ما مدى صحة اشتراط الشاطبي بلوغ درجة الاجتهاد في اللغة للمجتهد في الشريعة ؟؟
قال الشاطبي رحمه الله في الموافقات 5/52 :
"وأما الثاني من المطالب: وهو فرض علم تتوقف صحة الاجتهاد عليه، فإن كان ثم علم لا يحصل الاجتهاد في الشريعة إلا بالاجتهاد فيه، فهو لا بد مضطر إليه؛ لأنه إذا فرض كذلك لم يمكن في العادة الوصول إلى درجة الاجتهاد دونه، فلا بد من تحصيله على تمامه، وهو ظاهر، إلا أن هذا العلم مبهم في الجملة فيسأل عن تعيينه.
والأقرب في العلوم إلى أن يكون هكذا علم اللغة العربية، ولا أعني بذلك النحو وحده، ولا التصريف وحده، ولا اللغة، ولا علم المعاني، ولا غير ذلك من أنواع العلوم المتعلقة باللسان، بل المراد جملة علم اللسان ألفاظ أو معاني كيف تصورت، ما عدا الغريب، والتصريف المسمى بالفعل، وما يتعلق بالشعر من حيث هو الشعر كالعروض والقافية، فإن هذا غير مفتقر إليه هنا، وإن كان العلم به كمالًا في العلم بالعربية
وبيان تعين هذا العلم ما تقدم في كتاب المقاصد من أن الشريعة عربية، وإذا كانت عربية؛ فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم؛ لأنهما سيان في النمط ما عدا وجوه الإعجاز، فإذا فرضنا مبتدئًا في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة، أو متوسطا؛ فهو متوسط في فهم الشريعة والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية، فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة؛ فكان فهمه فيها حجة كما كان فهم الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجة، فمن لم يبلغ شأوهم؛ فقد نقصه من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم، وكل من قصر فهمه لم يعد حجة، ولا كان قوله فيها مقبولًا.
فلا بد من أن يبلغ في العربية مبلغ الأئمة فيها؛ كالخليل، وسيبويه، والأخفش، والجرمي، والمازني ومن سواهم
وقد قال الجرمي: "أنا منذ ثلاثين سنة أفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه"
وفسروا ذلك بعد الاعتراف به بأنه كان صاحب حديث، وكتاب سيبويه يتعلم منه النظر والتفتيش، والمراد بذلك أن سيبويه وإن تكلم في النحو، فقد نبه في كلامه على مقاصد العرب، وأنحاء تصرفاتها في ألفاظها ومعانيها، ولم يقتصر فيه على بيان أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب ونحو ذلك، بل هو يبين في كل باب ما يليق به، حتى إنه احتوى على علم المعاني والبيان ووجوه تصرفات الألفاظ والمعاني، ومن هنالك كان الجرمي على ما قال، وهو كلام يروى عنه في صدر "كتاب سيبويه" من غير إنكار.
ولا يقال: إن الأصوليين قد نفوا هذه المبالغة في فهم العربية؛ فقالوا: ليس على الأصولي أن يبلغ في العربية مبلغ الخليل وسيبويه وأبي عبيدة والأصمعي، الباحثين عن دقائق الإعراب ومشكلات اللغة، وإنما يكفيه أن يحصل منها ما تتيسر به معرفة ما يتعلق بالأحكام بالكتاب والسنة.
لأنا نقول: هذا غير ما تقدم تقريره، وقد قال الغزالي في هذا الشرط: "إنه القدر الذي يفهم به خطاب العرب وعادتهم في الاستعمال، حتى يميز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله، وحقيقته ومجازه، وعامه وخاصه، ومحكمه ومتشابهه، ومطلقه، ونصه وفحواه ولحنه ومفهمومه".
وهذا الذي اشترط لا يحصل إلا لمن بلغ في اللغة العربية درجة الاجتهاد، ثم قال: "والتخفيف فيه أنه لا يشترط أن يبلغ مبلغ الخليل والمبرد، وأن يعلم جميع اللغة ويتعمق في النحو".
وهذا أيضًا صحيح، فالذي نفي اللزوم فيه ليس هو المقصود في الاشتراط، وإنما المقصود تحرير الفهم حتى يضاهي العربي في ذلك المقدار، وليس من شرط العربي أن يعرف جميع اللغة ولا أن يستعمل الدقائق، فكذلك المجتهد في العربية، فكذلك المجتهد في الشريعة، وربما يفهم بعض الناس أنه لا يشترط أن يبلغ مبلغ الخليل وسيبويه في الاجتهاد في العربية، فيبني في العربية على التقليد المحض، فيأتي في الكلام على مسائل الشرعية بما السكوت أولى به منه، وإن كان ممن تعقد عليه الخناصر جلالة في الدين، وعلمًا في الأئمة المهتدين.
وقد أشار الشافعي في "رسالته" إلى هذا المعنى، وأن الله خاطب العرب بكتابه بلسانها على ما تعرف من معانيها، ثم ذكر مما يعرف من معانيها اتساع لسانها وأن تخاطب بالعام مرادًا به ظاهره، وبالعام يراد به العام ويدخله الخصوص، ويستدل على ذلك ببعض ما يدخله في الكلام، وبالعام يراد به الخاص، ويعرف بالسياق، وبالكلام ينبئ أوله عن آخره، وآخره عن أوله، وأن تتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون اللفظ كما تعرف بالإشارة وتسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة، والمعاني الكثيرة بالاسم الواحد، ثم قال: "فمن جهل هذا من لسانها- وبلسانها نزل الكتاب وجاءت به السنة؛ فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل بعضه، ومن تكلف ما جهل وما لم تثبته معرفته؛ كانت موافقته للصواب وإن وافقه من حيث لا يعرف غير محمودة، وكان بخطئه غير معذور، إذا نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الصواب والخطأ فيه".
هذا قوله، وهو الحق الذي لا محيص عنه، وغالب ما صنف في أصول الفقه من الفنون إنما هو المطالب العربية التي تكفل المجتهد فيها بالجواب عنها، وما سواها من المقدمات؛ فقد يكفي فيه التقليد، كالكلام في الأحكام تصورًا وتصديقًا؛ كأحكام النسخ، وأحكام الحديث، وما أشبه ذلك.
فالحاصل أنه لا غنى للمجتهد في الشريعة عن بلوغ درجة الاجتهاد في كلام العرب، بحيث يصير فهم خطابها له وصفا غير متكلف ولا متوقف فيه في الغالب إلا بمقدار توقف الفطن لكلام اللبيب."ا.هـ
وقال في الاعتصام 2/297:
فإذا ثبت هذا _أي سعة لسان العرب وأن القرآن نزل به _ فعلى الناظر في الشريعة والمتكلم فيها أصولا وفروعا أمران:
أحدهما : أن لا يتكلم في شيء من ذلك حتى يكون عربيا أو كالعربي في كونه عارفا بلسان العرب بالغا فيه مبالغ العرب أو مبالغ الأئمة المتقدمين كالخليل وسيبويه والكسائي والفراء ومن أشبههم وداناهم وليس المراد أن يكون حافظا كحفظهم وجامعا كجمعهم وإنما المراد أن تصير فهمه عربيا في الجملة وبذلك امتاز المتقدمون من علماء العربية على المتأخرين إذ بهذا المعنى أخذوا أنفسهم حتى صاروا أئمة فإن لم يبلغ ذلك فحسبه في فهم معاني القرآن التقليد ولا يحسن ظنه بفهمه دون أن يسأل فيه أهل العلم به
قال الشافعي لما قرر معنى ما تقدم : فمن جهل هذا من لسانها يعني لسان العرب ـ وبلسانها نزل القرآن وجاءت السنة به ـ فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل لفظه ومن تكلف ما جهل وما لم يثبته معرفة كانت موافقته للصواب ـ إن وافقه ـ من حيث لا يعرفه غير محمودة وكان في تخطئته غير معذور إذ نظر فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الصواب والخطأ فيه .
وما قاله حق فإن القول في القرآن والسنة بغير علم تكلف ـ وقد نهينا عن التكلف ـ ودخول تحت معنى الحديث حيث قال عليه الصلاة و السلام :
"حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا " الحديث .
لأنهم إذا لم يكن لهم لسان عربي يرجعون إليه في كتاب الله وسنة نبيه رجع الأعجمي إلى فهمه وعقله المجرد عن التمسك بدليل يضل عن الجادة
وقد خرج ابن وهب عن الحسن أنه قيل له : أرأيت الرجل يتعلم العربية ليقيم بها لسانه ويصلح بها منطقه ؟ قال: نعم فليتعلمها فإن الرجل يقرأ فيعيا بوجهها فيهلك
وعن الحسن قال : أهلكتهم العجمة يتأولون على غير تأويله ".ا.هـ
والكلام عليه من وجوه:
الأول: نفي تفرد الشاطبي بذلك.
الثاني: تقرير برهانه وبيان صحته.
الثالث: ذكر ما يشكل عليه ودفع ما يمكن دفعه.
أما الأول والثاني:
فالشاطبي رحمه الله لا يرى منافاة بين كلامه وكلام الأصوليين
فهو رحمه الله وصف المقدار المطلوب لفهم كلام العرب وخطابها وهو الذي اشترطه الأصوليون
ووصفُ هذا المقدار عنده هو أن يُصيِّر فهمَ الحامل له مضاه لفهم العربي والصحابة رضوان الله عليهم وأهل الفصاحة لخطاب الشارع
فيلزم المجتهد معرفة مقاصد العرب، وأنحاء تصرفاتها في ألفاظها ومعانيها، ولا يقتصر على معرفة أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب ونحو ذلك.
كذلك ليس المقصود معرفة أن معنى (عزين) جماعات متفرقة وأن معنى (الخزيرة) دقيق يخلط بشحم ويطبخ فقط
وإنما المراد ما نبه عليه الشافعي رحمه الله من نحو معرفة العام الذي يراد به الخاص ويعرف من السياق وغير ذلك من أنحاء تصرفاتهم في كلامهم مما تقدم بعضه في كلام الشافعي المنقول من الرسالة
لأن العرب الذين نزل عليهم القرآن لا تعتبر ألفاظها كل الاعتبار إلا من جهة ما تؤدي المعاني المركبة
ولا يصح أن يقال: إن التمكن في التفقه في الألفاظ والعبارات وسيلة إلى التفقه في المعاني بإجماع العلماء كما نبه عليه الشاطبي في أكثر من موضع
ولذلك كان الصواب عدم إمكان ترجمة القرآن إلا من جهة كون اللغة ألفاظا وعبارات مطلقة، دالة على معان مطلقة لا من جهة كونها ألفاظا وعبارات مقيدة دالة على معان خادمة.
ولا يمكن الوصول إلى هذه الدرجة إلى لمن بلغ رتبة الاجتهاد في هذا العلم
بمعنى آخر :
الغاية المنشودة من اشتراط تعلم هذا العلم للمجتهد هي معرفة مقاصد العرب من خطابها بحيث يكون فهمه لها كفهم العربي والصحابي رضي الله عنهم
فلما كانت أحكام الشريعة موضوعة لتحقيق مقاصد الشارع
صح اشتراط معرفة مقاصد الشريعة للمجتهد
ولما كانت معرفة هذه المقاصد شرط في المجتهد فلا يوثق بفهمه للنصوص إلا بعد معرفتها
وكانت هذه المعرفة لا تحصل إلا ببلوغ درجة الاجتهاد في هذه الأحكام
وكان خطاب الشارع موضوع على مقاصد العرب من خطابها وما تعرفه من معاني لسانها وأنحائه
وكانت قد نزلت على المعهود من لسان الأميين من العرب
صح اشتراط معرفة مقاصد العربية للمجتهد
ولما كانت معرفة مقاصد العرب من خطابها لا تتأتى إلا بالاجتهاد في هذه اللغة
كان اشتراط بلوغ درجة الاجتهاد في لغة العرب للمجتهد في الشرع وجيها صحيحا
بمعنى آخر:
خلاصة ما يدندن حوله الشاطبي هو تحرير الفهم
فمن لم يكن فهمه حجة للنصوص وكلام العرب كيف يوثق بفهمه
وما هو السبيل إلى أن يكون فهم المجتهد حجة للنصوص الشرعية يا شاطبي ؟
الجواب: بلوغ درجة الاجتهاد في علم العربية
وأما الثالث:
فإنه يشكل عليه أنه يلزم من اشتراطه انعدام وجود مجتهد واللازم باطل فالملزوم مثله
ويجاب عنه بأنه لا يلزم منه الانعدام بل يلزم منه الندرة ولا مانع من وقوع الثاني عقلا وشرعا
ويشكل عليه أن يكون أهل اللغة أحق بوصف المجتهد في الشرع من غيرهم وليس الأمر كذلك
ويجاب عنه بأن شرطي المجتهد:
العلم بمقاصد الشارع
ومقاصد العرب
وبلوغ درجة الاجتهاد لا تتحقق إلا بالشرطين معا لا بكل واحد منهما على الانفراد
ويشكل عليه انعدام وجود المجتهد في اللغة الذي بلغ فهمه فهم العربي منذ عصور فكيف لمن يطلب هذه الدرجة أن يبلغها بلا تعلمها على يد من وصل إليها
ويمكن أن يسلك في الجواب عنه مسلكان:
الأول البحث عمن بلغ هذه المرتبة فيبطل الاعتراض.
الثاني أن يقال لقد ذلل لنا أئمة اللغة الطريق إلى ذلك في المصنفات فبلوغ هذه الدرجة من هذه الطريق ممكن.
ويشكل عليه شهادة بعض العلماء بالاجتهاد لعلماء لم يتحقق فيهم هذا الشرط
ويجاب عنه بأنه لا إلزام إلا إذا اتفقوا على هذه الشهادة
أو لاحتمال اعتقادهم أنه بلغ هذه الدرجة فيكون الاعتراض في غير محل النزاع
ويشكل عليه انعدام وجود المجتهد في اللغة الذي بلغ فهمه فهم العربي منذ عصور وهو مخالف لما تقرر في الأصول من بطلان خلو العصر من مجتهد
ويجاب عنه أن في المسألة خلاف والجمهور على خلاف هذا القول بل حكي الإجماع على انعدامه من المئة الرابعة
وإذا كان ذلك كذلك بطل الاعتراض لأن المعترض عليه لا يسلم بصحة ما اعترض عليه أصلا فكيف يعترض عليه بأصل هو لا يثبته.
ويشكل عليه أن الثلاثة دون الشافعي لم يتحقق فيهم هذا الشرط وقد اتفقوا على بلوغهم درجة الاجتهاد في الشرع
ويشكل عليه أنه يمكن الاطلاع على مقاصد العربية دون الاجتهاد فيها كما جوزته في باقي العلوم الخادمة إذ قلت : ((الموافقات (5/44)):
"لكن هذه المعارف تارة يكون الإنسان عالمًا بها مجتهدًا فيها.
وتارة يكون حافظًا لها متمكنًا من الاطلاع على مقاصدها غير بالغ رتبة الاجتهاد فيها.
وتارة يكون غير حافظ ولا عارف إلا أنه عالم بغايتها وأن له افتقارًا إليها في مسألته التي يجتهد فيها فهو بحيث إذا عنت له مسألة ينظر فيها زاول أهل المعرفة بتلك المعارف المتعلقة بمسألته؛ فلا يقضي فيها إلا بمشورتهم، وليس بعد هذه المراتب الثلاث مرتبة يعتد بها في نيل المعارف المذكورة.
فإن كان مجتهدا فيها كما كان مالك في علم الحديث، والشافعي في علم الأصول؛ فلا إشكال، وإن كان متمكنا من الاطلاع على مقاصدها كما قالوا في الشافعي وأبي حنيفة في علم الحديث؛ فكذلك أيضا لا إشكال في صحة اجتهاده، وإن كان القسم الثالث؛ فإن تهيأ له الاجتهاد في استنباط الأحكام مع كون المجتهد في تلك المعارف كذلك فكالثاني وإلا فكالعدم."
وقد قرر الشاطبي عدم اشتراط أن يكون المجتهد في الشرع مجتهدا في كل علم يتعلق به الاجتهاد على الجملة
إلا أنه يستثني من ذلك علم العربية والله أعلم.