السلام عليكم
هذا جواب من أحد الإخوة الأكارم (جزاه الله خيراً)
أنقله لكم لتعلقه بهذه المسألة:-
باسم الله الرحمن الرحيم
من المعلوم أن الإسلام يقوم على الإعتقاد والقول والعمل مجتمعة، أما الكفر فيتحقق بالإعتقاد أو القول أو العمل، فيرتد المرء عن الإسلام إن أظهر الكفر بأحدها، وإن كان الإعتقاد لا يعلمه إلا الله فإننا نحكم على قول اللسان أو فعل الجوارح، ولا يشترط معرفة الإعتقاد، فهو من السرائر الموكلة إلى الله عز وجل، هذه خلاصة عقيدة المسلم في هذا الأمر.
لا نبني الكفر على الفعل فقط، ولا نقول أن الكفر القولي ليس كفرا، وأن الكفر في الفعل بالجوارح فقط كالسجود للصنم، أما سب الدين مثلا فليس كفرا، ولا نقول أن كفر الظاهر غير مستلزم لكفر الباطن، وأن فاعل الكفر أو قائله قصدا ودون إكراه يمكن أن يكون مؤمنا في الباطن.
لكن هناك نقطة مطروحة وهي إرادة الكفر في المستقبل، فالمسلم إن صرح بلسانه أنه سيفعل كفرا ما أو يقوله أو يعتقده في المستقبل ثم تراجع ولم يعتقد ولم يفعل ولم يقل، هل هو مرتد بمجرد إرادته المعلنة باللسان؟ أم هو مسلم حتى يقع في الكفر ذاته الذي صرّح أنه سيفعله أو يقوله أو يعتقده في المستقبل؟
قلتُ أن الرجل لا زال مسلما، ومما يُستدل به على إسلامه قول بني إسرائيل الذي حكاه الله عز وجل عنهم في قوله: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحرَ فأتوا على قومٍ يعكُفون على أصنامٍ لهم قالوا ياموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهةٌ قال إنكم قومٌ تجهلون إنّ هؤلاء متبّرٌ ما هم فيه وباطلٌ ما كانوا يعملون قال أغيرَ الله أبغيكم إلهاً وهو فضّلكم على العالمين) (الأعراف: 138/140)
والشاهد منها هو أن بني إسرائيل أو طائفة منهم كانوا مسلمين بدليل قوله: (وهو فضّلكم على العالمين)، ولا يفضل الله كافرا على كافر، ولكنهم حنّوا إلى عبادة غير الله لما أمِنوا واطمأنوا بعد موت فرعون، فلما نهاهم موسى انتهوا، ولم يأمرهم بالتوبة من الكفر كما فعل معهم لما عبدوا العجل: (وإذ قال موسى لقومِه ياقومِ إنكم ظلمتم أنفسَكم باتخاذكمُ العجلَ فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسَكم ذلكم خيرٌ لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التوّابُ الرحيم) (البقرة: 54).
ولا يصح الإستدلال بأن محمد بن عبد الوهاب اعتبر طلب قوم موسى الإله ومن طلبوا ذات أنواط كلاهما من الشرك الأصغر كالحلف بغير الله، وهذا في رسالته إلى عبد الله بن سحيم ردا على المويس: (الأولى: قوله إنهما نسبا من قبلهما إلى الخروج من الإسلام والشرك الأكبر أفيظن أن قوم موسى لما قالوا: اجعل لنا إلهًا خرجوا من الإسلام؟ أفيظن أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قالوا: اجعل لنا ذات أنواط فحلف لهم أن هذا مثل قول قوم موسى اجعل لنا إلهًا أنهم خرجوا من الإسلام؟ أيظن أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمعهم يحلفون بآبائهم فنهاهم وقال: (من حلف بغير الله فقد أشرك) أنهم خرجوا من الإسلام؟ إلى غير ذلك من الأدلة التي لا تحصر فلم يفرق بين الشرك المخرج عن الملة من غيره ولم يفرق بين الجاهل والمعاند).
ونحن نقرأ كلاما صريحا له ولغيره في أن من طلب الشرك الأكبر ولم يفعل لا يكفر، وسواء كان كلامه السابق صريح الدلالة أم لا فإن الأدلة لا تكون بهذا الشكل، فبإمكاني أن أجمع أقوال العلماء، ولو فعلت لوجد كلامي قبولا عند الناس، لكني لا أفعل، وليس من عادتي، ليقيني بوجوب الإنعتاق من ظلمة التقليد الأعمى، لا سيما ونحن بصدد الحديث في العقيدة.
وإذا كان الذين قالوا: (اجعل لنا ذات أنواط) قد طلبوا الشرك الأصغر، فهل يُعتبر قول الآخرين: (اجعل لنا إلها) من الشرك الأصغر؟! الظاهر لكل عاقل أنهم طلبوا الشرك الأكبر المخرج من الإسلام، نفهم هذا من جوابه لهم: (إنّ هؤلاء متبّرٌ ما هم فيه وباطلٌ ما كانوا يعملون قال أغيرَ الله أبغيكم إلهاً).
والقول أن بني إسرائيل طلبوا الشرك الأصغر لأن النبي صلى الله عليه وسلم شبّه به الشرك الأصغر هو كلام لا وجه له، فلا يفسر طلب بني إسرائيل بمبالغة النبي صلى الله عليه وسلم في زجر طالبي ذات أنواط، فهذا تهوين يضاد ما قصده النبي صلى الله عليه وسلم من التغليظ.
لكنهم لم يفعلوا ولم يعتقدوا ولم يقولوا الكفر ذاته، وإنما طلبوا فعل الكفر واعتقاد الكفر وقول الكفر، فتوقفوا عند حدود الطلب، ولم يعتقدوا قبل أن يطلبوا، فلا يقاس الطلب أو الإستئذان على سب الله أو دعاء غير الله، لأن السب والدعاء كفر بذاته قد وقع.
لا نقول بقول المشركين الذين يعتبرون جاهل التوحيد مسلما: من قال كفرا ثم نُبّّه إلى أنه كفر فعاد لم يكفر، فالآية لا تدل على أنهم جهلوا أن اتخاذ آلهة من دون الله يخرجهم من الإسلام، كأن موسى لم يدعهم إلى التوحيد واعتبرهم مسلمين وهاجر بهم وهم على جهل بالتوحيد.
الواقع أنهم لم يقولوا كفرا بذاته وإنما طلبوا السماح لهم بقول الكفر وفعل الكفر واعتقاد الكفر، أي الدخول في دين الكفر، فنعتبرهم قائلين للكفر لو دعوها من دون الله مثلا، أو قالوا أنها تستحق العبادة، فلما نهاهم عن الإقدام على الكفر انتهوا قبل أن يكفروا، ونبههم إلى فضل الله عليهم، وذكّرهم بنعمه عليهم، فكيف يقابلون فضله عليهم بالكفران؟
فالذين دخلوا في دين الشرك حقيقة ثم طلبوا صورة منه، ليسوا كالذين طلبوا الدخول في دين الشرك بصورة منه.
ولو قالوا الكفر ذاته أو فعلوه لكانوا كفارا سواء انتبهوا من بعد قوله أو لم ينتبهوا، وسواء قالوا كلمة أو أكثر، وسواء كان ذلك لفترة قصيرة أو طويلة، فكل ذلك يقتضي الدخول في الإسلام من جديد، لأن معيار الكم غير معتبر هنا.
والذين طلبوا ذات أنواط قلتُ أنهم لم يطلبوا الشرك الأكبر كفعل المشركين، وإنما طلبوا المشابهة دون عبادتها، ثم قلت: حتى ولو طلبوا الشرك الأكبر ـ وهذا مستبعد إذ لا شيء يدل على ذلك ـ فإنهم لا يكفرون إن لم يصل بهم الأمر إلى حد الشرك حقا، مثل بني إسرائيل الذين كان طلبهم واضحا لكنهم لم يفعلوا.
أما حديث الأعرابي فقد ورد في رواية أنه بايعه على الإسلام، ثم طلب الإقالة بما يوضح أنه طلب الإقالة من بيعة الإسلام، عن جابر بن عبد الله: أن أعرابيا بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فأصاب الأعرابيَّ وعكٌ بالمدينة، فجاء الأعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أقلني بيعتي، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءه فقال: أقلني بيعتي، فأبى، ثم جاءه فقال: أقلني بيعتي، فأبى، فخرج الأعرابي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما المدينة كالكير تنفي خبَثها وتنصع طيبها) (رواه البخاري ومسلم)
وجواب النبي صلى الله عليه وسلم: (المدينة كالكير) ورد في أحاديث أخرى في الخروج من المدينة، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد) ( رواه مسلم)
وقد كانت الردة من المهاجر تقتضي الخروج من المدينة هربا كمقيس بن صبابة وغيره من المرتدين، عن أنس بن مالك (أن نفرا من عكل ثمانية قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام، فاستوخموا الأرض وسقمت أجسامهم فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبون من أبوالها وألبانها؟ فقالوا: بلى، فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها فصحّوا، فقتلوا الراعي وطردوا الإبل، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث في آثارهم فأدرِكوا فجيء بهم، فأمر فقطِعت أيديهم وأرجلُهم وسمل أعينَهم، ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا)
وفي رواية عن أنس (أن ناسا من عرينة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فاجتووها فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة فتشربوا من ألبانها وأبوالها، ففعلوا فصحّوا، ثم مالوا على الرعاة فقتلوهم وارتدوا عن الإسلام وساقوا ذود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فبعث في إثرهم فأتِي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا) (رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وأحمد وابن ماجة)
ومع ذلك يمكن أن نسلّم بأن حديث الأعرابي غير صريح الدلالة وبوجود الإحتمال، كما أنه من الممكن أن نسأل من جهة أخرى: إن كان الأعرابي طلب الإذن في الخروج من المدينة فقط فلماذا لم يأذن له النبي عليه الصلاة والسلام في الخروج إلى الضواحي إلى أن يشفى كما فعل مع بني عرينة، وكما أذن لسلمة بن الأكوع في البدو ولأبي ذر؟ كل ذلك يطرح علامات استفهام حول حيثيات الحادثة.
ومن جهة أخرى لا يصح القول أنه لو طلب الردة لأنزل الله فيه قرآنا، فليس كل المرتدين نزل فيهم القرآن، وقد نزل قرآن في تارك الهجرة والجهاد، والأعرابي صرح بمراده للنبي صلى الله عليه وسلم، وليس كالمنافقين الذين نزل فيهم قرآن وقد تركوا دار الهجرة غير مصرحين بالردة وهم مرتدون.
أما حديث اليهودي الذي طلب الإقالة من الدين محتجا بأنه لم يجد خيرا في هذا الدين، عن أبي سعيد الخدري قال: أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله وولده وتشاءم بالإسلام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقلني، فقال: إن الإسلام لا يقال، فقال: إني لم أصب في ديني هذا خيرا، أذهب بصري ومالي وولدي، فقال: يا يهودي، إن الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبَث الحديد والفضة والذهب، قال: ونزلت: (ومن الناسِ مَن يعبدُ اللهَ على حَرفٍ فإن أصابه خيرٌ اطمأنّ به وإن أصابته فتنةٌ انقلبَ على وجههِ خسِر الدنيا والآخرة ذلك هو الخُسران المبين) [الحج: 11] (رواه الواحدي)
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان ناس من الأعراب يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيُسلمون، فإذا رجعوا إلى بلادهم، فإن وجدوا عام غَيث وعام خصب وعام ولاد حسن، قالوا: إن ديننا هذا لصالح، فتمَسَّكُوا به، وإن وجدوا عام جُدوبة وعام ولاد سَوء وعام قحط، قالوا: ما في ديننا هذا خير، فأنزل الله على نبيه: (وَمِنَ النَّاسِ...)
فهذا قد ارتد بنفيه حصول الخير المطلق بالإسلام لا بطلب الإذن في الردة، فكفره قد حصل بذات القول، لكون هذا القول كفرا بذاته، ولو استأذن في الردة ثم تراجع عندما أبى عليه لم يكفر، كما حدث لبني إسرائيل.
وقد ذكرت حديث اليهودي تشبيها لقوله بقول الأعرابي على أنه طلب الكفر (أقلني بيعتي) لأبين أنها بيعة الإسلام، وأن كلاهما طلب الكفر.
إن النية والهم وحديث النفس والإرادة والعزم لا يتحقق بها الحكم، فمن نوى الدخول في الإسلام أو أراده أو همّ بذلك، وانتهى الأمر عند هذا الحد، سواء تراجع أو مات لتوّه قبل أن يعلن إسلامه لا نحسبه مسلما، ومن نوى الصلاة أو همّ بها لا نقول: فلان صلى، والجزاء عند الله، وكذلك المعصية إن نواها أو أرادها أو همّ بها لا يحكم عليه بالعصيان حتى يفعل، والفعل هو عمل الجوارح أو اللسان، وعلى هذا تقام الحدود وتقع الأحكام، ولم نؤمر باستفساره: إلى أي حد وصل به الهم، ولا شأن لنا بباطن الإنسان، إن كان سليما أو فاسدا، كما هو معلوم.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به) (رواه البخاري ومسلم)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل قال: (إِن اللهَ كَتب الحسنات والسيئَات ثم بيّن ذلك، فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنةً كاملة، فإن هو همّ بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همّ بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة) (رواه البخاري)
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: إذا همّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا همّ بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشرا) (رواه مسلم)
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل، فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها، وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها) (رواه مسلم)
فمن همّ بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، والتحدث بفعل الخير ليس له حكم فاعله وإنما تفضل الله عليه بحسنة، ومن همّ بالدخول في الإسلام ولم يفعل لم يؤجر على همّه، لأن الأمر متعلق بالمسلمين أصلا فضلا من الله عليهم، والمسلم إن همّ بالكفر ولم يعمله لم يكن كافرا، فإن تركه من خشية الله كتبت له حسنة بتركه.
وقال الله تعالى: (وراودته التي هو في بيتها عن نفسِه وغَلّقتِ الأبوابَ وقالت هَيْتَ لك قال مَعاذَ اللهِ إنه ربي أحسنَ مَثوايَ إنه لا يُفلح الظالمون ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهانَ ربِّه كذلك لنصرفَ عنه السوءَ والفحشاءَ إنه من عبادنا المخلَصين واستبَقا البابَ وقَدّت قميصَه من دُبُر) (يوسف: 23/25 )
فهمّها كان بالشروع في اتخاذ الأسباب وتهيئة الوسائل بالفعل والقول إلى أن عجزت عنه، وهمّه ربما كان خطرات نفس وتراجع بلا مانع غير خوف الله، وكلاهما لا يثبت وقوع الفعل المقصود ولا إثمه، ومن تركه خوفا من الله قبل وقوعه كانت له حسنة، لقول الله تعالى: (وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جرّائي) (رواه مسلم)
قال الله تعالى: (ولا تقرَبوا الزنا) ( الإسراء:32)، أي اجتناب طرقه وكل ما يؤدي إليه من قريب أو بعيد، لكن لا يُعَد فاعلا إن اقترب سواء كان الإقتراب باطنيا أو عملا ظاهريا.
عن أبي أمامة قال: إن فتى شابًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مَهْ مَهْ، فقال: (ادنه)، فدنا منه قريبًا، فقال: (اجلس)، فجلس، قال: (أتحبه لأمك؟) قال: لا والله، جعلني الله فداك، قال: (ولا الناس يحبونه لأمهاتهم) ، قال: (أفتحبه لابنتك؟) قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك، قال: (ولا الناس يحبونه لبناتهم)، قال: (أتحبه لأختك؟) قال: لا والله، جعلني الله فداك، قال: (ولا الناس يحبونه لأخواتهم)، قال: (أفتحبه لعمتك؟) قال: لا والله، جعلني الله فداك، قال: (ولا الناس يحبونه لعماتهم)، قال: (أفتحبه لخالتك؟) قال: لا والله، جعلني الله فداك، قال: (ولا الناس يحبونه لخالاتهم)، قال: فوضع يده عليه وقال: (اللهم اغفر ذنبه وطهّر قلبه وحصّن فرجه)، قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء.(رواه أحمد بإسناد صحيح)
فهذا طلب من النبي صلى الله عليه وسلم المعصية كما طلب بنو إسرائيل من نبيهم الكفر، وكلاهما نُهي فانتهى، وليسا كالفاعل، ومن فرّق بين طلب المعصية وطلب الكفر هنا يلزمه الدليل على ذلك.
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطر فأووا إلى غار فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض: إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق، فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه... فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم من أحب الناس إليّ، وأني راودتها عن نفسها فأبت إلا أن آتيها بمائة دينار، فطلبتها حتى قدرت فأتيتها بها فدفعتها إليها، فأمكنتني من نفسها فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركت المائة دينار، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرّج عنا، ففرج الله عنهم فخرجوا). (رواه البخاري)
ولو فعل بها لما كان له أن يذكر ذلك في دعائه، فاتباعه خطوات الشيطان ثم تغلبه على وساوسه من خشية الله ولو في آخر لحظة بعد سعيه إلى المعصية يدخل ضمن قول الله تعالى: (إنما تركها من جرائي)، وكذلك لو سعى إلى الكفر واتخذ أسبابه وتركه قبل الفعل والإعتقاد لما كان مرتدا.
ولا يُستدل هنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه) (رواه البخاري)
فهذا ليس همّا أو إرادة أو عزما فقط، وإنما هو فعل لوقوع القتال، لكن قدوم الزبير بن العوام في موقعة الجمل لقتال علي بن أبي طالب ورجوعه من ساحة المعركة لا يعتبر قتالا للمسلم، ورجوع المنافقين في غزوة أحد لا يعتبر قتالا، وإن وقع حمل السلاح والمشي للقتال، ومن غير المعقول القول بأن من تحدث بأنه سيسرق لا نقطع يده، أما إن تحدث بأنه سيفعل كفرا نقتله.
وفي سبب نزول قول الله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) (آل عمران:103) ذكر محمد بن إسحاق بن يَسار وغيره: أن هذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج، وذلك أن رجلا من اليهود مَرَّ بملأ من الأوس والخزرج، فساءه ما هُمْ عليه من الاتفاق والألْفَة، فبعث رجلا معه وأمره أن يجلس بينهم ويذكرهم ما كان من حروبهم يوم بُعَاث وتلك الحروب، ففعل، فلم يزل ذلك دأبُه حتى حميت نفوس القوم وغضب بعضهم على بعض، وتثاوروا، ونادوا بشعارهم وطلبوا أسلحتهم، وتواعدوا إلى الحرة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم فجعل يُسكِّنهم ويقول: (أبِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ وأَنَا بَيْنَ أظْهُرِكُمْ؟) وتلا عليهم هذه الآية، فندموا على ما كان منهم، واصطلحوا وتعانقوا، وألقوا السلاح، رضي الله عنهم.
فرغم ثورتهم إلى السلاح وتواعدهم وحرصهم لم يفعلوا، وليس حكمهم حكم الفاعل.
وعن علي بن أبي طالب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما هممت بقبيح مما كان أهل الجاهلية يهمون به إلا مرتين من الدهر كلتيهما يعصمني الله منهما: قلت ليلة لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في أغنام لأهله يرعاها: أبصر إلي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان، قال: نعم، فخرجت فجئت أدنى دار من دور مكة سمعت غناء وضرب دفوف ومزامير فقلت: ما هذا؟ فقالوا: فلان تزوج فلانة، لرجل من قريش تزوج امرأة من قريش، فلهوت بذلك الغناء وبذلك الصوت حتى غلبتني عيني، فما أيقضني إلا حر الشمس، فرجعت فقال: ما فعلت؟ فأخبرته، ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك، ففعل فخرجت فسمعت مثل ذلك، فقيل لي مثل ما قيل لي، فلهوت بما سمعت حتى غلبتني عيني، فما أيقضني إلا مس الشمس، ثم رجعت إلى صاحبي، فقال: فما فعلت؟ قلت: ما فعلت شيئا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فوالله ما هممت بعدها بسوء مما يعمل أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بنبوته)
(أخرجه أبو نعيم والبيهقي والبزار وابن حبان، قال البوصيري: رواه إسحاق بن راهويه بإسناد حسن وابن حبان في صحيحه، قال ابن حجر: هذه الطريق حسنة جليلة، وهو حديث حسن متصل ورجاله ثقاة وأخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي)
فقد عصمه الله من المعصية ذاتها مع حصول السعي إليها، ولو كان حديثه لغيره بأنه سيفعل الذنب وسعيه إليه ذنبا بذاته لما كان هناك معنى للعصمة، وللزم القول أنه عصى، لكنه سمى كل ذلك همّا، وهو أعلى درجات الهمّ، ولم يكن بينه وبين فعله إلا عنصر خارج عن إرادته وهو عصمة الله له.
وعن أبي سعيد الخدري قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث علقمة بن مجزز على بعث وأنا فيه، فلما انتهى إلى رأس غزاته أو كان ببعض الطريق استأذن منه طائفة من الجيش فأذن لهم وأمّر عليهم عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي، فكنت فيمن غزا معه فلما كان بعض الطريق أوقد نارا ليصطلوا أو ليصنعوا عليها صنيعا، فقال عبد الله -وكانت فيه دعابة-: أليس لي عليكم السمع والطاعة؟ قالوا: بلى، قال: فما أنا بآمركم بشيء إلا صنعتموه، قالوا: نعم، قال: فإني أعزم عليكم إلا تواثبتم في هذه النار، فقام ناس فتحجزوا، فلما ظن أنهم واثبون قال: أمسكوا على أنفسكم فإنما كنت أمزح معكم، فلما قدمنا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أمركم منهم بمعصية الله فلا تطيعوه) (أخرجه ابن ماجة وابن حبان وأحمد والحاكم وأبو يعلى، وقال البوصيري: إسناده صحيح، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي)
وعن علي بن أبي طالب قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار، فلما خرجوا وجد عليهم في شيء، قال: فقال لهم: أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: فاجمعوا لي حطبا، ثم دعا بنار فأضرمها فيه، ثم قال: عزمت عليكم لتدخلنها، قال: فهمّ القوم أن يدخلوها، قال: فقال لهم شاب منهم: إنما فررتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار، فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها، قال: فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال لهم: (لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا، إنما الطاعة في المعروف) (رواه البخاري ومسلم وأحمد)
وعن سعيد بن جبير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر فقالوا: لا ندعك تستلم حتى تلم بآلهتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما عليّ لو فعلت والله يعلم مني خلافه، فنزلت: (وإن كادوا لَيَفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتريَ علينا غيرَه وإذاً لاتّخذوك خليلا ولولا أن ثبّتناك لقد كدت تركَنُ إليهم شيئا قليلا إذاً لأذقناك ضِعفَ الحياةِ وضِعفَ المَماتِ ثم لا تجدُ لك علينا نصيرا) (الإسراء: 73-75) ( أخرجه أبو الشيخ)
وعن جبير بن نفير (أن قريشا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن كنت أرسِلت إلينا فاطرد الذين اتبعوك من سقاط الناس ومواليهم فنكون نحن أصحابك، فركن إليهم فنزلت) ( أخرجه أبو الشيخ)
وقال ابن كثير في (السيرة النبوية) (4/554): (قال ابن هشام: وحدثني أبو عبيدة وغيره من أهل العلم أن أكثر أهل مكة لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم هموا بالرجوع عن الاسلام وأرادوا ذلك، حتى خافهم عتاب بن أسيد رضى الله عنه فتوارى، فقام سهيل بن عمرو رضى الله عنه، فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إن ذلك لم يزد الاسلام إلا قوة، فمن رابنا ضربنا عنقه. فتراجع الناس وكفوا عما هموا به، فظهر عتاب بن أسيد.
فهذا المقام الذى أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله لعمر بن الخطاب – يعنى حين أشار بقلع ثنيته حين وقع في الاسارى يوم بدر -: إنه عسى أن يقوم مقاما لا تذمنه!).
وقال ابن الأثير في (الكامل في التاريخ) في ذكر أحداث سنة إحدى عشرة: (ولما توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ووصل خبره إلى مكة وعامله عليها عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية استخفى عتاب وارتجت مكة وكاد أهلها يرتدون، فقام سهيل بن عمرو على باب الكعبة وصاح بهم، فاجتمعوا إليه، فقال: يا أهل مكة لا تكونوا آخر من أسلم وأول من ارتد، والله ليتمن الله هذا الأمر كما ذكر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلقد رأيته قائماً مقامي هذا وحده وهو يقول: قولوا معي لا إله إلا الله تدن لكم العرب وتؤد إليكم العجم الجزية، والله لتنفقن كنوز كسرى وقيصر في سبيل الله، فمن بين مستهزىء ومصدق فكان ما رأيتم، والله ليكونن الباقي. فامتنع الناس من الردة).
فإرادة الردة كانت معلنة علم بها الناس من بعضهم البعض، لكن لم تضرب عنق أحد منهم، ولم يُطلب منهم الدخول في الإسلام كما طُلب من المرتدين حقا يومها، ولم تظهر هذه المشكلة مطلقا.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: لما كانت وقعة أُحد اشتد على طائفة من الناس وتخوَّفوا أن يدال عليهم الكفار، فقال رجل لصاحبه: أما أنا فألحق بفلان اليهودي، فآخذ منه أماناً وأتهوّد معه فإني أخاف أن يدال علينا اليهود. وقال الآخر: أما أنا فألحق بفلان النصراني ببعض أرض الشام، فآخذ منه أماناً وأتنصر معه. فأنزل الله تعالى فيهما ينهاهما: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض) (المائدة:51)
وقد نفى الله تعالى الإيمان عمن تولاّهم حقا فقال: (ولو كانوا يؤمنونَ بالله والنبيّ وما أُنزلَ إليه ما اتّخذوهم أولياءَ ولكنّ كثيرًا منهم فاسقون)(المائدة:8 1)، ولم ينف الإيمان عمن قال أنه سيتولاهم قبل أن يفعل.
ففي النصوص السابقة لمن تأمّلها يظهر الهمّ كخطرات نفس، أو تصريحا باللسان، أو سعيا وحركة إلى الفعل، وكل ذلك يبطل قول من قال أن طلب الكفر أو التردد فيه أو العزم عليه أو التحدث بالفعل في المستقبل كلها كفر في الحال وإن لم يفعله.
فلا دليل على تفصيلاتهم لمدى الهم والعزم وتحديدهم رحمة الله التي أطلقها إلا بما حدده هو سبحانه وتعالى وهو (ما لم يتكلموا أو يعملوا به)، فقد تحدثوا عن الهم من حيث الكم والكيف ومن حيث المدة وفرقوا بينها بلا دليل بل بما يخالف الدليل.
وبعيدا عن هؤلاء الذين راحوا يفصّلون ضوابط وقوع الجزاء عند الله تعالى نقول: نحكم على ما ظهر ووقع، ولا داعي للكلام عن الثواب والعقاب، لأن الله يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، بعدله وبفضله وإحسانه، والفضل والإحسان زيادة على العدل.
وقول بعضهم: إن تركه لعائق كتبت له سيئة، فإن فعله يصير سيئتين، قول ظاهر البطلان لمخالفته الصريحة للنصوص المذكورة، فالسيئة تكتب سيئة واحدة بعد الفعل، ومعلوم أن كل فعل تسبقه ولا بد إرادة جازمة، فلا تكتب سيئة على الإرادة وأخرى على الفعل، وإلا للزم القول أن كل معصية تكتب فيها سيئتين لأن فيها إرادة وفعلا.
عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عجب ربنا من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل) (رواه البخاري وأبو داود)، فمن منعه عائق عن المعصية لعل الله أراد به خيرا فعصمه منها كما عصم النبي صلى الله عليه وسلم، ويزيد الله حسنة من امتنع عن المعصية خوفا من الله، وردع الدولة الإسلامية الناس عن الكفر والعصيان، وكذلك من اتبع خطوات الشيطان في الحرام ومُنع كامرأة العزيز لا يستوجب إقامة الحد عليه.
ومن الخطأ الظاهر المساواة بين من تحدث أنه سيفعل الكفر ومن فعله، ثم التفريق بين من قتل ومن قال: سأقتل، مع العلم أن حديث (ما حدثت به أنفسها) يعم كل ما حدثنا به أنفسنا، ولا دليل على تخصيص المعصية التي دون الكفر.
إن قيل أن (ما لم يتكلموا) فهو قد تكلم بأنه سيفعل وخرج عن الهم، نقول أن (ما لم يتكلموا) تعني الكلام الذي هو كفر بذاته، ولذلك قرنه بالعمل الذي هو كفر بذاته، وإلا للزم القول: ما لم يتكلموا بأنهم سيعملون، وهو مخالف للنصوص التي سبق ذكرها عمن تكلم بأنه سيفعل ولم يحكم عليه بحكم الفاعل، فقولهم أن من طلب قد تكلم ولا بد أن يأثم، يعني أن من طلب المعصية كتبت له سيئة ثم إن فعلها كتبت سيئة أخرى.