السؤال:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، أما بعد:
فإني وقفت على حديث، رواه ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "شَرِبَ رجلٌ فَسَكَر، فلقي يميل في الفجِّ..." الحديث.
أخرجه أحمد (الميمنية1/322)، [وطبعة أحمد شاكر (4/347)، رقم (2965)] من طريق (عمرو بن دينار)، وأخرجه أبو داود (4/162)، رقم (4476)، والنَّسائي في السُّنَن الكبرى (5/139)، رقم (5271و5272)، والطبراني في الكبير (11/235)، رقم (11597)، والحاكم في المستدرك (4/373)، والبيهقي في السنن (8/314)، كلُّهم من طريق (محمد بن علي بن يزيد بن ركانة، وطريق (عمرو بن دينار)، بَحَثْتُ عنه كثيرًا، فلم أجِدْه إلاَّ عند الإمام أحمد في المسند الطبعة الميمنية، وهو أيضًا في طبعة البنَّا في ترتيب المسند، وطبعة أحمد شاكر، وهاتان الطبعتان قد اعتمدتا على الطبعة الميمنية، وأضاف إليها أحمد شاكر مخطوطة دار الكتب المصرية، أمَّا في الطبعة التي حققها شعيب الأرنؤوط وآخرون، فلا يوجد فيها الحديث من طريق (عمرو بن دينار)، وإنَّما يوجد فيها من طريق (محمد بن علي)، ولم يُنَبِّهْ محققو المسند على هذا الاختلاف، رَغْمَ أنهم اعتمدوا الميمنية ومخطوطة دار الكتب المصرية، ثُمَّ إني رجعت إلى كتاب أطراف المسند لابن حجر (3/227)، رقم (3762)، فوجدتُه ذَكَرَ الحديث من طريق (محمد بن عليٍّ)، ولم يذْكُرْه من طريق (عمرو بن دينار)، ولم يرَقِّم المحقق للطريق التي ذكرها ابن حجر، وقال:لم أجِدْه، ثم رجعت أيضًا إلى كتاب "إتحاف المهرة" لابن حجر (7/554)، رقم (8440)، فوَجَدت ما نصُّه: ((قال أحمد: حدثنا روح ثنا: [زكريا ثنا عمرو بن دينار عنه به]))، ثُمَّ ذَكَرَ المحقق في الحاشية رقم (1) ما نصُّه: ((ما بين المعقوفين من مطبوعتي المسند، وجاء مكانه في الأصل و(هـ): "ابن جريج به"))، قلت: وهذا تصَرُّف من المحقق في غير محله، لا ينبغي له، وكان الأَوْلى به إثبات كلام ابن حجر؛ كما جاء في أصل المخطوطة، وإن كان له استدراك أو تعقيب، ففي الحاشية لا في أصل الكتاب، ثُمَّ إن ابن جريج لم يَرْوِه عن (عمرو بن دينار)، وإنما رواه عن (محمد بن علي)؛ فالمحقق أخطأ مرتين: الأولى: عندما تَصَرَّف في أصل المخطوط، فحذف كلام ابن حجر، ووضع مكانه ما ظنَّه أنه هو الصواب، والثانية: عندما وهم وأوهم أن ابن جريج رواه عن (عمرو بن دينار)، ثُمَّ إني رجعت إلى تهذيب الكمال للمزي (6/448)، رقم (5487) في ترجمة (محمد بن عليّ)، فوجدته قد ساق الحديث بإسناده هو، من طريق الإمام أحمد إلى (محمد بن عليّ) هذا عن عكرمة، ثُم رجعت إلى جامع المسانيد لابن كثير (32/158)، فوجدته ساق الحديث من طريق (عمرو بن دينار)، ولم يَعْزُه لأحد.
وأنا أطْرَحُ هذا الأمر الذي أَشْكَل عليَّ على الأخوة؛ لعلَّ فتيًّا ينبري له فيحله، والذي يغلب على ظَنِّي أن الإمام أحمد رواه من هذين الطريقين، وأن هذا الاختلاف الحاصل هو بسبب اختلاف الأصول المخطوطة للمسند، والله أعلم.
وصلَّى الله على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الجواب:
الحمد لله، وصلَّى الله على سيِّدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فجزاك الله خيرًا على هذه الروح النقْدِيَّة الطيِّبة، وأُصَرِّح بموافقتي لك على ما ورد في السؤال من إشكالات، غيرَ أنَّ السائل الكريم قد غفل عن تنبيه بسيطٍ جاء في طبعة مؤسسة الرسالة فيه حلُّ هذا الإشكال؛ فقد ورد في كلامه ما نصُّه:
"أمَّا في الطبعة التي حققها شُعَيْب الأرنؤوط وآخرون، فلا يوجد فيها الحديث من طريق (عمرو بن دينار)؛ وإنَّما يُوجَد فيها من طريق (محمد بن علي)، ولم ينبِّه محققو المسند على هذا الاختلاف، رغم أنهم اعتمدوا الميمنية، ومخطوطة دار الكتب المصرية".
والحكم على محققي طبعة الرسالة بأنهم لم ينبِّهوا على هذا الاختلاف غيرُ صحيح؛ فقد وقع التنبيه منهم في (5/116) حاشية رقم (1) على قوله: "صلى الله عليه وسلم" بقولهم: "من قوله في الحديث السابق: "قال: لا يعضد" إلى هنا، سقط من (م)، والأصول الخطية عدا (ظ9) و(ظ14)، ومن هاتين النسختين أثبتناه، وهو الصواب الموافق لما في "أطراف المسند" (1/ ورقة 122 و123))"، انتهت الحاشية.
فحَلُّ هذا الإشكال إذًا أنَّه قد وقع سَقْط في طبعة الميمنية، وفي معظم الأصول الخطية لمسند أحمد - ومعظمها نُسَخٌ ليستْ قديمةً، لعلَّ بعضَها منسوخٌ من بعض - سبَبُه انتقال نظر الناسخ من قوله : "صلى الله عليه وسلم" في حديث ابن عباس: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يعضد عضاهها...)) إلى قوله: "صلى الله عليه وسلم" في الحديث الذي يليه: عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يَقِتْ في الخمر...))، وهو حديثنا هذا، فنتج عن هذا أنْ ركَّب الناسخُ إسناد الحديث الأول لمتن الحديث الثاني، وهذا الخطأ كثيرٌ وقوعُه من النُّسَّاخ في نَسْخ كتب الحديث المسندة.
وأمَّا ما جاء في "جامع المسانيد"، بتحقيق عبد المعطي أمين قلعجي، فخطَأٌ لا شك فيه، وهو من صنيع عبد المعطي قلعجي نفسه، وليس من صنيع الحافظ ابن كثير - رحمه الله - فقد أشار الحافظ ابن كثير في أكثَرَ من موضع من "جامع المسانيد": أنه قد أَفْرَدَ مسند ابن عباس ولم يُدْخِلْه في "جامع المسانيد"، أمَّا مسند ابن عباس الموجود في طبعة عبد المعطي قلعجي من "جامع المسانيد" - والتي نقل عنها السائل - فإنما هو من جمع الدكتور عبد المعطي قلعجي، وقد اعتمد في ذلك على طبعة الميمنية أيضًا.
وأمَّا ما وقع في طبعة "الإتحاف"، فهو خطأٌ مَحْضٌ، وتصَرُّف غير حسن من المحقق - عفا الله عنَّا وعنه - كما تفضل ببيانه السائل الكريم.
وخلاصة القول في هذه المسألة: إن حديث ابن عباس المشار إليه في السؤال لم يَرِدْ من طريق عمرو بن دينار، لا في "المسند"، ولا في غيره، وأمَّا ما وقع في طبعة الميمنية وغيرها من "المسند"، فخطأ نتج عن سقْطٍ في معظم الأصول الخطيّة للمسند، كما سبق بيانه، وصوابه ما جاء في طبعة مؤسسة الرسالة؛ اعتمادًا على نُسَخٍ صحيحةٍ، وهو الموافق لما في "أطراف المسند"، وما في الأصول الخطية لـ "إتحاف المهرة"، للحافظ ابن حجر،، والله أعلم.
الرابط:
http://www.alukah.net/Counsels/Couns...&CounselID=362