صناعة التهميش
د. عبد الكريم بكار


لا يستغني أهل أي ملة أو ديانة عن رجال يتفرغون لتعليمها وخدمتها، وذلك لأن عدم وجود من يعد نشر تعاليم الدين وتوعية أهله به مهمة خاصة به، سيعني وجود الكثير من الأمور التي لا تجد من يهتم بها.
على مدار التاريخ الإسلامي كانت هناك رعاية للعلوم الشرعية وحملتها من لدن الحكومات، وكانت تلك الرعاية ـ مع استثناءات قليلة ـ محدودة، والسبب مفهوم. فالعلم الشرعي والاحتساب والدعوة إلى الله ـ تعالى ـ تؤسس لأصحابها سلطة روحية وأخلاقية، تنازع في أحيان كثيرة السلطة الزمنية وتنافسها على قيادة الجماهير، وكانت الأمة تقدم لطلاب العلم والدعاة الدعم المساند عن طريق الصدقات والأوقاف المختلفة، لكن الشعور بعدم كفاية ما يُقدَّم كان شيئاً مستمراً، وهذا غير مستغرب.
ومهما يكن الأمر فإن العواصم الإسلامية كانت تعجّ في معظم العصور بعشرات ـ أحياناً مئات ـ المدارس والمعاهد والكليات الشرعية، ويذكر المؤرخون (على سبيل المثال) أنه كان في دمشق أيام نور الدين زنكي ما يزيد على ثلاثمائة وسبعين مدرسة، تقدم العلوم الشرعية لمن يرغب من الطلاب.
حين كنت في العاشرة من عمري التحقت بواحد من تلك المعاهد، وبعد دراسة استمرت خمس سنوات التحقت بمعهد آخر، ودرست فيه خمس سنوات أخرى قبل أن أنتقل إلى الجامعة، وأنا أشعر بالامتنان لما أفدته من أساتذتي وشيوخي، وأدعو لهم في ظهر الغيب، ومن هنا فإني حين أتحدث عن التعليم الشرعي، فإني أتحدث حديث العارف المعايش الخبير.
هذه بعض الملاحظات حول التعليم الشرعي الأهلي:
ـ لم يتوفر في يوم من الأيام من الوظائف في الإمامة والخطابة والقضاء والإفتاء والتدريس... ما يوازي الأعداد الكبيرة من طلاب العلم الشرعي، وهذا يجعل الحاجة والعوز من الأمور المألوفة جداً في حياتهم، كما أن عدم تنظيم الموارد المالية للوظائف المتوفرة على نحو جيد جعل بعض طلاب العلم يحصلون على مرتباتهم بطرق لا تنسجم في كل الأحيان مع حفظ الكرامة والمروءة، وهذا يؤثر تأثيراً كبيراً في الوضع الاجتماعي لطلاب العلم، ويقلل من أهميتهم ودورهم في القيادة الروحية والاجتماعية للجماهير المسلمة، وهذا واضح وملموس.
ـ لو عدنا مئتي سنة إلى الوراء لوجدنا أن طلاب العلم الشرعي بمختلف تخصصاتهم ووظائفهم هم العمود الفقري لمثقفي الأمة، وهذا يعني أن المنافسة لهم من ذوي التخصصات الأخرى كانت ضعيفة للغاية، فقد كانوا يصولون ويجولون في الساحة الثقافية، ويشكلونها وفق رؤاهم وطروحاتهم، ولهذا ميزة التفرد بقيادة الركب الثقافي، وله سلبية ليست صغيرة، وهي: الشعور بالرخاء والاطمئنان إلى الإنجاز، وفقد الحافز على التطوير والارتقاء، أي الافتقار إلى المحرض على التفوق على الذات.
أضف إلى هذا أن ارتباط كسب الرزق بما لدى المرء من معرفة وعلم لم يكن قوياً بما يكفي، ولهذا فمن المألوف جداً أن يكون الرجل عالماً محققاً في علم من العلوم، ومع ذلك يكون مصدر رزقه هو التجارة أو العمل في مهنة من المهن، ولهذا فإنك تجد بين العلماء من لقبه البزّاز والخرّاز والحدّاد والنّجار والصبّاغ والنحّاس. . . ولم تحظ تلك الوضعية ـ بدراسات عميقة ـ تكشف عن إيجابياتها وسلبياتها على نحو جيد.
ـ نشهد اليوم تغيراً واضحاً في الأمرين اللذين أشرت إليهما آنفاً؛ فطلاب العلم الشرعي لا يشكّلون اليوم غالبية طلاب العلم، ولا يقودون المسيرة الثقافية، وإن كان لهم جهد وموقع لا يُستهان به، وفي إمكان المرء أن يلاحظ أن معظم النابهين الذين يحصلون على درجات مرتفعة في الثانوية العامة لا يدخلون كليات الشريعة وأصول الدين، وإنما يدخلون كليات الطب والهندسة والمعلوماتية والإدارة. . كما أن أبناء معظم الأسر الثرية وكثيراً من أبناء المدن لا يتوجهون إلى دراسة العلوم الشرعية في المرحلة المتوسطة والثانوية ـ لهذا بالطبع استثناءات قليلة ـ وإنما يتوجهون إلى التعليم العام. وصار ارتباط الوظيفة والمكانة الاجتماعية وحجم الدخل السنوي بنوعية التخصص الذي يدرسه الإنسان قوياً وظاهراً، وكثيراً ما تكون العلوم الشرعية في مرتبة متدنية في هذا الشأن!
هذا كله يعني أن على المدارس والكليات الشرعية أن تفتح عيونها بقوة على التحديات التي تولدها الحالة الراهنة، وأن تعمل جاهدة على تطوير ذاتها وتغيير الكثير مما تعوّدته في العهود الماضية، وإلاّ وجدت نفسها تعيش على هامش الحياة، وتخرِّج مجموعات كبيرة من المهمَّشين، وسأشرح في المقال القادم ما أعنيه بهذا الكلام، كما سأشرح السند المنطقي له بحول الله وطوله.
----------------
نشرت في موقع الإسلام اليوم
الخميس 29 ذو القعدة 1429 الموافق 27 نوفمبر 2008