الامام العثيمين-معالم في التعامل مع الفئة الضالة
وههنا حوار مثير جرى بين الشيخ وبين إحدى الجماعات المسلحة في الجزائر على مدى يومين في أوائل رمضان 1420هـ .. وبقطع النظر عن الفوارق بين الأطراف المختلفة والظروف البيئية ، واختلاف الأحوال بين بلد وآخر ، فإن ما يهمنا من هذا النقل هو أصل الحوار ومنهجية الشيخ في احتواء المخالف والرد عليه .
وفيما يلي أورد مقتطفات من هذا الحوار الهاتفي الطويل ، والذي ورد ضمن كتاب (فتاوى العلماء الأكابر) .
- السائل : نُعلمكم أنَّ الذي يُخاطبكم الآن هم إخوانك المقاتلون ... ونحن طبعاً سننقل كلامَكم إن شاء الله عزَّ وجلَّ إلى جميع إخواننا المقاتلين في هذه الجماعة وغيرها أيضاً ... ومن جهة أخرى، فإنَّ الكثير من الإخوة مِمَّن بلغَتْهم نصيحتكم وقعت لهم شبهةٌ حالت دون الاستجابة لِماَ دعوتم إليه، فكان لابدَّ إذاً من إجراء هذا الحوار الجديد مع فضيلتكم؛ أملاً أن نتمكَّن من خلاله من الإجابة على جميع التساؤلات المطروحة، وإزاحة جميع الشُّبه، وبيان الحقِّ البواح؛ حتى نصبح على مثل المحجَّة البيضاء، لا يزيغ عنها إلاَّ هالك [النصيحة والبيان العام أمر هام ، لكن تأثيره محدود ، ولا يمكن أن يصل إلى قوة تأثير الحوار المباشر في الإقناع وتفنيد الشبه لدى المخالف] .
وعلى هذا الأساس، فإنَّنا نلتمس من سماحتكم حفظكم الله إعطاءنا أكبر قدر من وقتكم، وأن تُسهِبوا في الشرح والبيان؛ لأنَّه لا يخفى عليكم يا شيخنا أنَّ الإخوة عندنا قد رسَّخَتْ فيهم سنواتُ القتال أفكاراً وعقائد ليس من السهل يا شيخ ولا من البسيط التخلِّي عنها واعتقاد بطلانها، إلاَّ ببيان شافٍ منكم [هذا يبين حتمية المواجهة الفكرية ، وأهميتها في انتشال الأفكار والشبهات المترسبة في أعماق النفوس] وذلك لِمَا لكم في قلوب الإخوة عندنا من عظيم المنزلة، ووافر التقدير والإجلال والاحترام؛ لأنَّنا نعتقد أنَّكم من أعلام أهل السنة والجماعة في هذا العصر [تعظيم قدر العلماء ، وإنزالهم منازلهم ، من أهم أسباب قبول الناس لفتاويهم ، وصدورهم عن رأيهم ، ومتى ما انقطعت الرابطة بين الناس وبين العلماء ، وفقدوا الثقة بهم ، وقعت الفتن التي لا عاصم منها إلا من رحم الله ] .
- الشيخ: دعنِي أتكلَّم قليلاً .
الحمد لله ربِّ العالمين، وأصلِّي وأسلِّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين.
أما بعد، فإنَّني من عنيزة القصيم ـ المملكة العربية السعودية ـ وفي أول يوم من رمضان عام عشرين وأربعمائة وألف، أتحدَّث إلى إخواني في الجزائر، وأنا محبُّهم : محمد بن صالح آل عثيمين . [المقام مقام نصح وحوار ، ومن أسباب نجاحه : التواضع ، والتلطف في العبارة ، والشفقة على المخالف ، كما هو ظاهر من كلام الشيخ] .
أقول لهم: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قرَّر في حجَّة الوداع تحريمَ دمائنا وأموالنا وأعراضنا تقريراً واضحاً جليًّا بعد أن سأل أصحابه عن هذا اليوم، والشهر، والبلد، وقال: (( إنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟)).
فهذا أمرٌ مجمعٌ عليه، لا يختلف فيه اثنان، والإخوة الذين قاتلوا في الجزائر منذ سنوات قد يكون لهم شبهة ففي أوَّل الأمر، حينما اتَّجه الشعب الجزائري إلى جبهة الإنقاذ، وعَلَت أصواتهم لصالح الجبهة [وفي هذا التماس العذر للمخالف -إن أمكن- في الماضي ، وحثه على الرجوع للحق في الحاضر ] ... ولكن هذا لا يقتضي ولا يسوِّغ حمل الإخوة السلاحَ بعضُهم على بعض، وكان الواجب عليهم من أول الأمر أن يمشوا ويُكثِّفوا الدعوة إلى تحكيم الكتاب والسنة، وفي الجولة الأخرى تكون أصواتهم ... ، ويكون وزنُهم في الشعب الجزائري أكبر، ولكن نقول: قَدَر الله وما شاء فعل؛ لو أراد الله أن يكون ما ذكرتُ لكان.
والآن، أرى أنَّه يجب على الإخوة أن يَدَعوا هذا القتال، لا سيما وأنَّ الحكومة الجزائرية عرضت هذا، وأمَّنت من يَضَع السلاح، فلم يبق عذرٌ . والجزائر الآن تحمل الويلات بعد الويلات مِمَّا كانت عليه .
أما الجماعة ... فأرى أن يُوافقوا لأنَّه مهما كان الأمر، الخروج على الحاكم ـ ولو كان كفرُه صريحاً مثل الشمس ـ له شروط، فمِن الشروط: ألاَّ يترتَّب على ذلك ضررٌ أكبر، بأن يكون مع الذين خرجوا عليه قدرة على إزالته بدون سفك دماء، أما إذا كان لا يمكن بدون سفك دماء، فلا يجوز؛ لأنَّ هذا الحاكمَ ـ الذي يحكم بما يقتضي كفره ـ له أنصار وأعوان لن يَدَعوه.
ثمَّ ما هو ميزان الكفر؟ هل هو الميزان المزاجي ـ يعني ـ الذي يوافق مزاج الإنسان لا يكفر، والذي لا يوافقه يكفر؟! من قال هذا؟!
الكفر لا يكون إلاَّ من عند الله ومن عند رسوله، ثمَّ إنَّ له شروطاً، ولهذا قال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلَّم لَمَّا تحدَّث عن أئمَّة الجَوْر ـ وقيل له: أفلا ننابذهم ـ قال: (( لا، إلاَّ أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان )) وأين هذا؟
كثيرٌ من الإخوة ولا سيما الشباب، الكفر عندهم عاطفي، مزاجي، ليس مبنيًّا على شريعة، ولا صدر عن معرفة بشروط التكفير، لهذا نشير إلى إخواننا في الجزائر أن يضعوا السِّلاحَ، وأن يدخلوا في الأمان، وأن يُصلحوا بقدر المستطاع بدون إراقة دماء، هذا هو الذي يجب علينا أن نناصحهم به، ومن وُجِّهت إليه النصيحة، فالواجب عليه على الأقل أن يتأنَّى وينظر في هذه النصيحة، لا أن يردَّها بانزعاج واستكبار وعناد، نسأل الله تعالى أن يُطفئ الفتنة، وأن يزيل الغُمَّة عن إخواننا في الجزائر.
- السائل: الإخوة ... عندما ناديتموهم بوضع السلاح مع اعتقادهم كفر حاكمهم شقَّ ذلك عليهم كثيراً وكبُر عليهم كثيراً ، يعني وضع السلاح والعودة تحت حكم من يعتقدون كفرَه ، يعني هذه معضلة كيف حلُّها يا شيخ؟
- الشيخ: والله ليست معضلة؛ أوَّلاً: ننظر هل هناك دليل على كفر هذا الحاكم، والنظر هنا من وجهين:
الوجه الأول: الدليل على أنَّ هذا الشيءَ كفرٌ.
الثاني: تحقق الكفر في حقِّ هذا الفاعل؛ لأنَّ الكلمة قد تكون كفراً صريحاً، ولكن لا يكفر القائل، ولا يخفى علينا جميعاً قول الله عزَّ وجلَّ: {مَن كَفَرَ مِن بَعْدِ إِيـمَانِه إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإِيمَانِ وَلَكِن مَن شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل 106]، رفع الله عزَّ وجلَّ حكم الكفر عن المكره وإن نطق به.
ولقد أخبر النبيُّ أنَّ الربَّ عزَّ وجلَّ أشدُّ فرحاً بتوبة عبده من رجل فَقَدَ راحلتَه، وعليها طعامه وشرابُه، فلمَّا أَيِس منها اضطجع تحت شجرة، فبينما هو كذلك إذا بناقته حضرت،فأخذ بزمامها وقال: اللَّهمَّ أنت عبدي وأنا ربُّك، قال النبيُّ : (( أخطأ من شدَّة الفرح )).
وكذلك الرجل الذي قال: (( لئن قدر الله عليَّ ليعذِّبنِّي عذاباً ما يعذِّبه أحداً من العالمين، فأمر أهله إذا مات أن يحرقوه ويسحقوه في اليمِّ، فجمعه الله وسأله؟ فقال: فعلتُ ذلك خوفاً منك يا ربِّ )) ، ولم يكفر.
الحاكم قد يكون عنده حاشية خبيثة، تُرقِّقُ له الأمور العظيمة وتسهِّلها عليه، وتُزيِّنها في نفسه، فيمضي فيما يعتقد أنَّه حلال، ولكنه ليس بكفر ... فالواجب على هؤلاء أن ينظروا في أمرهم، وأن يُلقوا السلاح، وأن يصطلحوا مع أمَّتهم، وأن يبثوا الدعوة إلى الله بتيسير لا بعنف .
- السائل: شيخنا حفظكم الله ، لو فرضنا كفر الحاكم ، هل يستلزم الخروج عليه بدون شروط ؟
- الشيخ: لا! لا بدَّ من شروط، ذكرتها آنفاً. لو فُرض أنَّه كافر مثل الشمس في رابعة النهار، فلا يجوز الخروجُ عليه إذا كان يستلزم إراقة الدِّماء، واستحلال الأموال.
السائل: الآن يعني بعض الإخوة عندنا مثلاً يقولون إنَّهم ما داموا خرجوا وحملوا السلاح وخاضوا هذه الحرب مع هذا النظام ، هم اليوم وإن اعتقدوا أنَّ ما هم فيه ليس بجهاد؛ لأنَّهم كما ذكرتم لم يَستَوفوا الشروط، لكن رغم ذلك يسألون: هل يمكنهم رغم ذلك المواصلة وإن أيقنوا الفناءَ والهلاك، أم يُهاجرون، أم ماذا؟
- الشيخ: والله! لا يجوز لهم، والله! لا يجوز لهم المضيُّ فيما هم عليه من الحرب الآن؛ إذ أنَّها حرب عقيم ليس لها فائدة ولا تولِّد إلاَّ الشرَّ والشَّرَر.
- السائل: شيخنا ، بعض الإخوة عندنا بعد أن سلَّموا بأنَّ هذا ليس بجهاد على وفق ما ذكرتم لم يثقوا في الحكومة نسبيًّا ، فيسألون هل يجوز لهم المكث في الجبال دون الرجوع إلى الحياة المدنية بدون قتال ، يعني يبقون بأسلحتهم في الجبال ويتوقَّفون عن القتال، لكن لا يرجعون إلى الحياة المدنية؟
- الشيخ: أقول: إنَّهم لن يبقوا على هذه الحال، مهما كان الحال، ولا بدَّ أن تحرِّكهم نفوسُهم في يوم من الأيام حتى ينقضُّوا على أهل القرى والمدن؛ فالإنسانُ مدنيٌّ بالطبع.
يبقى في رؤوس الجبال وفي تلالها وشعابها، ومعه السلاح؟!! .
في يوم من الأيام لا بدَّ أن تُهيِّجهم النفوسُ حتى يكونوا قطَّاعَ طرق .
[تأمل في بعد نظر الشيخ ورجاحة عقله] .
- السائل: إذاً لا يجوز لهم المكث على هذه الحال؟
- الشيخ: هذا ما أراه، أرى أن ينزلوا للمدن والقرى ولأهليهم وذويهم وأصحابهم.
- السائل: الآن إذا لم تستجب القيادة لندائكم هذا ، يعني إذا لم يستجب رؤوس المقاتلين لندائكم هذا ، ما واجب كل مقاتل في حقِّ نفسه؟
- الشيخ: الواجب وضع السلاح، وأن لا يطيعوا أمراءَهم إذا أمروهم بمعصية؛ لأنَّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
- السائل: شيخنا! هناك أحدهم يدَّعي أنَّه تلميذكم، ويَدَّعي أنَّ الاتصالَ بكم أمرٌ صعب، وأنَّكم محاطون بالمخابرات ـ يعني ـ وغير ذلك، والإخوة ههنا، الإخوة المقاتلين يعتقدون أنَّ الاتصال بكم بين الاستحالة والصعوبة، بناءً على كلام هذا الإنسان، هل هذا صحيح؟
- الشيخ: غير صحيح، أبداً كلُّ الناس يأتون ويتصلون بنا، ونحن نمشي
والحمد لله من المسجد إلى البيت في خلال عشر دقائق في الطريق، وكل يأتي ... ويمشي، والدروس ـ والحمد لله ـ مستمرة، ونقول ما شئنا مِمَّا نعتقده أنَّه الحق.
[هذا مثال على تسرع كثير من المخالفين في قبول ما يشاع ضد العلماء ، وإساءة الظن في علمهم ، والطعن في فتاويهم ، بناء على أوهام لا صحة لها]
- سائل آخر : إخواننا من الجماعة ... يُحبُّونكم، وينظرون إليكم على أنَّكم من علمائنا الذين يَجب أن نسير وراءكم .
- الشيخ: جزاهم الله خيراً.
- السائل: لكن هناك أسئلة تدور في رؤوسهم، ومن بين هذه الأسئلة يقولون: أنَّنا إذا نقلنا إلى الشيخ عن طريق أشرطة مصورة ، وبيَّنا له فيها قتالنا أنَّنا لا نقتل الصبيان، ولا نقتل الشيوخ، ولا نفجِّر في المدن، بل نقتل من يُقاتلنا من هؤلاء الذين لا يُحكِّمون كتاب الله عزَّ وجلَّ فينا، فإنَّ الشيخ بعد أن يعرف بأنَّ عقيدتنا سليمة وأنَّ منهجنا سليماً وأنَّ قتالنا سليم فإنَّ فتواه ستتغيَّر، ما قولكم في هذا بارك الله فيكم وجزاكم الله خيراً؟
- الشيخ: لا! قولي: إنَّ الفتوى لا تتغيَّر مهما كانت نيَّة المقاتل ، فإنَّها لا تتغيَّر ؛ لأنَّه يترتَّب على هذا أمور عظيمة ، قتل نفوس بريئة، استحلال أموال، فوضى .
[وهذا فيه ثبات الشيخ وقوته في بيان الحق ، وعدم مجاملته المخالف ، أو الانجرار وراء ما يظنه المخالف مبرراً لفعله] .
- السائل: شيخنا! حفظك الله، إذا كان في صعودنا إلى الجبال اعتمدنا على فتاوى، وإن كانت كما قال الأخ ظهر خطؤها، ولو كانت من عند أهل العلم، وبعض فتاوى بعض الدعاة ظنًّا منَّا أنَّ ذلك حجة في القتال، فصعدنا إلى الجبال وقاتلنا سنين، يعني فما دور المجتمع الآن في معاملتنا؟ هل يعاملنا كمجرمين، أم أنَّنا كمجاهدين أخطأنا في هذه الطريق؟
- الشيخ: أنت تعرف أنَّ جميع المجتمعات لا تتفق على رأي واحد، فيكون الناس نحوكم على ثلاثة أقسام:
ـ قسم يكره هؤلاء ويقول: إنَّهم جلبوا الدَّمار وأزهقوا الأرواح وأتلفوا الأموال، ولن يرضى إلاَّ بعد مدَّة طويلة.
ـ وقسم آخر راضٍ يُشجِّع، وربَّما يلومهم إذا وضعوا السلاح .
ـ القسم الثالث: ساكت، يقول: هؤلاء تأوَّلوا وأخطأوا، وإذا رجعوا فالرجوع إلى الحقِّ فضيلة.
[يحاول الشيخ فتح باب الأمل للمخطيء التائب ، وتخفيف أثر ردة فعل المجتمع عليه . وهذا يشير إلى أهمية وجود باب مفتوح ، وطريق رجعة لمن صحت توبته ، وصدقت نيته ، وتخلى عن فكره المنحرف]
- السائل: شيخنا! حفظك الله، نريد كلمة توجيهية إلى الطرفين، أقصد إلى الإخوة الذين سينزلون إلى الحياة المدنية وإلى المجتمع، يعني: كيف نتعامل الآن؟ وأن ينسوا الأحقاد، نريد نصيحة في هذا الباب حفظكم الله؟
- الشيخ: بارك الله فيكم، أقول: إنَّ الواجب أن يكون المؤمنون إخوة، وأنَّه إذا زالت أسباب الخلاف وأسباب العداوة والبغضاء فلنترك الكراهية، ولنرجع إلى ما يجب أن نكون عليه من المحبة والائتلاف، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ} .
وفي اليوم التالي ، كان الاتصال الثاني بالشيخ .
- السائل: أنا أركِّز على أهم ما يمكن أن يؤثِّر على الإخوة عندنا ، يعني المقاتلين حتى يرجعوا إلى الحقِّ.
- الشيخ: طيِّب! توكَّل على الله.
- السائل: إن شاء الله، أهمّ قضية ـ يا شيخ ـ ادعاؤهم أنَّكم لا تعلمون واقعنا في الجزائر، وأنَّ العلماء لا يعرفون الواقع في الجزائر، وأنَّكم لو عرفتم أنَّنا سلفيِّين أنَّ هذا سيغيِّر فتواكم، فهل هذا صحيح؟
[وهذا مما يشغّب به دعاة الفكر المنحرف كثيراً ضد العلماء والأئمة ، فإذا لم ترق لأحدهم الفتوى ، قال : إن العالم الفلاني غائب عن الساحة ، ولا يعلم الواقع] .
- الشيخ: هذا غير صحيح، وقد أجبنا عنه بالأمس، وقلنا مهما كانت المبالغات فإراقة الدِّماء صعب، فالواجب الكفّ الآن والدخول في السِّلم.
- السائل: شيخنا! ما رأيكم فيمن يعتقد أنَّ الرجوع إلى الحياة المدنية يُعتبر رِدَّة؟
- الشيخ: رأينا أنَّ من قال هذا فقد جاء في الحديث الصحيح أنَّ من كفَّر مسلماً أو دعا رجلاً بالكفر وليس كذلك عاد إليه.
- السائل: شيخنا! ما رأيكم في قولهم أنَّه لا هدنة ولا صلح ولا حوار مع المرتدِّين؟
- الشيخ: رأينا أنَّ هؤلاء ليسوا بمرتدِّين، ولا يجوز أن نقول إنَّهم مرتدُّون حتى يثبُت ذلك شرعاً.
- السائل: بناءً على ماذا شيخنا؟
- الشيخ: بناء على أنَّهم يُصلُّون ويصومون ويحجُّون ويعتمرون ويشهدون أن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمداً رسول الله .. فكيف نقول إنَّهم كفار على هذه الحال؟! إنَّ النبيَّ قال لأسامة بن زيد لَمَّا قتل الرَّجل الذي علاه بالسيف، فشهد أن لا إله إلاَّ الله، أنكر الرسول على أسامة، مع أنَّ الرَّجل قال ذلك تعوُّذاً كما ظنَّه أسامة، والقصة مشهورة .
[تأمل تحمل الشيخ وطول باله مع ما يطرح المخالف من الأسئلة والشبه ، واستجابته لما يطلب المخالف من التفصيل , وبيان الأدلة والبراهين]
- السائل: شيخنا! الكفر العملي هل يُخرج من الملة؟
- الشيخ: بعضه مخرجٌ وبعضه غير مخرج، كقتال المؤمن، فقد قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم: (( قتاله كُفْرٌ )) ، ومع ذلك لا يخرج من المِلَّة مَن قاتل أخاه المؤمن بدليل آية الحجرات: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} قال: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات 9 ـ 10].
- السائل: متى يُصبح الكفر العملي كفراً اعتقاديًّا شيخنا؟
- الشيخ: إذا سجد لصنم، فهو كافر كفراً مخرجاً عن الملة، إلاَّ أن يكون مكرهاً.
- السائل: وفي قضية الحكم بغير ما أنزل الله؟
- الشيخ: هذا باب واسع، هذا باب واسع، قد يحكم بغير ما أنزل الله عدواناً وظلماً، مع اعترافه بأنَّ حكم الله هو الحق، فهذا لا يكفر كفراً مخرجاً عن الملة، وقد يحكم بغير ما أنزل الله تشهيًّا ومحاباة لنفسه، أو لقريبه، لا لقصد ظلم المحكوم عليه ، ولا لكراهة حكم الله، فهذا لا يخرج عن الملة، إنَّما هو فاسق، وقد يحكم بغير ما أنزل الله كارهاً لِحُكم الله، فهذا كافرٌ كفراً مُخرجاً عن الملَّة، وقد يحكم بغير ما أنزل الله طالباً موافقة حكم الله، لكنَّه أخطأ في فهمه، فهذا لا يكفر، بل ولا يأثم؛ لقول النَّبِيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (( إذا حكم الحاكمُ فاجتهدَ فأخطأ فله أجرٌ واحد، وإن أصاب فله أجران )) .
[لا بد للمحاور من علم راسخ ، مبني على الأدلة الشرعية ، مع حسن العرض والبيان للمسائل ، وترتيب الجواب للسائل]
وفي ختام الاتصال .. قال السائل: شيخنا ،كلامكم واضح والحمد لله، وبهذه الصيغة يزيح إن شاء الله الشبهَ التي تحول دون أن يعملَ الحقُّ عملَه إن شاء الله.
- الشيخ: نسأل الله أن يهديهم، وأن يرزقهم البصيرة في دينه، ويحقن دماء المسلمين.
- السائل: أعطِنا تاريخ المكالمة واسمك.
- الشيخ: هذه المكالمة يوم الجمعة في شهر رمضان، أجراها مع إخوانه محمد بن صالح العثيمين من عنيزة بالمملكة العربية السعودية ،1420هـ ، نسأل الله أن ينفع بهذا . ا هـ.
( شواهد على ذلك من فعل السلف رحمهم الله )
ابن عباس والخوارج :
من أشهر الحوارات التاريخية مع الطوائف المنحرفة مناظرة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما للخوارج حينما خرجوا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وكانت هذه المناظرة بحق أنموذجاً فريداً ، وتطبيقاً ناجحاً للحوار ، رجع بسببه فئام من هذه الفئة ، فإلى هذه المناظرة كما ساقها الحاكم في المستدرك 2/150ـ 152 والبيهقي في السنن الكبرى 8/179 ، وسأدرج في ثنايا النقل بعض الملاحظات والتنبيهات وأضعها بين معقوفتين .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : " لما خرجت الحرورية اجتمعوا في دار وهم ستة آلاف أتيت علياً ، فقلت : يا أمير المؤمنين أبْرِد بالظهر لعلي آتي هؤلاء القوم فأكلمهم ، قال : إني أخاف عليك . قلت : كلا . قال ابن عباس : فخرجت إليهم ولبست أحسن ما يكون من حُلَلِ اليمن - وكان ابن عباس جميلاً جهيراً – [وهذه لفتة إلى أهمية العناية بشخصية المحاور ومظهره ، وأثر ذلك في قبول الطرف الآخر].
قال ابن عباس : فأتيتهم وهم مجتمعون في دارهم قائلون ، فسلمت عليهم ، فقالوا : مرحباً بك يا ابن عباس ، فما هذه الحلة ؟!! [مظهر من مظاهر الغلو ، والأخذ بالأشد حتى في اللباس] .
قال : قلت : ما تعيبون علي ؟ لقد رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن ما يكون من الحلل ، ونزلت قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق .
قالوا : فما جاء بك؟ قلت : أتيتكم من عند صحابة النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار لأبلغكم ما يقولون ، وتخبرون بما تقولون ، فعليهم نزل القرآن وهم أعلم بالوحي منكم وفيهم أنزل ، وليس فيكم منهم أحد . [ تذكير بما لدى المخالف من مزيد علم وفضل ، إشارة إلى أنه أقرب إلى الحق عند الاختلاف].
فقال بعضهم : لا تخاصموا قريشاً ، فإن الله يقول : بل هم قوم خصمون
[ انظر إلى سوء الفهم ، والاستدلال بالنصوص في غير مواضعها]
قال ابن عباس : وأتيت قوماً لم أر قوماً قط أشد اجتهاداً منهم ، مسهمة وجوههم من السهر ، كأن أيديهم وركبهم تثنى عليهم .
[لا تلازم بين مظاهر الصلاح وشدة الاجتهاد في العبادة وبين صحة المنهج والهداية للحق] .
قال : فمضى من حضر ، فقال بعضهم : لنكلمنّه ولننظرنّ ما يقول .
قلت : أخبروني ماذا نقمتم على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره والمهاجرين والأنصار؟ .
قالوا : ثلاثاً .
قلت : ما هن؟
قالوا : أما إحداهن فإنه حكّم الرجال في أمر الله ، وقال الله تعالى : إن الحكم إلا لله وما للرجال وما للحكم؟ .
فقلت : هذه واحدة .
قالوا : وأما الأخرى ، فإنه قاتل ولم يَسْبِ ولم يَغْنَمْ ، فلئن كان الذي قاتل كفاراً لقد حل سبيهم وغنيمتهم ، ولئن كانوا مؤمنين ما حل قتالهم .
قلت : هذه اثنتان ، فما الثالثة؟
قالوا : إنه محا نفسه من أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين .
قلت : أعندكم سوى هذا؟
قالوا : حسبنا هذا . [هذه قاعدة هامة ، وهي الاستماع الجيد إلى كلام المخالف ، وحصر جميع حججه ، قبل الشروع في الرد عليه]
فقلت لهم : أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما يُرَدّ به قولكم أترضون؟ [وهذه قاعدة أخرى من أهم قواعد الحوار ، وهي أنه لا بد من مرجعية ثابتة متفق عليها ، يردّ إليها عند التنازع بين الطرفين ، وإلا كان الحوار عقيماً غير مثمر] .
قالوا : نعم .
فقلت : أما قولكم حكم الرجال في أمر الله ، فأنا أقرأ عليكم ما قد رد حكمه إلى الرجال في ثمن ربع درهم في أرنب ونحوها من الصيد فقال : يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم .. إلى قوله يحكم به ذوا عدل منكم . فنشدتكم الله [خطابٌ مؤثر ، يحرك العواطف ، ويستثير الإيمان والخوف من الله] أَحُكْمُ الرجال في أرنب ونحوها من الصيد أفضل أم حكمهم في دمائهم وصلاح ذات بينهم؟ . وأن تعلموا أن الله لو شاء لحكم ولم يصير ذلك إلى الرجال . وفي المرأة وزوجها قال الله عز وجل : وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها أن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما فجعل الله حكم الرجال سنة مأمونة .
قال : أخرجتُ عن هذه؟ [ تحقق من زوال الشبهة عند المخالف]
قالوا : نعم .
قال : وأما قولكم قاتل ولم يسب ولم يغنم ، أتسْبُون أمكم عائشة ثم تستحلون منها ما يُسْتَحَل من غيرها؟ فلئن فعلتم لقد كفرتم وهي أمكم ، ولئن قلتم ليست أمنا لقد كفرتم فإن الله يقول : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم . فأنتم تدورون بين ضلالتين أيهما صرتم إليها صرتم إلى ضلالة . [محاصرة المخالف ، وبيان فساد رأيه بناءً على اللوازم الفاسدة المترتبة على القول به ] .
قال : فنظر بعضهم إلى بعض !![إشارة إلى وصول المخالف إلى درجة الشك والتردد] .
قال : أخرجت من هذه؟
قالوا : نعم .
قال : وأما قولكم محا اسمه من أمير المؤمنين فأنا آتيكم بمن ترضون وأريكم ، قد سمعتم أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية كاتب سهيل بن عمرو وأبا سفيان بن حرب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمير المؤمنين اكتب يا علي : هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله . فقال المشركون : لا والله ما نعلم إنك رسول الله لو نعلم إنك رسول الله ما قاتلناك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إنك تعلم أني رسول الله ، اكتب يا علي هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله . فوالله لرسول الله خير من علي وما أخرجه من النبوة حين محا نفسه .
قال ابن عباس : فرجع من القوم ألفان وقتل سائرهم على ضلالة ". اهـ
وهكذا .. كان من ثمرات هذا الحوار الهادف الذي قام به أحد علماء الأمة -وهو رجل واحد فقط- أن رجع ثلث هذه الفئة عن باطلهم ، وتخلوا عن أفكارهم ، وهذا مكسب كبير في القضية ، ناهيكم عن زعزعة فكر من بقي من هذه الفئة ، ونقلهم من دائرة القناعة التامة إلى دائرة الشك والتردد ، وهذا مكسب آخر بلا شك .
جابر بن عبد الله والخوارج :
وهذه حادثة أخرى رواها الإمام مسلم في صحيحه ، وكان الحوار فيها بين الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري وبين بعض من بدأت عندهم نزعة الخوارج .
عن يزيد الفقير قال : كنتُ قد شَغَفَنِي رأي من رأي الخوارج ، فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج ، ثم نخرج على الناس .
قال : فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله يُحدِّث القوم جالس إلى سارية ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فإذا هو قد ذكر الجهنَّميِّين [أي الذين يخرجهم الله من النار بشفاعة الشافعين ، وهذا يخالف مذهب الخوارج لأنهم يرون أن أهل الكبائر مخلدون في النار ، وأنهم لا تنفعهم الشفاعة] .
قال : فقلتُ له : يا صاحبَ رسول الله ، ما هذا الذي تُحدِّثون؟ والله يقول : إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ , و كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا ، فما هذا الذي تقولون؟ [خطأ في فهم الآيات ، وإنزالها على غير ما نزلت فيه] .
قال : فقال : أتقرأُ القرآنَ؟ [تقرير لمرجعية الحوار ، وهو الكتاب والسنة] .
قلتُ: نعم .
قال: فهل سمعت بمقام محمد عليه السلام ، يعني الذي يبعثه فيه؟
قلتُ: نعم!
قال : فإنَّه مقام محمد صلى الله عليه وسلم المحمود الذي يُخرج اللهُ به مَن يُخرج . قال : ثمَّ نعتَ وضعَ الصِّراط ومرَّ الناس عليه ، قال: وأخاف أن لا أكون أحفظ ذاك. قال: غير أنَّه قد زعم أنَّ قوماً يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها ، قال : يعني فيخرجون كأنَّهم عيدان السماسم ، قال: فيدخلون نهراً من أنهار الجنَّة فيغتسلون فيه ، فيخرجون كأنَّهم القراطيس .
قال يزيد : فرجعنا، قلنا: وَيْحَكم !! أَتَروْنَ الشيخَ يَكذِبُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! فرجعنا، فلا والله! ما خرج منَّا غيرُ رَجل واحد .
أقول : وهذه صفحة أخرى من صفحات الحوار الهادف ، وقى الله بسببها هذه العصابة -عدا أحدهم- من مغبة الخروج .
وفي صحيح البخاري أن ابن عمر رضي الله عنهما أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا : إن الناس صنعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي فما يمنعك أن تخرج؟ فقال : يمنعني أن الله حرم دم أخي . فقالا : ألم يقل الله : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة . فقال : قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله ، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله".
-مقتقطفات من رسالة(مع تقديم وتأخير بتصرف) باسم " ابن عثيمين يحاور المسلّحين"(معالم في التعامل مع الفئة الضالة)
للاخ سامي بن خالد الحمود-باحث شرعي أكاديمي
فتنة ابن الأشعث فوائد وعبر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ،،، أما بعد
ففي قصص من سبقنا عبرة ومزدجر ( إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم )
يسمع الناس بالفتن وخطرها وسوء عاقبتها ، ولكن كما قيل بالمثال يتضح المقال .
من الفتن التي هزت الأمة الإسلامية ، وكادت تطيح بالخلافة زمن بني أمية ؛
فتنة عبد الرحمن بن الأشعث
وكان ابتداؤها سنة إحدى وثمانين .
قال الحافظ ابن كثير : وكان سبب هذه الفتنة أن ابن الأشعث كان الحجاج يبغضه ، وكان هو يفهم ذلك ، ويضمر للحجاج السوء وزوال الملك عنه ، ثم إن الحجاج بن يوسف نائب الخليفة عبد الملك بن مروان على العراق جهز جيشا من البصرة والكوفة وغيرهما لقتال رتبيل الكافر ملك الترك ، الذي آذى أهل الإسلام وقتل فئاما منهم ، وأمر الحجاج على ذلك الجيش ابن الأشعث ، مع أنه كان يبغضه كما تقدم ، حتى إنه كان يقول : ما رأيته قط حتى هممت بقتله
ودخل ابن الأشعث يوما على الحجاج وعنده عامر الشعبي ، فقال الحجاج انظر إلى مشيته !! والله لقد هممت أن أضرب عنقه
فأخبر الشعبي ابن الأشعث بما قال الحجاج ، فقال ابن الأشعث : وأنا والله لأجهدن أن أزيله عن سلطانه إن طال ببي البقاء .
فسار ذلك الجيش بإمرة ابن الأشعث ، حتى وطئ أرض ( رتبـيل ) ، ففتح مدنا كثيرة ، وغنم أموالا كثيرة ، وسبى خلقا من الكفار ، ورتبيل ملك الكفار يهرب منهم من مدينة لأخرى .
ثم إن ابن الأشعث رأى لأصحابه أن يوقفوا القتال ، حتى يتقووا إلى العام المقبل ، ولتستقر الأمور في البلاد التي فتحوها .
فكتب إليه الحجاج يأمره بالاستمرار في القتال ، ويذمه ويعيره بالنكول عن الحرب ، فغضب ابن الأشعث ، ثم سعى في تأليب الناس على الحجاج .
وقام والد ابن الأشعث _ وكان شاعرا خطيبا ، فقال : إن مثل الحجاج في هذا الأمر ومثلنا كما قال القائل : ( احمل عبدك على الفرس ، فإن هلك هلك ، وإن نجا فلك ) ، إنكم إن ظفرتم كان ذلك زيادة في سلطان الحجاج ، وإن هلكتم كنتم الأعداء البغضاء .
ثم قال : اخلعوا عدو الله الحجاج ، ولم يذكر خلع الخليفة ، اخلعوا عدو الله الحجاج وبايعوا لأميركم عبد الرحمن بن الأشعث ، فإني أشهدكم أني أول خالع للحجاج .
فقال الناس من كل جانب : خلعنا عدو الله الحجاج _ وكانوا يبغضونه _ ووثبوا إلى ابن الأشعث فبايعوه ، ولم يذكروا خلع الخليفة .
وبعد بيعة الفتنة تلك تبدلت الأمور ، ووقع ما لم يكن في الحسبان ، فقد انصرف ابن الأشعث عن قتال الترك الكفرة !! وسار بجيشه المفتون مقبلا إلى الحجاج ليقاتله ويأخذ منه العراق ، فلما توسطوا في الطريق ، قالوا : إن خلعنا للحجاج خلع لابن مروان ، فخلعوا أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان ، وجددوا البيعة لابن الأشعث ، فبايعوه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وخلع أئمة الضلالة وجهاد الملحدين .
فلما بلغ الحجاج ما صنعوا من خلعه وخلع أمير المؤمنين ، كتب إلى الخليفة بذلك يعلمه ، ويستعجله في بعثه الجنود إليه ، فانزعج الخليفة واهتم
وسعى الناصحون المصلحون في درء الفتنة .
فكتب المهلب بن أبي صفرة إلى ابن الأشعث يحذره ، وينهاه عن الخروج على إمامه وقال :
إنك با ابن الأشعث قد وضعت رجلك في ركاب طويل ، أبق على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، الله الله !! انظر لنفسك فلا تههلكها ، ودماء المسلمين فلار تسفكها ، والجماعة فلا تفرقها والبيعة فلا تنكثها ، فإن قلت أخاف الناس على نفسي ، فالله أحق أن تخافه من الناس ، فلا تعرضها لله في سفك دم أو استحلال محرم ، والسلام عليك
ثم أخذ الخليفة عبد الملك في تجهيز الجنود في نصرة الحجاج في قتاله الخارجين على الجماعة ، وجعل المفتونون يلتفون على ابن الأشعث من كل جانب ، حتى قيل إنه سار معه ثلاثة وثلاثون ألف فارس ومائة وعشرون ألف راجل !!!
حتى دخلوا البصرة ، فخطب ابن الأشعث وبايعم ، وبايعوه على خلع الخليفة ونائبه الحجاج بن يوسف ، وقال لهم ابن الأشعث :
ليس الحجاج بشيء ، ولكن اذهبوا بنا إلى عبد الملك الخليفة لنقاتله ، ووافقه على خلعهما جميع من بالبصرة من الفقهاء والقراء والشيوخ والشباب .
قال الحافظ ابن كثير : وتفاقم الأمر وكثر متابع ابن الأشعث على ذلك ، واشتد الحال وتفرقت الكلمة جدا ، وعظم الخطب واتسع الخرق ا.هـ
ثم التقى جيش الخليفة وجيش ابن الأشعث ، فقال القراء الذين خلعوا البيعة : أيها الناس قاتلوا عن دينكم ودنياكم .
وقال عامر الشعبي _ وكان من الأئمة ، لكن ابن الأشعث فتنه _ قال : قاتلوهم على جورهم ، واستـغلالهم الضعفاء !! وإماتتهم الصلاة .
ثم بدأ القتال ، ما بين كر وفر ، يقتتل الناس كل يوم قتالا شديدا ، حتى أصيب من رؤوس الناس خلق كثير ،
واستمر هذا الحال مدة طويلة ، ثم كتب الخليفة إلى ابن الأشعث ومن معه يقول :
إن كان يرضيكم مني عزل الحاج خلعته ، وأبقيت عليكم أعطياتكم ، وليـخير ابن الأشعث أي بلد شاء يكون عليه أميرا ما عاش وعشت .
فلما بلغ ذلك ابن الأشعث خطب الناس وندبهم إلى قبول ما عرضه عليهم أمير المؤمنين من عزل الحجاج وإبقاء الأعطيات ، فثار الناس من كل جانب ، وقالوا: والله لا نقبل ذلك ، نحن أكثر عددا وعدة !!
ثم جددوا خلع الخليفة عبد الملك واتفقوا على ذلك كلهم ، واستمر القنال بين الفئتين مائة يوم وثلاثة أيام على ما قاله ابن الأثير .
وصبر جيش الخليفة بقيادة الحجاج ، بالحرب ، فأمر بالحملة على كتيبة القراء الذين خلعوا الخليفة ، لأن الناس كانوا تبع لهم ، وهم الذين يحرضونهم على القتال ، والناس يفتدون بهم
فحمل جيش الحجاج عليهم ـ، فقتل منهم خلقا كثيرا ، وبعدها انهزم ابن الأشعث ومن معه ، فلحقهم جيش الحجاج يقتلون ويأسرون ، وهرب ابن الأشعث ومعه جمع قليل من الناس، فأرسل الحجاج خلفه جيشا كثيفا ليقتلوه ويأسروه
ففر ابن الأشعث حتى دخل هو ومن معه إلى بلاد رتبيل الكافر ملك الترك !!! فأكرمه وأنزله عنده وأمنه وعظمه كيدا للمسلمين
هرب ابن الأشعث بعد أن أثار فتنة أهلك الحرث والنسل فقتل من أتباعه من قتل ، وأسر كثير منهم ، فقتلهم الحجاج بن يوسف ، وهرب من بقي منهم .
ومنهم عامر الشعبي الإمام الثقة ، فأمر الحجاج أن يؤتى بالشعبي فجيء به حتى دخل على الحجاج .
قال الشعبي : فسلمت عليه بالإمرة ، ثم قلت :
أيها الأمير ، إن الناس قد أمروني أن أعتذر إليك بغير ما يعلم الله أنه الحق ، ووالله لا أقول في هذا المقام إلا الحق ، قد والله تمردنا عليك وحرضنا ، وجهدنا كل الجهد ، فما كنا بالأتقياء البررة ، ولا بالأشقياء الفجرة ، لقد نصرك الله علينا ، وأظفرك بنا ، فإن سطوت فبذنوبنا ، وما جرت إليك أيدينا ، وإن عفوت عنا فبحلمك ، وبعد فالحجة لك علينا .
فقال الحجاج لما رأى اعترافه وإقراره : أنت يا شعبي أحب إلي ممن يدخل علينا يقطر سيفه من دمائنا ، ثم يقول ما فعلت ولا شهدت ، قد أمنت عندنا يا شعبي .
ثم قال الحجاج : يا شعبي كيف وجدت الناس بعدنا يا شعبي ؟ وكان الحجاج يكرمه قبل دخوله في الفتنة .
فقال الشعبي مخبرا عن حاله بعد مفارقته للجماعة : أصلح الله الأمـير ؛ قد اكتحـلت بعدك السـهر !! واستـوعرت السـهول !! واستجلـست الخوف !! واستحليت الهم !! وفقدت صالح الإخوان !! ولم أجد من الأمير خلفا !!
فقال الحجاج : انصرف يا شعبي ، فانصرف آمنا .
ثم شرع الحجاج في تتبع أصحاب ابن الأشعث ، فقتلهم مثنى وفرادى !!! حتى قيل إنه قتل منهم بين يديه مائة ألف وثلاثين ألفا !!! منهم محمد بن سعد بن أبي وقاص ، وجماعات من السادات ، حتى كان آخرهم سعيد بن جبير رحمه الله .
وكان ممن تبع ابن الأشعث طائفة من الأعيان منهم مسلم بن يسار وأبو الجوزاء ، وأبو المنهال الرياحي ومالك بن دينار والحسن البصري رحمه الله
وذلك أنه قيل لابن الأشعث : إن أردت أن يقاتل الناس حولك كما قاتلوا حول هودج عائشة فأخرج الحسن البصري معك ، فأخرجه
وكان ممن خرج أيضا سعيد بن جبير وابن أبي ليلى الفقيه وطلحة بن مصرف وعطاء بن السائب ، وغيرهم
قال أيوب : فما منهم من أحد صرع مع ابن الأشعث إلا رغب عن مصرعه ، ولا نجا أحد منهم إلا حمد الله أن سلمه !!!
ثم إن الحجاج كتب إلى رتبيل ملك الترك الذي لجأ إليه ابن الأشعث ، أرسل إليه يقول : والله الذي لا إله إلا هو ، لئن لم تبعث إلي بابن الأشعث لأبعثن إليك بألف ألف مقاتل ولأخربنها
فلما تحقق الوعيد من الحجاج استشار في ذلك بعض الأمراء فأشار عليه بتسليم ابن الأشعث قبل أن يخرب الحجاج دياره ، ويأخذ عامة أمصاره ، فعند ذلك غدر رتبيل بابن الأشعث فقبض عليه وعلى ثلاثين من أتباعه ، فقيدهم بالأصفاد وبعثهم مع رسل الحجاج إليه
فلما كانوا ببعض الطريق بمكان يقال له ( الرخج ) صعد ابن الأشعث وهو مقيد بالحديد إلى سطح قصر ، ومعه رجل موكل به لئلا يفر فألقى ابن الأشعث بنفسه من ذلك القصر ، وسقط معه الموكل به فماتا جميعا ، فعمد الرسول إلى رأس ابن الأشعث فاختزه ، وقتل من معه من أصحابه ، وبعث برؤوسهم إلى الحجاج فأمر فطيف برأس ابن الأشعث في العراق ، ثم بعثه إلى أمير المؤمنين عبد الملك فطيف به في الشام ، ثم بعث به إلى ألأخيه عبد العزيز بمصر فطيف برأسه هناك ، ثم دفن .
قال الحافظ ابن كثير : والعجب كل العجب من هؤلاء الذين بايعوه بالإمارة : كيف يعمدون إلى خليفة قد بويع له بالإمارة على المسلمين من سنين ، فيعزلونه وهو من صليبة قريش ، ويبايعون لرجل هندي بيعة لم يتفق عليها أهل الحل والعقد !!!
ولهذا لما كانت هذه زلة وفلتة نشأ بسببها شر كثير ، هلك فيه خلق كثير ، فإنا لله وإنا إليه إليه راجعون ا.هـ
ذكر ابن الأثير في تاريخه : أن رجلا من الأنصار جاء إلى عمر بن عبد العزيز فقال : أنا ابن فلان بن فلان ، قتل جدي يوم بدر ، وقتل جدي فلان يوم أحد ، وجعل يذكر مناقب سلفه ، فنظر عمر إلى جليسه فقال : هذه المناقب والله ، لا يوم الجماجم ويوم راهط ، من الخروج وحمل السلاح على المسلمين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله رب العالمين
إن فتنة ابن الأشعث كانت فتنة عظيمة فرقت الكلمة ، وقتل فيها أكثر من مائة ألف مسلم ، وفي هذه الحادثة فوائد منها :
أولها : أن للفتن في أول نشوئها لذة وحلاوة تستهوي كثيرا من الناس ، إلا من عصمه الله ونجاه ، وقد خرج كثير من القراء مع ابن الأشعث ، فضلا عن عامة الناس ، كان كلامهم في أول الفتن قويا ومهيجا ، تكلم متكلموهم ، وأبدع خطباؤهم ، في التحريض على قتال جند الخليفة .
قال أبو البختري : أيها الناس قاتلوهم على دينكم ودنياكم ، فوالله لئن ظهروا عليكم ليفسدن عليكم دينكم ، وليلن على دنياكم .
قوال عامر الشعبي : أيها الناس قاتلوهم ، ولا يأخذكم حرج من قتالهم ، والله ما أعلم على بسيط الأرض أعمل بظلم ولا أعمل بجور منهم
وقال سعيد بن جبير نحو ذلك
ووالله لو كانوا يعلمون ما ستـؤول الأمور إليه لما قالوا ما قالوا ، ولكنها الفتن تعمى فيها الأبصار .
ثانيا : إذا وقعت الفتن فإن ضحاياها الأبرار والفجار ، قال الله تعالى ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة )
ذكر ابن الأثر في تاريخه أن الحجاج لما غلب جيش ابن الأشعث أخذ يبايع الناس وكان ظالما ، وكان لا يبايع أحدا إلا قال له اشهد على نفسك أنك كفرت ، يعني بنقضك البيعة وحملك السلاح ، فإن قال نعم بايعه ، وإلا قتله .
فأتاه رجل من خثعم كان معتزلا للناس كلهم ، فسأله الحجاج عن حاله فأخبره باعتزاله ، قال الحجاج ، بل أنت متربص بنا ، أتشهد أنك كافر ؟
قال الرجل : بئس الرجل أنا أعبد الله ثمانين سنة ، ثم أشهد على نفسي بالكفر
قال الحجاج : أقتلك إذا ؟
قال الرجل : وإن قتلتني
فقتله الحجاج ، ولم يبق أحد من أهل الشام والعراق إلا رحمه ، وحزن لقتله
ثالثا : إذا ولت الفتنة مدبرة عند ذلك يندم من دخل فيها لما يراه من الفساد والشرر الذي نتج عنها ، واستمع إلى أهلها وقد جيئ بهم حتى أوقفوا بين يدي الحججاج بن يوسف
هاهو فيروز بن الحصين أسر فأتي به إلى الحجاج فقال له : أبا عثمان !! ما أخرجك مع هؤلاء ، فوالله ما لحمك من لحومهم ولا دمك من دمائهم
فقال : أيها الأمير فتنة عمت ، فأمر به الحجاج فضربت عنقه
ثم دعا الحجاج بعمر بن موسى فجيء به موثقا ، فعنفه الحجاج ، فاعتذر ، وقال أصلح الله الأمير !! كانت فتنة شملت البر والفاجر ، فدخلنا فيها ، فقد أمكنك الله منا ، فإن عفوت فبفضلك ، وإن عاقبت ظلمت مذنبين
فقال الحجاج : أما إنها شملت البر والفاجر ، فقد كذبت ، ولكنها شملت الفاجر وعوفي منها الأبرار ، وأما إقرارك فعسى أن ينفعك .
فرجى له الناس السلامة ، لكن الحجاج أمر به فضربت عنقه
ثم دعا الحجاج بالهلضام بن نعيم فقال : ما أخرجك مع ابن الأشعث ؟ وما الذي أملت ؟
فقال الرجل : أملت أن يملك ابن الأشعث فيوليني العراق ، كما ولاك عبد الملك
فقتله الحجاج
ثم دعا بأعشى همدان وقد تبع ابن الأشعث ، وعمل الشعر في التحريض على قتال الخليفة ، فلما دخل على الحجاج أنشد يعتذر :
أبى الله إلا أن يتمم نوره *** ويطفئ نار الفاسقين فتخمدا
فقتلاهم قتلى ضلال وفتنة *** وجيشهم أمسى ذليلا ممردا
فما لبث الحجاج أن سل سيفه *** فولى جيشــنا وتبددا
دنود أمير المؤمنين وخيله *** وسلطانه أمسى عزيزا مؤيدا
ليهنأ أمير المؤمنين ظهوره *** على أمة كانوا سعاة وحسدا
نزلوا يشتكون البغي من أمرائهم *** وكانوا هم أبغى البغاة وأعندا
فقال الحجاج : والله يا عدو الله لا نحمدك ، وقد قلت في الفتنة ما قلت ، وحرضت الناس علينا ، فصربت عنقه وأحلق بأصحابه .
رابعا : إذا وقعت الفتنة سعى أهلها في استدراج بعض الخواص إليهم ليحتجوا بهم عند العامة ، وقد قيل لابن الأشعث : إذا أردت أن يقاتل الناس حولك كما قاتلوا حول هودج عائشة فأخرج الحسن البصري معك ، فأخرجه .
وخرج مع ابن الأشعث بعض الأئمة ، كسعيد بن جبير ، ومالك بن دينار وغيرهما ، ففتن الناس والمعصوم من عصمه الله .
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من الفتن ويأمر بذلك في كل صلاة ، لأن بعضها يجعل الحليم حيرانا ، ذلك أن أهل الفتنة يزينون فعلهم بكثرة موافقيهم .
فابن الأشعث قاتل معه أكثير من مائة وخمسين ألفا ، وتبعه جماعة من السادات ، لكن فعلهم لم يكن مرضيا ، إذ هو خلاف النصوص الآمرة بالجماعة والصبر الناهية عن الخروج والفرقة والمنازعة .
قال أيوب : ما منهم من أحد صرع مع ابن الأشعث إلا رغب عن مصرعه ، ولا نجا من نجا منهم إلا حمد الله وسلمه .
قال الإمام ابن بطة العكبري في التحذير والاغترار بالكثرة : والناس في زماننا أسراب كالطير يتبع بعضهم بعضا !! لو ظهر فيهم من يدعي النبوة _ مع علمهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء _ أو من يدعي الربوبية لوجد على ذلك أتباعا وأشياعا .
خامسـأ : أن عاقبة الفتن وخيمة ، ومآل أهلها الخسران ، فهاهو ابن الأشعث خرج على جيش إسلامي مجادا في سبيل الله ، ثم صار رأسا في الفتنة ، فترك قتال الكفار وهجم على أهل الإسلام !! وقتل بسببه جمع كثير ، واضطربت الأمور وكثر الشر ، ثم آلت به الحال أن يلجأ إلى ملك الكفار الذي كان يقاتله بالأمس ، ففرح به الكافر وأكرمه إغاظة للمسلمين.
وهكذا الفتن تقود صاحبها إلا ما لا يريد .
وليت ابن الأشعث وقف عند هذا لكان هينا ، وما هو وربي بهين
لقد غدر به الملك الكافر وأرسله موثقا إلى الحجاج ، فأسقط في يده ، فلما كان ببعض الطريق ، صعد قصرا فألقى نفسه ، فمات ، فمن كان يظن أن نهايته تكون كذلك . |
سـادسـا : لقد ألبس ابن الأشعث فتنته هذه لباس الشرع ، وأوهمهم أنها إنكار للمنكر ونصرة للدين ، لكن الباطن خلاف ذلك ، قد ذكر ابن الأثير أن الحجاج كان يبغض ابن الأشعث ، ويقول : ما رأيته قط إلا وأردت قتله ، وهو يعلم ذلك ، وكان يهدد ويقول : وأنا والله لأجهدن أن أزيل الحجاج عن سلطانه إن طال بي البقاء .
ونص ابن كثير على أن سبب تلك الفتنة كره ابن الأشعث للحجاج ، ثم جمع حوله من يبغضون الحجاج ، فانظروا كيف استغل كره الناس ليثأر منه وينكد عليه !!
ولهذا فمن دعا إلى مفارقة الجاعة وإثارة الفتنة فهو صاحب هوى مريض قلب ، مخالف للسنة ، وإن ظهر فعله ذلك في صورة إنكار للمنكر
سابعا : إذا وقعت الفتنة ، فإن أول من يصطلي بنارها من أوقدها ، فتنقلب الأمور عليهم ، ويتسلط الجهال من أتباعهم حتى يكون الأمر والنهي عليهم .
وقد كتب الخليفة إلى ابن الأشعث عزل الحجاج وتوليته مكانه ، وبقاء أعطيات الناس ، فمال إلى ذلك ابن الأشعث ، فخطب الناس وقال : اقبلوا ما عرض عليكم ، وأنت أعزاء أقوياء ، فوثب الجهال من كل مكان يقولون : لا والله لا نقبل نحن أكثر منهم عددا وعدة ، وأعادوا خلع الخليفة ثانية ، وبايعوا ابن الأشعث ، فانصاع لأمرهم ووافقهم حتى آل أمره إلى ما آل إليه .
ثامنا : من فارق الجماعة ودخل في الفتنة فهو في غربة ووحشة ، ومآله أن يتخلى عنه أحبابه وأعوانه .
هاهو الشعبي يصف حاله بعد أن خلع البيعة ودخل مع ابن الأشعث ، فقدت صالح الإخوان ولم أجد من الأمير خلفا .
من أجل ذلك كان الأئمة يحرصون على الاجتماع زمن الفتن
يقول حنبل : اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبد الله _ يعني الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله _ يقولون له : إن الأمر تفاقم وفشا _ يعنون إظهار القول بخلق القرآن ، ولا نرضى بإمرته ولا سلطانه ، فناظهرهم الإمام أحمد في ذلك وقال : عليكم بالإنكار في قلوبكم ، ولا تخلعوا يدا من طاعة ، لا تشقوا عصا المسلمين ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم ، وانظروا في عاقبة أمركم ، واصبروا حتى يستريح بر ويسترح من فاجر .
وقال لهم : ليس هذا _ يعني نزع أيديهم من طاعتهم _ صوابا ، هذا خلاف الآثار ا.هـ
الإمام أحمد يقول هذا ، وقد آذاه السلطان وجلده وسجنه ، ثم منعه من لقيا الناس ، لكن أهل السنة أهل عدل واجتماع ومتابعة للنصوص يرجون ما عند الله تعالى
وآخرها : أن هذه الفتنة تدل على أهمية التمسك بالآداب الشرعية زمن الفتن ، فمن تلك الآداب :
#الحذر من الفتن وعدم الاستشراف لها واعتزال أهلها .
# ومنها الحلم والرفق ، فلا تعجل في قبول الأخبار ، والأفكار والآراء ، والحكم على الناس تخطئة وتصويبا ، فما كان الرفق في شيء إلا زانه ، وما نزع من شيء إلا شانه .
# ومنها لزوم جماعة المسلمين وإمامهم والحذر من التفرق ، لقول حذيفة رضي الله عنه لما ذكر له النبي صلى الله عليه وسلم الفتن ، قال فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟
فقال : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم
# ومنها الالتفاف حول علماء السنة أهل التوحيد ، والحذر من التفرق عليم ومنازعتهم ، والصدور عن آرائهم والاستجابة لنصحهم
ووالله ، وتالله ، وبالله : إن أول باب يلج الرجل منه إلى الفتنة الطعن بالعلماء ، والاستبداد بالرأي دونهم .
ومن رأيتموه يقدح في علمائنا فاعلموا أنه مفتون ، فإن من علامة أهل البدع الوقيعة في أهل السنة
# ومنها أن الفتن إذا وقعت فما كل ما يعلم يقال ، وليت بعض الناس يتركون الأمور العظام للعلماء الكبار حفاظا على اجتماع الكلمة ، لأن مرد الناس في آخر أمرهم للعلماء ، فمن كان عنده رأي فليعرضه عليهم ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم )
مقال منقول _ بتصرف _ من خطبة جمعة للشيخ سلطان العيد حفظه الله وسدده ووفقه