المقال الثـاني
حول مصافحة النساء للرجال الأجانب والعكس مع التنبيه على منهج بعض الكتاب في الإشارة للخلافات.
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله
اطلعت على ما كتبه الأخ نجيب يماني – وفقني الله وإياه للعلم النافع والعمل الصالح - حول مصافحة النساء للرجال في مقال نشر يوم جمعة 27 جمادى الأولى 1427هـ ، صحيفة الوطن ، عدد (2093) ، حيث أشار إلى أن مسألة مصافحة النساء للرجال الأجانب مسألة خلافية ، وعليه ينبغي عدم التشديد فيها.
وقبل البدء في الحديث حول هذا الموضوع أود الإشارة إلى أسلوب فكري مضطرب بدأ يستشري في الطريقة التي يعالج بها بعض الكتاب بعض القضايا الشرعية وهذا الأسلوب يتمثل في عبارات يطلقونها مثل "هذه المسألة خلافية" او قولهم "هذه فيها خلاف" ونحوها من العبارات المطلقة التي لا تحدد حقيقة الخلاف ومدى قوته ولا مدى المكانة العلمية والحظوة الاعتبارية للقائل به من علماء المذهب، ومعلوم عند العلماء أن الخلاف ينقسم إلى قسمين: معتبر وغير معتبر ، ولكن كثير من الكتاب لا يتنبه لهذا ويتمسك بأدنى خلاف مذكور (ويسمى الخلاف أو القول الشاذ) ويصوره خلافاً معتبراً ثم يبني عليه بعد ذلك حكماً بالجواز والإباحة ! لذلك فالفقيه الحقيقي والعالم الرباني هو من يميز بين نوعي الخلاف قبل أن يطلق أي عبارة ربما أوحت للقاريء العامي بوجود خلاف معتبرقوي في مسألة من المسائل ، ثم بعد ذلك يقوم العالم بتفنيد الأقوال بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة قبل الاهتمام بالنقولات من أقوال الرجال.
وقس على ذلك قضايا كثيرة يأتي أحد الكتاب فيلمح أقوالاً مرجوحة ضعيفة لا تمثل المشهور المعتمد من المذهب وينقلها كأنها تمثل المذهب – أياً من المذاهب الأربعة - وهي لا تمثل سوى رأي قائلها في ذلك المذهب لا اختيار إمام ذلك المذهب أوترجيح جمهور أصحابه. ولقد تأملت كتابات الأخ نجيب يماني فترة من الزمن فوجدته كثيراً ما يسلك هذا المسلك حيث يعتني بتقليب كتب الفقهاء وسرد النقولات التي تؤيد وجهة نظره أكثر من تأييدها لصريح وصحيح نصوص الأدلة الشرعية ، ورأيته – في أحوال - ربما نقل أدنى خلاف وأقله وجعله مقابل أحاديث وآثار صحيحة صريحة بل غالباً ما تكون ضد المشهور المعتمد من أقوال المذهب ، ثم هو – سامحه الله – لا يبين ذلك ولا يشير إليه وإنما ينقل نقل حاطب ليل وهذا ليس من منهج أهل التحقيق في استخراج الأحكام. فكل إنسان يستطيع أن يقتني "حاشية ابن عابدين" ، و"المغني" ، و"المجموع " و "الفروع" و "بدائع الصنائع" ، و غيرها من كتب المذاهب وينقل منها ما يمكن أن "يوهم" بوجود خلاف حقيقي في المسألة ، كل من أراد ذلك يستطيع ذلك.
ومسألة مصافحة النساء للرجال الأجانب وردت فيها أدلة كثيرة وأورد العلماء فيها أقوالاً كثيرة لم أرك أخي نجيب نقلتها كما يبنغي أوحاولت الاعتناء بها وذلك من باب العدل والإنصاف وليتبين القاريء مدى قوة أدلة الطرفين.
ومن هذه الأدلة – والأدلة والشواهد كثيرة جدا – على سبيل المثال لا الحصر أنه صلى الله عليه وسلم قال (إن الله كتب على بن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فزنا العينين النظر وزنا اللسان المنطق والنفس تمنى وتشتهى والفرج يصدق ذلك ويكذبه) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود واللفظ له.
قال النووي – وهو من كبار الشافعية ومن محققي المذهب - في شرحه لهذا الحديث "معنى الحديث أن ابن آدم قدر عليه نصيب من الزنا , فمنهم من يكون زناه حقيقيا بإدخال الفرج في الفرج الحرام , ومنهم من يكون زناه مجازا بالنظر الحرام أو الاستماع إلى الزنا وما يتعلق بتحصيله , أو بالمس باليد بأن يمس أجنبية بيده , أو يقبلها , أو بالمشي بالرجل إلى الزنا , أو النظر , أو اللمس , أو الحديث الحرام مع أجنبية , ونحو ذلك". انتهى كلامه من شرحه على صحيح مسلم (8/ 423).
وقال صلى الله عليه وسلم (لا أمِس يدي النساء) صححه الألباني (الجامع 7054) ، قال الشنقيطي رحمه الله بعد أن أورد هذا الحديث (أضواء البيان: 6/ 603) "والله تبارك وتعالى يقول (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) فيلزمنا الا نصافح النساء اقتداء به صلى الله عليه وسلم وكونه صلى الله عايه وسلم لا يصافح النساء وقت البيعة دليل واضح على ان الرجل لا يصافح المراة ، ولا يمس شيء من بدنه شيئاً من بدنها ، لأن أخف انواع اللمس المصافحة ، فإذا امتنع منها صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي يقتضيها – وهو وقت المبايعة – دل ذلك على أنها لا تجوز ، وليس لأحد مخالفته صلى الله عليه وسلم ، لأنه هو المشرع صلى الله عليخ وسلم بأقواله وأفعاله وتقريراته". أ.هـ.
أشرت أخي نجيب إلى أن عدم مصافحة المرأة للأجنبي قد يسبب حرج في أوقات المناسبات الاجتماعية واللقاءات الدبلوماسية وغيرها وقلت أن عدم المصافحة "قد يُفسّر تفسيرات خاطئة وقد يخلق مشاكل لا حصر لها". وأقول ما هو هذا الحرج الذي وصل بنا إلى حد الضرورة المفضي تركها إلى خلق مشاكل لا حصر لها ؟!! ولماذا لا حصر لها وكأنها بالفعل مشاكل لا حصر لها – أي ليس لها حد ولا عدد؟!! ولم لا يفسر ذلك على أنه من باب العفة والاعتزاز بالشخصية الاسلامية المقتدية بفعل المصطفى صلى الله عليه وسلم ؟ ولماذا يكون "توهمنا" و "تخريصنا" باحتمال حصول "تفسيرات خاطئة ومشاكل لا حصر لها" كل ذلك مقدم على المفاسد المترتبة على اللمس والمصافحة بحسب الأدلة الشرعية؟!! أم أن اللمس والمصافحة من التحضر والرقي والناس اليوم - ذكوراً وإناثاُ - عقلاء وفوق مستوى الشهوة الحاصلة بالنظر فضلاً عن اللمس والمصافحة؟!! نعم لو كانوا كذلك لكان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أعف الناس وأملكهم لأربه واتقاهم لرب العالمين هو أولى من غيره بمصافحة النساء. وتبريرك بعذر "المناسبات الاجتماعية أو حفلات الاستقبال الدبلوماسية" و تبريرك بأن ما تقتضيه "الأعراف الدبلوماسية وأصولها (هو) أن تمد المرأة يدها لمصافحة زميل لها أو ضيف أو مصافحة رئيس الدولة المضيفة أو من يمثله أو بالعكس"...أقول كل ذلك تبرير لا يجد مستنداً من كتاب ولا من سنة بل هو على النقيض تماماً ، فلو كانت المناسبات والاجتماعات المهمة واللقاءات الدبلوماسية تتطلب ذلك لكانت مناسبة "البيعة" واللقاء مع الشخصية الفذة وهو الرسول صلى الله عليه وسلم أدعى لحصول المصافحة ، فهي مناسبة مهمة والرسول شخصية مهمة – بل وعفيفة بعيدة عن التهمة – والنساء جئن لبيعة مهمة – مع أن البيعة عرفاً تتطلب المصافحة في الغالب – والنساء وفدن عليه صلى الله عليه وسلم والوفود غالباً ما تستقبل بالمصافحة ، وفوق ذلك كله هذه مناسبة حرجة لأنها تتطلب - على حد قولك أخي نجيب – تفادي حصول " تفسيرات خاطئة" و "مشاكل لا حصر لها" خاصة وأن النساء حديثات عهد بالإسلام وتأليف قلوبهن عليه أمر مطلوب...ومع توارد وتواجد كل هذه الظروف والدواعي التي للمصافحة لم يصافحهن بل لم يلمسهن صلى الله عليه وسلم ولم يجعل صلى الله عليه وسلم من هذه العوامل المتوافرة داعياً له لمصافحتهن. ولذلك لما قلن الصحابيات بعد الفراغ من البيعة هلم نبايعك يا رسول الله ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إني لا أصافح النساء إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة أو مثل قولي لامرأة واحدة". (رواه النسائي وصححه الألباني) ، ولذلك فعبارة الشنقيطي المقاسة على هذه القضية عبارة جيدة ، قال :" فإذا امتنع منها صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي يقتضيها – وهو وقت المبايعة – دل ذلك على أنها لا تجوز" أ.هـ.
ولذلك قال العراقي الشافعي في طرح التثريب (6/1751) "وإذا لم يفعل هو ذلك مع عصمته- صلى الله عليه وسلم - وانتفاء الريبة في حقه فغيره أولى بذلك" أ.هـ.
أما على أقوال المذاهب الأربعة فقد اتفق "جميع من يعتبر" قوله من هذه المذاهب على تحريم مس الأجنبية - فضلاً عن مصافحتها – لغير ضرورة.
فمن الحنفية قال الكاساني في بدائع الصنائع (5/184) " أما حكم مس هذين العضوين ـ الوجه والكفين ـ فلا يحل مسهما "أ.هـ.
وقال الحصكفي في الدر المختار (6/367 حاشية) " أمَّا الأجنبية فلا يحل مسّ وجهها وكفها وإن أمن الشهوة، لأنَّه أغلظ " أ.هـ.
وعند الحنابلة قال ابن مفلح في الآداب الشرعية (2/246): " قال ابن منصور لأبي عبد الله: تكره مصافحة النساء؟ قال أكرهه، قال إسحاق بن راهويه ـ كما قال ـ وقال محمد بن عبد الله بن مهران: إن أبا عبد الله سئل عن الرجل يصافح المرأة قال: لا، وشدَّد فيه جداً. قلت: فيصافحها بثوبه؟ قال: لا.. فهاتان روايتان في تحريم المصافحة وكراهتها للنساء، والتحريم اختيار الشيخ تقي الدين، وعللَّ بأنَّ الملامسة أبلغ من النظر".أ.هـ.
وقال السفاريني في غذاء الألباب (1/280): "...إلا الشابة الأجنبية فتحرم مصافحتها كما في "الفصول" و "الرعاية" وجزم به في "الإقناع" كغيره ، لأن المصافحة شر من النظر".أ.هـ.
وعند الشافعية مر بنا كلام الإمام النووي الذي نقلناه من شرحه على مسلم (8/ 423). وأضيف إليه كلام الحافظ ابن حجر في الفتح (13/ 204) : "وقد أخرج إسحاق بن راهويه بسند حسن عن أسماء بنت يزيد مرفوعا إني لا أصافح النساء وفي الحديث أن كلام الأجنبية مباح سماعه وأن صوتها ليس بعورة , ومنع لمس بشرة الأجنبية من غير ضرورة لذلك ". أ.هـ.
قلت: وأرجو ألا يأتي من يقول أن المصافحة "ضرورة" كضرورة التطبيب والعلاج !
إن النقولات المعتمدة والاختيارات المشتهرة المؤيدة للأدلة من الكتاب والسنة أكثر عددا وأقوى حجة من تلك المتأولة للأدلة والعارية عن دليل "صحيح صريح" يؤيد ما ذهبت إليه ، ولم أنقل منها إلا القليل اليسير ولا زال الكثير ، أقول هذا ليس لاهتمامي وتقديمي لكلام الرجال وإنما لبيان أن من تمسك بظاهر بدلالات النصوص الشرعية أكثر وأقوى في المذهب من غيرهم ، فلماذا نثير غبار الشبهة بين الناس البسطاء وعوام المسلمين بحجة التيسير ورفع الحرج واجتناب "التفسيرات الخاطئة" و "المشاكل التي لا حصر لها" ، ولا أرى هذه التوهمات المبالغ فيها إلا في ذهن من تخيلها وزاد عليها مثلها ، والله المستعان.
============================== =========
وللحديث بقيـة...