قال الشيخ - رحمه الله - : فالراد على أهل البدع مجاهد ، حتى كان يحيى بن يحيى يقول : الذب عن السنة أفضل من الجهاد ، والمجاهد قد يكون عدلا في سياسته وقد لا يكون ، وقد يكون فيه فجور كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم . ولهذا مضت السنة بأن يغزى مع كل أمير برا كان أو فاجرا ، والجهاد عمل مشكور لصاحبه في الظاهر لا محالة ، وهو مع النية الحسنة مشكور باطنا وظاهرا ووجه شكره : نصره للسنة والدين ؛ فهكذا المنتصر للإسلام والسنة يشكر على ذلك من هذا الوجه ؛ فحمد الرجال عند الله ورسوله وعباده المؤمنين بحسب ما وافقوا فيه دين الله وسنة رسوله وشرعه من جميع الأصناف ، إذ الحمد إنما يكون على الحسنات ، والحسنات هي ما وافق طاعة الله ورسوله من التصديق بخبر الله والطاعة لأمره ، وهذا هو السنة ، فالخير كله باتفاق الأمة . وهو فيما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - . وكذلك لا يذم من يذم من المنحرفين عن السنة والشريعة وطاعة الله ورسوله إلا بمخالفته ذلك .
ومن تكلم فيه من العلماء والأمراء وغيرهم إنما تكلم فيه أهل الإيمان بمخالفته السنة والشريعة ، وبهذا ذم السلف والأئمة أهل الكلام كابن كرام وابن كلاب والأشعري . وما تكلم من أعيان الأمة وأئمتها المقبولين فيها من جميع طوائف الفقهاء وأهل الحديث والصوفية ؛ إلا بما يقولون إنهم خالفوا فيه السنة والحديث ؛ لخفائه عليهم ، أو إعراضهم عنه أو لاقتضاء أصل قياس مهدوه ردَّ ذلك . فإن مخالفة المسلم الصحيح الإيمان النصَّ إنما يكون لعدم علمه به أو لاعتقاده صحة ما عارضه . لكن هو فيما ظهر من السنة وعظُم أمره يقع بتفريط من المخالف وعدوان ؛ فيستحق من الذم ما لا يستحقه في النص الخفي . وكذلك فيما يوقع الفرقة والاختلاف ؛ يعْظُم فيه أمر مخالفة السنة ، إلى أن قال الشيخ : ولهذا تجد أعظمهم موافقة لأئمة السنة والحديث أعظم عند جميعهم فمن هو دونه . فالأشعري نفسُه لما كان أقرب إلى قول الإمام أحمد ومن قبله من أئمة السنة كان عندهم أعظمَ من أتباعه . والقاضي أبو بكر بن الباقلاني لما كان أقربهم إلى ذلك كان أعظم عندهم من غيره . وأما مثل الأستاذ أبي المعالي وأبي حامد ونحوهما ممن خالفوا أصوله فلا تجدهم يُعظمون إلا بما وافقوا فيه السنة والحديث ، وأكثر ذلك تقلدوه من مذهب الشافعي في الفقه .
وكذلك المتأخرون من أصحاب مالك الذين وافقوه كأبي الوليد الباجي والقاضي أبي بكر بن العربي ونحوهما ؛ لا يُعظمون إلا بموافقة السنة والحديث . وكذلك أبو محمد بن حزم فيما صنفه من الملل والنحل إنما يستحمد بموافقة السنة والحديث ، مثل ما ذكر في مسائل القدر والإرجاء ونحو ذلك ، بخلاف ما انفرد به من قوله في التفضيل بين الصحابة ، وكذلك ما ذكره في باب الصفات فإنه يستحمد فيه بموافقة أهل السنة والحديث ، ويقول : إنه موافق للإمام أحمد في مسألة القرآن وغيرها ، ولا ريب أنه موافق له ولهم في بعض ذلك ، لكن الأشعري ونحوه أعظم موافقة للإمام أحمد بن حنبل ومن قبله من الأئمة في القرآن والصفات . وإن كان أبو محمد بن حزم في مسائل الإيمان والقدر أقوم من غيره وأعلم بالحديث وأكثر تعظيما له ولأهله من غيره ، لكن قد خالط من أقوال الفلاسفة والمعتزلة في مسائل الصفات ما صرفه عن موافقة أهل الحديث في معاني مذهبهم في ذلك ، فوافق هؤلاء في اللفظ وهؤلاء في المعنى .
وبمثل هذا صار يذمه من يذمه من الفقهاء والمتكلمين وعلماء الحديث باتباعه لظاهر لا باطن له ؛ كما نفى المعاني في الأمر والنهي والاشتقاق ، وكما نفى خرق العادات ونحوه من عبادات القلوب ، مضموما إلى ما في كلامه من الوقيعة في الأكابر والإسراف في نفي المعاني ودعوى متابعة الظواهر ، وإن كان له من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدفعه إلا مكابر ، ويوجد في كتبه من كثرة الإطلاع على الأقوال والمعرفة بالأحوال والتعظيم لدعائم الإسلام ولجانب الرسالة ما لا يجتمع مثله لغيره . فالمسألة التي يكون فيها حديث يكون جانبه فيها ظاهر الترجيح ، وله من التمييز بين الصحيح والضعيف والمعرفة بأقوال السلف ما لا يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء .
ثم بين الشيخ - رحمه الله - تعظيم الأمة للسنة والحديث فقال : وتعظيم أئمة الأمة وعوامها للسنة والحديث وأهله في الأصول والفروع من الأقوال والأعمال أكثر من أن يذكر هنا ، وتجد الإسلام والإيمان كلما ظهر وقَوِي كانت السنة وأهلها أظهر وأقوى . وإن ظهر شيء من الكفر والنفاق ظهرت البدع بحسب ذلك مثل : دولة المهدي والرشيد ، ونحوهما ممن كان يعظم الإسلام والإيمان ويغزو أعداءه من الكفار والمنافقين ؛ كان أهل السنة في تلك الأيام أقوى وأكثر وأهل البدع أذل وأقل . فإن المهدي قتل من المنافقين والزنادقة من لا يحصي عدده إلا الله . والرشيد كان كثير الغزو والحج ، وذلك أنه لما انتشرت الدولة العباسية وكان في أنصارها من أهل المشرق والأعاجم طوائف من الذين نعتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال : الفتنة ههنا ؛ ظهر حينئذ كثير من البدع ، وعُرّبت أيضا إذ ذاك طائفة من كتب الأعاجم من المجوس والفرس والصابئين الروم والمشركين الهنود . وفي دولة أبي العباس المأمون ظهر الخرمية ونحوهم من المنافقين وعُرِّب كثير من كتب الأوائل المجلوبة من بلاد الروم ما انتشر بسببه مقالات الصابئين ، وراسل ملوك المشركين من الهند ونحوهم حتى صار بينه وبينهم مودة .
فلما ظهر ما ظهر من الكفر والنفاق في المسلمين وقوي ما قوي من حال المشركين وأهل الكتاب ، وكان من أثر ذلك ما ظهر من استيلاء الجهمية والرافضة وغيرهم من أهل الضلال وتقريب الصابئة ونحوهم من المتفلسفة ، وذلك بنوع رأي يحسبه صاحبه عقلا وعدلا وإنما هو جهل وظلم ؛ إذ التسوية بين المؤمن والمنافق والمسلم والكافر أعظم الظلم . وطلب الهدى عند أهل الضلال أعظم الجهل فتولد من ذلك فتنة الجهمية ، حتى امتحنت الأمة بنفي الصفات والتكذيب لكلام الله ورؤيته ، وجرى من محنة الإمام أحمد وغيره ما جرى مما يطول وصفه
المصدر :
http://www.alfawzan.ws/AlFawzan/Libr...=5§ionid=1