الأول : تدليس الإسناد : وَهُوَ أن يروي الرَّاوِي عمن لقيه ما لَمْ يسمعه مِنْهُ بصيغة محتملة (126) .
والمراد من الصيغة المحتملة : أن لا يصرح بالسماع أَوْ الإخبار مثل : حَدَّثَنَا ، وأخبرنا (127) وأنبأنا ، وسمعت ، وَقَالَ لنا ، وإنما يجيء بلفظ يحتمل الاتصال وعدمه ، مثل : إن ، وعن ، وَقَالَ ، وحدّث ، وروى ، وذكر ، لذا لَمْ يقبل الْمُحَدِّثُوْن َ حَدِيْث المدلس ما لَمْ يصرِّح بالسماع (128) .
الثاني: تدليس الشيوخ :وَهُوَ أن يأتي باسم شيخه أَوْ كنيته عَلَى خلاف المشهور بِهِ تعمية لأمره وتوعيراً للوقوف عَلَى حاله (129). وهذا النوع حكمه أخف من السابق ، وفي هَذَا النوع تضييع للمروي عَنْهُ وللمروي وتوعير لطريق مَعْرِفَة حالهما . ثُمَّ إن الحال في كراهيته يختلف بحسب الغرض الحامل عَلَيْهِ، إِذْ إن من يدلس هَذَا التدليس قَدْ يحمله كون شيخه الَّذِيْ غيّر سمته غَيْر ثقة، أو أصغر من الرَّاوِي عَنْهُ،أو متأخر الوفاة قَدْ شاركه في السَّمَاع مِنْهُ جَمَاعَة دونه،أو كونه كثير الرِّوَايَة عَنْهُ فلا يحب تكرار شخص عَلَى صورة واحدة(130).
الثالث: تدليس التسوية (131):وَهُوَ أن يروي عَنْ شيخه ، ثُمَّ يسقط ضعيفاً بَيْنَ ثقتين قَدْ سَمِعَ أحدهما من الآخر أو لقيه ، ويرويه بصيغة محتملة بَيْنَ الثقتين (132) . وممن اشتهر بهذا النوع : الوليد بن مُسْلِم (133) ، وبقية بن الوليد (134) . وهذا النوع من التدليس يشترط فِيْهِ التحديث والإخبار من المدلس إلى آخره (135) .
الرابع: تدليس العطف :وَهُوَ مثل أن يقول الرَّاوِي : حَدَّثَنَا فُلاَن وفلان ، وَهُوَ لَمْ يَسْمَع من الثاني (136) الخامس: تدليس السكوت :
وَهُوَ كأن يقول الرَّاوِي: حَدَّثَنَا أَوْ سَمِعْتُ، ثُمَّ يسكت برهة ، ثُمَّ يقول: هشام بن عروة (137) أو الأعمش (138) موهماً أنه سَمِعَ منهما ، وليس كذلك (139) .
السادس: تدليس القطع :وَهُوَ أن يحذف الصيغة ويقتصر عَلَى قوله مثلاً : الزهري عَنْ أنس (140) .
السابع: تدليس صيغ الأداء :وَهُوَ ما يقع من الْمُحَدِّثِيْن َ من التعبير بالتحديث أَوْ الإخبار عَنْ الإجازة موهماً للسماع ، وَلَمْ يَكُنْ تحمله لِذَلِكَ المروي عَنْ طريق السَّمَاع (141) .
وهذه الأنواع السبعة ليست كلها مشتهرة إنما المشتهر مِنْهَا والشائع الأول والثاني وعند الإطلاق يراد الأول . وهذا القسم هُوَ الَّذِيْ لَهُ دورٌ في الاختلافات الحديثية متوناً وأسانيد ، إِذْ قَدْ يكشف خلال البحث بَعْدَ التنقير والتفتيش عَنْ سقوط رجل من الإسناد وربما كَانَ هَذَا الساقط ضعيفاً أَوْ في حفظه شيءٌ ، أو لَمْ يضبط حديثه هَذَا .
ومن الأمثلة عَلَى ذَلِكَ ما رَوَاهُ ابن حبان (142) من طريق ابن جريج (143) ، عَنْ
نافع(144)، عَنْ ابن عمر ، قَالَ : قَالَ رَسُوْل الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تَبُلْ قائماً )) (145) .
وهذا الإسناد رجاله ثقات إلا أنَّ ابن جريج مدلسٌ (146) وَقَدْ عنعن هنا وَلَمْ يصرح بسماعه من نافع ، وَهُوَ قَدْ سَمِعَ من نافع أحاديث كثيرة ، فهُوَ معروف بالرواية عَنْهُ ، وروايته عَنْهُ في الكتب الستة (147). ولكن النقاد ببصيرتهم الناقدة ونظرهم الثاقب كشفوا أنَّ في هَذَا السند واسطة بَيْنَ ابن جريج ونافع ، وأن ابن جريج لَمْ يسمعه من نافع مباشرة، بَلْ سمعه من عَبْد الكريم بن أبي المخارق الضعيف(148)، وَقَدْ صرّح ابن جريج في بعض طرق الْحَدِيْث بهذا الساقط ، فبان تدليسه ؛ فَقَدْ رَوَى عَبْد الرزاق(149)، ومِنْ طريقه ابن ماجه(150)، وأبو عوانة (151)، وابن عدي (152)، وتمام الرازي (153)، والحاكم(154)، والبيهقي (155)، عَنْ ابن جريج ، عَنْ عَبْد الكريم بن أبي المخارق ، عَنْ نافع ، بِهِ .
ومن بدائه علم الْحَدِيْث أن حَدِيْث الثقة ليس كله صحيحاً (156) ، كَمَا أنّ حَدِيْث الضعيف ليس كله ضعيفاً (157) ، ومعرفة كلا النوعين من أحاديث الفريقين ليس بالأمر اليسير إنما يطلع عَلَى ذَلِكَ الأئمة النقاد الغواصون في أعماق ما يكمن في الروايات من صحة أو خطأ ، لذا فتّش العلماء في حَدِيْث ابن أبي المخارق هل توبع عَلَيْهِ ، أم أخطأ فِيْهِ؟ وخالف الثقات الأثبات أم انفرد ؟ فنجدهُمْ قَدْ صرّحوا بخطأ ابن أبي المخارق لمخالفته الثقات الأثبات في ذَلِكَ ، قَالَ البوصيري (158) في مصباح الزجاجة – بَعْدَ أن ضعّف حَدِيْث ابن أبي المخارق - : (( عارضه خبر عبيد الله بن عمر العمري (159) الثقة المأمون المجمع عَلَى ثقته ، ولا يُغتر بتصحيح ابن حِبّان هَذَا الخبر من طريق هشام بن يوسف (160) ، عَنْ ابن جريج عَنْ نافع ، عَنْ ابن عمر . فإنه قَالَ بعده : أخاف أن يَكُوْن ابن جريج لَمْ يسمعه من نافع ، وَقَدْ صحّ ظنُّه ، فإنّ ابن جريج إمّا سمعه من ابن أبي المخارق كَمَا ثبت في رِوَايَة ابن ماجه هَذِهِ والحاكم في المستدرك واعتذر عَنْ تخريجه أنه إنّما أخرجه في المتابعات )) (161) .
وَقَالَ الترمذي : (( إنما رفع هَذَا الْحَدِيْث عَبْد الكريم بن أبي المخارق ، وَهُوَ ضعيف عِنْدَ أهل الْحَدِيْث ، ضعّفه أيوب السختياني (162) وتكلم فِيْهِ . وروى عبيد الله ، عَنْ نافع عَنْ ابن عمر قَالَ : قَالَ عمر رضي الله عنه : ما بلتُ قائِماً منذُ أسلَمْتُ . وهذا أصح من حَدِيْث عَبْد الكريم )) (163).
أقول: رِوَايَة عبيد الله الموقوفة أخرجها ابن أبي شيبة (164)، والبزار (165) في مسنده(166) من طريق عبيد الله بن عمر، عَنْ نافع ، عَنْ ابن عمر ، عَنْ عمر موقوفاً، وَهُوَ الصواب.
ومما يدل عَلَى عدم صحة حَدِيْث ابن أبي المخارق أن الحافظ ابن حجر قَالَ : (( وَلَمْ يثبت عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في النهي عَنْه شيء )) (167).
بَعْدَ هَذَا العرض السريع بان لنا واتضح أن التدليس سبب من أسباب الاختلاف لدى الْمُحَدِّثِيْن َ ؛ إِذْ إنه قَدْ يسفر عَنْ سقوط رجلٍ من الإسناد فيخالف الرَّاوِي غيره من الرُّوَاة .
ثامناً. الانشغال عَنْ الْحَدِيْث :
الْحَدِيْث النبوي الشريف أحد المراجع الرئيسة للفقه الإسلامي ، لذا كَانَ علم الْحَدِيْث رِوَايَة ودراية من أشرف العلوم وأجلها ، بَلْ هُوَ أجلها عَلَى الإطلاق بَعْدَ العلم بالقرآن الكريم الَّذِيْ هُوَ أصل الدين ومنبع الطريق المستقيم ، فالحديث هُوَ المصدر الثاني للتشريع الإسلامي ، بعضه يستقل بالتشريع ، وكثيرٌ مِنْهُ شارح لكتاب الله تَعَالَى مبينٌ لما جاء فِيْهِ . قَالَ تعالى ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (168) من هَذَا أدرك المسلمون أهمية الْحَدِيْث النبوي الشريف فعانوا ما عانوا من أجل حفظ الْحَدِيْث النبوي الشريف، فتخلوا عَنْ كُلّ شيء أمام هَذَا الهدف العزيز الغالي، وَهُوَ حَدِيْث النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ تَعَالَى: ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِين َ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) (169). وللحرص الشديد عَلَى حفظ السنة، اهتمَّ المسلمون بمذاكرة الْحَدِيْث ومدارسته من أجل حفظه وضبطه وإتقانه ، فكان الْمُحَدِّثُوْن َ يكتبون بالنهار ويعارضون(170) بالليل ويحفظون بالنهار ويتذاكرون بالليل. وهكذا شأن الْمُحَدِّثِيْن َ ، ومن لَمْ يَكُنْ كذلك فلا يسمى من أهل الْحَدِيْث ، وأسند الإمام مُسْلِم في مقدمة صحيحه (171) عَنْ أبي الزناد (172) قَالَ : (( أدركت بالمدينة مئة ، كلهم مأمونون ما يؤخذ عَنْهُمْ الْحَدِيْث يقال : ليس من أهله )) (173) .
وَقَالَ مالك بن أنس (174) : (( أدركت مشايخ بالمدينة أبناء سبعين وثمانين لا يؤخذ عَنْهُمْ ، ويقدم ابن شهاب وَهُوَ دونهم في السن فتزدحم الناس عَلَيْهِ )) (175) .
وهناك أمور جعلت عدداً من جهابذة الْمُحَدِّثِيْن َ لا يأخذون عَنْ عدد كبير من الرُّوَاة هي أن هؤلاء الرُّوَاة كانوا يتشاغلون عَنْ الْحَدِيْث . والتشاغل عَنْ الْحَدِيْث مدعاة لعدم ضبط الْحَدِيْث وعدم إتقانه وربما كَانَ مآل ذَلِكَ إلى دخول بعض الوهم والعلل والاختلافات ؛ لأن المذاكرة والمراجعة يعينان عَلَى ضبط الْحَدِيْث وإتقانه . والانشغال في بعض الأمور ربما يحول دون المذاكرة والمراجعة مِمَّا يؤدي إلى عدم ضبط الروايات. ومن تِلْكَ الأمور :
أ. ولاية القضاء :إنّ ولاية القضاء من الأمور الدينية المهمة، والمجتمع الإسلامي بحاجة لازمة إلى هَذَا المنصب قَالَ تَعَالَى : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ ) (176) . ولمكانة هَذِهِ الوظيفة في الإسلام وأهميتها البالغة فالأمر يستدعي من القاضي توفيراً واسعاً لمزيدٍ من الوقت ، وتهيئة جوٍّ ملائم للقضاء ؛ لأن القضاء مسؤولية دينية ودنيوية ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ وُلِّيَ القَضَاءَ ، أو جُعِلَ قاضِياً بَيْنَ النَّاسِ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيرِ سِكِّين )) (177) . إذن فهذه المسؤولية تستدعي تفرغاً وتفكُّراً ومراجعة ، والحديث النبوي يحتاج كَذَلِكَ إِلَى تفرُّغٍ نِسبِيٍّ للمراجعة والمذاكرة من أجل الحِفَاظ عَلَى الضبط . وَقَدْ وجدنا حِيْنَ استقرأنا حال كَثِيْر من الرُّوَاة الَّذِيْنَ ولوا القضاء أنهم قَدْ خفّ ضبطهم لانشغالهم بهذا المنصب الوظيفي ، ومن أولئك : شريك بن عَبْد الله النخعي الْقَاضِي ، حدّد ابن حِبّان تَخليطه بَعْدَ عام خمسين ومئة حِيْنَ تولى قضاء الكُوفَةِ (178) . وكذلك مُحَمَّد بن عَبْد الرحمان بن أبي ليلى (179) قَالَ أبو حاتم الرازي : (( شغل بالقضاء فساء حفظه )) (180) .
ب. الاشتغال بالفقه :الفقه الإسلامي يمثل الشريعة الإسلامية الغراء وذلك لما احتواه من الأصول العظيمة الَّتِيْ تصلح لكل زمان ومكان ، والفقه الإسلامي واسع في أصوله وفروعه . ومن يشتغل بهذا العلم العظيم يحتاج إلى خلفيات بعدة علوم . وهذا يستدعي وقتاً واسعاً وتفرغاً كبيراً، ومن كَانَ الفقه أكبر همه ربما قصَّر في ضبط بعض أحاديثه ؛ لأن ذَلِكَ ربما شغله عَنْ مراجعة حديثه. وكثير من الَّذِيْنَ يشتغلون بعلم من العلوم ويستفرغون العمر في تخصصهم يَكُوْن ذَلِكَ مدعاة للتقصير بالعلوم الأخرى .
وَقَدْ وجدنا بعض جهابذة الْحَدِيْث تَكَلَّمَ في بعض الرُّوَاة لِقَصْرِ تهممهم (181) عَلَى الفقه ، ومن أولئك حماد بن أبي سليمان (182) من كبار الفقهاء وشيخ أبي حَنِيْفَة النعمان (183) قَالَ عَنْهُ أبو إسحاق الشيباني(184): (( ما رأيت أحداً أفقه من حماد )) (185). ومع هَذَا فَقَدْ نقل عَبْد الرحمان بن أبي حاتم (186) عَنْ أمير المؤمنين في الْحَدِيْث شعبة بن الحجاج قوله: (( كَانَ حماد – يعني : ابن أبي سليمان – لا يحفظ )) . ثُمَّ عقّب ابن أَبِي حاتم عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ:
(( يعني : إن الغالب عَلَيْهِ الفقه وإنه لَمْ يرزق حفظ الآثار )) (187) . وَقَالَ أبو حاتم : (( هُوَ صدوق ولا يحتج بحديثه ، هُوَ مستقيم في الفقه ، وإذا جاء الآثار شوّش )) (188)
ومن هنا وضع علماء الجرح والتعديل قواعد في أنّ الفقهاء غَيْر الْمُحَدِّثِيْن َ يغلب عليهم الفقه دون حفظ المتون ، قَالَ ابن رجب الحنبلي : (( الفقهاء المعتنون بالرأي حَتَّى يغلب عليهم الاشتغال بِهِ ، لا يكادون يحفظون الْحَدِيْث كَمَا ينبغي ، ولا يقيمون أسانيده ولا متونه ، ويخطئون في حفظ الأسانيد كثيراً ، ويروون المتون بالمعنى ، ويخالفون الحفاظ في ألفاظه )) (189) . وابن رجب مسبوق بهذا التنظير فَقَدْ قَالَ ابن حِبّان : (( الفقهاء الغالب عليهم حفظ المتون وأحكامها وأداؤها بالمعنى دون حفظ الأسانيد وأسماء الْمُحَدِّثِيْن َ، فإذا رفع محدث خبراً ، وَكَانَ الغالب عَلَيْهِ الفقه ، لَمْ أقبل رفعه إلا من كتابه ؛ لأنه لا يعلم المسند من المرسل ، ولا الموقوف من المنقطع ، وإنما همته إحكام الْمَتْن فَقَطْ )) (190) .
ج*. الاشتغال بالعبادة :سبق لنا أن ذكرنا مراراً أن الْحَدِيْث النبوي يحتاج إلى متابعة ومذاكرةٍ وتكرارٍ من أجل حفظ الروايات وصونها من الخطأ والزيادة والنقص ، وأن ترك ذَلِكَ يؤول في نهاية المطاف إلى عدم ضبط الأحاديث ودخول الوهم والاختلاف فِيْهَا فِيْمَا بعد . ومن الأمور الَّتِيْ حَدَتْ ببعض الْمُحَدِّثِيْن َ للتقصير في ضبط مروياتهم انشغال بعضهم بالعبادة وصرف غالب أوقاتهم بِذَلِكَ دون متابعة ضبط رواياتهم . وَقَدْ أصل ابن رجب في ذَلِكَ قاعدة فَقَالَ : (( الصالحون غَيْر العلماء يغلب عَلَى حديثهم الوهم والغلط )) (191).
والحافظ ابن رجب إنما أخذ ذَلِكَ من أقوال أئمة هَذَا الشأن العارفين بعلله الغواصين في معانيه وأسراره قَالَ نجم العلماء (192) مالك بن أنس : (( أدركت بهذا البلد – يعني الْمَدِيْنَة – مشيخة لَهُمْ فضلٌ وصلاحٌ وعبادة يحدِّثون، ما سَمِعْتُ من واحد مِنْهُمْ حديثاً قطُّ، فقيل لَهُ: وَلِمَ يا أبا عَبْد الله ؟ قَالَ: لَمْ يكونوا يعرفون ما يحدِّثون )) (193). وَقَالَ أَيْضاً : (( لا يؤخذ العلم من أربعة ، ويؤخذ ممن سوى ذَلِكَ ، لا يؤخذ من سفيه مُعلن بالسَفه وإن كَانَ أروى الناس، ولا يؤخذ من كذاب يكذب في أحاديث الناس، إذا جرب ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وإن كَانَ لا يُتَّهَمُ أن يكذب عَلَى رَسُوْل الله صلى الله عليه وسلم ، ولا من صاحب هوىً يدعو الناس إلى هواه، ولا من شيخٍ لَهُ فضلٌ وعبادة إذا كَانَ لا يعرف ما يحدّث بِهِ )) (194) .
وَقَالَ ابن منده (195) : (( إذا رأيت في حَدِيْث ( فُلاَن الزاهد ) فاغسل يدك مِنْهُ ))(196).
وممن كانت حاله عَلَى ما قدمنا : أبان بن أبي عياش : فيروز البصري ، أبو إسماعيل العبدي ، قَالَ فِيْهِ الإمام المبجل أحمد بن حَنْبَل : (( متروك )) (197) .
قَالَ ابن رجب الحنبلي : (( ذكر الترمذي من أهل العبادة المتروكين رجلين : أحدهما أبان بن أبي عياش )) (198) .
وقَالَ الإمام الترمذي : (( رَوَى عَنْ أبان بن أبي عياش غَيْر واحد من الأئمة (199) ، وإن كَانَ فِيْهِ من الضعف والغفلة ما وصفه أبو عوانة (200) وغيره (201) فلا يغتر برواية الثقات عَنْ الناس ؛ لأنه يروي عَنْ ابن سيرين أنه قَالَ : إن الرجل ليحدِّثني ، فما أتهمه ، ولكن أتهم من فوقه .
وَقَدْ رَوَى غَيْر واحد (202) عَنْ إبراهيم النخعي عَنْ علقمة عَنْ عَبْد الله بن مسعود : أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يقنتُ في وتره قَبْلَ الركوع . وروى أبان بن أبي عياش ، إبراهيم النخعي ، عن علقمة ، عن عَبْد الله بن مسعود : (( إن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يقنت في وتره قَبْلَ الركوع )) . هكذا رَوَى سفيان الثوري عَنْ أبان بن أبي عياش (203) ، وروى بعضهم (204) عَنْ أبان بن أبي عياش بهذا الإسناد نحو هَذَا ، وزاد فِيْهِ : قَالَ عَبْد الله بن مسعود :
(( أخبرتني أمي أنها باتت عِنْدَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فرأت النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قنت في وتره قَبْلَ الركوع )) .
وأبان بن أبي عياش وإن كَانَ قَدْ وصف بالعبادة والاجتهاد ، فهذا حاله في الْحَدِيْث والقوم كانوا أصحاب حفظ ، فرب رجل وإن كَانَ صالحاً لا يقيم الشهادة ولا يحفظها … )) (205) .