الإكليل في بيان معنى تصديق القرآن للتوراة والإنجيل

من دلائل صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قوله كما خرّجه البخاري"لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم"
وجاءت رواية أبي داود تزيد في بيان العلة "ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله ورسله فإن كان باطلا لم تصدقوه وإن كان حقا لم تكذبوه"
وهذا إقرار من نبي الشريعة الخاتمة بأن كتب أهل الكتاب ما يزال فيها بقايا حق..
وهو ما قرره الله عز وجل من قبل كما في قوله سبحانه: "يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون"..وقوله سبحانه في معرض المحاجة لهم: "ومصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل"

وقد كان من دأب النصارى واليهود ومن لف لفّهم أن يتخذوا ما جعله الله حجة على صدق نبيه ذريعة للكفر
فزعموا أن رسول الله..عمد إلى التوراة والإنجيل..فاستفا د منهما وأخذ عن بعض الرهبان كبحيرا الراهب وغيره..ومكث كذلك زمانا..حتى ألّف القرآن على الوجه الماثل..كذا زعموا عليهم لعائن الله تترى..

والحق أن الله تعالى حين أحالهم إلى كون القرآن مصدقَ الكتب السابقة..إلا أنه مهيمنٌ عليها ناسخ لها وإن لم يعرُها تحريف قط..فإنما فعل ذلك سبحانه لما يتضمنه من الحجة البالغة..
وكان بوسع رسول الله -وقد أقروا بعبقريته- أن يجعل الكتاب -لو كان خطّه بيمينه- منفكا عن الكتب السابقة بالكلية حتى يجعل لنفسه التميز باختزال الحقيقة..فذلك أدعى لبيان تفرد عظمته حيث لم يكن عالة على غيره من كتب السابقين..ولكنه صلى الله عليه وسلم حلْقة في سلسلة طويلة من الأنبياء قبله..دعوتهم واحدة..فهم إخوة لعلات أمهاتهم شتى وأبوهم واحد..
ولاسيما وقد جاء رسول الله بتسفيه عقائدهم وبيان شركهم..فكيف يشابههم في شيء.؟!!
فدل على أن مدار الأمر على الحق المحض والعدل المجرد..ولذلك جاء في القرآن آيات من العتب الكبير أحيانا..لهذا النبي العظيم
كقوله سبحانه: "وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه" وقوله: "ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض"
ولهذا فإن الذين سلمت فطرهم من الفساد من منصفة أهل الكتاب "ترى تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق" وذلك حين يُلقى على مسامعهم تصديق ما يعلمونه حقا محضا مما أنزل على موسى وعيسى فيسلمون..وقصة النجاشي وأمثاله مشهورة في كل زمان..

وتأمل في بيان ذلك..رجلا يخلط حقا بباطل..
فجاء شخص يبغضه ..وجعل يقتبس من كلامه الذي من صنف الحق..ويرد عليه زاعما أنه باطل..فلما أراد الاستدلال على ذلك لم يكن له من حجة إلا أن قائله مبطل في الجملة..
فهذا في عداد العقلاء ليس بعيدا عن الأول..بل هو مبطل مثله إن لم يكن شرا منه

واعتبر في المقابل رجلا ينتقي من كلام الأول ما هو حق محض..وعليه البرهان قائم..
ثم يقول هذا الذي سقته من كلامه هو ما أدين الله به..
فقد عرف الناس ساعتئذ عدالة هذا الثاني وأنه إنما يدور حيث دار الدليل والحق والبرهان..لا يلوي على شيء غير هذا..لدرجة أنه أغضى عن صاحب الكلام المبغوض وأهمل كونه شيئا في الحسبان ..
فذلك هو التجرد الدال على صدق صاحبه..

ولهذا كانت حقيقة تصديق القرآن للكتب السابقة..دليلا صارخا على صدق هذا النبي الخاتم لأن الدواعي متوافرة متواترة على أن يكون الأمر خلاف ذلك لو كان النبي مدعيا..
وهاك بعض الأمثلة ..لترى بعينك مصداق هذا التصديق

-قال تعالى"وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله"
نزلت هذه الآية في استفتاء اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزاني المحصن..
وعلى ما في التوراة من تحريف عريض..فإن تصديق هذا النص خاصة..جاء في سفر التثنية"إذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل فوجدها رجل في المدينة واضطجع معها فأخرجوهما كليهما إلى باب المدينة وارجموهما بالحجارة حتى يموتا"
التثنية 22—22-23

وفي سفر الخروج"ويكلم الرب موسى وجها لوجه" الخروج 23-1
وقد قال تعالى"وكلم الله موسى تكليما"

وفي التثنية يقول موسى عليه السلام: "ليس مثل الله" 34-36
وقد صدّق الله ذلك بقوله سبحانه"ليس كمثله شيء وهو السميع البصير"

وفي سفر الخروج جاء ما يشبه ما يوافق الحق الذي بأيدينا حيث طلب موسى رؤية ربه"قال:أرني مجدك قال: "لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش"
أما قوله"لا تقدر أن ترى وجهي" فنظير قوله تعالى: "لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني"
وأما قوله: "لأن الإنسان لا يراني ويعيش" ففي الآية ما يدل عليه أيضا..وكذلك جاء في السنة"حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره"

وأبرز هذه المُثل ما جاء في البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم والوعد بها نبيا خاتما في آخر الزمان
مع وصفه بصفات جليلة توافق الحق الذي يدين الله به كل مسلم..
فإذا أعمل النصراني عقله..تبين له أنه من بين الركام الهائل من الباطل والتناقض المنسوب لله عز وجل..
في كتابهم "المقدس" فصدّق بهذه النصوص ونظائرها انهدم بها الجزء المحرف في أصل الاعتقاد..
وعلم أنه ما كان لبشر أن يتخير وفق ما يشتهي أشياء معينة ويأتي بما يصدّقها ثم يكذّب خلافها إلا وهو موحى له من لدن الرب الذي أوحى بأصول هذه الكتب السابقة..

فعلى الدعاة أن يعتنوا بهذه النصوص وأمثالها..فبها ينماز حقاً مريد الحق من المبطل المماري عن سفه وعناد..
لأن صاحب الحق ولو كان حقه يسيرا مجبول على أن يستبشر بما يصدّق حقه..ويعضده..
فلابد من إبراز هذا الحق المذكور..والمحاج ة عليه..
إذ هو من الحجج التي استعملها الله تعالى وكرر ذكرها في غير موطن..
ولاريب أن ما استعمله الله حجة على الخصم..هو أرقى ما يحاجّ به والخصم وينقطع..
إما بالإسلام وإما بتمحض أمره للكفر والعناد
"فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين"