بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
« مِن مَعَالم التَّوحيد في مَنَاسَكِ الحَجِّ » [4]
الحمدُ للَّـهِ رَبِّ الْعَالمينَ ، وَالصَّلاةُ والسَّلامُ على أَشْرف الأنبياءِ والمرسلينَ نبيِّنا مُحمَّد ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد :
فالمسلمون يذكرون ربهم وحده بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، ويستحضرون ما تدل عليه الأسماء من صفات الكمال ونعوت الجلال، وذلك مما يكون له الأثر الفعال في تعظيم الرب سبحانه وإخلاص العبادة له، وترك عبادة من سواه، ممن لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، ولو كانوا من الأولياء، أو الأنبياء، أو الرسل، حيث لا يبقى في قلب المؤمن احترام ولا تعظيم ولا عبادة لمن سوى الله سبحانه وتعالى.
يقال هذا في سائر المشاعر، ومنها الوقوف بعرفة، فقد رَوَى التِّرْمِذِيُّ وغيرُهُ عن عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُ ـ قالَ :
كان أَكْثَر مَا دَعَا بِهِ النَّبِيُّ يَوْم عَرَفَةَ : « اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ كَالَّذِي نَقُولُ وَخَيْرًا مِمَّا نَقُولُ ، اللَّهُمَّ لَكَ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي ، وَإِلَيْكَ مَآبِي ، وَلَكَ رَبِّ تُرَاثِي » الخ، وهذا الدعاء يشتمل على حمد الله تعالى والاعتراف بأنه وحده المستحق للحمد والمدح، ولذلك مدح نفسه، وشرع لعباده أن يحمدوه ويثنوا عليه ويمجدوه، كالذي قاله وحمد نفسه، وخيرًا وأكثر مما نقول، وفيه أيضًا الاعتراف بأن عبادته كلها لربه، وخص الصلاة والنسك، فالصلاة يدخل فيها الفرض والنفل وجميع الدعاء، ويدخل في النسك مناسك الحج وأدعيته، وأعماله وأقواله، وما يأتيه ويفعله في الحياة، وما يموت عليه، وهو ما ذكره الله تعالى في قوله: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ ﴾ [ الأنعام :162-163] ، ويعترف أيضًا بقوله: « وَإِلَيْكَ مَآبِي » أي مرجعي بعد الموت، فالمرد إلى الله تعالى.
وَقَد رَوَى الإِمامُ أحمدُ وَالتِّرْمِذِيّ ُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ وهو عبد اللَّـه بن عمرو بن العاص ـ رضي اللَّـهُ عَنْهُمَا ـ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : « خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ».
وزاد الإِمامُ أحمدُ : « بِيَدِهِ الْخَيْرُ » ، وهذا الذكر قد ورد الترغيب فيه والإكثار منه في كل الأوقات والأماكن، لأنه يشتمل على التوحيد، ففي أوله كلمة الإخلاص التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إليه، وقال: « أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّـهِ » متفق عليه،
وذلك لأن هذه الكلمة دالة على حقيقة الإخلاص والتوحيد ونفي الشرك، وقد توسع العلماء في شرحها، وذكر فضلها، ثم قوله : « وَحْدَهُ » تأكيد الإثبات في آخر كلمة الإخلاص، وقوله: « لَا شَرِيكَ لَهُ » تأكيد للنفي، وقوله: « بِيَدِهِ الْخَيْرُ » اعتراف بأن الرب تعالى هو الذي يملك الخير وحده، كما ذكر ذلك في التلبية بقوله : « وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ ».
وكان النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته يكثرون من الدعاء في مواسم الحج ومشاعره في عرفة وغيرها، ويكثرون من ذكر الله تعالى، حيث أمروا بذلك، كما في قوله تعالى: ﴿ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ﴾ [ البقرة:198] ، وقوله: ﴿ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ﴾ [ البقرة:200].
وأمر بذكره في أيام التشريق الثلاثة، فيذكرونه سبحانه عند ذبح الهدايا والفدية، وجزاء الصيد، ويذكرونه عند الأكل بالتسمية والحمد، ويذكرونه عند رمي الجمار، فقد ذكرت عائشة أن شرعية رمي الجمار لإقامة ذكر الله، حيث يكبرون مع كل حصاة، ويدعون الله كثيرًا بعد الانتهاء من رمي الجمار، ويكبرونه بعد الصلوات المكتوبة، وهو التكبير المقيد، وكل الأذكار والأدعية تكون لله وحده، وتعبر عن إخلاص العبادة له سبحانه وتعالى، فهو أكبر من كل شيء، فإنه الخالق وما سواه مخلوقون، وكلهم عبيد له، يلزمهم إخلاص العبادة له، وتعظيمه والرغبة إليه وحده، وبالإخلاص والتوحيد تقبل عباداتهم من الطواف والسعي، والإحرام والوقوف، والمبيت والرمي والذبح ونحو ذلك، ومن دعا معه غيره ردت عبادته، وبطل سعيه، فإن الشرك يحبط هذه الأعمال وغيرها، كما قال تعالى : ﴿ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [ الأنعام:88 ].واللَّـهُ أَعْلَمُ.
وَصَلَّى اللَّـهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ، وَ آلِهِ ، وَصحبِهِ وَسَلَّم.
قاله وكتبه
شَيخُنَا عَبدُ اللَّـهِ بْنُ عَبدِ الرَّحْمَن بْنِ جِبْرِينٍ