأَنَا *خَيْرُكُمْ *لِأَهْلِي) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
    - ظلم الجيران بالاعتداء على حقوقهم وحرمتهم: قال النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فلا يُؤْذِ جَارَهُ) (متفق عليه).
    - الغش والتدليس ونحوه في البيع والشراء: قال النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: (مَن غَشَّ فليسَ مِنِّي) (رواه مسلم).
    - ومِن أظلم الظلم: التحاكم الى غير الله (حكامًا ومحكومين): قال -تعالى-: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة: 45).
    - (مدخل للعنصر التالي) لَا يَظُنَّنَّ أحَدٌ أَنَّ ظُلْمَهُ لِلْعِبَادِ سَيَضِيعُ وَيَذْهَبُ دُونَ حِسَابٍ وَلَا عِقَابٍ: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) (إبراهيم: 42)، بل قد يجعل الله له من العقوبة العاجلة في الدنيا ما يردعه، أو يكون به عبرة للظالمين(2).
    (4) عاقبة الظلم والظالمين في الدنيا والآخرة:
    أولًا: في الدنيا:
    - الظالم لا يحبُّه الله -تعالى-؛ وهو مصروف عن الهداية محروم من الفلاح: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران: 57)، (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة: 51)، (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (الأنعام: 21).
    - الظالم تطارده دعوات المظلومين الموعودة بالإجابة، ليلًا ونهارًا: قال -صلى الله عليه وسلم-: (واتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فإنَّه ليسَ بيْنَهُ وبيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ...) (متفق عليه)، وقال: (*دَعْوَةُ *الْمَظْلُومِ *مُسْتَجَابَةٌ، *وَإِنْ *كَانَ *فَاجِرًا *فَفُجُورُهُ *عَلَى *نَفْسِهِ) (رواه أحمد، وقال الألباني: "حسن لغيره")، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (اتَّقوا دعوةَ *المظلومِ؛ فإنها تُحملُ على الغَمامِ، يقولُ الله: وعِزَّتي وجَلالي لأَنْصُرَنَّك *ولوْ *بَعْدَ *حينٍ) (رواه الطبراني، وقال الألباني: "حسن لغيره")، وقال معاوية -رضي الله عنه-: "إني لأستحيي أن أظلم مَن لا يجد عليَّ ناصرًا إلا الله" (العقد الفريد لابن عبد ربه).

    لا تـظـلـمـن إذا كــنـتَ مـقـتـدرًا فـالـظــلـم آخـره يـأتـيك بالـنـدم

    تــنـام عيــــنك والمظلوم منتـبه يدعو عليك وعيــــن الله لم تنمِ
    - صور لمَن استعملوا سلاح الدعاء في مواجهة الظلمة: سعيد بن زيد -رضي الله عنه- يدعو على امرأة ظلمته بادعائها لجزءٍ من أرضه، ففوض الأمر إلى الله -تعالى-، وقال: دَعُوهَا وَإِيَّاهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ: (مَن أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الأرْضِ بغيرِ حَقِّهِ، طُوِّقَهُ في سَبْعِ أَرَضِينَ يَومَ القِيَامَةِ) اللَّهُمَّ، إنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فأعْمِ بَصَرَهَا، وَاجْعَلْ قَبْرَهَا في دَارِهَا. قالَ: فَرَأَيْتُهَا عَمْيَاءَ تَلْتَمِسُ الجُدُرَ تَقُولُ: أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعِيدِ بنِ زَيْدٍ، فَبيْنَما هي تَمْشِي في الدَّارِ مَرَّتْ علَى بئْرٍ في الدَّارِ، فَوَقَعَتْ فِيهَا، فَكَانَتْ قَبْرَهَا. (رواه مسلم).
    وسعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- دعا على أبي سعدة الكوفي لما افترى عليه: "اللَّهُمَّ إنْ كانَ عَبْدُكَ هذا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً وسُمْعَةً، فأطِلْ عُمْرَهُ، وأَطِلْ فَقْرَهُ، وعَرِّضْهُ بالفِتَنِ. وكانَ بَعْدُ إذَا سُئِلَ يقولُ: شيخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ، قالَ عبدُ المَلِكِ: فأنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ، قدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ علَى عَيْنَيْهِ مِنَ الكِبَرِ، وإنَّه لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي في الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ" (متفق عليه)(3).
    - بل الأشد أن يتركه الله يزداد في ظلمه دون عقوبة زمنًا طويلًا يغتر فيه بعمله، ثم فجأة تنزل فوق رأسه المصائب والبلايا غير المتوقعة، فضلًا عما ينتظره في الآخرة: قال -تعالى-: (سَنَسْتَدْرِجُه ُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) (الأعراف: 182)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظّالِمِ، حتَّى إذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ) ثم قرأ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود: 102). (متفق عليه).
    ثانيًا: في الآخرة:
    - بيَّن الحق -تعالى- أن الحقوق إن ضاعت في الدنيا، فإنها لا تضيع في الآخرة، وإن كانت كمثقال الذر: قال -تعالى-: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الأنبياء: 47).
    - وصف الله -تعالى- أحوال الظالمين عند الموت: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَة ُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) (الأنعام: 93).
    - تهدَّدهم الكبير المتعال مِن قَبْل بسوء العاقبة، وطردهم من رحمته: قال -تعالى-: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) (الشعراء: 227)، وقال: (فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (المؤمنون: 41).
    - يخرج الظالمون من قبورهم في رعب وهلع شديد، قد نسوا كل نعيم في الدنيا، لا يذكرون إلا مشاهد ظلمهم للعباد، وما ينتظرون من العقاب: قال -تعالى-: (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ? وَأَفْئِدَتُهُم ْ هَوَاءٌ) (إبراهيم: 43).
    - وفي عرصات القيامة، هم في فضيحة بما ظلموا، مطردون من رحمة الله بما عملوا: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (غافر: 52)، (وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ ? أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (هود: 18)، (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (الأعراف: 44).
    - ثم يساقون الى أشد ألوان العذاب: قال -تعالى-: (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) (الزخرف: 65).
    - وأما تفاصيل العذاب؛ فقد جاء في الكتاب والسنة في كلِّ ظلم عقوبته؛ إما صراحة أو ضمنًا، فراجع عواقب الكبائر والمعاصي.
    خاتمة:
    - أيها الظالم تُبْ قبل فوات الأوان: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَن كانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لأخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْ هُ مِنْها، فإنَّه ليسَ ثَمَّ دِينارٌ ولا دِرْهَمٌ، مِن قَبْلِ أنْ يُؤْخَذَ لأخِيهِ مِن حَسَناتِهِ، مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْ هُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، *فَإِنْ *لَمْ *يَكُنْ *لَهُ *حَسَنَاتٌ *أُخِذَ *مِنْ *سَيِّئَاتِ *أَخِيهِ *فَطُرِحَتْ *عَلَيْهِ) (رواه البخاري). وقال سفيان الثوري: "إن لقيتَ اللهَ -تعالى- بسَبعينَ ذَنبًا فيما بَينَك وبَينَ اللهِ -تعالى-، أهونُ عليك مِن أن تَلقاه بذَنبٍ واحِدٍ فيما بَينَك وبَينَ العِبادِ" (تنبيه الغافلين للسمرقندي).
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ ــــــ
    (1) حكى الطرطوشي -رحمه الله-: "أنه كان بمصر نخلة تحمل تمرًا عظيمًا، ولم تكن نخلة تحمل نصف حملها، فغصبها أحدهم فلم تحمل تمرة واحدة في ذلك العام! قال: وشهدت السمك في الإسكندرية يغلي -يفور- به الماء لكثرته ويصيده الأطفال بالخرق، فحجر عليه أحدهم، ومنع الناس من صيده، فذهب السمك منه حتى لا يكاد يوجد فيه إلا الواحدة "
    (2) قال ابن القيم -رحمه الله-: "سبحان الله! كم بكت في تنعم الظالم عين أرملة، واحترقت كبد يتيم، وجرت دمعة مسكين (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ) (المرسلات: 46)، (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (ص: 88)، ما ابيضَّ لون رغيفهم حتى اسود لون ضعيفهم، وما سمنت أجسامهم حتى انتحلت أجسام ما استأثروا عليه! لا تحتقر دعاء المظلوم، فشرر قلبه محمول بعجيج صوته إلى سقف بيتك... ويحك نبال أدعيته مصيبة، وإن تأخر الوقت، قوسه قلبه المقروح، ووتره سواد الليل، وأستاذه صاحب: (لأَنْصُرَنَّك *ولوْ *بَعْدَ *حينٍ)، وقد رأيت ولكن لست تعتبر.
    احذر عداوة مَن ينام وطرفه باكٍ، يقلِّب وجهه في السماء، يرمي سهامًا ما لها غرض سوى الأحشاء منك، فربما ولعلها إذا كانت راحة اللذة تثمر ثمرة العقوبة لم يحسن تناولها، ما تساوي لذة سنة غمَّ ساعة؛ فكيف والأمر بالعكس؟! كم في يمِّ الغرور من تمساح، فاحذر يا غائص، ستعلم أيها الغريم قصتك عند علق الغرماء بك" (بدائع الفوائد).
    (3) وقد حكت كتب التاريخ: عن وزير ظلم امرأة بأخذ مزرعتها وبيتها، فشكته إلى الله فأوصاها مستهترًا، وقال: عليك بالدعاء في الثلث الأخير من الليل، فأخذت تدعو عليه شهرًا، فابتلاه الله بمَن قطع يده وعزله وأهانه، فمرت عليه وهو يُجلَد فشكرته قائلة:
    إذا حـــاف الــــوزيــر وكــــاتـبــاه وقاضي الأرض أجحف في القضاء


    فــــويــل ثــــم ويـــل ثــــم ويــــل لقاضي الأرض مـن قـاضي السماء



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #34
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (34)

    قذف المحصنات

    (موعظة الأسبوع)


    كتبه/ سعيد محمود
    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
    المقدمة:
    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى- : (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
    - قَذْفُ المُحْصَنَاتِ من أكبر الكبائر، وأعظم الجرائم؛ لما له من أثر سيئ على مجتمعات المسلمين: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ)، قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، وما هُنَّ؟ قالَ: (الشِّرْكُ باللَّهِ، والسِّحْرُ، وقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بالحَقِّ، وأَكْلُ الرِّبا، وأَكْلُ مالِ اليَتِيمِ، والتَّوَلِّي يَومَ الزَّحْفِ، وقَذْفُ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ الغافِلاتِ) (متفق عليه).
    - المقصود بقذف المحصنات الغافلات: القذف الرمي البعيد، استعير للشتم والعيب والبهتان كما استعير للرمي، والمحصنات جمع محصنة، بفتح الصاد، اسم مفعول، أي: التي أحصنها الله -تعالى- وحفظها من الزنا، وبكسرها، اسم فاعل أي: التي حفظت فرجها من الزنا. والغافلات: كناية عن البريئات؛ لأن البريء غافل عما بهت به من الزنا. (عمدة القاري).
    وقال الذهبي -رحمه الله-: "والقذف أن يقول لامرأة أجنبية حرة عفيفة مسلمة: يا زانية، أو يا باغية. أو يقول لزوجها: يا زوج الزانية... وما إلى ذلك من عبارات" (الكبائر للذهبي).
    - الإشارة إلى استهانة كثير من الناس بالقذف بكل أشكاله وألوانه وتنوع ألفاظه، مما امتلأت به حياة الناس عند التعاملات والاختلافات، بل عند التمازح، بل في وسائل الإعلام وسائل الاتصالات الحديثة، وغير ذلك.
    (1) خطورة قذف المحصنات:
    - قَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ يتسبب في فساد المجتمع وشيوع الفاحشة: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ? وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النور: 19).
    - قَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ يوجب الطرد من رحمة الله: قال الله -تعالى- : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ . يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (النور: 23-25).
    - قَذْفُ الْمُحْصَنَةِ أَقْبَحُ مِنَ الرِّبَا وَمِنَ الزِّنَا: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (الرِّبَا ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ بَابًا، أَيْسَرُهَا مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ، *وَإِنَّ *أَرْبَى *الرِّبَا *عِرْضُ *الرَّجُلِ *الْمُسْلِمِ) (رواه ابن ماجه والحاكم واللفظ له، وصححه الألباني).
    - قَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ يصل في بعض الأحيان إلى الكفر بالله -تعالى-: الشيعة الرافضة -المنتسبين إلى الإسلام زورًا وبهتانًا-، يحملهم الحقد وعداوة هذا الدِّين على رمي أمِّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- بالفاحشة، وهذا كفر؛ لأنه تكذيب لصريح القرآن: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور: 23).
    وقال ابن كثير -رحمه الله-: "فَأُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلَى بِالدُّخُولِ فِي هَذَا مِنْ كُلِّ مُحَصَّنَةٍ، وَلَا سِيَّمَا الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ النُّزُولِ، وَهِيَ عَائِشَةُ بِنْتُ الصَّدِّيقِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ، قَاطِبَةً عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّها بَعْدَ هَذَا وَرَمَاهَا بِمَا رَمَاهَا بِهِ بَعْدَ هذا الَّذِي ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ كَافِرٌ؛ لِأَنَّهُ مُعَانِدٌ لِلْقُرْآنِ" (تفسير ابن كثير)، وسيأتي حديث رمي المنافقين للصِّدِّيقة -رضي الله عنها-.
    - ترتب العقوبة الشرعية على القاذف في الدنيا؛ إذا لم يأتِ بأربعة شهداء فإنه يجلد ثمانين جلدة، وترد شهادته أبدًا، ويصبح فاسقًا عند الله وعند الناس: قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَ?ئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: 4).
    (2) وقفة مهمة حول ضوابط ثبوت الزنا:
    - صعوبة تحقق ذلك في الواقع (إحضار أربع شهود متفقين من غير اختلاف)، لا تبيح للقاذف القذف لغيره: فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ)، قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَهُوَ سَيِّدُ الأَنْصَارِ: أَهَكَذَا أُنْزِلَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (أَلا تَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ إِلَى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ؟) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهُ رَجُلٌ غَيُورٌ، وَاللَّهِ مَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً قَطُّ إِلا بِكْرًا، وَمَا طَلَّقَ امْرَأَةً قَطُّ، فَاجْتَرَأَ رَجُلٌ مِنَّا عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْ شِدَّةِ غَيْرَتِهِ؟ فَقَالَ سَعْدٌ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّهَا حَقٌّ، وَأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَكِنْ قَدْ تَعَجَّبْتُ أَنْ لَوْ وَجَدْتُ لَكَاعًا قَدْ تَفَخَّذَهَا رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ لِي أَنْ أُهِيجَهُ وَلا أُحَرِّكَهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ! فَوَاللَّهِ إِنِّي لا آتِي بِهِمْ حَتَّى يَقْضِي حَاجَتَهُ!
    فَمَا لَبِثُوا إِلا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ هِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ مِنْ أَرْضِهِ عَشِيَّةً، فَوَجَدَ عِنْدَ أَهْلِهِ رَجُلًا، فَرَأَى بِعَيْنِهِ، وَسَمِعَ بِأُذُنِهِ، فَلَمْ يُهِجْهُ حَتَّى أَصْبَحَ، فَغَدا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي جِئْتُ أَهْلِي عَشِيًّا فَوَجَدْتُ عِنْدَهَا رَجُلًا فَرَأَيْتُ بِعَيْنِي، وَسَمِعْتُ بِأُذُنِي؟ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا جَاءَ بِهِ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: الآنَ يَضْرِبُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- هِلالَ بْنَ أُمَيَّةَ، وَيُبْطِلُ شَهَادَتَهُ فِي الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ هِلالٌ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِي مِنْهَا مَخْرَجًا، فَقَالَ هِلالٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ أَرَى مَا قَدِ اشْتَدَّ عَلَيْكَ مِمَّا جِئْتُكَ بِهِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنِّي لَصَادِقٌ، فَوَاللَّهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُرِيدُ أَنْ يَأْمُرَ بِضَرْبِهِ إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، وَكَانَ إِذَا نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ عَرَفُوا ذَلِكَ فِي تَرَبُّدِ جِلْدِهِ، فَأَمْسَكُوا عَنْهُ حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْوَحْيِ، فَنَزَلَتْ: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ . وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ . وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ . وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (النور: 6-9)، فَسُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: (أَبْشِرْ يَا هِلالُ، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا)، فَقَالَ هِلالٌ: قَدْ كُنْتُ أَرْجُو ذَاكَ مِنْ رَبِّي، ثم أمرا بأن يتلاعنا، فذكَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- هلال بن أمية بالله والنار والعذاب، فلما أصر على قوله أمره أن يشهد بالله أربع مرات إنه لمن الصادقين، وفي الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم ذكَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- زوجته بالله وبالنار والعذاب، فتلكأت قليلًا، ثم أصرت على تكذيبها لزوجها، فأمرها النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تشهد بالله أربع مرات إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن تقول أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، فلما فرغا من اللعان فرَّق النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهما، فلا تحل له أبدًا. (رواه أحمد بسندٍ حسنٍ).
    (3) أعظم جريمة قذف في التاريخ:
    - رمى المنافقين الصديقة بنت الصديق بالفاحشة: عن عَائِشَةَ قَالَتْ: كانَ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إذَا أرَادَ أنْ يَخْرُجَ أقْرَعَ بيْنَ أزْوَاجِهِ، فأيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بهَا رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- معهُ، قالَتْ عَائِشَةُ: فأقْرَعَ بيْنَنَا في غَزْوَةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ سَهْمِي، فَخَرَجْتُ مع رَسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ ما نَزَلَ الحِجَابُ، فأنَا أُحْمَلُ في هَوْدَجِي، وأُنْزَلُ فِيهِ، فَسِرْنَا حتَّى إذَا فَرَغَ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِن غَزْوَتِهِ تِلكَ وقَفَلَ، ودَنَوْنَا مِنَ المَدِينَةِ قَافِلِينَ، آذَنَ لَيْلَةً بالرَّحِيلِ، فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بالرَّحِيلِ فَمَشيتُ حتَّى جَاوَزْتُ الجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أقْبَلْتُ إلى رَحْلِي، فَإِذَا عِقْدٌ لي مِن جَزْعِ ظَفَارِ قَدِ انْقَطَعَ، فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي وحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ، وأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ لِي، فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي فَرَحَلُوهُ علَى بَعِيرِي الذي كُنْتُ رَكِبْتُ، وهُمْ يَحْسِبُونَ أنِّي فِيهِ، وكانَ النِّسَاءُ إذْ ذَاكَ خِفَافًا، لَمْ يُثْقِلْهُنَّ اللَّحْمُ، إنَّما تَأْكُلُ العُلْقَةَ مِنَ الطَّعَامِ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ القَوْمُ خِفَّةَ الهَوْدَجِ حِينَ رَفَعُوهُ، وكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ فَبَعَثُوا الجَمَلَ وسَارُوا، فَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ ما اسْتَمَرَّ الجَيْشُ فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وليسَ بهَا دَاعٍ، ولَا مُجِيبٌ فأمَمْتُ مَنْزِلِي الذي كُنْتُ به، وظَنَنْتُ أنَّهُمْ سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُونَ إلَيَّ.
    فَبيْنَا أنَا جَالِسَةٌ في مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ، وكانَ صَفْوَانُ بنُ المُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِن ورَاءِ الجَيْشِ، فأدْلَجَ فأصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي، فَرَأَى سَوَادَ إنْسَانٍ نَائِمٍ، فأتَانِي فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي، وكانَ رَآنِي قَبْلَ الحِجَابِ، فَاسْتَيْقَظْتُ باسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي فَخَمَّرْتُ وجْهِي بجِلْبَابِي، ووَاللَّهِ ما كَلَّمَنِي كَلِمَةً ولَا سَمِعْتُ منه كَلِمَةً غيرَ اسْتِرْجَاعِهِ، حتَّى أنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ علَى يَدَيْهَا فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بي الرَّاحِلَةَ، حتَّى أتَيْنَا الجَيْشَ بَعْدَما نَزَلُوا مُوغِرِينَ في نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَهَلَكَ مَن هَلَكَ، وكانَ الذي تَوَلَّى الإفْكَ عَبْدَ اللَّهِ بنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ، فَقَدِمْنَا المَدِينَةَ، فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْتُ شَهْرًا، والنَّاسُ يُفِيضُونَ في قَوْلِ أصْحَابِ الإفْكِ، لا أشْعُرُ بشيءٍ مِن ذلكَ وهو يَرِيبُنِي في وجَعِي، أنِّي لا أعْرِفُ مِن رَسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- اللَّطَفَ الذي كُنْتُ أرَى منه حِينَ أشْتَكِي، إنَّما يَدْخُلُ عَلَيَّ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- فيُسَلِّمُ ثُمَّ يقولُ: (كيفَ تِيكُمْ؟) ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَذَاكَ الذي يَرِيبُنِي، ولَا أشْعُرُ بالشَّرِّ حتَّى خَرَجْتُ بَعْدَ ما نَقَهْتُ، فَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ المَنَاصِعِ وهو مُتَبَرَّزُنَا، وكُنَّا لا نَخْرُجُ إلَّا لَيْلًا إلى لَيْلٍ، وذلكَ قَبْلَ أنْ نَتَّخِذَ الكُنُفَ قَرِيبًا مِن بُيُوتِنَا، وأَمْرُنَا أمْرُ العَرَبِ الأُوَلِ في التَّبَرُّزِ قِبَلَ الغَائِطِ، فَكُنَّا نَتَأَذَّى بالكُنُفِ أنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا، فَانْطَلَقْتُ أنَا وأُمُّ مِسْطَحٍ وهي ابْنَةُ أبِي رُهْمِ بنِ عبدِ مَنَافٍ، وأُمُّهَا بنْتُ صَخْرِ بنِ عَامِرٍ خَالَةُ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وابنُهَا مِسْطَحُ بنُ أُثَاثَةَ، فأقْبَلْتُ أنَا وأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ بَيْتِي، وقدْ فَرَغْنَا مِن شَأْنِنَا، فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ في مِرْطِهَا، فَقالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ، فَقُلتُ لَهَا: بئْسَ ما قُلْتِ، أتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا؟ قالَتْ: أيْ هَنْتَاهْ أوَلَمْ تَسْمَعِي ما قالَ؟ قالَتْ: قُلتُ: وما قالَ؟ فأخْبَرَتْنِي بقَوْلِ أهْلِ الإفْكِ، فَازْدَدْتُ مَرَضًا علَى مَرَضِي.
    فَلَمَّا رَجَعْتُ إلى بَيْتِي، ودَخَلَ عَلَيَّ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تَعْنِي سَلَّمَ، ثُمَّ قالَ: (كيفَ تِيكُمْ؟)، فَقُلتُ: أتَأْذَنُ لي أنْ آتِيَ أبَوَيَّ، قالَتْ: وأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أنْ أسْتَيْقِنَ الخَبَرَ مِن قِبَلِهِمَا، قالَتْ: فأذِنَ لي رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ، فَجِئْتُ أبَوَيَّ فَقُلتُ لِأُمِّي: يا أُمَّتَاهْ ما يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ قالَتْ: يا بُنَيَّةُ هَوِّنِي عَلَيْكِ، فَوَاللَّهِ لَقَلَّما كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا، ولَهَا ضَرَائِرُ إلَّا كَثَّرْنَ عَلَيْهَا، قالَتْ: فَقُلتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أوَلقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بهذا؟! قالَتْ: فَبَكَيْتُ تِلكَ اللَّيْلَةَ حتَّى أصْبَحْتُ لا يَرْقَأُ لي دَمْعٌ، ولَا أكْتَحِلُ بنَوْمٍ، حتَّى أصْبَحْتُ أبْكِي، فَدَعَا رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلِيَّ بنَ أبِي طَالِبٍ وأُسَامَةَ بنَ زَيْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عنْهما- حِينَ اسْتَلْبَثَ الوَحْيُ، يَسْتَأْمِرُهُم ا في فِرَاقِ أهْلِهِ، قالَتْ: فأمَّا أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ فأشَارَ علَى رَسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بالَّذِي يَعْلَمُ مِن بَرَاءَةِ أهْلِهِ، وبِالَّذِي يَعْلَمُ لهمْ في نَفْسِهِ مِنَ الوُدِّ، فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، أهْلَكَ ولَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا، وأَمَّا عَلِيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ لَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ، والنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وإنْ تَسْأَلِ الجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ.
    قالَتْ: فَدَعَا رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَرِيرَةَ، فَقالَ: (أيْ بَرِيرَةُ، هلْ رَأَيْتِ مِن شيءٍ يَرِيبُكِ؟) قالَتْ بَرِيرَةُ: لا والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ، إنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أمْرًا أغْمِصُهُ عَلَيْهَا، أكْثَرَ مِن أنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، تَنَامُ عن عَجِينِ أهْلِهَا، فَتَأْتي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ، فَقَامَ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ، فَاسْتَعْذَرَ يَومَئذٍ مِن عبدِ اللَّهِ بنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ، قالَتْ: فَقالَ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وهو علَى المِنْبَرِ: (يا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ مَن يَعْذِرُنِي مِن رَجُلٍ قدْ بَلَغَنِي أذَاهُ في أهْلِ بَيْتِي، فَوَاللَّهِ ما عَلِمْتُ علَى أهْلِي إلَّا خَيْرًا، ولقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا ما عَلِمْتُ عليه إلَّا خَيْرًا، وما كانَ يَدْخُلُ علَى أهْلِي إلَّا مَعِي) فَقَامَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ الأنْصَارِيُّ، فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ أنَا أعْذِرُكَ منه، إنْ كانَ مِنَ الأوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وإنْ كانَ مِن إخْوَانِنَا مِنَ الخَزْرَجِ أمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أمْرَكَ، قالَتْ: فَقَامَ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ وهو سَيِّدُ الخَزْرَجِ، وكانَ قَبْلَ ذلكَ رَجُلًا صَالِحًا، ولَكِنِ احْتَمَلَتْهُ الحَمِيَّةُ، فَقالَ لِسَعْدٍ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لا تَقْتُلُهُ، ولَا تَقْدِرُ علَى قَتْلِهِ، فَقَامَ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ وهو ابنُ عَمِّ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ، فَقالَ لِسَعْدِ بنِ عُبَادَةَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ ، فإنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ المُنَافِقِينَ.
    فَتَثَاوَرَ الحَيَّانِ الأوْسُ والخَزْرَجُ حتَّى هَمُّوا أنْ يَقْتَتِلُوا، ورَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَائِمٌ علَى المِنْبَرِ، فَلَمْ يَزَلْ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُخَفِّضُهُمْ حتَّى سَكَتُوا، وسَكَتَ، قالَتْ: فَبَكَيْتُ يَومِي ذلكَ لا يَرْقَأُ لي دَمْعٌ ولَا أكْتَحِلُ بنَوْمٍ، قالَتْ: فأصْبَحَ أبَوَايَ عِندِي وقدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ ويَوْمًا لا أكْتَحِلُ بنَوْمٍ، ولَا يَرْقَأُ لي دَمْعٌ، يَظُنَّانِ أنَّ البُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي، قالَتْ: فَبيْنَما هُما جَالِسَانِ عِندِي، وأَنَا أبْكِي فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الأنْصَارِ، فأذِنْتُ لَهَا فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي، قالَتْ: فَبيْنَا نَحْنُ علَى ذلكَ، دَخَلَ عَلَيْنَا رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، قالَتْ: ولَمْ يَجْلِسْ عِندِي مُنْذُ قيلَ ما قيلَ قَبْلَهَا، وقدْ لَبِثَ شَهْرًا لا يُوحَى إلَيْهِ في شَأْنِي، قالَتْ: فَتَشَهَّدَ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ جَلَسَ، ثُمَّ قالَ: (أمَّا بَعْدُ يا عَائِشَةُ، فإنَّه قدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وكَذَا، فإنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وإنْ كُنْتِ ألْمَمْتِ بذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وتُوبِي إلَيْهِ، فإنَّ العَبْدَ إذَا اعْتَرَفَ بذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ إِلَى اللَّهِ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ).
    قالَتْ: فَلَمَّا قَضَى رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَقالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حتَّى ما أُحِسُّ منه قَطْرَةً، فَقُلتُ لأبِي: أجِبْ رَسولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِيما قالَ، قالَ: واللَّهِ ما أدْرِي ما أقُولُ لِرَسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقُلتُ لِأُمِّي: أجِيبِي رَسولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قالَتْ: ما أدْرِي ما أقُولُ لِرَسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قالَتْ: فَقُلتُ وأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لا أقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ القُرْآنِ: إنِّي واللَّهِ لقَدْ عَلِمْتُ، لقَدْ سَمِعْتُمْ هذا الحَدِيثَ حتَّى اسْتَقَرَّ في أنْفُسِكُمْ وصَدَّقْتُمْ به؛ فَلَئِنْ، قُلتُ لَكُمْ: إنِّي بَرِيئَةٌ، واللَّهُ يَعْلَمُ أنِّي بَرِيئَةٌ لا تُصَدِّقُونِي بذلكَ، ولَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بأَمْرٍ واللَّهُ يَعْلَمُ أنِّي منه بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي ، واللَّهِ ما أجِدُ لَكُمْ مَثَلًا إلَّا قَوْلَ أبِي يُوسُفَ، قالَ: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ واللَّهُ المُسْتَعَانُ علَى ما تَصِفُونَ) (يوسف: 18).
    قالَتْ: ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ علَى فِرَاشِي، قالَتْ: وأَنَا حِينَئِذٍ أعْلَمُ أنِّي بَرِيئَةٌ، وأنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي ببَرَاءَتِي، ولَكِنْ واللَّهِ ما كُنْتُ أظُنُّ أنَّ اللَّهَ مُنْزِلٌ في شَأْنِي وحْيًا يُتْلَى، ولَشَأْنِي في نَفْسِي كانَ أحْقَرَ مِن أنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بأَمْرٍ يُتْلَى، ولَكِنْ كُنْتُ أرْجُو أنْ يَرَى رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- في النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بهَا، قالَتْ: فَوَاللَّهِ ما رَامَ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، ولَا خَرَجَ أحَدٌ مِن أهْلِ البَيْتِ حتَّى أُنْزِلَ عليه، فأخَذَهُ ما كانَ يَأْخُذُهُ مِنَ البُرَحَاءِ، حتَّى إنَّه لَيَتَحَدَّرُ منه مِثْلُ الجُمَانِ مِنَ العَرَقِ، وهو في يَومٍ شَاتٍ، مِن ثِقَلِ القَوْلِ الذي يُنْزَلُ عليه، قالَتْ: فَلَمَّا سُرِّيَ عن رَسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سُرِّيَ عنْه وهو يَضْحَكُ، فَكَانَتْ أوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بهَا: (يا عَائِشَةُ، أمَّا اللَّهُ -عزَّ وجلَّ- فقَدْ بَرَّأَكِ) فَقالَتْ أُمِّي: قُومِي إلَيْهِ، قالَتْ: فَقُلتُ: لا واللَّهِ لا أقُومُ إلَيْهِ، ولَا أحْمَدُ إلَّا اللَّهَ -عزَّ وجلَّ-، فأنْزَلَ اللَّهُ -عزَّ وجلَّ-: (*إِنَّ *الَّذِينَ *جَاءُوا *بِالْإِفْكِ *عُصْبَةٌ *مِنْكُمْ *لَا *تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور: 11) الآيَاتِ. (متفق عليه).
    خاتمة:
    - قذف المحصنات مسألة خطيرة جدًّا قد يتعرَّض لها أحدٌ مِن المسلمين فيهلك بسببها، وقد يتكلم بها عند أحد من الناس أو في جمع من الخلق أو عند أهله، أو يكتبها في الإنترنت، أو في قناة من القنوات الإعلامية، وهو يعلم أو لا يعلم ما يترتب على قوله من الهلاك -والعياذ بالله-؛ فالحذر الحذر، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اجْتَنِبُوا *السَّبْعَ *الْمُوبِقَاتِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: (الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ) (متفق عليه).
    فاللهم استر عوراتنا، وآمِن روعاتنا، واحفظ أعراض المسلمين أجمعين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #35
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (35)

    شرب الخمر والمخدرات

    (موعظة الأسبوع)




    كتبه/ سعيد محمود
    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
    المقدمة:
    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضمن الله لمن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال تعالى: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
    - شرب الخمر والمخدرات من كبائر الذنوب، وشنائع السلوك؛ لما لها من مفاسد على عقل الإنسان وسلوكه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لُعِنتِ الخمرُ على عشرةِ أوجُهٍ: بعينِها، وعاصرِها، ومعتَصرِها، وبائعِها، ومُبتاعِها، وحاملِها، والمحمولةِ إليهِ، وآكِلِ ثمنِها، وشاربِها، وساقيها) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).
    - المخدِّر في التعريف العلمي: مادة تسبب في الإنسان والحيوان فقدان الوعي بدرجات متفاوتة كالحشيش والأفيون. (المعجم الوسيط)، يعني: كل مادة طبيعية أو كيماوية إذا استخدمت تؤدي إلى فقدان كلي أو جزئي للإدراك بصفة مؤقتة، على حسب نوع المخدر والكمية المستخدمة.
    - إذًا فكل ما يؤثـِّر على العقل سلبًا -وإن سماه الناس بأسماء ترغيبية- فهو خمر: عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَجُلاً قَدِمَ مِنْ جَيْشَانَ -وَجَيْشَانُ مِنْ الْيَمَنِ- فَسَأَلَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ شَرَابٍ يَشْرَبُونَهُ بِأَرْضِهِمْ مِنْ الذُّرَةِ يُقَالُ لَهُ: الْمِزْرُ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (أَوَمُسْكِرٌ هُوَ؟)، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، إِنَّ عَلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَهْدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟! قَالَ: (عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ) (رواه مسلم)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ؛ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ) (رواه أحمد والنسائي، وقال الألباني: "حسن صحيح")(1).
    (1) عاقبة المخدرات في الدنيا والآخرة:
    - متناول المخدرات ملعون هو ومَن يشاركه بأي درجة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لُعِنتِ الخمرُ على عشرةِ أوجُهٍ: بعينِها، وعاصرِها، ومعتَصرِها، وبائعِها، ومُبتاعِها، وحاملِها، والمحمولةِ إليهِ، وآكِلِ ثمنِها، وشاربِها، وساقيها) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).
    - متناول المخدرات متوعد في الدنيا بالجلد والإهانة، وهو على غير سبيل المسلمين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَن شربَ الخمرَ فاجلِدوهُ) (رواه أحمد، وصححه الشيخ أحمد شاكر)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وهو مُؤْمِنٌ، ولا يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وهو مُؤْمِنٌ، ولا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وهو مُؤْمِنٌ) (متفق عليه).
    - متناول المخدرات متوعد في الآخرة بشرب طينة الخبال في النار: قال -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، إِنَّ عَلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَهْدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟! قَالَ: (عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ) (رواه مسلم).
    (2) أضرار المخدرات على الفرد:
    - المخدرات محاربة للمقاصد العظيمة التي جاءت الشريعة الإسلامية بالمحافظة عليها: (الضروريات: النفس - المال - العقل - العرض - الدين)، والمخدرات تفسد كل ذلك.
    - فالمخدرات قتل للنفس عاجلًا أو آجلًا: (الالتهاب الرئوي - الصرع - الإيدز - الكبد الوبائي - الوفاة بجرعة زائدة)، قال -تعالى-: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) (النساء:29).
    - والمخدرات إفساد للعقل: (اضطراب خلايا المخ - تغيرات سلوكية وأخلاقية - ...)، وغير ذلك مما يجرئ على ارتكاب المعاصي، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ ملِكًا من بنِي إسرائِيلَ أخذَ رجُلًا فخَيَّرَهُ بين أنْ يَشرَبَ الخمْرَ، أوْ يَقتُلَ صبِيًّا، أوْ يزْنِيَ، أو يأكلَ لحمَ خِنزيرٍ، أو يَقتلُوهُ إنْ أبَى، فاختارَ أنْ يَشربَ الخمْرَ، وإنَّهُ لَمَّا شرِبَها لمْ يمتنعْ من شيءٍ أرادُوهُ مِنهُ) (رواه الطبراني في المعجم الأوسط، وصححه الألباني).
    - والمخدرات إتلاف للمال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). ومتناول المخدرات غالبًا لا يعمل، وعلى ذلك يسعى لجلب المال للتعاطي بأي صورة (سرقة - تفريط في عرض - إلخ).
    - المخدرات تضييع للأعراض: (لا غيرة ولا رجولة؛ لأنه أسير شهوته)(2).
    - المخدرات تضييع للدين، فالعبادة لها روحانية خاصة لا تناسب حالة المدمن المضطربة: قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) (النساء:43).
    (3) أضرار المخدرات على المجتمع:
    - تهدد بانهيار البنية البشرية للمجتمع وخصوصًا الشباب: ففي الحديث قيل: يَا رَسُولَ اللهِ *أَنَهْلِكُ *وَفِينَا *الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: (نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ) (متفق عليه).
    - إفساد لاقتصاد الأمة (الأموال المهدرة على المخدرات تقيم جيشًا على أحدث نظام، وأرباب المخدرات لا ينتجون، بل يزيدون الأعباء الاقتصادية): (سجون - شرطة وحراسة - قضاة - محاكم - مستشفيات - ...).
    - هزيمة عسكرية: (انهزم الصينيون هزيمة نكراء من اليابان؛ لأن الأفيون كان منتشرًا بين صفوف الجيش الصيني).
    (4) أسباب انتشار المخدرات:
    - ضعف الدين، وتضييع معنى المراقبة لله، والجزاء من جنس العمل: قال -سبحانه وتعالى-: (مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا) (الكهف:17).
    - سوء التربية أو فسادها في كثير من البيوت: قال -تعالى-: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا) (الأعراف:58).
    - أصحاب السوء: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
    - وسائل الإعلام الفاسدة المفسدة: (البطل عندهم إما سارق أو فاسق أو مدخن، إلخ)، قال -تعالى-: (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (البقرة:221).
    - تعاطي بعض الأدوية بطريق الخطأ أو مظنة الخير: (المنشطات الجنسية - المثبطات الكثيرة ونحوها...).
    - الظروف السياسية بين الدول: مما يجعلها تستهدف خصمها بالإفساد لأفراده.
    (5) ما العلاج؟!:
    - التوبة والعودة إلى الله، فهي أعظم سبيل للنجاة والعلاج: قال -تعالى-: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا) (الطلاق:2)، (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) (الطلاق:4)، (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا . وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا) (نوح:10-12).
    - مراقبة الله واستحضار العاقبة في الدنيا والآخرة: قال -صلى الله عليه وسلم-: (... أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ) (متفق عليه).
    - الإقبال على المساجد ومجالس العلم، ومصاحبة الصالحين: قال -تعالى-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف:28)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ والجَلِيسِ السَّوْءِ، كَمَثَلِ صاحِبِ المِسْكِ وكِيرِ الحَدَّادِ، لا يَعْدَمُكَ مِن صاحِبِ المِسْكِ إمَّا تَشْتَرِيهِ أوْ تَجِدُ رِيحَهُ، وكِيرُ الحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ أوْ ثَوْبَكَ، أوْ تَجِدُ منه رِيحًا خَبِيثَةً) (متفق عليه).
    فاللهم اصلح شباب المسلمين، واحفظهم من كيد الكفرة والمفسدين.
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــ
    (1) قال الإمام الهيتمي بعد ذكره أنواعًا من المخدرات في زمانه: "وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا مُسْكِرَةٌ أَوْ مُخَدِّرَةٌ فَاسْتِعْمَالُه َا كَبِيرَةٌ وَفِسْقٌ كَالْخَمْرِ، فَكُلُّ مَا جَاءَ فِي وَعِيدِ شَارِبِهَا يَأْتِي فِي مُسْتَعْمِلِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ لِاشْتِرَاكِهِم َا فِي إزَالَةِ الْعَقْلِ الْمَقْصُودِ لِلشَّارِعِ بَقَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ الْآلَةُ لِلْفَهْمِ عَنْ اللَّهِ -تَعَالَى- وَعَنْ رَسُولِهِ وَالْمُتَمَيِّز ُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنْ الْحَيَوَانِ، وَالْوَسِيلَةُ إلَى إيثَارِ الْكَمَالَاتِ عَنْ النَّقَائِصِ، فَكَانَ فِي تَعَاطِي مَا يُزِيلُهُ وَعِيدُ الْخَمْرِ الْآتِي فِي بَابهَا" (الزواجر عن اقتراف الكبائر للهيتمي).
    (2) يحسن أن يذكر الخطيب بعض القصص التي فيها عبرة، مثل: تحدث أحد رجال مكافحة المخدرات عن شاب من هؤلاء الذين أصبحوا أسرى للمخدرات، الذي يسرق أموال أمه وأخته، ثم بدأ يبيع أثاث البيت حتى لم يبقَ شيء يبيعه... أتدرون -عياذًا بالله- ماذا فعل؟! أوقع أخته في الإدمان من غير علمها، ثم أخذ يتاجر بعرضها وشرفها من أجل المال الذي يدمن به المخدرات، ولم يقف عن هذا الحد، بل سولت له نفسه، فكرر ذلك بأمه ليزيد من دخله المالي لأجل الإدمان! وإنا لله وإنا إليه راجعون. (قصة مأساة - إبراهيم الدويش).



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #36
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (36)

    أكل مال اليتيم ظلمًا

    (موعظة الأسبوع)


    كتبه/ سعيد محمود
    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
    المقدمة:
    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة التي ضمن الله لمن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
    - أكل مال اليتيم ظلمًا من الكبائر العظام، والجرائم الجسام؛ جاء الوعيد الشديد، والعذاب الأكيد لفاعله: قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (النساء: 10)، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ)، قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، وما هُنَّ؟ قالَ: (الشِّرْكُ باللَّهِ، والسِّحْرُ، وقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بالحَقِّ، وأَكْلُ الرِّبا، وأَكْلُ مالِ اليَتِيمِ، والتَّوَلِّي يَومَ الزَّحْفِ، وقَذْفُ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ الغافِلاتِ) (متفق عليه).
    - اليتيم في الشرع: هو مَن مات أبوه وهو دون البلوغ، وبعد البلوغ لا يسمى يتيمًا؛ فعن حنظلة المالكي، قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ، وَلَا يُتْمَ عَلَى جَارِيَةٍ إِذَا هِيَ حَاضَتْ) (رواه الطبراني في المعجم الكبير، وصححه الألباني).
    - الإشارة إلى استهانة كثير من الناس بأكل أموال الأيتام، بتأويلات مختلفة، بل البعض يكون فاجرًا غير متأول(1).
    (1) مكانة اليتيم في الإسلام:
    - فقد الأب في الصغر يكسر قلب الصغير، ويضعفه بين الناس؛ ولذا نبه الإسلام إلى مكانة اليتيم، وعظم من أجر رعايته، وذلك من خلال جوانب متعددة من الترغيب.
    - مواساة اليتامى بكون أعظم إنسان عرفته البشرية؛ محمد -صلى الله عليه وسلم- كان من الأيتام: قال -تعالى-: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى . وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى . وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) (الضحى: 6-8).
    - بيان أن هذا أمر الله للأمم كلها (الإحسان إليه): قال -تعالى-: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ) (البقرة: 83).
    - جعل الإسلام لليتيم نصيبًا وحظًّا في كل أنواع الأموال تقريبًا: قال -تعالى- في الزكاة والصدقة: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ) (البقرة: 177)، وفي الميراث قال -تعالى-: (إِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا) (النساء: 8)، وقال -تعالى- عند تقسيم الغنائم: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى) (الأنفال: 41).
    - توصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- المتكررة باليتيم والإحسان إليه: قال -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهمَّ إنِّي أحرِّجُ حقَّ الضَّعيفينِ: اليتيمِ والمرأَةِ) (رواه ابن ماجه والنسائي في السنن الكبرى، وحسنه الألباني).
    - التحذير من إهانة اليتيم وأذاه بأي نوع من الإهانة والأذى: قال -تعالى-: (كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ . وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) (الفجر: 17، 18)، وقال: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ) (الضحى: 9)، وقال في صفات الكافرين: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ . وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) (الماعون: 1-3)
    (2) فضل الإحسان إلى اليتيم:
    - الإحسان إلى اليتيم من أسباب مرافقة النبي في الجنة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أنا وكافِلُ اليَتِيمِ في الجَنَّةِ هَكَذا) وأَشارَ بالسَّبَّابَةِ والوُسْطَى، وفَرَّجَ بيْنَهُما شيئًا. (رواه البخاري ومسلم)، وقال: (أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَفْتَحُ بَابَ الجنَّةِ، إلا أنَّ امرأةٌ تُبادِرُني، فَأَقُولُ لَهَا: مَا لَكِ! وَمَن أَنْتَ؟ فَتَقُولُ: أَنَا امْرَأةٌ قعدتُ عَلَى أَيْتَامٍ لِي) (رواه أبو يعلى، وقال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب: رواه أبو يعلى وإسناده حسن إن شاء الله).
    - الإحسان إلى اليتيم مصدر من مصادر سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة: روي في الحديث: "مَنْ مَسَحَ رَأْسَ يَتِيمٍ لَمْ يَمْسَحْهُ إلا لِلَّه، كَانَ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ مَرَّتْ عَلَيْهَا يَدُهُ حَسَنَاتٌ" (رواه أحمد في مسنده، وإسناده ضعيف).
    - الإحسان إلى اليتيم دواء لعلاج قسوة القلب: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا شَكَا إلى رَسُولِ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- قَسْوَةَ قَلْبِهِ فَقَالَ لَه: (إِنْ أَرَدْتَ تَلْيِينَ قَلْبِكَ فَأَطْعِمْ الْمِسْكِينَ وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيم) (رواه أحمد، وحسنه الألباني).
    (3) عاقبة أكل مال اليتيم ظلمًا:
    - أرشد الحق -تبارك وتعالى- الذين لهم وصاية على اليتيم، أو لهم علاقة بمال اليتيم إلى سبيل الحق والعدل: قال -تعالى-: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِف ْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) (النساء: 6)، قال البغوي: "نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه، وذلك أن رفاعة توفي وترك ابنه ثابتًا وهو صغير، فجاء عمه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: إن ابن أخي يتيم في حجري، فما يحل لي من ماله ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله -تعالى- هذه الآية"(2).
    - ولذا توعد الحق تبارك و-تعالى- الذين يخالفون في ذلك بالاعتداء على أموال اليتامى ظلمًا بالوعيد الشديد في الدنيا والآخرة: قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (النساء: 10).
    - انظروا.. ماذا فعل الصالحون لما سمعوا آيات الوعيد: عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: لما أنزل الله -عز وجل-: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (الأنعام: 152)، و(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا) الآية.. انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأنزل الله -عز وجل-: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة: 220)؛ فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه" (رواه أبو داود، والنسائي، وضعفه الألباني).
    - أين الذين يأكلون أموال اليتامى من هؤلاء -رضي الله عنهم-؟!: (قصة للاعتبار: العم الذى أخذ أموال ابن أخيه اليتيم، ولما جاء ابن أخيه يطلبها بعد كبره، جحد العم المال ورفض تسليمه لابن أخيه، فجعل يخوفه بالله فلم يكترث لذلك وتجبر، فرجع الولد حزينًا، ولكنه قال له: لن أشكوك للقضاء فلربما تهرب من قاضي الأرض، ولكني سأشكوك إلى قاضي الأرض والسماء! وبعد شهور قليلة سافر هذا العم واصطحب زوجته وأولاده جميعًا، ولما كان على الطريق حدث لهم حادث مروع ماتوا فيه جميعًا، ولم يكن للرجل ورثة غير ابن أخيه! فآلت أمواله وأموال أخيه المتوفى لابن أخيه؛ اليتيم الذى أكل ماله يومًا)، وصدق الحق: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) (إبراهيم: 42).
    خاتمة:
    اليتيم يحتاج إلى مواساة وحب وعطف وحنان، لا إلى ظلم وقهر، فهو مكسور خاطره، مكلوم فؤاده، فانظر له بعين مشفقة حانية:
    انظرْ إلى وجـه اليتيم وهَبْ له عَـطْـفًا يعيش به الحياةَ كريما
    وافـتحْ له كَـنـْزَ الحـنـانِ فإنما يرعى الحنانُ فؤادَه المكلوما
    فالله الله في حقوق اليتامى وأكل أموالهم، انتبهوا واحذروا، فإنما هي نار في بطون آكليها: قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (النساء: 10)، وقال: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) (الإسراء: 34).
    فاللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك.
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ ـــــــــــــــ
    (1) من صور ذلك: حبس الوصي لميراث اليتامى، وعدم تقسيم وإعطاء الأيتام حقهم، فقد يكون الأيتام في حاجة ولديهم إرث حبسه عنهم الأخ الأكبر أو العم، أو أي أحد من الأوصياء؛ لأنه ينتفع منه، مثل: أرض زراعيه يزرع فيها ويؤجر بعضها طوال السنين، ويستمتع بها دون بقية الورثة وخاصة الأيتام، وقد يموت بعض الورثة ولم يذق حلاوة نصيبه من الميراث مع حاجته الماسة إليه.
    (2) التفسير الميسر: "واختبروا مَن تحت أيديكم من اليتامى لمعرفة قدرتهم على حسن التصرف في أموالهم، حتى إذا وصلوا إلى سن البلوغ، وعَلمتم منهم صلاحًا في دينهم، وقدرة على حفظ أموالهم، فسلِّموها لهم، ولا تعتدوا عليها بإنفاقها في غير موضعها إسرافًا ومبادرة لأكلها قبل أن يأخذوها منكم، ومَن كان صاحب مال منكم فليستعفف بغناه، ولا يأخذ من مال اليتيم شيئًا، ومن كان فقيرًا فليأخذ بقدر حاجته عند الضرورة، فإذا علمتم أنهم قادرون على حفظ أموالهم بعد بلوغهم الحُلُم وسلمتموها إليهم، فأَشْهِدوا عليهم؛ ضمانًا لوصول حقهم كاملًا إليهم؛ لئلا ينكروا ذلك، ويكفيكم أن الله شاهد عليكم، ومحاسب لكم على ما فعلتم".
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #37
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (37)

    التولي يوم الزَّحْف

    (موعظة الأسبوع)




    كتبه/ سعيد محمود
    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
    المقدمة:
    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة التي ضمن الله لمن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
    - التولي يوم الزحف من الكبائر العظام، والمهلكات الجسام في الدنيا والآخرة: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ)، قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ وما هُنَّ؟ قالَ: (الشِّرْكُ باللَّهِ، والسِّحْرُ، وقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بالحَقِّ، وأَكْلُ الرِّبا، وأَكْلُ مالِ اليَتِيمِ، والتَّوَلِّي يَومَ الزَّحْفِ، وقَذْفُ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ الغافِلاتِ) (متفق عليه).
    - المقصود بالتولي يوم الزحف: هو الفرار من ميدان المعركة أو الحرب، قال الشيخ العثيمين: "التولي: بمعنى الإدبار والإعراض. ويوم الزحف: يعني يوم تلاحم الصفين في القتال مع الكفار، وسمي يوم الزحف؛ لأن الجموع إذا تقابلت تجد أن بعضها يزحف إلى بعض كالذي يمشي زحفًا". (القول المفيد شرح كتاب التوحيد).
    - الإشارة إلى حاجتنا لنشر فقه الجهاد ومواجهة الأعداء في صفوف الجيوش الإسلامية، ليثبت أبناؤنا ويحتسبوا الأجر عند المواجهة.
    (1) منظور الحرب في الإسلام:
    - جاء الإسلام ينظم حياة البشر لا الملائكة، والبشر فيهم الخير والشر، ولم يكن الإسلام داعيًا إلى الاستسلام للظلم والظالمين، ولم يكن داعيًا إلى الظلم والوحشية والانتقام، واعترف الإسلام بالحرب؛ لأن طبيعة البشر فيها التنازع، ولا بد من المدافعة، قال -تعالى-: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة: 251).
    - الحرب في الإسلام لا تكون إلا لأجل الغاية العظيمة النبيلة: قال الله -تعالى-: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (الأنفال: 39)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، ويُقِيمُوا الصَّلَاةَ، ويُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذلكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ إلَّا بحَقِّ الإسْلَامِ، وحِسَابُهُمْ علَى اللَّهِ) (رواه البخاري ومسلم).
    - الحرب في الإسلام وسيلة لا غاية: قال الله -تعالى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (انْفُذْ علَى رِسْلِكَ حتَّى تَنْزِلَ بسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسْلَامِ، وأَخْبِرْهُمْ بما يَجِبُ عليهم مِن حَقِّ اللَّهِ فِيهِ؛ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ) (رواه البخاري ومسلم).
    - الحرب في الإسلام عدل ورحمة وسماحة: قال الله -تعالى-: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة: 190). كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول لقواده: (اغْزُوا باسْمِ اللهِ في سَبيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَن كَفَرَ باللَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا..) (رواه مسلم). (أمثلة معاملة المسلمين للأسرى: صلاح الدين الأيوبي يفتح بيت المقدس، فيحسن في مائة ألف أسير ويترك أكثر، ويمن بالمال على الثكالى - محمد الفاتح يحسن إلى أهل القسطنطينية بعد فتحها، وينتخب لهم بط-ريقًا يحكم في شئونهم).
    - أعداء الإسلام والحرب القذرة: قال -تعالى-: (كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) (التوبة: 8). (أمثلة: الصليبيون يقتلون مائة ألف مسلم في معرة النعمان في الشام بعد تأمينهم بالعهد، ومثلهم في المسجد الأقصى بعد ما أعطوا العهد - الجنود الروس يلقون بملابس النساء الأفغانيات من الطائرات على رؤوس المسلمين - الحرب الصليبية القذرة في البوسنة - اليهود يدفنون آلاف الأسرى المصريين أحياءً في صحراء سيناء - اليهود يرتكبون المجازر المتتالية ضد المسلمين في فلسطين، ولبنان، وغير ذلك).
    (2) وجوب الثبات عند لقاء الأعداء:
    - ومما سبق يتبين أن الحرب والقتال في الإسلام إنما هو وسيلة من وسائل نشر الدين والعدل والدفاع عن أعراض المسلمين، ولهذا وجب على المسلمين عندئذ الصبر والثبات وعدم التولي، وإظهار الشجاعة والإقدام في ميادين الحرب والقتال، فالثبات برهان الصدق مع الله -تبارك وتعالى-: قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ . وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (الأنفال: 15، 16).
    - والفرار والتولي جبن وخور، وإيذاء للمسلمين وخيانة لهم، فإنه يحدث في الصفوف الفرقة، ويفت في العزائم ويضعف الهمم، ويشجع العدو على الإغارة على من ثبت من المسلمين: قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 45، 46).
    - لقد أثنى الله على هؤلاء الذين كانوا لا يهابون العدو في أشرس مواطن القتال طلبًا للنصر والشهادة وإرضاء لله عز وجل: قال -تعالى-: (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا . لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) (الأحزاب: 23، 24)، وقال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 111).
    - مثال على الثبات في أشد الظروف: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "غَابَ عَمِّي أَنَسُ بنُ النَّضْرِ عن قِتَالِ بَدْرٍ، فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، غِبْتُ عن أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ المُشْرِكِينَ، لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ المُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ ما أَصْنَعُ، فَلَمَّا كانَ يَوْمُ أُحُدٍ وانْكَشَفَ المُسْلِمُونَ، قالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعْتَذِرُ إلَيْكَ ممَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ -يَعْنِي أَصْحَابَهُ- وأَبْرَأُ إلَيْكَ ممَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ -يَعْنِي المُشْرِكِينَ-، ثُمَّ تَقَدَّمَ، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ، فَقالَ: يا سَعْدُ بنَ مُعَاذٍ، الجَنَّةَ ورَبِّ النَّضْرِ، إنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِن دُونِ أُحُدٍ، قالَ سَعْدٌ: فَما اسْتَطَعْتُ يا رَسولَ اللَّهِ ما صَنَعَ، قالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا به بِضْعًا وثَمَانِينَ ضَرْبَةً بالسَّيْفِ، أَوْ طَعْنَةً برُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةً بسَهْمٍ، ووَجَدْنَاهُ قدْ قُتِلَ وقدْ مَثَّلَ به المُشْرِكُونَ، فَما عَرَفَهُ أَحَدٌ إلَّا أُخْتُهُ ببَنَانِهِ، قالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُرَى -أَوْ نَظُنُّ- أنَّ هذِه الآيَةَ نَزَلَتْ فيه وفي أَشْبَاهِهِ: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) (الأحزاب: 23)" (متفق عليه).
    (3) متى يجوز التولي؟
    أ*- إذا زاد العدو على الضعف فيجوز الثبات، ويباح الفرار: قوله -تعالى-: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 66).
    ب*- يجوز التولي إذا كان خدعة أو مناورة، أو لاتخاذ موقع جديد، أو غير ذلك من أجل مصلحة قتالية أو غاية حربية تقتضيها ظروف المعركة: قال -تعالى-: (وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (الأنفال: 16).
    - مثال على التولي المشروع (انسحاب خالد بن الوليد بالمسلمين يوم مؤتة): عند وصول جيش المسلمين إلى مؤتة، وجد المسلمون أنفسهم أمام جيش من مائتي ألف مقاتل -نصفهم من الروم والنصف الآخر من الغساسنة-؛ فوجئ المسلمون بالموقف وأقاموا لليلتين في (معان) يتشاورون أمرهم. أشار البعض بأن يرسلوا للرسول ليشرحوا له الموقف، وينتظروا إما المدد أو الأوامر الجديدة.
    عارض عبد الله بن رواحة ذلك وأقنع المسلمين بالقتال، وبدأت المعركة وواجه المسلمون موقفًا عصيبًا، حيث قتل القادة الثلاثة على التوالي، عندئذٍ اختار المسلمون خالدًا ليقودهم في المعركة، وصمد الجيش بقية اليوم، وفي الليل نقل خالد ميمنة جيشه إلى الميسرة، والميسرة إلى الميمنة، وجعل مقدمته موضع الساقة، والساقة موضع المقدمة، ثم أمر طائفة بأن تثير الغبار ويكثرون الجلبة خلف الجيش حتى الصباح.
    وفي الصباح فوجئ جيش الروم والغساسنة بتغيّر الوجوه والأعلام عن تلك التي واجهوها بالأمس؛ إضافة إلى الجلبة، فظنوا أن مددًا قد جاء للمسلمين؛ عندئذٍ أمر خالد بالانسحاب وخشي الروم أن يلاحقوهم، خوفًا من أن يكون الانسحاب مكيدة، وبذلك نجح خالد في أن يحفظ الجيش من إبادة شاملة.
    (4) أمور من الآية تعين على الثبات عند لقاء الأعداء:
    قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ . وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (الأنفال: 15، 16).
    أ*- الإكثار من ذكر الله؛ فإن الذكر يعينهم على القتال ويدفعهم إلى طلب الشهادة في سبيل الله، ويزجرهم عن الفرار: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الأنفال: 45).
    ب*- طاعة الله -عز وجل-، واجتناب المعاصي والذنوب فهي من أعظم أسباب الهزيمة: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (الأنفال: 1)، وكتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: "أما بعد: فإني آمرك، ومن معك من الأجناد، بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدّة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينتصر المسلمون بمعصية عدوهم لله؛ ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدّتنا كعدّتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا لم ننصر عليهم بفضلنا، ولم نغلبهم بقوتنا" (بدائع السلك في طبائع الملك للأصبحي الأندلسي).
    ت*- الاتحاد وعدم التنازع؛ فإن الاتحاد قوة والتفرق ضعف وخذلان: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفال: 46).
    ث*- الصبر في مواطن القتال.. فإنه يعين على الثبات والاستمرار في المعارك حتى نهايتها من غير تبرم أو جزع: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 46).
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــ
    (1) قال القرطبي -رحمه الله-: "فإذا لقيت فئةٌ من المؤمنين فئةً هي ضعف المؤمنين من المشركين، فالفرض ألا يفروا أمامهم؛ فمن فر من اثنين فهو فار من الزحف، ومن فر من ثلاثة فليس بفار من الزحف، ولا يتوجه إليه الوعيد، والصبر أحسن. وقد وقف جيش مؤتة وهم ثلاثة آلاف في مقابلة مائتي ألف.. وقد وقع في تاريخ الأندلس أن طارقًا مولى موسى بن نصير سار في ألف وسبعمائة رجل إلى الأندلس، فالتقى وملك الأندلس لزريق، وكان في سبعين ألف عنان فزحف إليه طارق وصبر له، فهزم الله الطاغية لزريق وكان الفتح" (تفسير القرطبي).
    إن المسلمين لم ينتصروا في غزواتهم ولا في حروبهم بكثرة عدد ولا عدة، ولكن الله -تعالى- نصرهم بإيمانهم وثباتهم مع قلة عددهم وعتادهم؛ قال -تعالى- (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).
    (2) وقال القرطبي: "فالمنحرف من جانب إلى جانب لمكايد الحرب غير منهزم، وكذلك المتحيز إذا نوى التحيز إلى فئة من المسلمين ليستعين بهم فيرجع إلى القتال غير منهزم أيضًا، أما المغامرة وهي اقتحام الواحد للعشرة أو أكثر، فإن كان لكسر شوكة المشركين وإضعاف نفوسهم فقد جوزه البعض" (تفسير القرطبي).
    (3) ملخص خطة خالد بن الوليد العسكرية في هذه الغزوة بالنقاط الآتية:
    أ*- تغيير موقع الجند: قام خالد بن الوليد -رضي الله عنه- بتغيير مواقع الجند في أركان الجيش، فجعل الجند الذين يقاتلون في الميمنة في الميسرة، والذين يقاتلون في الميسرة في الميمنة، والذين في المؤخرة في المقدمة والذين في المقدمة في المؤخرة؛ وذلك حتى تتغير على الأعداء الوجوه فيظنون أن مددًا قد وصل للمسلمين.
    ب*- إحداث الضوضاء: أمر الجند في الليل حيث تحاجز الجيشين بإحداث أكبر ضوضاء وجلبة ممكنة بقرع الطبول، والطرق على الأواني وغير ذلك؛ حتى يظن الأعداء أن هذه الجلبة مصدرها مدد وصل في الليل، وهي أيضا شكلٌ من أشكال الحرب النفسية التي استخدمها خالد -رضي الله عنه- ضد أعدائه.
    ت*- إثارة الغبار وإيهام العدو: أمر مجموعة من الفرسان وعددهم بحدود الخمسين فارسًا أن يلتفوا من خلف جبل وراء المسلمين مرارًا، ثم يعودون إلى الجيش من خلفه محدثين أكبر قدر من إثارة الغبار موهمين الأعداء باستمرار تدفق المدد الذي بدأ في الليل بحسب ظنهم.
    ث*- الانسحاب شيئًا فشيئًا، وحفظ أرواح المسلمين؛ في اليوم التالي استمر بإحداث الضوضاء والجلبة ليلًا، ثم سحب الجيش إلى الوراء وقام بتفريقهم مما يوهم العدو أن عددهم قد زاد، وأخذ ينسحب بهم شيئا فشيئا، فأوقع ذلك في نفوس الروم الشك والريبة والخوف من أن يتم سحبهم إلى فخ أو إلى الصحراء التي يعرفونها العرب ويحسنون فيها القتال؛ فلم يتجرأوا على ملاحقة جيش المسلمين، فاستمر خالد -رضي الله عنه- بالانسحاب حتى وصل المدينة. ونجحت خطة خالد بن الوليد -رضي الله عنه- في الانسحاب التكتيكي ليُجنِبَ المسلمين هلاكًا محققًا، فقد كان انسحابًا ناجحًا ضمن سلامة المسلمين. ولما قدم المسلمون بقيادة خالد بن الوليد -رضي الله عنه- المدينة وصفهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنهم الكُرَّار، ولم يعدَّهم من الفُرَّار كما وصفهم عامة الناس.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #38
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (38)

    اتخاذ الأصنام والتماثيل

    (موعظة الأسبوع)




    كتبه/ سعيد محمود
    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
    المقدمة:
    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة التي ضمن الله لمن اجتنبها في الدنيا الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
    - الإشارة إلى خطورة انتشار نصب الأصنام والتماثيل في هذا الزمان على نطاق الشوارع والميادين والبيوت، والقاعات والملاهي والجامعات، وعموم أماكن التجمعات: عن أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى تَضْطَرِبَ ألَياتُ نِساءِ دَوْسٍ علَى ذِي الخَلَصَةِ)، وَذُو الخَلَصَةِ: طَاغِيَةُ دَوْسٍ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الجَاهِلِيَّةِ. (متفق عليه). قال العلماء: في هذا الحديث إشارة إلى ما سيحدث من الردة والرجوع إلى عبادة الأصنام في آخر الزمان.
    - اتخاذ الأصنام والتماثيل كبيرة من أكبر الكبائر؛ لما لها من أثر سيئ على عقيدة التوحيد، وقد جاء فيها الوعيد الشديد والعذاب الأكيد: عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إنَّ أشدَّ النَّاسِ عذابًا عندَ اللَّهِ المصَوِّرونَ) (متفق عليه)، وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنَّ الَّذينَ يصنَعونَ هذهِ الصُّوَرَ يُعذَّبونَ يومَ القيامةِ فيُقالُ لَهُم: أحيوا ما خَلَقتُمْ) (متفق عليه).
    (1) معنى الصورة في اللغة وكلام العلماء:
    - قال في لسان العرب: "والتمثال: الصورة، والجمع التماثيل، وظلُّ كلِّ شيء تمثالُه، والتمثال: اسم للشيء المصنوع مشبهًا بخلق من خلق الله، وأصله: من مثَّلت الشيء بالشيء إذا قدَّرته على قدره، ويكون تمثيل الشيء بالشيء تشبيهًا به" (لسان العرب لابن منظور بتصرف يسير).
    - وأما في كلام العلماء فإنهم يتناولون في بحثهم لمعنى الصور وما يندرج تحتها ثلاثة أنواع مختلفة:
    الأول: الصور المجسمة التي لها ظلٌ (وهو محل اتفاق على التحريم)(1).
    الثاني: الرسم باليَد (محل خلاف).
    الثالث: التصوير الفوتوغرافي المعاصر (محل خلاف).
    - والنوع الأول -وهي الصور المجسمة أو التي لها ظل كما يطلق عليها السلف- هو غرضنا من الحديث؛ لبيان موقف الإسلام منها.
    (2) من الأدلة على تحريم التماثيل والأصنام:
    - عن أبي جحيفة -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ولَعَنَ آكِلَ الرِّبا ومُوكِلَهُ، والواشِمَةَ والمُسْتَوْشِمَ ةَ والمُصَوِّرَ) (رواه البخاري)، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لَا تَدْخُلُ المَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيْهِ تَمَاثِيلُ أَوْ تَصَاوِيرُ) (رواه مسلم)، وعن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- قال: سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (كلُّ مُصوِّرٍ في النَّارِ، يُجْعَلُ له بكلِّ صورةٍ صوَّرها نفسٌ فتُعذِّبُه في جهنَّمَ) (متفق عليه)، وعن أبي الهيَّاج الأسديِّ قال: قال لي عليُّ بن أبي طالبٍ -رضي الله عنه-: "أَلَا أَبْعَثُكَ علَى ما بَعَثَنِي عليه رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-؛ أَنْ لا تَدَعَ تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْتَهُ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْتَهُ" (رواه مسلم)، وفي لفظٍ له: (ولا صورةً إلا طمستَها).
    وعن عائشة -رضي الله عنها-: أنَّها اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فيها تَصاوِيرُ، فَقامَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بالبابِ فَلَمْ يَدْخُلْ، فَقُلتُ: أتُوبُ إلى اللَّهِ ممَّا أذْنَبْتُ، قالَ: (ما هذِه النُّمْرُقَةُ؟) قُلتُ: لِتَجْلِسَ عليها وتَوَسَّدَها، قالَ: (إنَّ أصْحابَ هذِه الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَومَ القِيامَةِ، يُقالُ لهمْ: أحْيُوا ما خَلَقْتُمْ، وإنَّ المَلائِكَةَ لا تَدْخُلُ بَيْتًا فيه الصُّورَةُ) (رواه البخاري)، وعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّي رَجُلٌ أُصَوِّرُ هَذِهِ الصُّوَرَ فَأَفْتِنِي فِيهَا، فَقَالَ لَهُ: ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، قَالَ: أُنَبِّئُكَ بِمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ، يَجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسًا فَتُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمَ)، وَقَالَ -أي: ابن عباس-: "إِنْ كُنْتَ لاَ بُدَّ فَاعِلًا فَاصْنَعِ الشَّجَرَ وَمَا لا نَفْسَ لَهُ" (متفق عليه).
    (3) الحكمة من تحريم التماثيل:
    تدل النصوص على عدة حِكَمٍ يتعلق بها تحريم التماثيل، أهمها أمران:
    الأول: مضاهاة خلق الله: وهذا مذكور صراحة في الأحاديث؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: (قَالَ اللَّهُ -عزَّ وجلَّ-: ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أوْ شَعِيرَةً) (متفق عليه).
    - والثاني: سد ذريعة الشرك: قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في أسماء معبودات قوم نوح: "أسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِن قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أوْحَى الشَّيْطَانُ إلى قَوْمِهِمْ: أنِ انْصِبُوا إلى مَجَالِسِهِمُ الَّتي كَانُوا يَجْلِسُونَ أنْصَابًا، وسَمُّوهَا بأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا، فَلَمْ تُعْبَدْ، حتَّى إذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وتَنَسَّخَ العِلْمُ عُبِدَتْ" (رواه البخاري).
    (4) شبهات يحتجُّ بها من يجوِّز نصب التماثيل:
    - الشبهة الأولى: اتِّخاذ سليمان -عليه السلام- للتماثيل لقوله -تعالى-: (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ: 13).
    والجواب من وجوه:
    أولًا: أن هذا باطل؛ لمخالفته الإجماع.
    ثانيًا: "أنه لو كانت التماثيل لذوات الأرواح فإنها لا تدل على إباحتها؛ فإن شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا إذا ورد شرعنا بخلافه، وهذا محل اتفاق بين العلماء" (أضواء البيان).
    ثالثًا: أنه يحتمل أن يكون تماثيل للجمادات وغير ذوات الأرواح، وهذا جائز في شريعتنا أيضًا، فلا يكون إشكال، وهذا أقرب؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذمَّ من قبلنا لاتِّخاذهم الصور، كما جاء في قوله لأم سلمة: (أُولَئِكِ إذَا مَاتَ منهمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا علَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، ثُمَّ صَوَّرُوا فيه تِلكَ الصُّورَةَ أُولَئِكِ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ) (رواه البخاري)، فدلَّ ذلك على أن اتخاذ الصور محدَث أحدثه عُبّاد الأوثان. (فتح الباري).
    - الشبهة الثانية: عدم كسر الصحابة للأوثان في البلاد المفتوحة:
    والجواب من وجوه:
    أولًا: أنه لكي يستدلَّ بمثل هذا لا بد من إثبات أنَ الصحابة رأوا هذه التماثيل، وقدروا على إزالتها ولم يفعلوا، وأنى يمكن إثباتُ ذلك؟! فاحتمال أنهم لم يروها وارد جدًّا، فلم يثبت رؤيتهم لشيء من ذلك في مصر أو الشام أو العراق.
    ثانيًا: أنه قد ذكر بعض المؤرخين أن هذه التماثيل كانت مطمورة في التراب؛ خاصة أنه لم يكن يهتم بها الناس أصلًا لزمن قريب جدًّا، وكانوا يهملونها غاية الإهمال، وربما جعلوها مكَبًّا لنفاياتهم ونحو ذلك؛ حتى عظَّمها الغرب في نفوسهم من أجل تعزيز الانتماء للقوميات المنافية للإسلام.
    ثالثًا: لو فرضنا أنهم رأوها، يبقى احتمال عدم قدرتهم على إزالتها؛ فإن تكسيرها ليس بالسهل، وقد ذكر ابن خلدون أن المأمون حاول هدم بعضها فلم يقدر. (مقدمة ابن خلدون). فمثل هذه الوقائع لا تقاوم النصوص والإجماعات القطعية التي سبق بيانها.
    - الشبهة الثالثة: إن تحريم التصوير كان في بداية الإسلام بسبب تعلق القلوب بعبادة الأصنام، وهذه المفسدة قد زالت من قلوب الناس، وصارت هناك مصلحة في إقامتها، وهي ربط الناس برموزهم الدينية والوطنية.
    والجواب من وجوه:
    أولًا: ليست علَّة تحريم التصوير منحصرةً فقط في ذلك، بل هناك علل أخرى أشرنا لبعضها.
    ثانيًا: مَن قال: إن الناس الآن لا يُخَاف عليهم الشرك؟! ومن يأمن على نفسه البلاء إلا جاهل بالشرك أو بنفسه أو بربِّه؟! وإذا كان الخليل -عليه السلام- يدعو ربه قائلًا: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) (إبراهيم: 35)، فمن يأمن البلاء بعد إمام الحنفاء؟! ومن يتأمل واقع الناس اليوم في المشارق والمغارب يجد افتتانهم بالصور في معابدهم، وتعلّقهم بصور كبرائهم ومعظَّميهم ومتبوعيهم، بل كثير من المتصوفة يعلّقون صور شيوخهم ويتبرَّكون بها ويخاطبونها، كما يفعل النصارى مع صورة مريم والمسيح -المزعومتين-؛ فكيف يقال: إن الناس الآن لا يخاف عليهم من الشرك والافتتان بالصور؟!
    ثالثًا: لو فرضنا أن الأكثر الآن لا يُخاف عليهم من ذلك؛ فقد تأتي أجيال بعد ذلك، مع فشو الجهل أكثر، ونسيان العلم أكثر، فتقع في المحظور كما حدث لقوم نوح.
    رابعًا: إن مصلحة الدين مقدمة على سائر المصالح، فإذا قدَّرنا أن في نصب التماثيل المجسمة مصلحة، ففيها مفسدة أعظم تتعلَّق بالدين وهي ذريعة الشرك ومخالفة الشريعة، ودرء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح؛ فكيف إذا كانت هذه المصلحة يمكن تحصيلها بطرق كثيرة أخرى؟! فربط الشباب برموزهم الصالحة ليس موقوفًا على إقامة المجسمات في الميادين، وإلا فأين تماثيل الصحابة والتابعين، والأئمة الأربعة، وأئمة الفقه والحديث، وأبطال الإسلام، وغيرهم من المصلحين؛ حكامًا وعلماء ودعاة؟!(2).
    خاتمة:
    - كيف لمسلم بعد كل ذلك أن يتلبس بهذه الشبهات الواهية التي تعارض أعظم مقاصد البعثة النبوية؟ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن عبسة حين سأله: وَبِأَيِّ شَيءٍ أَرْسَلَكَ؟ قالَ: (أَرْسَلَنِي بصِلَةِ الأرْحَامِ، وَكَسْرِ الأوْثَانِ، وَأَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ لا يُشْرَكُ به شَيءٌ... ) (رواه مسلم).
    وقال -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب: 21)، وقال: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الحشر: 7).
    - والله -سبحانه وتعالى- لن يسأل الناس عن استجابتهم لأحد يوم القيامة غير الرسول -صلى الله عليه وسلم-: فيقول -سبحانه-: (مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) (القصص: 65).
    فاللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ ــ
    (1) قال النووي -رحمه الله-: "وأجمعوا على منع ما كان له ظلٌّ ووجوب تغييره. قال القاضي: إلا ما ورد في اللعب بالبنات لصغار البنات، والرخصة في ذلك) (شرح صحيح مسلم). وقال ابن العربي المالكي -رحمه الله-: "فإنها -أي: الصور- محرمةٌ إذا كانت أجسادًا بالإجماع" (المسالك في شرح موطأ مالك). وقد نقل ابن حجر -رحمه الله- هذا الإجماع، وأقره عليه (فتح الباري). وقال خليل المالكي: "التماثيل إن كان بغير حيوان كالشجر جاز، وإن كان بحيوان مما له ظل قائم فهو حرام بإجماع" (التوضيح شرح مختصر ابن الحاجب). والنقول في ذلك كثيرة، فليس بين العلماء اختلاف في تحريم صور الحيوان المجسمة.
    (2) من بحث على موقع (سلف للبحوث والدراسات - إشراف د/ محمد بن إبراهيم السعيدي بعنوان: تحريم التماثيل صيانة لجناب التوحيد - للأستاذ شريف طه).

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #39
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (39)

    ترك الحج

    (موعظة الأسبوع)



    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    المقدمة:

    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

    - ترك الحج من أكبر الكبائر، وأعظم الجرائر، فهو فارق بين الإيمان والكفر: قال الله -تعالى-: (وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ) (آل عمران: 97). قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "من مات ولم يحج وهو قادر، فليمت إن شاء يهوديًّا أو نصرانيًّا" (قال ابن كثير: "وإسناده صحيح إلى عمر -رضي الله عنه-").

    (1) مكانة الحج من الدين:

    - الحج عبادة من أجل العبادات في دين الأنبياء -عليهم السلام- منذ فجر التاريخ: قال -تعالى- لأبي الأنبياء: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ) (الحج: 27، 28).

    - الحج ركن من أركان الدين والإيمان في الإسلام: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ) (متفق عليه).

    - كانت شرائع الإسلام تنزل شيئًا فشيئًا، ونزل الفرض بالحج في أواخر الشرائع، فصار مسك الختام، وكمال الدين وتمام النعمة والإيمان؛ ولهذا لما حج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنزل الله قول -تعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) (المائدة: 3).

    - ولا عذر في ترك الحج أو تأخيره لمن ملك الاستطاعة ولو كان مريضًا: ففي الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قال: فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ تَسْتَفْتِيهِ.. قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِى شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: (نَعَمْ)، وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاع" (متفق عليه).

    وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ خَثْعَمَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِى أَدْرَكَ الإِسْلاَمَ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لاَ يَسْتَطِيعُ رُكُوبَ الرَّحْلِ وَالْحَجُّ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: (أَنْتَ أَكْبَرُ وَلَدِهِ)، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: (أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دِينٌ فَقَضَيْتَهُ أَكَانَ ذَلِكَ يُجْزِئُ)، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَاحْجُجْ عَنْهُ) (رواه البيهقي، وصححه الألباني).

    - وجاءت نصوص الوعيد فيمن ترك الحج مع استطاعته، أو مات ولم يحج: قال -تعالى-: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران: 97). قال ابن عباس ومجاهد -رضي الله عنهما- في هذه الآية: "مَن لم يرَ حجه بِرًّا، ولا تركه إثمًا، كفر" (سنن البيهقي)، وقال السدى: "من وجد ما يحج به ثم لا يحج، فهو كافر" (تفسير ابن جرير)، وقال عمر -رضي الله عنه-: "لقد هممت أن أبعث رجالًا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جدة -يعني سعة من المال- ولم يحج ليضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين" (صححه ابن حجر في تلخيص الحبير)، وقال سعيد بن جبير: "لو كان لي جار موسر ثم مات ولم يحج لم أصلِّ عليه" (مصنف ابن أبي شيبه)، وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-: "ومن استطاع السبيل فلم يحج فإسلامه وإيمانه ودينه في اختلال، وهو أعظم جرمًا من الزاني والسارق وشارب الخمر" (خطب الشيخ السعدي في مجموع مؤلفاته).

    (2) فضل رحلة الحج والعمرة:

    - إنها الرحلة إلى الله تلبية لأمره، مع هجر الأوطان وبذل الأموال وتحمل المشاق، طلبا للمغفرة: قال -تعالى-: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) (الحج: 27، 28)، وفى الحديث القدسي: (عِبادِي جَاءُونِي شُعْثًا غُبْرًا مِنْ كُلِّ فَجَ عَمِيقٍ *يَرْجُونَ *رَحْمَتِي *ويَخَافُونَ *عَذَابِي) (رواه الطبراني، وحسنه الألباني).

    - إنها رحلة التكفير عن الذنوب، والبركة في الأموال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَن حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، ولَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَومِ ولَدَتْهُ أُمُّهُ) (متفق عليه)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*الْعُمْرَةُ *إِلَى *الْعُمْرَةِ *كَفَّارَةٌ *لِمَا *بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةُ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (تَابِعُوا *بَيْنَ *الحَجِّ *وَالعُمْرَةِ، *فَإِنَّهُمَا *يَنْفِيَانِ *الفَقْرَ *وَالذُّنُوبَ *كَمَا *يَنْفِي *الكِيرُ *خَبَثَ *الحَدِيدِ) (رواه الترمذي والنسائي، وقال الألباني: "حسن صحيح").

    - إنها رحلة النزول في ضيافة أكرم الأكرمين -سبحانه وتعالى-: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَفْدُ اللهِ ثَلَاثَةٌ: *الْغَازِي، *وَالْحَاجُّ، وَالْمُعْتَمِرُ) (رواه النسائي، وصححه الألباني)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الحُجَّاجُ *والعُمَّارُ *وَفْدُ *الله، دَعاهُمْ فأجابُوهُ وَسَأَلُوهُ فَأَعْطاهُمْ( (رواه البزار، وحسنه الألباني).

    (3) أعذار واهية عند التاركين:

    - الأعذار تختلف وتتنوع بين التاركين، ولكن جملتها وأشهرها أمور: (البخل بالمال - الخوف من المشقة - صغر السن).

    - كيف يبخل بالمال على نفسِه في أداء هذه الفريضة، وهو ينفق الكثيرَ من ماله فيما تهواه نفسُه؟! وكيف يوفِّر نفسَه عن التعب في الحجِّ وهو يُرهِق نفسَه في التعب في أمور دنياه؟! وكيف يتثاقل فريضةَ الحج وهو لا يَجِب في العمر سوى مرَّة واحدة؟! وكيف يتراخَى ويؤخِّر أداءه وهو لا يَدري لعلَّه لا يستطيع الوصول إليه بعد عامه؟!

    - سارع وعجِّل، فالدنيا لا تدوم على حال: أن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَرَادَ الحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ ، فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ المَرِيضُ وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ وَتَعْرُضُ الحَاجَة) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني)، وعند الإمام البيهقي بلفظ: (عجِّلوا الْخُروجَ إلى مَكَّةَ، فإنَّ أحدَكُم لا يدري ما يعرِضُ لهُ من مرضٍ أو حاجةٍ) (رواه البيهقي، وحسنه الألباني)، وقال -تعالى-: (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ) (المنافقون: 10).

    خاتمة: أين أنت من هؤلاء؟

    - مشتاقة إلى البيت تموت عند رؤيته لأول مرة: "قال عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْنَا مِنْ خُرَاسَانَ وَمَعَنَا امْرَأَةٌ، فَلَمَّا دَخَلَتِ الْحَرَمَ جَعَلَتْ تَقُولُ: أَيْنَ بَيْتُ رَبِّي؟ أَيْنَ بَيْتُ رَبِّي؟ فَقِيلَ لَهَا: الْآنَ تَأْتِينَ بَيْتَ رَبِّكِ، فَلَمَّا دَخَلَتِ الْمَسْجِدَ قِيلَ لَهَا: هَذَا بَيْتُ رَبِّكِ، قَالَ: فَاسْتَنَدَتْ إِلَى الْبَيْتِ فَوَضَعَتْ خَدَّهَا عَلَى الْبَيْتِ، فَمَا زَالَتْ تَبْكِي حَتَّى مَاتَتْ!" (أخبار مكة للفاكهي).

    - وأخرى خائفة طامعة في مغفرة ثقيل الذنوب، فتأوي إلى بيت ربها: "قَالَ وَهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ: بَيْنَمَا امْرَأَةٌ فِي الطَّوَافِ ذَاتَ يَوْمٍ وَهَي تَقُولُ: يَا رَبِّ ذَهَبَتِ اللَّذَّاتُ وَبَقِيَتِ التَّبِعَاتُ، يَا رَبِّ سُبْحَانَكَ وَعِزَّتِكَ إِنَّكَ لَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ؛ يَا رَبِّ مَا لَكَ عُقُوبَةٌ إِلَّا النَّارُ؟ أما في عفوك ما يَسَعُني؟، فَقَالَتْ صَاحِبَةٌ لَهَا كَانَتْ مَعَهَا: يَا أُخَيَّةُ دَخَلْتِ بَيْتَ رَبِّكِ الْيَوْمَ، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَرَى هَاتَيْنِ الْقَدَمَيْنِ وَأَشَارَتْ إِلَى قَدَمَيْهَا أَهْلًا لِلطَّوَافِ حَوْلَ بَيْتِ رَبِّي فَكَيْفَ أَرَاهُمَا أَهْلًا أَطَأُ بِهِمَا بَيْتَ رَبِّي؟ وَقَدْ عَلِمْتُ حَيْثُ مَشَتَا وَإِلَى أَيْنَ مَشَتَا؟" (محاسبة النفس لابن أبي الدنيا).

    - فقير مشتاق إلى البيت: "يحكي بعض إخواننا العاملين في مجال المقاولات: كان معنا رجل من العاملين كلما جلسنا ساعة الغداء أثناء العمل نتحدث، فإذا جاء الحديث عن الحج والعمرة في أي وقت، فإذا بالرجل يبكي شوقًا إلى زيارة بيت الله على أي درجة (حجًّا أو عمرة)، ولكن الفقر كان حائلًا بينه وبين ذلك... حتى كان يوم ونحن أثناء الغداء، وقد أثار بعض الجلوس الحديث عن فلان الذي ذهب إلى العمرة، فإذا بصاحبنا المشتاق ينفجر بكاءً وتأثرًا! وفى نفس الوقت مرَّ بنا المقاول صاحب العمل، فلما رأى الرجل يبكي، سأل عن سبب ذلك؟ فقلنا له قصته، وشوقه وتأثره كلما ذكر البيت والزيارة! فتأثر الرجل المقاول لذلك، ثم طلب منا أن نحضر أوراق الرجل، وقام باستخراج جواز سفر له، وحجز له رحلة عمرة في شركة سياحة! فسبحان الذي قال: (وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً) (متفق عليه).

    خاتمة:

    - فيا مَن شغلته الدنيا عن فريضة الحج، وأكلتْ سوف من عمره عشر سنوات أو عشرين أو ثلاثين أو خمسين...! كيف تمر في تلاوتك للقرآن على قول الله -تعالى-: (وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ) (آل عمران: 97).

    - كيف تهنأ بنومك ولما تقضِ فرضك ولا عذر لك؟! فبمَ تجيب الله -تعالى- حين أخرت فرضه، وقدمت عليه غيره؟! قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ? وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ . وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ . وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المنافقون: 9-11).

    فاللهم اهدنا فيمن هديت، وتولنا فيمن توليت، وارزقنا زيارة بيتك حاجين أو معتمرين.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #40
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: الكبائر

    الكبائر (40)

    النياحة على الميت ولطم الخدود وشق الجيوب عند المصائب

    (موعظة الأسبوع)



    كتبه/ سعيد محمود

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    المقدمة:

    - الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة التي ضمن الله لمن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).

    - النياحة على الميت ولطم الخدود وشق الجيوب عند المصائب من الكبائر؛ لما لها من أثر سيئ على عقيدة المسلم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ليسَ مِنَّا مَن لَطَمَ الخُدُودَ، وشَقَّ الجُيُوبَ، ودَعَا بدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ) (متفق عليه).

    - المقصود بالنياحة: النِّيَاحَة أمر زائدٌ على البكاء، فيُرَفع الصوت بتعديد شمائل الميت، ومَحاسن أفعاله، وربما صاحبه كلمات تدل على التسخط والجزع.

    (1) تحريم النياحة على الميت ولطم الخدود وشق الجيوب عند المصائب:

    - أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- محذرا بأن النياحة ونحوها من عادات الجاهلية: قال: (أَرْبَعٌ في أُمَّتي مِن أمْرِ الجاهِلِيَّةِ لا يَتْرُكُونَهُنّ َ: الفَخْرُ في الأحْسابِ، والطَّعْنُ في الأنْسابِ، والاسْتِسْقاءُ بالنُّجُومِ، والنِّياحَةُ) (رواه مسلم).

    - ولأجل شيوع ذلك في النساء، كان يأخذ عليهن البيعة بذلك: عن أم عطية -رضي الله عنها- قالت: "أَخَذَ عَلَيْنَا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ البَيْعَةِ أَنْ لا نَنُوحَ..." (متفق عليه)، وفي الصحيحين: "وَجِعَ أَبُو مُوسَى وجَعًا شَدِيدًا، فَغُشِيَ عليه ورَأْسُهُ في حَجْرِ امْرَأَةٍ مِن أَهْلِهِ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شيئًا، فَلَمَّا أَفَاقَ، قالَ: أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ بَرِئَ منه رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، إنَّ رَسولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: بَرِئَ مِنَ الصَّالِقَةِ والحَالِقَةِ والشَّاقَّةِ" (متفق عليه)(1).

    - وقد جاء الوعيد الشديد في حق النَّائِحة التي ماتت ولم تتب من هذا الأمر: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (النَّائِحَةُ إذا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِها، تُقامُ يَومَ القِيامَةِ وعليها سِرْبالٌ مِن قَطِرانٍ، ودِرْعٌ مِن جَرَبٍ) (متفق عليه)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وإِنَّ النائحةَ إذا لم تَتُبْ قبلَ أنْ تموتَ، فإِنَّها تُبْعَثُ يومَ القيامَةِ عليْها سرابيلُ مِنْ قطِرانٍ، ثُمَّ يُغْلَى عليها بدروعٍ مِنْ لهبِ النارِ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).

    (2) الدنيا دار محنة وبلاء:

    - على المؤمن أن يعلم أن المصائب والمحن في هذه الحياة الدنيا سنة كونية كالهواء والماء... هكذا الدنيا: قال -تعالى-: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) (البلد: 4)، وقال -تعالى-: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (الكهف: 7)، وقال: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء: 35)، وقال: (فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ) (المائدة: 106).

    - موت الأحبة من أعظم ما يبتلى به الإنسان في الدنيا، والأحبة يتنوعون بين الآباء والأمهات، والأبناء والأشقاء، والأزواج والأصحاب، وغيرهم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الوالِدُ أوسطُ أبوابِ الجنَّةِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم- عن الأم: (فَالزَمْهَا فإنَّ الجنَّةَ تحتَ رِجلَيها) (رواه النسائي، وقال الألباني: "حسن صحيح")، وقال -صلى الله عليه وسلم- عن الولد: (يقولُ اللَّهُ -تَعَالَى-: مَا لِعَبْدِي المُؤْمِنِ عِندِي جَزاءٌ، إذا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِن أهْلِ الدُّنْيا ثُمَّ احْتَسَبَهُ، إلَّا الجَنَّةُ) (رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم- عن الزوجة الصالحة: (الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ) (رواه مسلم).

    وقال عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللَّهُ عنْه- عن شقيقه الصالح الذي استشهد يوم اليمامة: "ما هبّت ريحُ الصَّبا، إلا وجدتُ منها ريح زيد" (سير أعلام النبلاء للذهبي)، وقال -صلى الله عليه وسلم- عن الصديق الصالح -في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله-: (ورَجُلَانِ تَحَابَّا في اللَّهِ، اجْتَمعا عليه وتَفَرَّقَا عليه) (متفق عليه).

    (3) ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن عند موت الأحبة:

    - الإيمانُ بقَضاءِ اللهِ وقَدَرِه يَجعَلُ المؤمِنَ في رِضًا كامِلٍ على كُلِّ أَحوالِه، بخِلافِ غَيرِ المُؤمِنِ الَّذي يَكونُ في سَخَطٍ دائِمٍ عندَ وُقوعِ ضَررٍ عليه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له) (رواه مسلم).

    - من أعظم ما يصبِّر الإنسان على فقدان الأحبة، أن يستحضر جزاء الصبر والاحتساب عند الله: (وَلَنَبْلُوَنَّ كُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة: 155-157)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن شقَّ عليه موتُ ابنه: (أيُّما كانَ أحبُّ إليكَ أن تُمتَّعَ بِهِ عمُرَكَ، أو لا تأتي غدًا إلى بابٍ من أبوابِ الجنَّةِ إلَّا وجدتَهُ قَد سبقَكَ إليهِ يفتَحُهُ لَكَ)، قالَ: يا نبيَّ اللَّهِ، بل يَسبقُني إلى بابِ الجنَّةِ فيَفتحُها لي لَهوَ أحبُّ إليَّ، قالَ: (فذاكَ لَكَ) (رواه النسائي، وصححه الألباني).

    - وأن يتذكر في مصيبته مصيبة موت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويتعزى بها: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إذا أُصيبَ أحدكم بمصيبةٍ فليذكُرْ مصيبَتَهُ بي فإنَّها أعظمُ المصائبِ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).

    وقال الشاعر -أبو العتاهية-:

    اِصـبــِر لِـكُــلِّ مُـصـيـبَـةٍ وَتَجَـلَّـدِ وَاِعـلَـم بِـأَنَّ المَرءَ غَيـرُ مُـخَـلَّــدِ

    أَوَما تَرى أَنَّ المَـصـائِـبَ جَـمـَّـةٌ وَتَـرى الـمَنِيـَّةَ لِلعِـبـادِ بـِـمـَرصَـدِ

    مَن لَم يُصِب مِمَّن تَرى بِمُصيـبَةٍ هَـذا سَبـيـلٌ لَـسـتَ فـيـهِ بِــأَوحَــدِ

    وَإِذا ذَكَـرتَ مُـحَــمَّـدًا وَمَـصـابَـهُ فَــاِذكُـر مُصابَـكَ بِالـنَـبـِيِّ مُـحَـمَّـدِ

    - ومن أعظم ما يصبر الإنسان على فقدان الأحبة: أن يلتزم الشرع، ويقتدي بالصالحين؛ لما جاء نعي أبي سفيان -رضي الله عنه- من الشام دعت ابنته أم حبيبة -رضي الله عنها- في اليوم الثالث بطيب، فمسحت خديها وذراعيها، وقالت: ما لي بالطيب من حاجة لولا أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لا يَحِلُّ لامرأةٍ تُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ أن تُحِدَّ على ميِّتٍ فَوقَ ثلاثِ ليالٍ، إلَّا على زَوجٍ أربعةَ أشهُرٍ وعشرًا) (متفق عليه).

    * وقفة مع امرأة من التاريخ مرت بالحالين عند المصيبة (الجزع والنياحة - والصبر والاحتساب):

    - تلك المرأة العربية التي سُمِّيت بالخنساء، واسمها: تماضر بنت عمرو، ونسبها ينتهي إلى مضر؛ مرَّت بحالتين متشابهتين، لكن تصرفها تجاه كل حالة كان مختلفًا مع سابقتها أشد الاختلاف، متنافرًا أكبر التنافر، أولاهما: في الجاهلية، وثانيهما: في الإسلام.

    - أما الحالة الأولى: فقد كانت في الجاهلية، يوم سمعت نبأ مقتل أخيها صخر، فوقع الخبر على قلبها كالصاعقة في الهشيم، فلبت النار به، وتوقدت جمرات قلبها حزنًا عليه، ونطق لسانها بمرثيات له بلغت عشرات القصائد، وكان مما فعلته حزنًا على أخويها "صخر ومعاوية" ما روي عن عمر "أنه شاهدها تطوف حول البيت وهي محلوقة الرأس، تلطم خديها، وقد علقت نعل صخر في خمارها!".

    - وأما الحالة الثانية: فيوم نادى المنادي: أن هبي جيوش الإسلام للدفاع عن الدين والعقيدة ونشر الإسلام، فجمعت أولادها الأربعة وحثتهم على القتال والجهاد في سبيل الله، لكن الغريب في الأمر يوم بلغها نبأ استشهادهم، فما نطق لسانها برثائهم وهم فلذات كبدها، ولا لطمت الخدود ولا شقت الجيوب، وإنما قالت برباطة جأش وعزيمة وثقة: "الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم، وإني أسأل الله أن يجمعني معهم في مستقر رحمته!" (الاستيعاب لابن عبد البر، أسد الغابة لأبن أثير).

    خاتمة: البكاء لا ينافى الصبر:

    - قد بكى النبي -صلى الله عليه وسلم- على ولده وغيره: أخرَج الشيخانِ: أنه -صلى الله عليه وسلم- عاد سعدَ بن عبادة ومعه جماعة، فَبَكَى رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَلَمَّا رَأَى القَوْمُ بُكَاءَ رَسولِ -صلى الله عليه وسلم- بَكَوْا، فَقالَ: (أَلَا تَسْمَعُونَ؟ إنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ بدَمْعِ العَيْنِ، وَلَا بحُزْنِ القَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بهذا، وَأَشَارَ إلى لِسَانِهِ، أَوْ يَرْحَمُ) (متفق عليه)، وأخرَجَا أيضًا: فَدُفِعَ الصَّبِيُّ إلَيْهِ ونَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأنَّهَا في شَنٍّ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقالَ له سَعْدٌ: يا رَسولَ اللَّهِ، ما هذا؟ قالَ: (هذِه رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ في قُلُوبِ عِبَادِهِ، وإنَّما يَرْحَمُ اللَّهُ مِن عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) (متفق عليه).

    وروى البخاري: دَخَلْنَا عليه بَعْدَ ذلكَ وإبْرَاهِيمُ يَجُودُ بنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تَذْرِفَانِ، فَقالَ له عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ -رَضِيَ اللَّهُ عنْه-: وأَنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ فَقالَ: (يَا ابْنَ عَوْفٍ إنَّهَا رَحْمَةٌ) *ثُمَّ *أَتْبَعَهَا *بِأُخْرَى، فَقالَ -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبُّنَا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ) (متفق عليه).

    - وقد علمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما نقوله حين المصيبة: قال -صلى الله عليه وسلم-: (ما مِن مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فيَقولُ ما أمَرَهُ اللَّهُ: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي في مُصِيبَتِي، وأَخْلِفْ لي خَيْرًا مِنْها، إلَّا أخْلَفَ اللَّهُ له خَيْرًا مِنْها) (رواه مسلم).

    جعلنا الله وإياكم من الصابرين المحتسبين.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــ

    (1) الصالقة: هي التي ترفع صوتها بالنياحة عند الفجيعة بالموت، أو عند نزول المصيبة. والحالقة: هي التي تحلق رأسها عند المصيبة. والشاقة: هي التي تشق ثوبها عند المصيبة.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •