الإمام أبو حنيفة قادح زناد الفكر


الإمام أبو حنيفة قادح زناد الفكر




أحمد البراء الأميري


يقال في اللغة: قَدَح الزَّنْدَ: ضربه بحجرٍ ليُخرج النارَ منه.

والزِّناد: أداة تدقُّ الزَّندةَ فتشتعل.
وأوْرَى الزَّندَ: أخرج ناره. وأورى النار: أوقدها. والمُوري : المُوقد.
وهكذا يتبيَّن معنى العنوان!!
الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه، واحد من عظماء المسلمين وعباقرتهم، وأحد الأئمة الأربعة المتبوعين عند أهل السنُّة، وإذا امتاز كل واحد من أولئك العظماء العباقرة : مالكٌ والشافعي، وأحمد بن حنبل رحمهم الله ، بمزيَّة، فإن مزيَّة أبي حنيفة ـ فيما أظن ـ هي مزيد من العناية بالفكر ، والرأي ، والعقل ، حتى لقد سُمّيت مدرسته الفقهية: مدرسة الرأي.
وقد كُتب الكثير عن الإمام أبي حنيفة، وسأقتطف للقارى الكريم بعضَ ما أورده حافظ المغرب الإمام ابن عبد البر الأندلسي المتوفى عام 463هـ، ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه: «الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء»:
ـ إن أبا حنيفة ـ رحمه الله تعالى ـ من أعظم الناس أمانةً، وأراده الولاة على أن يتسلَّم مفاتيح خزائنه أو يضرب ظهره! فاختار عذابهم على عذاب الله!.
ـ قال الإمام القاضي أبو يوسف ـ رحمه الله تعالى ـ ، صاحب أبي حنيفة : كنا نختلف في المسألة ، فنأتي أبا حنيفة ، فكأنما يخرجها من كُمّه فيدفعها إلينا. أي: كان هؤلاء العلماء الأجلاء يتناقشون في مسألة عويصة من مسائل العلم ولا يصلون فيها إلى رأي يرضونه، فيأتون إلى الإمام ـ رحمه الله تعالى ـ فيجيبهم مباشرة ، وبسهولة وكأنما يخرج شيئاً من جيبه ويعطيهم إياه، فكان الصعبُ على أولئك الجهابذة يسيراً عليه بتوفيق الله وفضله. قال أبو يوسف: وما رأيت أحداً أعلم بتفسير الحديث من أبي حنيفة.
ـ وروي عن عبادته الكثير ، من ذلك أنه كان يصلّي في رمضان التراويح مع عُمر بن ذر ، مقتدياً به، وكان ابن ذر يصلّي إلى قُرب السَّحر.
ـ ولم يكن متعصباً لرأيه ، ولا مُعتداً به ، وفي ذلك يقول: «هذا الذي نحن فيه رأي، لا نجبر أحداً عليه، ولا نقول: يجب على أحدٍ قبوله بكراهة، فمن كان عنده شيء أحسن منه فليأت به»، يعني: حتى نترك قولنا ونأخذ قوله.
ـ قال الإمام سفيان الثوري ـ رحمه الله تعالى ـ : كان أبو حنيفة شديد الأخذ للعلم، ذابَّاً عن حُرَمِ الله أن تُستحلّ ، يأخذ بما صحَّ عنده من الأحاديث التي يحملها الثقات ، وبالآخرِ من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبما أدرك عليه علماء الكوفة ، ثم شَنَّع عليه قومٌ يغفر الله لنا ولهم.
ـ وقال الإمام نفسه عن مذهبه في الاجتهاد والفُتيا:«إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته فما لم أجده فيه أخذت بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والآثار الصِّحاح عنه التي فَشَتْ في أيدي الثقات، فإذا لم أجد في كتاب الله تعالى ، ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أخذت بأقوال أصحابه ، مَن شئت ، وأدعُ قولَ من شئتُ، ثم لا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى ( علماء التابعين) فقومٌ قد اجتهدوا ، فلي أن أجتهد كما اجتهدوا.
ـ وكان ـ رحمه الله تعالى ـ يقول: لا يحلٌ لمن يُفتي من كتبي أن يفتي حتى يعلم من أين قلتُ أي : حتى يعلم دليلي.
ـ قال أبو عمر بن عبد البر: كثير من أهل الحديث استجازوا الطعن على أبي حنيفة ـ رحمه الله تعالى ـ لردِّه كثيراً من أخبار الآحاد العدول، لأنه كان يذهب في ذلك إلى عرضها على ما اجتمع عليه من الأحاديث ومعاني القرآن ، فما شذَّ عن ذلك ردَّه وسمَّاه شاذاَ...وكان محسوداً لفهمه وفطنته.
ـ ويحسن في هذا المقام إيراد ما قاله الإمام الحافظ الذهبي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه :«ميزان الاعتدال»: « كلام الأقران بعضهم في بعض لا يُعبأ له لاسيما إذا لاح لك أنه لعداوة، أو لمذهب، أو لحسدٍ ، وما ينجو منه إلا مَنْ عَصَمه الله ،وما علمتُ أن عصراً من الأعصار سَلِم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئتُ لسَرَدْتُ من ذلك كراريس، اللهمَّ فلا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم».
ـ أخرج الخطيب البغدادي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه :«الفقيه والمتفقه» ، عن أبي يوسف ـ رحمه الله تعالى ـ قال: سمعت أبا حنيفة ـ رحمه الله تعالى ـ يقول: «من تكلم في شيء من العلم وتقلَّده ، وهو يظنّ أن الله لا يسأله عنه: كيف أفتيت في دين الله ؟ فقد سهُلت عليه نفسُه ودينه!!؟». وقال: «لولا الخوف من الله تعالى أن يضيع العلم ما أفتيت أحداً؛ يكون له المهنأُ وعليَّ الوزر»!!.
ـ أما الأمثلة على ذكاء الإمام أبي حنيفة ، وفطنته ، وحدّة ذهنه المدهشة والتي من أجلها تحدثت عنه في زناد الفكر، فكثيرة جداً، وجُلُّها دقيق يحتاج إلى طالب علمٍ مستأنٍ يقرؤها بتأمّل ليفهمها ، وسأختار للقارئ الكريم أسهلها عليَّ:
قيل لأبي حنيفة :إن الفقيه الفلاني( عبد الملك العَرْزمي المتوفى عام145هـ )، يقول: سافرتْ عائشة رضي الله عنها مع غير ذي محرم منها.
فقال أبو حنيفة: كانت عائشة أمَّ المؤمنين كلِّهم ، فكانت من كل الناس ذاتِ محرم!!.
قال الإمام زُفَر بنُ الهُذيل: اجتمع أبو حنيفة وجماعة في وليمة، فأتوهم بقارورة من فضة فيها طيب، فأبوا أن يستعملوه فأخذه أبو حنيفة، وسلته بأصبعه ، وجعله في كفّه ، ثم تطيَّب به ، وقال لهم: ألم تعلموا أن أنس بن مالك رضي الله عنه أُتي بحلوى في وعاء فضة، فقلبها على رغيف ثم أكله ، فتعجَّبوا من فطنته وعقله.
قدِم الضحّاك الشاري (أحد الخوارج) الكوفة، فقال لأبي حنيفة: تُب فقال: ممَ أتوب؟ قال : من قولك بتجويز الحكمين بين عليّ ومعاوية، فقال له أبو حنيفة: تقتلني أو تُناظرني؟ فقال الضحّاك: بل أناظرك عليه، قال أبو حنيفة: فإن اختلفنا في شيء مما تناظرنا فيه، فمن بيني وبينك؟ قال: اجعل أنت من شئت ، فقال أبو حنيفة لرجل من أصحاب الضحاك : اقعُد فاحكم بيننا فيما نختلف فيه إن اختلفنا ، ثم قال للضحّاك : أترضى بهذا بيني وبينك حكماً؟ قال: نعم، قال أبو حنيفة ، فأنت قد جوّزت التحكيم! فانقطع الضحّاك.
ـ وهذه مسألة تحتاج إلى شيء من التركيز:
قال علي بن عاصم: سألت أبا حنيفة عن درهم لرجل، ودرهمين لآخر، اختلطتْ ، ثم ضاع درهمان من الثلاثة ، لا يُعلم أيُّها هي، فقال: الدرهم الباقي بينهما أثلاثاً.
قال علي: فلقيت ابنَ شُبرمة (الإمام القاضي) فسألته عنها، فقال: سألتَ عنها أحداً غيري؟ قلتُ: نعم، سألت أبا حنيفة عن ذلك، فقال: يقسم الدرهم الباقي بينهما أثلاثاً. قال: أخطأ أبو حنيفة ، ولكن درهمٌ من الدرهمين الضائعين من المؤكد أنه أحد الدرهمين، والدرهم الباقي يحتمل أن يكون الدرهم الثانيَ من الدرهمين، ويحتمل أن يكون الدرهم المنفردَ المختلط بالدرهمين، فالدرهم الذي بقي، بينهما نصفين . قال علي بن عاصم فاستحسنت ذلك.

ثم لقيت أبا حنيفة ، فوالله لو وزن عقلُه بعقول نصف أهل الكوفة لرجح بهم، فقلت له: يا أبا حنيفة ، خولفتَ في تلك المسألة، وقلت له : لقيتُ ابن شُبرمة فقال: كذا وكذا. فقال أبو حنيفة: إنَّ الدراهم الثلاثة حين اختلطت ولم تتميز رجعت الشركة في الكل، وصار لصاحب الدرهم ثلثُ كل درهم، ولصاحب الدرهمين ثلثا كل درهم، فأيُّ درهمٍ ذهب فعلى هذا.
وأجدني في ختام هذه المقالة مدفوعاً إلى أن أردد قول الفرزدق قصد الإساءة لجرير:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامعُ!!
والله من وراء القصد.