بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ،، وبعد
فهذا سؤال أجاب عنه العلامة السفاريني الحنبلي بيَّن فيه بطلان زعم أحد الجهال أن العمل بكتب الفقه غير جائز لأنها محدثه ودعا للأخذ من الكتاب والسنة مباشرة دون التقيد بما أورده الأئمة من شروط وضوابط لمن أراد الإنتهاض لمثل هذا الأمر ، فكان جواب الشيخ مختصرا مفيدا غاية الإفادة ، وقد قام بتحقيق هذه الرسالة الأخ : وليد العلي ، على نسخة بخط الشيخ رحمه الله فجزاه الله خيرا ، ثم نقلت هذه الرسالة من حيز المسطور في الكتاب إلى هذا الموقع المبارك لينتفع بها الإخوة جميعا .. نسأل الله أن ينفع بها .


جواب العلامة السفاريني على من زعم أن العمل غير جائز بكتب الفقه لأنها مُحدثه ثم يليه ماكتبه شيخه الشهاب المنِّيني على جوابه تأييدا له .


نص الرسالة



بسم الله الرحمن الرحيم


ماقول علماء المسلمين ، وهداة المرشدين ، في رجل تفقًّه في مذهب إمامه ، ثم زعم بعد ذلك : أن العمل غير جائز بكتب الفقه كلها لأنها مُحدثة ، وإنما الواجب العمل بالحديث والتفاسير ، وترك ماسواهما .
فهل يلتفت إلى كلامه ؟
وهل دعواه هذه دعوى مجتهد أم لا ؟
فإن كانت فما يترتب عليها لغير مستحقها ؟
وماشروط الإجتهاد ؟
وماذا يلزم العامي إذا ترك قول إمامه وذهب إلى هذا الرجل ، لزعمه أن قوله حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن الفقه ليس كذلك ؟


أفيدونا بالجواب ..




أجاب شيخنا الشيخ : محمد السفاريني حفظه الله تعالى :
الحمد لوليٍّه وصلى الله على صفوته ونبيه .
اعلم أن هذا السؤال اشتمل على عدة مسائل
:



الأولى

زعم هذا الزاعم أن كتب الفقه لايجوز العمل بشيء منها
هذا مراد السائل .
وهذه مُعظمة عظيمة ، ومصيبة جسيمة ، فإنها خارقة لإجماع الأمة ، ومخالفة لجميع الأئمة .
فإن الأئمة والأعلام من دين الإسلام لم يزالوا ولن يزالوا يعملون بكتب الفقه المعروفة ويتوارثون ذلك خلفا عن سلف .
فزعم هذا الزاعم فيه طعن على جميع الأمة من عصر التابعين إلى عصرنا هذا .
ولم تزل العلماء تبذل مجهودها في جمع الفقه وترتيبه وتفصيله وتبويبه وهم ذلك مصيبون وعليه مثابون .


الثانية

دعواه أن الواجب : العمل بالحديث والتفسير وترك ماسواهما .
هذه مشتملة على حق وباطل .

أما الباطل : فقوله وترك ماسواهما ، فإن أدلة الشرع : الكتاب والسنة والإجماع والقياس واستصحاب النفي الأصلي كماهو معلوم عن الأئمة ومشروح في كتب الأصول .

وأما الحق : فالعمل بالكتاب والسنة حق لامرية فيه ، وهل كتب الفقه إلا زبدة الكتاب والسنة ، وثمرتهما من متعلًّق الأحكام الفرعية بالأدلة الإجمالية والتفصيلية وماقيس عليهما ؟!
ومصدر الجميع رب العالمين إذ الكتاب كلامه ، والسنة بيانه ، والإجماع دال على النص ، ومدرٍّس الجميع الرسول صلى الله عليه وسلم ، إذ هو المبلغ عن الله عز شأنه ، وتعالى سلطانه .


الثالثة


قوله : هل دعوى هذا دعوى مجتهد ؟

فالجواب : نعم ، ولكن مُجتهد في إزالة الشرع وارتكاب غير جادة المسلمين ، فمثل هذا الرجل في مثل هذا الزمان دعواه الإجتهاد كدعوى مُسيلمة الكذاب النبوة ، وكذا العنسي ، وسجاح وأمثالهم من المتنبئين .
فمن رام الإجتهاد ترك الوساد والمهاد ، وحُرم النساء والأولاد ، ودخل جميع البلاد ، ليُحصل الدواوين المدونة من السنة الغراء وتفاصيل أنواعها ، ومعرفة استخراج الأحكام منها ، إلى غير ذلك .
فإذا علمت ماذكرنا لك تحققت أنه لايُلتفت إلى كلامه ولايُترك النور الباهر ويحلك في ظلامه .
وأما قوله : فما يترتب عليها ؟
فقد علمنا أن هذا الرجل ضال مُضل لعدم معرفته بطُرق الإجتهاد ، حتى أنه أهمل الإجماع والقياس ، وهذا غاية الإفلاس .
وأما من ادعي الإجتهاد : فيُطلبُ منه البرهان وأنًّى له به ، فهذا ينبغي أن يؤدب التأديب الرادع له ولأمثاله ، سيما في طعنه على سلف الأمة وأعلام الأئمة ، في ضمن قوله : العمل بكتب الفقه غير جائز .


الرابعة


سؤال السائل عن شروط الإجتهاد

فاعلم أن المجتهدين على أربعة أقسام : مجتهد مطلق ، ومجتهد في نوع من العمل ، ومجتهد في مسألة منه ، أو مسائل .
وكلام هذا الجاهل والمُتجاهل يقتضي الإجتهاد المطلق ، قال ابن حمدان من أئمة مذهبنا وقال غيره : المجتهد المطلق هو الذي يستقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية العامة والخاصة ، وأحكام الحوادث منها ، لاكثرة الفقه ، ولابد من معرفته من الكتاب والسنة وما يتعلق بالأحكام ، وحقيقة ذلك ومجازه ، وأمره ونهيه ومُجمله ومُفصًّله ، ومحكمه ومتشابهه ، وخاصه وعامه ، ومطلقه ومقيده ، وناسخه ومنسوخه ، والمستثنى والمستثنى منه ، وصحيح السنة وسقيمها ، ومتواترها وآحادها ، ومُرسلها ومُسندها ، ومتصلها ومنقطعها ، ويعرف الوفاق والخلاف في مسائل الأحكام الفقهية في كل عصر ومِصر ، والأدلة والشُبهة والفرق بينهما ، والقياس وشروطه ومايتعلق بذلك والعربية المتداولة بالحجاز والشام واليمن والعراق ومن حولهم من العرب وأمور أُخر غير هذه .
قلت : ومن رام الإجتهاد في هذه الأزمنة أو حدًّثته نفسه به فقد رام المُحال وحدُّثته نفسه بالباطل والضلال ، والله ولي الإفضال .



الخامسة

الذي يلزم العامي عدم الإلتفات إلى مقالة هذا القتًّات ، والإعراض عنه وعن قوله ، وتقليد أحد الأئمة الأربعة المتبوعة ، الذين بذلوا جُهدهم في استخراج الأحكام ، وصاروا عُمدة لجميع الأنام ، فليس لإحد من الأمة أن يخرج عن أقوالهم ، هذا مما لانزاع فيه ، عند كل موفق ونبيه .
وينبغي لكل إمام وفقيه ، أن يُنفِّر عن مثل هذا الضال المُضل السفيه ، فإن الأمة دوًّنت المذاهب أحسن تدوين ، وبينتها أحسن تبيين .
وماذا يعرف هذا الجاهل ، الكتاب والسنة ؟ والإمام أحمد رضي الله عنه يقول : ( صحًّ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعمائة ألف حديث ) ، وإن قال الإمام ابن الجوزي : عنى به الطرق .
وأجاب رضي الله عنه عن ستين ألف مسألة بحدثنا وأخبرنا ، وإليها أشار الصرصري :
أجاب على ستين ألف قضية بحدثنا لامن صحائف نُقًّلِ
وأحاط بالسنة كما قاله الحافظ ابن حجر ، ولايُدعى ذلك في غيره ، ومحفوظات الناس من بعض محفوظاته ، كما أشار إليه الجلال السيوطي في المُنتهات .
وعلى كل حال تقليد غير الأربعة من السًّفه والضلال .

والله أعلم .




وكتب شيخه الشهاب المنِّيني على الجواب :

منقول .....
الحمد لله تعالى ، هذا الجواب جار على نهج الحق وجادة الصواب .
ويُؤيده ماقاله العز بن عبدالسلام في جواب سؤال رُفع إليه : وأما الإعتماد على كتب الفقه الصحيحة الموثوق بها ، فقد اتفق العلماء في هذا العصر على جواز الإعتماد عليها ، والإستناد إليها ، لأن الثقة قد حصلت بها كما تحصل بالرواية ، ولذا اعتمد الناس على الكتب المشهورة : النحو واللغة والطب وسائر العلوم لحصول الثقة بها وبُعد التدليس .
ومن اعتقد أن الناس قد اتفقوا على الخطأ في ذلك ، فهو أولى بالخطأ منهم ، ولولا جواز الإعتماد على ذلك لتعطل كثير من المصالح المتعلقة بها ، وقد رجع الشارع إلى قول الأطباء ، وليست كتبهم مأخوذة في الأصل إلا عن كفار ، ولكن لما بَعُد التدليس فيها اعتُمِد عليها ، كما اعتمد في اللغة على أشعار العرب لبعد التدليس .
والذي يخطر بالبال أن قول هذا القائل مبني على قواعد لغات الشيعة ، الذين يمنعون أخذ فروع الشريعة عن غير معصوم ، ويدعون العصمة على اصطلاحهم ، ولايُجوِّزون تقليد غيرهم من الأئمة .
والله سبحانه وتعالى أعلم .