(( الإيمان الشرعي ودلالة النصوص عليه ))

للشيخ الدكتور عبد الله الجربوع – حفظه الله تعالى -

[بسم الله الرحمن الرحيم]

للإيمان مفهوم شرعي دلّت عليه نصوص كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم- ، هذا المفهوم أجمله السلف-رضي الله عنهم- في تعريفهم للإيمان بأنه اعتقاد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.

وفيما يلي عرض لبعض النصوص التي تدل على ذلك:

أولاً: الأدلة على أن الإيمان يكون بالقلب:

قال- تعالى-:{يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم}[المائدة:41]، وقال:{من كفر الله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}[النحل:106]، وقال:{قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم}.[الحجرات:14]
وقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: ((...ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله،وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)) [01].
وصلاح القلب إنما يكون بعمرانه بالعقائد الحقة، فإذا أشرب القلب الحقائق الإيمانية وانبعثت منها أعماله القلبية كان قلباً سليماً.
وفي حديث جبريل-عليه السلام-: (( قال:فأخبرني عن الإيمان؟قال:أن تؤمن بالله وملائكته،وكتبه، ورسله،واليوم الآخر،وتؤمن بالقدر خيره وشره...)) [02].
وهذه الأمور الستة يكون الإيمان بها بالعلم والتصديق، والقبول الذي يكون في القلب.
فدلت هذه النصوص على أن الإيمان يدخل القلب ويطمئن به، وأن إيمان القلب هو الأصل وأنه شرط في صحة الإيمان، وأن أساس الإيمان هي الاعتقادات التي تقوم بالقلب.

ثانـياً: النصوص الدالة على أن الإيمان يكون باللسان:

قال- صلى الله عليه وسلم-:((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا:لا إله إلا الله..)) [03].
وقال-عليه الصلاة والسلام-:(( يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من إيمان، ويخرج من النار من قال:لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من إيمان، ويخرج من النار من قال:لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن ذرَّة من إيمان)) [04].
ففي هذين الحديثين دلالة واضحة على اشتراط النطق بالشهادتين لصحة الإيمان.
وأن الإيمان يدخل في الإسلام، والذي ينجي من الخلود مكون من قول اللسان مع عقد القلب.
وقوله - صلى الله عليه وسلم- في حديث شعب الإيمان(( الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) [05].
فيه دليل على أن التلفظ بلا إله إلا الله أفضل شعب الإيمان سواء قالها عقداً أو ذكراً.

ثالـثاً: النصوص الدالة على أن الإيمان يكون بالأعمال الظاهرة:

كل النصوص المتقدمة في المجموعة الثانية داخلة في هذا النوع، وذلك أن النطق باللسان عمل ظاهر،ويضاف إلى ذلك قوله-تعالى-:{وما كان الله ليضيع إيمانكم}[البقرة:143]، أي:صلاتكم، فسمى الصلاة إيماناً.
قال البخاري - رحمه الله – في ((الصحيح)): ( وقول الله-تعالى-:{وما كان الله ليضيع إيمانكم}يعني:صلا تكم عند البيت)، ثم أورد بسنده إلى البراء أنه مات على القبلة،قبل أن تحول، ورجال قتلوا فلم ندر ما نقول فيهم،فأنزل الله-تعالى-{وما كان الله ليضيع إيمانكم}[06].
ومن أقوى الأدلة و أصرحها في القرآن على أن الأعمال من الإيمان قوله - تعالى-:{إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم}.[الأنفال:2-4].
حيث جعل- سبحانه - إقام الصلاة، والإنفاق من صفات المؤمنين حقاً.
أما من الأحاديث فقد تقدم في حديث شعب الإيمان أن إماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان وهو عمل ظاهر.
ومن ذلك حديث وفد عبد القيس، وفيه: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم -: (( ..هل تدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وان تؤدوا خمساً من المغنم...)) [07].
فهذا الحديث من أقوى الأدلة وأصرحها على أن الأعمال من الإيمان، وذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم- فسر الإيمان بالنطق بالشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأداة خمس المغنم، هذه أعمال ظاهرة.

رابعـاً: النصوص الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه:

قال-تعالى-:{إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون}.[الأنفال:2]
قال ابن كثير - رحمه الله - في((تفسيره)) لهذه الآية :"وقد استدل البخاري وغيره بهذه الآية وأشباهها على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب-كما هو مذهب جمهور الأئمة-،بل قد حكى الإجماع عليه غير واحد من الأئمة كالشافعي،وأحمد ابن حنبل،وأبي عبيد..." [08].
وأشباه هذه الآية التي أشار إليها كثيرة منها:
قوله- تعالى-:{وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون}.[التوبة:124-125]
وقول الله- تعالى-:{هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليماً حكيماً}[الفتح:4]..ونحوها.
أما الأحاديث، فمنها قوله- صلى الله عليه وسلم -:"من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"[09].
فدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شعب الإيمان وخصاله[10]، وأن بعضه أعلى من بعض.
وقال-صلى الله عليه وسلم-: " يخرج من النار من قال:لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن شعيرة من إيمان، ويخرج من النار من قال:لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن برة من إيمان..".
فدل هذا الحديث على أن الإيمان يتفاوت قوة وضعفاً في القلوب، كما دل الحديث الذي قبله على أن شعب الإيمان بعضها أقوى وأعلى من بعض.
ومما تقدم من النصوص يتضح لنا تعريف الإيمان في الكتاب والسنة، وأنه قول وعمل واعتقاد، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأن بعض خصاله أعلى من بعض، وان أهله يتفاوتون فيه قوة وضعفاً.
وعلى هذا القول: السلف الصالح- رضوان الله عليهم- أهل الذكر الذين لزموا كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم -، استمدوا علومهم منهما.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:"والمأثور عن الصحابة وأئمة التابعين، وجمهور السلف، وهو مذهب أهل الحديث، وهو المنسوب إلى أهل السنة: أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.." [11].
قال ابن حجر- رحمه الله -:"...روى اللالكائي بسنده الصحيح عن البخاري، قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار، فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص.
وأطنب ابن أبي حاتم و اللالكائي في نقل ذلك – بالإسناد -عن جمع كثير من الصحابة والتابعين وكل من يدور عليه الإجماع من الصحابة والتابعين.." [12].
وقد عرف الإمام ابن القيم- رحمه الله - الإيمان تعريفاً وافياً، فقال:
" وهو حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول-صلى الله عليه وسلم- علماً، والتصديق به عقداً، والإقرار به نطقاً، والانقياد له محبة وخضوعاً، والعمل به باطناً وظاهراً، وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان.
وكماله في الحب في الله والبغض في الله، والعطاء لله والمنع لله، وأن يكون الله وحده إلهه ومعبوده.
والطريق إليه تجريد متابعة رسوله ظاهراً وباطناً،وتغميض عين القلب عن الالتفات إلى سوى الله ورسوله.
وبالله التوفيق." [13].


----
الحواشي:

[01]: رواه البخاري.
[02]: رواه مسلم.
[03]: رواه مسلم.
[04]: رواه البخاري (رقم44).
[05]: رواه مسلم.
[06]: ((صحيح البخاري)) (1/95).
[07]: رواه مسلم.
[08]: ((تفسير القرآن العظيم)) (3/552).
[09]: رواه مسلم.
[10]: ((جامع العلوم و الحكم)) (ص306).
[11]: (( مجموع الفتاوى )) (7/505).
[12]: ((فتح الباري)) (1/74).
[13]: ((الفوائد)) لابن القيم (ص140).