تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: قصة من قلب المدرسة

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Feb 2008
    المشاركات
    120

    افتراضي قصة من قلب المدرسة

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    مسيرون غير مخيرين

    أقبلتْ زهرةُ السيدةُ المديرةُ لتستقبلَ السادةَ الأساتذةَ أعضاء مجلس تدبير المؤسسة وفي يدها خاتمها تلوح به.
    - قالت مستهزئة: أهلا وسهلا أعضاء مجلس تدمير المؤسسة... عفواً أقصد مجلس تدبير المؤسسة. وابتسمت ابتسامة عريضة...
    - قال الأستاذ أحمد: ربما هناك علاقة سيميائية بين التدبير والتدمير. فبعض الدَّمار تدبير وبعض التدبير تدمير.
    - قال الأستاذ الدمشقي؛ أستاذ اللغة العربية: دعنا يا أحمد من سيميائياتك، فقد شبعناها؛ فإنها لا تجدي نفعا ولا تدفع شراً. لن تزيد الطين إلا بلة إلى بلة؛ وبرودة الجو سبب الأزمة...
    - قالت زهرة المديرة: دعْه يفكك الرموز لتنفجر العلامات؛ فإنه متضلع في فكها، فقد يفيد...
    - قال أحمد مفسرا: هل ترون في اجتماعنا؛ بل اجتماعاتنا تدبيرا حقيقيا؛ لا أحس بذلك. ومن كان منكم مخالفا فليفند رأيي بحجج واضحات كالشمس ساطعات تضطرني لأعدل عن رأيي وأقلب قناعتي...
    - قالت أستاذة الاجتماعيات فاطمة أم محمد: دعوا الأمر لي؛ فإنه ميداني ومجالي وساحتي... إننا في اجتماعاتنا لا ندبر، إننا نجتمع ونتفرق. نقول كلاما لا نقتنع به وقد نقتنع به ولا فرق بين الأمرين. فالوضع لا يزال على ما هو عليه. وحليمة لم تفارق عادتها القديمة. ودار لقمان على حالها شاء من شاء ورفض من رفض...!
    - قالت المديرة: المجالس والاجتماعات والمؤتمرات...في البلدان المتخلفة شكلية لا قيمة لها. ولكنها ضرورية... لكتابة التقارير وملء الوثائق!!
    - قال أستاذ الرياضيات: وماذا بعد كتابة التقارير؟ إنها لا تقرأ، إنها تحرق أو يلقى بها في الرفوف... فما فائدة كتابتها؟؟؟
    - قالت السيدة المديرة مجيبة: لكنها ضرورية، يجب أن نكتبها على أية حال قرئت أم لم تقرأ...إنهم يلزموننا بذلك...
    - قال الأستاذ المرح النشط: لماذا لم تخبريهم يا أستاذتنا الفاضلة بوضع مدرستنا؟ أخبريهم...
    - قالت المديرة: يعلمون بذلك؛ يا بني. لا تخفى عليهم خافية...ولا أظنك تجهل ذلك. أنت تعرف أن مدارسنا مخربة وأسوارها مهدمة ونوافذها مكسرة وأبوابها مهشمة ورجالها القائمون عليها محبطون والوضع مزرٍ.حالهم لا يخفى...
    - قال أحمد: وهل ساهم رجال التعليم في تخريبه وتدميره؟
    - قالت السيدة المديرة: ساهمواْ بحظهم في عمليات التخريب، لكنهم مسيرون غير مخيرين...
    - قال أستاذ الفلسفة: لنقاطع مجالس التدبير هذه ما دام الحال كما تصفين. لنهجرها هجراً غير جميل. لنعبر عن وعينا وإدراكنا لحقيقة الأمر.
    - قالت المديرة: وماذا بعد ذلك؟ سيستفسرونك على المقاطعة فما جوابك يا عبد الله؟
    - قال أستاذ الفلسفة: أقول لهم الوضع لا يرضينا إننا نكذب على أنفسنا.
    - قالت المديرة: ما وضع القانون يا بنيَّ إلا لتسد به أفواه قائلي الحقيقة. سيجلدونك بالقانون. وضربة القانون عنيفة قد لا تطيقها أنت صاحب الجسد النحيف.
    - قال أستاذ الفلسفة: أين هي حقوق الإنسان؟
    - قالت المديرة: لنتحدث أولاً عن الإنسان قبل أن نتحدث عن حقوقه... ولست أظن أساتذة الفلسفة يجهلون أمر ذلك... موضوع تجاري بامتياز تربحُ منه الأموال وتقضى منه المصالح...ماتت حقوق الإنسان وأعلن عن ذلك صراحة في مناسبات عديدة على رأسها أحداث غزة!
    - قال الرجل الجَمْعَاوِي مكفهرا؛ وهو يرغي ويزبد: إنك تتهمين الجمعيات. إن هذا الذي تقولين خطرٌ للغاية. يجب أنْ تتحملي المسؤولية كاملة.
    - قالت المديرة: تتبجحونَ بالمسؤولية والحقوق والإنسان لتبنوا البيوت وتركبوا السيارات وتستثمروا في العقارات...إني أعرفك جيدا، أعرف مداخيلك ومخاريجك...اتركن كيلا أفشي سرك فيظهر للعيان شرك...فاحمر وجه صاحبنا وتكلم كلاما جميلا أدركنا منه جميعا حس الانهزام...ثم نطق قائلا إن بعض الجمعيات ما أنشئت إلا لأهداف مالية مصلحية بحتة ونسبة هؤلاء كبيرة...ركبوا على مواضيع كثيرة ليحققوا المصالح. هداهم الله.
    - قالت السيدة المديرة: الحقُّ أبلج والباطل لجلج. نعرف الحقيقة ويعرفونها. نفهم اللعبة ويفهمونه، ونحسبهم ويحسون بنا...تنقصنا الثورة على أنفسنا لنغير فتنصلح الأرض والدوابُ والكونُ بأسره وأسره. ثم نظرت إلى الساعة المعلقة على الجدار والتمست من المقرِّر أن يكتب التقرير المعهود ليرسل إلى الجهاتِ المعهودة في الوقت المعهود بالمواصفات المعهودة...اطلعت على نسخة التقرير فوجدتها مكتوبة بلغة السياسيين لغة اللف والدوران، لم أفهم منها شيئا وفهمت كل شيء...فلنقل للمدرسة وداعا يا حبيبتي...وداعا...

    واستدعت السيدة النائبة المحترمة السيدة زهرة المديرة بنت الحاج مديرة مدرسة الأزهار تخبرها أن ما دار في مجلس التدبير يوم أمس وصلها على التوِّ قبل التقرير الرسمي...فلم تعجب زهرة مديرة المدرسة من الأمر، ولم تبالغ في البحث عن السؤال...بل انطلقتا في الحديث عن "شهيوات شميشا" وجديد الحلويات والحديث في الموضة من جلابيب وفساتين وجديد الزينة...وفي هذه الأثناء صوت هاتف السيدة النائبة فأجابت قائلة:
    " وحال العملية التعليمية التعلمية التربوية على أحسن حال. ولم يشهد الدخول المدرسي لسنة 2008-2009 أي تعثر. ونجاح البرنامج الاستعجالي واضحة معالمه ظاهرة ثماره. فقد خففنا بعض الأقسام من 64 تلميذا إلى 45...وكل شيء على ما يرام...".
    - قالت المديرة زهرة تخاطب السيدة النائبة: إنك سياسية بامتياز تنافسين الرجال المحنكين...
    - قالت النائبة المحترمة: علمتنا السياسة الكذب الجميل والرد الجميل... فاللهم تجاوز عنا، فإنا لا نرضى بالكذب سياسة وأسلوبا...
    - قالت زهرة: آمين. وهل سيستمر الوضع على ما هو عليه؟
    - قالت النائبة: نرجو من العلي القدير أن لا يحدث ذلك، وإن كان الوضع يبشر بذلك بشارة قوية...
    - قالت زهرة: وهل تقترحين حلولا للمشكل؟
    - قالت النائبة: لا رأي لمن لا يطاع!... نحن مسيرون غير مخيرين...نحن كأنتم ننفذ ما يملى علينا...

    - قال الراوي: ففكرت في كلامهما تفكيرا؛ غير عميق؛ ففهمت سر اللعبة فقلت: نحن ضحايا. لقد أكلنا يوم أكل الثور الأبيض...يسكننا الفساد على نحو عجيب، فالواجب العاجل أن نطرده لنتخلص منه ومن نسله الخبيث...أخرجوه من أجسامكم...فأخرج الصالحون منا الفساد وطردوه من دمائهم وخلاياهم، وامتنع الفاسدون ورفضوا...
    - قالوا: لقد استثمرنا كثيرا من أموالنا...لن نخسر رؤوس أموالنا وأرباحنا...لن نتنازل عن حقوقنا التي ضمنت لنا بالقانون، ودافع عنها مناضلونا من الشرق والغرب، وجاءت بها فلسفة الأنوار...إنكم لن تخسروا شيئا إن تنازلتم، أما نحن فسنخسر الكثير من دمائنا وأرواحنا...

    وصفني بعض من أصدقائي بالمتشائم ممن لا يفهمون.
    قالوا: أنت متشائم. فرد بعض ممن يفهمون فلسفتي وأسلوبي في التعامل مع الكذب ومناهجه، ردوا ردا خشنا قويا ما كنت سأرد بمثله لو كنت مدافعا عن نفسي في أكبر المحاكم.
    قالوا: "إنكم أيها المتملقون لا تفهمون الرجل وأسلوبه، ثم إنكم تتجاهلون ما ترون وتسمعون، إما لأنكم تستفيدون وتربحون أو لأنكم تبيعون أعراضكم بدراهم تأخذونها من أهل الكذب والبهتان أو لأنكم تخافون فقدان مناصبكم...دمركم الله تدميرا وكنتم مع أهل البور في الضحضاح".
    - لست متشائما يا قوم.
    - قيل نعرف أنه من فرط تفاؤلك عددت متشائما وما أنت بمتشائم. أنت غير راض. أنت كبركان اشتد لهيبه فاحترق بما فيه.
    - سمعنا طرقا في الباب.
    - خرج سمير في الليل مندفعا يحمل في قلبه هما دفينا وأسى تليدا...نظر من كوة الباب يطلع على الطارق فما أدرك إلا ظلالهم، وأجزاء من أقدامهم، فعاد مسرعا مخبرا بالخبر...
    - خرجت أنا المعني بالأمر وفي نفسي أشياء كثيرة. فأخذوني بعدما قيدوني ولطموني، تساءلت عن الأسباب فما أجبت...أُجبت بلغة الجسد؛ بلطمة عنيفة ولكمة قوية من نوع لكمات حقوق الإنسان وصفعات الكرامة والتنمية ومحاربة الهشاشة...
    وعزمت على مقاطعة الاجتماعات لأسباب ذكرت بعضها وهي قليلة؛ وما لم أذكره عظيم ولا يطمئن صدري للسكوت عنه. لست كاتما للحق ساترا للحقيقة، لكني أخشى أن تشمئز قلوب رقيقة لم تألف سماع مقاطع الفساد...

    أذكر أني كنت سببا في إغماءة حلت برجل صالح ما ألفت أذناه سماع الفساد والكذب المغطى باسم السياسة والحداثة والتنمية ومحاربة الهشاشة...فهتفنا الوقاية المدنية فحلت متأخرة فعادت أدراجها وانصلح حال صاحبنا بعد تدخل رجل خبير بحالات الإغماء...
    إن مجالس التدبير في المؤسسات صورة حقيقية مصغرة للاجتماعات الكبرى في المؤسسات الكبرى. والمشاركون في لعبة الكذب يدركون كذبهم ويعونهم الوعي كله، وقد تؤنبهم ضمائرهم ويضيق عليهم مجال الفعل لأن رعاة الغنم ذئاب، ولن نستأمن الذئب على نفسه بله أن نستأمنه على الغنم.

    لقد كنت مديرا (مضرا) في المستقبل فكنت أجد نفسي مضطرا للكذب؛ ومن النماذج التي أذكرها أننا لم نكن نصرح للنياية بنسب المتغيبين الحقيقية... وقد جربت خطة الصدق في القول والفعل فوجدتها غير مجدية قطعا. سبَّبْتُ لهم مشاكل كثيرة فاضطروني لأكتب استقالتي؛ اضطروني وألزموني بسلطة القانون الجميلة...ولما قدمتها رقوني إلى الأسفل؛ كما تصوروا؛ وإلى الأعلى كما رأيت...فاطمأن صدري وقل كذبي ولم ينقطع...فما هدأت عن لوم نفسي حتى انتهى بي المطاف إلى التقاعد...حيث ارتدت المساجد فكنت كحمامها أدعوا ربي بكرة وأصيلا ليغفر لي ما تقدم من ذنبي ويجنبني ما يمكن أن يتأخر. تصدقت بالدراهم عسى أن يغفر لي، ونصحت من هم في حاجة لنصح وأهل بها، فما بخلت...

    كان (محو الأمية) هاجس وزارة التربية الوطنية، فلا يهم أن يحصل التلميذ على تكوين علمي أو أدبي...إنما المهم أن ينتقل إلى المستوى الآخر بغض النظر عن كفاءته وقدراته...
    وكان ذلك تحت أسماء محاربة الهدر المدرسي والرفع من نسبة المتمدرسين وأسماء أخرى لا أذكرها...بل أرفض أن أذكرها إذ تسبب لي أرقا وتجعلني أحس بالذنب الذي كنت طرفا مشاركا فيه رغما عني...فقد كانت نسبة النجاح عندي في الفصل تفوق تسعين في المائة، ولم يكن ذلك عن جدارة واستحقاق؛ إنما بهاجس محو الأمية ومحاربة الهدر المدرسي...

    تخرجت من تلك الفئة؛ المستفيدة من سياسة دعه يمر دعه ينتقل لنحارب الهدر المدرسي؛ زمرة أفسدت الحرث والنسل وعتت في الأرض مفسدة، وزادت الفساد إلى الفساد القديم والأمية إلى الأمية...

    التقيت يوما أحد ضحايا السياسة المذكورة فسألته عن حاله وأحواله...فقاطعن وباغتني بقوله:
    - نحن ضحايا سياستكم التعليمية الفاشلة.
    - قلت: لم نكن نحن يا بني إلا منفذين مطبقين ما يملى علينا.
    - قال: المشارك في الجريمة مجرم.
    وحز قوله في نفسي شديدا فما استطعت التخلص من كلامه العالق بأذني وذهني. وزادني قوله أرقا إلى أرق والحزن إلى الحزن...

    وشكوت لأبي أمري مفصلا طورا ومجملا أخرى؛ غير مخل؛ فقال مطمئنا مطَمْئِناً لا تحزن يا بني فإن قوله جار به العمل فلتألف...
    إن أبناء العصر يحملون غيرهم ما يطيقون ولا يطيقون...لست أنفي أنكم خربتم التعليم وكنتم سببا في اندراسه ولست أتجاهلُ تهاونهم...

    خلوت بنفسي في الغابة التي عهدت فيها الخلوة أحدثها وتحدثني أوجهها وتوجهني...وسعدت بلقائها وصراحتها وقوة جأشها ومتانة عزيمتها ودقة مواعيدها...
    اطمأنت نفسي لكبر سني، إذ بلغت من الكبر عتيا، فشرعت أطل على الضفة الأخرى؛ أنتظر اليوم الذي سألقى فيه ربي عسى أن يغفر لي ذنبي ويكفر عني إثمي ويتجاوز عني ما لم يكن لي فيه حظ كبير، إذ كنت ضحية مناهج وبرامج وتوجهات لم أكن أقبلها ولا يقبل بها أمثالي من أهل العقل (لا تقلق فأني فاقد عقلي)...كنت رافضا مصرحا برفضي في اللقاءات والاجتماعات الرسمية وغير الرسمية، حتى اضطر الأمر بعضهم ليمنعني من حضور الاجتماعات الرسمية.
    قيل لي إذا كنت ستشوش عليها اجتماعنا وتعكر صفوه فلا تحضر… فقد وصفوني بالمشاكش والمشاغب ويقصدون ما يقولون. فما كانت تدخلاتي في الحوارات واللقاءات تروي غليلي ولا تشفي عليلي...ما كانت تزيدني إلا شقاء لشقاء وكمدا لكمد... فاستفدت أن الكلام لا يجدي نفعا والوضع ثابت مستقر على حاله؛ لا يُحرك إلا بعد إذن قائد المحرك ورغبة منه وحده...

    ولما فكرت في الصيام عن الكلام تبادرت لذهني فكرة المسؤولية والأمانة الملقاة على عاتقي، التي أشفقت من حملها السماوات والأرضون، فعدت أدراجي وتنازلت عن رأيي وأقبلت إلى ما كنت عليه من كثرة الكلام والانتقاد...فمت وأنا أنتقد، وكان آخر كلامي: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

    ارتبك بعض من أبنائي وأقاربي؛ ممن أحبهم ويحبونني، كما صرحوا بذلك بألسنتهم في حياتي. تذكروا أن لي وصية كتبتها مذ وقت طويل فأخذوها فقرؤوها واستوعبوا مضامينها، فزال الارتباك وعاد الاطمئنان إلى الصدور.

    نادوا الأستاذ الدمشقي أعز أصدقائي ليغسل جثماني فأجاب الدعوة وأخبرهم أني طلبت منه تغسيلي عند وفاتي. بمجرد دخوله بيتي سمع نياح امرأة أخبر أنها عمتي فنهاها عن الفعل فامتنعت.
    - قالت: هو أعز الناس إلي؛ فمن يبكيه إذا لم أبك عليه.
    - قال: البكاء مطلوب والنياحة غير مطلوبة، أنت تعلمين ذلك ولا يخفى عليك؛ على أمثالك ممن حصلوا على شهادة الدكتوراه بامتياز...
    - قالت: الشواهد التي تمنح لنا في المدارس والكليات والمعاهد...أوراق لا تعبر عن معنى، إنها شواهد ورقية لا تحدد مستوى الوعي.
    - قال: دعينا من هذا، فاليوم موت وغدا أمر... إن ذلك مما كان سببا في معاناة المرحوم؛ إن شاء الله. فقد أرقه كثيرا وأرهقه عظيما، وأنهكه كثيرا. صحيح إن الأعمار بيد الله يقبضها عندما يشاء، لكن الكون جار على سنن وأسباب منضبطة لا تنخرم إلا أن يشاء الله؛ كما لا يخفاك أنت العلمية...
    - قالت: أين أنا من العلم. لقد اجتمعنا في المدارس ثم في الإعداديات ثم في الثانويات والجامعات فتخرجنا نحمل شهادة مزخرفة لا تحمل شيئا من المعنى...

    فغسَّلوني كما وصفت له في الوصية التفصيلية ثم ألبسوني لباسي...وحملوني على ظهورهم إلى المقبرة يتفكرون في المآل الذي سنؤول إليه. كانت أكبر نسبة من المشيعين من رجال التعليم، وكان أغلبهم ناقما على الوضع يرفضه رفضا...

    وألقى الأستاذ الدمشقي كلمة بعد دفني كانت بالغة التأثير موضوعها وضعية التعليم والتربية في بلادنا...فعقب عليه بعضهم قائلا:
    - لقد خرجت عن الموضوع الذي نحن بصدده.
    - قال الدمشقي: بل هذا من صلب الموضوع. والذي يظهر لي أنك لست من أهل الطباشير. فغربتك عن الميدان هي السبب؛ فتبين بعد حين أنه موظف في وزارة الصيد البحري وقيل في وزارة السياحة.
    - وأكد الإخوة والحضور لصاحبنا الكلام، وهمسوا في أذنه بجمل تبيَّن من تقاسيم وجهه أنه قبلها واقتنع بها...وأعلموه أن من أسباب وفاته ما آل إليه الوضع الحالي... فلم يكن راض عنه.
    - قال متدخل غريب: والذي نعرف عن التعليم في بلادنا أنه عطل تتخللها فترات دراسة...
    - قال الأستاذ الدمشقي: تقولون كثيرا...إن ساعة واحدة في الفصل تعادل ثلاث ساعات في الأعمال الشاق...ولن يفهم ذلك إلا مجرب عالم بالوضع...إن المدرسة التي كنت تعرفها في ذلك الزمن تغيرت وتبدلت...إن ما تسمعون في وسائل الإعلام لا يعكس الحقيقة... والإعلام المستقل من أكبر الأكاذيب، إن الإصلاح الذي تسمعون لا يتجاوز الحناجر...اسأل أهل الميدان إن كنت تبحث عن الحقيقة...أما أهل الإدارة فلم يتحرروا من كراسيهم!...لا تصدق غالب أقوال المسؤولين فإنهم يخشون فقدان مكاتبهم إن هم صرحوا بالحقيقة...

    عاد الحشد العظيم المشيع للجنازة إلى بيت الميت فاجتمعوا قدام الباب وفي جنبات البيت، فهمت أنهم ينتظرون أن يوذن لهم بالدخول لتناول وجبة الغذاء...فقام الأستاذ الدمشقي كالخطيب في القوم يقرأ عليهم وصية الميت...وتوقف عند قوله:" والواجب أن يصنع الأكل لأهل الميت فهم في محنة تشغلهم".
    ففهم القوم المقصود وانتشروا هرعين إلى بيوتهم يجرون ذيولهم يتذوقون مضمون الوصية وفحوى الموعظة التي ألقاها الأستاذ الدمشقي على مسامعهم وقلوبهم عند القبر.

    قصد الأستاذ الدمشقي بيته رأسا أخذ من جيبه المفتاح وفتح الباب ودخل وسلم على أهله فاجتمعوا حوله يسألونه عن سبب تأخره، فأخبرهم أنه كان في جنازة صديقه فسألوه عن سبب موته...
    - قالت زوجته ما سبب موت صاحبك؟
    - قال: مات بما سأموت به.
    - قالت: أطال الله عمرك. أجبني ما سبب موته؟
    - قال: بسبب الوضع الذي آلت إليه المدرسة.
    - قالت: كيف ذلك؟
    - قال: كان صاحبي ذا قلب سليم، أثرت فيه الحالة...
    - قالت: أهكذا كل رجال التعليم؟
    - قال: أمثاله قليلون...وأغلبهم لا يفكر ولا ينشغل بالموضوع؛ همهم المقعد المقيم جمع الأموال والتفكير في مصادر أخرى للرزق...
    - قالت: ينشغل رجال التعليم بكل ما له علاقة بالمال والمصلحة... هل لك من تفسير؟
    - قال: من طبيعة البشر الحرص على المال؛ ورجال التعليم من البشر، فلن يختلفوا عنهم. رأيتهم رجالا ونساء يتطايرون على المدارس الخاصة بحثا عن الساعات الإضافية والرزق...وقد يفرطون في ساعاتهم القانونية في المدارس العمومية، ولا يهملونها في الخصوصية، والعلة معروفة...
    يضربون عن العمل في المدارس العمومية دفاعا عن حقوقهم، ولا يضربون في المدارس الخصوصية...وقد يحرصون على تعليم أبنائهم ويهملون أبناء غيرهم؛ وهذه أنانية وإجرام...إنه لمن أسباب فشل المدرسة المغربية تصرفات بعض رجال التعليم...
    - قالت: خرجت عن السؤال، وأفضت في أمور أخرى.
    - قال: المواضيع مترابطة ببعضها والفواصل بينها وهمية. ومن الأخطاء المنهجية التي نرتكبها نحن (المفكرين) إغفال الترابط بين الحقول والمجالات.

    وبالجملة فإن محرك المدرسة المغربية خارج هيكل المدرسة؛ إنه خارج أسوارها. ورجال التعليم موظفون مسيرون، أكرمهم وأعد لهم شرفهم وهيبتهم واعدل بينهم ليسهل عليك محاسبتهم...أعط كل ذي حق حقه وابحث عن الواجبات...
    - قالت: ما رأيك في الإصلاحات الأخيرة التي شهدها حقل التربية والتعليم؟
    - قال: أي إصلاح؟ الإصلاح ما نراه ونسمعه في الواقع...أما ما تمليه الوثائق ويتحدثون عنه في الندوات والمؤتمرات فكذب يشبه السياسة أو قل سياسة تشبه الكذب...فلا تنخدعي بما ينشر في وسائل الإعلام...إني محدثك من منطق التجربة...
    اعلمي أن قولي هذا مرفوض في سوق السياسة وداخل أسوار الإدارة، أما خارج الإدارة والسياسية فمقبول ممن رفضوه من الإداريين والسياسيين...
    - قال: ماذا تقصد بالسياسة؟
    - قال: سؤال مهم خطر، الإجابة عنه ذات نكهة خاصة. السياسة هي الكذب في الوقت المناسب. هي فن يجب أن يتعلمه كل كذاب...وهي نوعان سياسة غير نافعة وأخرى نافعة؛ لأجل السياسة...وأغلب سياسات اليوم كذب وبهتان ضرت بالأرض والبحر والكون قاطبة...السياسة تناقض الحقيقة...وقد يحكم علي أنا قائل هذه الكلمات بالجهل لأني لا أفهم السياسة...أجيبهم بقولي إني لا أصدق إلا ما أرى وأسمع...أتعامل مع اللغة العملية لا لغة اللف والدوران والاحتيال. ومن بلاغة القول فعله قبل قوله؛ وشرط الفعل الصلاح...وراء السياسة مال ووراء المال شهوة. والشهوة إذا لم تقنن قادت البشرية إلى الهاوية وما أدراك ما هي؟
    - قالت: كفاك يا هذا كلاما. قم وأحضر لنا ما نحتاج من أكل وشراب...
    - قال: كلما حدثناكم في المهم طلبتم منا الانصراف إلى الأقل أهمية أو هددتمونا بالموت والسلاح... لا تهمكم إلا بطونكم...دعيني أبين لك أمراً ربما لن تسمعيه من غيري...إن الذين يبحثون عن المناصب السياسية لا يبحثون عنها لأنهم مولعون بالسياسة راغبون فيها؛ وإن كانوا يتظاهرون بذلك؛ وإنما يقبلون عليها لأجل الدراهم والمصالح...يريدو ها شهوة وشهرة.
    - قالت: ما السياسية المتبعة في قطاع التربية والتعليم؟
    - قال: دعه يمر – دعه يغش – لنحارب الهدر المدرسي – لنحارب الأمية – الكيف أهم من الكم – ملء الوثائق الإدارية...
    هل تعلمين أن الغش أصبح اليوم من حقوق التلميذ؟!
    هل تعلمين أننا نعاني داخل الفصول الدراسية؟
    هل تعلمين أن وجود الإدارة التربوية داخل أسوار المدرسة وجود شكلي؟
    هل تعلمين أن التلاميذ محبطون؟
    هل تعلمين أن آباءهم يشتكون؟
    هل تعلمين أن الإعلام لا يساير المدرسة؟
    هل تعلمين أن المدارس مدمرة تدميرا؟
    هل تعلمين أننا لسنا في المستوى المطلوب؟...
    - قالت: وماذا عن المذكرات التي تحدثني عنها؟
    - قال: هي أوراق...
    - قالت: أعلم أنها من الورق. لماذا لا تطبقونها؟
    - قال: إنها أوراقٌ لا تحمل معنى يمكن تطبيقه...
    - قالت: نسيت أن أخبرك أن أستاذا من الأساتذة هتفك لما كنت خارج البيت، سألته عن اسمه فأخبرني أنه (حسن معزوز). عرفت من صوته أنه رجل صالح.
    - قال: كيف ذلك؟
    - قالت: سأجيبك عندما ينقشع الظلام.

    وانتظرنا انقشاع الظلام وطال انتظارنا ولما ينقشع.

    ظننت الليل قصيرا كعادته، فإذا به أطول مما كنت أتصور. بت أتقلب تلو اليمين والشمال، وقد كانت رحى عقلي مشغولة في تقليب الأفكار وطحنها لاستخراج زيتها.
    لم يخطر على بالي شيء مما له علاقة بالمدرسة والتعليم، لأني كنت فاقدا للأمل، أنتظر اليوم الذي ستشيع فيه جنازة المدرسة والتعليم لأكون من مشيعيهما. لم أكن حاقدا؛ ولا كان الحقد بمالئ قلبي؛ إنما كنت أنتظر اليوم الذي ستتغير فيه الأمور وتسفر فيه السماء عن صبح جديد أو كالجديد. لا أتحدث الآن عن التغيرات الورقية- على مستوى الأوراق والوثائق- لكني أنتظر العملية الفعلية؛ إذ أعلم أن الواقع لن ينصلح إذا لم نصلح المدرسة.
    - سألوني: ما الذي جاء بك إلى وزارة التربية الوطنية والتعليم؟
    - قلت: الفقر هو الذي دعاني، دعاني دعوة ملحاحة فأجبته. لم أختر مهنة التعليم لأني أحبها...لقد اخترتها باحثا عن لقمة خبز وقطعة لحم وسمن. ولم نصل بعد إلى مرحلة اختيار وظائفنا!...
    - سألوني: هل أنت غني؟
    - قلت: كنت أعلم والآن أعلم أن التعليم لا يورث الغنى. وأقول رغم ذلك الحمد لله على كل حال.
    - سألوني: هل أنت ممن يقول إن الغنى غنى النفوس؟
    - قلت: كنت وما زلت أقول.
    - سألوني: ماذا تقول للمسؤولين؟
    - قلت: هم يعرفون كل شيء؛ يعرفون ما لا نعرف؛ أقول لهم طبقوا ما تعرفون. يكفينا الكلام فقد شبعناه، وما لبثنا نصدقه. انطلقوا الآن مسرعين إلى الأفعال. أرجوكم انطلقوا لا تتأخروا فإنا نختنق، والأطفال يكبرون، وكلما كبروا فقدوا الثقة، وإذا فقدوا الثقة فمن الصعب إقناعهم بها من جديد. لا تستأثروا بالثروة. خذوا نصيبكم ووزعوا علينا الباقي. خذوا النصيب الأكبر وردوا علينا الأصغر أو أقل منه. انشروه بيننا كما ينشر الحب للدجاج. لا نطالبكم بالعدالة ولا نطالبكم بالمساواة فأنتم أحق بنا بالخيرات. فأنتم بشر من النوع الجيد الراقي والعرق النظيف...ونحن بشر من النوع الرديء، وأشبه ما نكون بالبقر والحمير...إنا نعترف بذلك ولا نشك فيه. وفرق ما بيننا عظيم: أنتم تتكلمون الفرنسية والانجليزية، ونحن لا نتكلم إلا بالبربرية. بين أيديكم وعن شمائلكم الخيرات الكثيرات توزعونها كما شئتم، تنتشرون عليها كما أحببتم، تفوتونها لمن رغبتم، وتقولون ما شئتم، وكل ذلك وفقا لقانون رسمته أيديكم. أنتم يا سادتي فوق القانون وفوق العدالة، ونحن وأنتم قريبا تحت التراب، فلا فرق بيننا، بل بيننا فروق ستعرفونها. بماذا يمكن أن يتميز الإنسان عن غيره؟ بسيارة من النوع الجيد وسكن فاخر ثم بعد ذلك سيوارى جثمانه في التراب. لا قيمة لذلك في نظر من كان له عقل...ثم اعلم أن الذين يتسلقون المناصب السياسية لا يتسلقونها لأنهم مولعون بالسياسية أو يحبونها إنما يريدون الدراهم...اعلم ذلك وعلمه من تعرف ومن لا تعرف. فسر كل الظواهر بالمادة؛ فالحركات وراءها مادة والسكنات وراءها مادة، ووراء المادة فرْج وشهوة...أما الأعمال التي تصنع لله وفي سبيله فلا ترى بالعين المجردة! إني على يقين أني سأوصف بالمتشائم؛ ولا يضرني ذلك، فقد ألفت وعلمت ما يقصدونهم بقولهم. فهمت ذلك لما جمعني اجتماع مع السيدة النائبة المحترمة فتحدثت بكلام يشبه الحقيقة، فتدخلتْ وفهمتُ من تدخلها أني متشائم لأني أقول الحقيقة أو ما يشبه الحقيقة...وقد يفهم من كلامي أني مادي إلى النخاع، ولا يضرني ذلك كذلك ما دمت أقول ما أزعمه حقيقة.
    - لقد أعجبني قول أحد المنتخبين، قال كلاما جميلا واضحا صريحا؛ قال: لا أعدكم بشيء كما يعدكم به الآخرون، فمجال الفعل ضيق. ولا أنفي أني سأكون من المستفيدين.
    - لن يعجب السياسيين وأشباه السياسيين قولي هذا. لماذا؟ لأن كلامي هذا ربما سيوقظ الهمم. وهم يخشون ذلك. فإذا أيقظت الهمم واشتغلت العقول ضاعت حقوقهم وتبخرت أمانيهم. لن يموتوا جوعا؛ فالجوع لا يقتل، لكن سيفقدون الكماليات والتحسينيات التي ألفوها مذ زمن. والإيلاف صعب.

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Feb 2008
    المشاركات
    120

    افتراضي رد: قصة من قلب المدرسة

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    ما راي أهل اللغة في الأسلوب الذي كتب به النص؟
    أخص بالذكر معلمنا أبا مالك.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •