يضيف الشاب حسن -أيضاً- :
مع فضيلة الشيخ الدجوي :
كنتُ أقرأ للشيخ يوسف الدجوي –رحمه الله- كثيراً , وكان الرجل سمح الخلق حلو الحديث صافي الروح , وبحكم النشأة الصوفية كان بيني وبينه –رحمه الله- صلة روحية وعلمية تحملني على زيارته الفينة بعد الفينة بمنزله بقصر الشوق أو بعطفة الدويدار بحي الأزهر , وكنت أعرف أن له صلات بكثير من رجال المعسكر الإسلامي من علماء أو وجهاء وكنتُ أعرف أنهم يحبونه ويقدرونه فعزمت على زيارته ومكاشفته بما في نفسي والاستعانة به على تحقيق هذه الفكرة والوصول إلى هذه الغاية , وزرته بعد الإفطار وكان حوله لفيف من العلماء وبعض الوجهاء ومن بينهم رجلٌ فاضل لا أزال أذكر اسمه "أحمد بك كامل" وإن لم ألتقِ به بعد هذه المرة.
تحدثتُ إلى الشيخ في الأمر فأظهر التأسفَ وأخذ يعددُ مظاهر الداء والآثار السيئة المترتبة على انتشار هذه الظاهرة في الأمة وخلص من ذلك إلى ضعف المعسكر الإسلامي أمام هؤلاء المتآمرين عليه (أي معسكر العلمنة والتغريب) , وكيف أن الأزهر حاول كثيراً أن يصد هذا التيار فلم يستطع, وتطرق إلى الحديث عن جمعية "نهضة الإسلام" التي ألفها الشيخ هو ولفيفٌ من العلماء , ومع ذلك لم تجدِ شيئاً , و(تطرقَ) إلى كفاح الأزهر ضد المبشرين (بهذا الفكر التغريبي) والملحدين وإلى مؤتمر الأديان في اليابان ورسائلِ الإسلام التي ألفها فضيلته وبعث بها إليه , وانتهى ذلك كله إلى أنه لا فائدة من كل الجهود , وحسبُ الإنسان أن يعمل لنفسه وأن ينجو بها من هذا البلاء , وأذكر أنه تمثّل بهذا البيت –الذي كثيراً ما كان يتمثل به- والذي كتبه لي في بعض بطاقاته في بعض المناسبات :
وما أُبالـي إذا نفسي تطاوعني .............على النجاة بمن قد مات أو هلكا
وأوصاني أن أعمل بقدر الاستطاعة وأدعَ النتائج لله "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها".
لم يعجبني –طبعاً- هذا القول وأخذتني فورةُ الحماسة وتمثّل أمامي شبحُ الإخفاق المرعب إذا كان هذا الجواب سيكون جواب كل من ألقى من هؤلاء القادة ؛ فقلتُ له –في قوة-: إنني أخالفك يا سيدي كل المخالفة في هذا تقول , واعتقد أن الأمر لا يعدو أن يكون ضعفاً فقط ؛ وقعوداً عن العمل ؛ وهروباً من التبعات ؛ من أي شيءٍ تخافون ؟ من الحكومة أم الأزهر ؟ ... يكفيكم معاشكم واقعدوا في بيوتكم واعملوا للإسلام ؛ فالشعب معكم في الحقيقة لو واجهتموه لأنه شعبٌ مسلم , ولقد عرفته في القهاوي وفي المساجد وفي الشوارع (كان لهذا الشاب جهودٌ دعوية حيث كان يجوب تلك الأماكن في ذلك) فرأيته يفيض إيماناً ولكنه قوة مهملة , وهؤلاء الإباحيون والملحدون بجرائدهم ومجلاتهم (وفضائياتهم ومواقعهم) لا قيامَ إلا في غفلتكم , ولو تنبهتم لدخلوا في جحورهم , يا أستاذ إن لم تريدوا أن تعملوا لله فاعملوا للدنيا وللرغيف الذي تأكلون ؛ فإنه إذا ضاع الإسلام في هذه الأمة ضاع الأزهر وضاع العلماء ؛ فلا تجدون ما تأكلون ولا ما تنفقون ك؛ فدافعوا عن كيانيكم إن تدافعوا عن كيان الإسلام , واعملوا للدنيا إن لم تعملوا للآخرة , وإلا فقد ضاعت دنياكم وآخرتكم على السواء !..
وكنتُ أتكلم بحماسة وتأثر وشدة من قلبٍ محترق مكلوم , فانبرى بعض العلماء الجالسين يردُ في قسوة ويتهمني بأنني أسأتُ إلى الشيخ وخاطبته بما لا يليق , و(أنني) أسأتُ إلى العلماء والأزهر وأسأتُ إلى الإسلام القوي العزيز , والإسلام لا يضعف أبداً والله تكفّل بنصره. وقبل أن أرد عليه انبرى أحمد بك كامل هذا وقال : لا يا أستاذ , من فضلك هذا الشاب لا يريد منكم إلا الاجتماع لنصرة الإسلام , وإن كنتم تريدون مكاناً تجتمعون فيه فهذه داري تحت تصرفكم افعلوا بها ما تريدون , وإن كنتم مالاً فلن نعدم المحسنين من المسلمين , ولكن أنتم قادة فسيروا ونحن وراءكم ؛ أما هذه الحجج فلم تعد تنفع بشيء.
هنا سألتُ جاري من هذا الرجل المؤمن : من هو ؟ فذكر لي اسمه وما زال عالقاً بذهني ولم أره بعد , وانقسم المجلس إلى فريقين : فريقٌ يؤيد رأى الأستاذ العالم ؛ وفريقٌ يؤيد رأي أحمد بك كامل , والشيخ (أي الدجوي) –رحمه الله- ساكت. ثم بدا له أن ينهي هذا الأمر ؛ فقال : على كل حال نسأل الله أن يوفقنا للعمل بما يرضيه , ولا شك أن المقاصد كلها متجهةٌ إلى العمل والأمور بيد الله ؛ وأظننا الآن على موعد مع الشيخ محمد سعد فهيا بنا لنزوره.
وانتقلنا جميعاً إلى منزل الشيخ محمد وهو قريبٌ من منزل الشيخ الدجوي –رحمه الله- وتحريتُ أن يكون مجلسي بجوار الشيخ الدجوي مباشرة لأستطيع الحديث فيما أريد , ودعا الشيخ محمد بحلويات رمضان فقُدمت وتقدم الشيخ ليأكل فدنوتُ منه فلما شعر بي بجواره ؛ سأل : من هذا ؟ فقلتُ : فلان ؛ فقال : أنت جئتَ معنا أيضاً ؟ فقلت : نعم يا سيدي ؛ ولن أفراقكم إلا إذا انتهينا من الأمر ؛ فأخذ بيده مجموعةً
من النقل (نوع حلوى أو نحو ذلك) وناولنيها وقال : خذْ وإن شاء الله نفكر ؛ فقلتُ : سبحان الله يا سيدي إن ألمر لا يحتمل تفكيراً , ولكن يتطلب عملاً , ولو كانت رغبتي في هذا النقل (الحلوى) لاستطعتُ أن أشتري بقرش وأظل في بيتي ولا أتكلف مشقةَ زيارتكم , يا سيدي إن الإسلام يحارب هذه الحرب العنيفة القاسية , ورجاله وحماته وأئمة المسلمين يقضون الأوقات غارقين في هذا النعيم ؛ أتظنون أن الله لن يحاسبكم على هذا الذي تصنعون؟ إن كنتم تعلمون للإسلام أئمةً غيركم وحماةً غيركم فدلوني عليهم لأذهب إليهم لعلي أجد عندهم ما ليس عندكم !.. وسادة لحظةُ صكتٍ غريبة , وفاضت عين الشيخ –رحمه الله- بدمع غزير بلّل لحيته وبكى بعض من حضر , وقطع الشيخ-رحمه الله- هذا الصمت وقال –في حزنٍ عميق وتأثرٍ بالغ- : وماذا نصنع يافلان ؛ فقلتُ : يا سيدي الأمر يسير ؛ ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها , لا أريد إلا أن تحصر أسماءَ من نتوسم فيهم الغيرةَ على الدين من ذوي العلم والوجاهة والمنزلة ليفكروا فيما يجب أن يعملوه : يصدرون ولو مجلةً أسبوعية أمام جرائد الإلحاد والإباحية , ويكتبون كتباً وردوداً على هذه الكتب , ويؤلفون جمعياتٍ يأوي إليها الشباب , وينشّطون حركة الوعظ والإرشاد ... وهكذا من هذه الأعمال ؛ فقال الشيخ –رحمه الله- : جميل , وأمرَ برفع "الصينية" بما فيها وإحضارِ ورقة وقلم , وقال : اكتبْ , وأخذنا نتذكر الأسماء , فكتبنا فريقاً كبيراً من العلماء الأجلاء , أذكر منهم : الشيخ –رحمه الله- , وفضيلة الشيخ محمد الخضر حسين , والشيخ عبدالعزيز جاويش , والشيخ عبدالوهاب النجار , والشيخ محمد الخضري ... وجاء اسم السيد رشيد رضا –رحمه الله- (وكان بينهما شيء) فقال الشيخ : اكتبوه ...اكتبوه ؛ فإن الأمر ليس أمراً فرعياً نختلف فيه ولكنه أمر إسلامٍ وكفر والشيخ رشيد رضا خير من يدافع بقلمه وعلمه ومجلته . وكانت هذه شهادةً طبية للسيد رشيد رضا –رحمهما الله- مع ما كان بينهما من خلافٍ في الرأي حول بعض الشؤون , وكان من الوجهاء : أحمد باشا تيمور ...(وذكر أشخاصاً).
ثم قال الشيخ : إذن عليك أن تمر على من تعرف وأمرُّ على من أعرف ونلتقي بعد أسبوع –إن شاء الله-.
ولتقينا مرات , وتكونت نواةٌ طيبة من هؤلاء الفضلاء وواصلت اجتماعها بعد عيد الفطر , وأعقب ذلك أن ظهرت مجلة "الفتح" الإسلامية القوية يرأس تحريرها الشيخ عبدالباقي سرور نعيم –رحمه الله- ومديرها السيد محب الدين الخطيب , ثم آل تحريرها وإدارتها إليه فنهض بها خير نهوض , وكانت مشعل الهداية والنور لهذا الجيل من شباب الإسلام المثقف الغيور , وظلت هذه النخبة المباركة تعمل وظل يحركها نفرٌ من الشباب المبارك المخلص حتى كانت هذه الحركة "جميعة الشبان المسلمين"...
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ
أخوتي الكرام : انتهى فصلٌ يسيرٌ في مبناه كبير جليلٌ في معناه من قصة طموح شابٍ عجيب قلما تجود به بمثله الدهور على مرِّ العصور , ثم مضت السنون والأعوام وكان من أمر هذا الشاب ما كان.
إن هذا الشاب رحمه الله ورضي عنه- , وكانت تلك الحروف المنقولة ليست إلا وريقاتٍ من كتابه البديع "مذكرات الدعوة والداعية" وهي قصة حياة هذا الإمام العجيب الذي ملئ الدنيا وشغل الناس , وقد قدّم لها فضيلةُ العلاّمة الكبير أبو الحسن الندوي بمقدمةٍ أفرغ فيها كثيراً من عاطفته المشبوبة وحديثه العذب عن كاتبها الإمام حسن البنا –رحمهما الله- وأظن أن القارئ لن يتمالك عيناه وهو يسير بين سطورها تلك التقدمة فضلاً عن سيره في ثنايا الكتاب.
والحاصل أنه شاع تحريضُ أهل العلم بقراءة تراجم الأئمة والأعلام والمجاهدين لتتحرك الهمم وتنبعث العزائم لخدمة هذا الدين وحماية هذا الوحي الذي أكرمنا الله تعالى به غضاً كما أُنزل ؛ فاقرؤا أيها الأخوة –وفقكم الله جميعاً- قصةَ الصبر واليقين في سيرة الإمام حسن البنا–رحمه الله ورضي عنه وسائر علماء المسلمين- "وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون "
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ
بشرى لطلبة العلم ...
نزل في الأسواق كتابٌ بعنوان "اختلاف المفتين والموقف المطلوب تجاهه من عموم المسلمين مؤصلاً من أدلة الوحيين" , تأليف الدكتور المحدث الشريف حاتم العوني-حفظه الله ووفقه- , من إصدارات "دار الصميعي".
ويشتمل الكتاب على ستة فصول :
الأول : بيان مشروعية اختلاف العلماء
الثاني : أسباب وقوع الاختلاف بين أهل العلم
الثالث : تقسيم الاختلاف إلى سائغ وغير سائغ , وضابط التفريق بينهما
الرابع : حكم الاختلاف السائغ وغير السائغ , والموقف منهما
الخامس : صفة من لا يستحق الاستفتاء
السادس : منهج تعامل عوام المسلمين مع اختلاف العلماء