المبحث الثاني
متاهة القراءة العلمانية " مراجعة نقدية "
تمهيد :
لقد كان فوكو ([129]) صادقاً بالفعل حين قال : "" لنترك جانباً المجادلات التي أثيرت حول البنيوية فهي لا زالت وبعد لأيٍ تعيش على أمجادها في مواطن يهجرها حالياً أولئك الذين يبذلون جهداً حقيقياً. إن ذلك الصراع الذي كان خصباً لن يخوضه اليوم سوى الممثلون الهزليون، والمتجولون " كذا " "" ([130]) . وأضيف : والمتسوِّلون .
إنها كلمة تعبر عن الواقع الحقيقي للعلمانيين العرب الذين يعيشون متجولين متسولين على موائد هجرها أهلها وتبين لهم عفنها وفسادها، ولا يزال مفكرونا هؤلاء يجترون مقولات دي سوسير ([131])، ودريدا ([132]) ، ورولان بارت ([133]) وسنبين ذلك من خلال النقاط التالية .
المطلب الأول – أزمة المصطلح العلماني :
إن المصطلح النقدي الحداثي في الغرب يستمد القدر الأعظم من دلالته من الخلفية الفلسفية الفكرية الغربية التي استمرت عدة قرون منذ ديكارت ([134]) وسبينوزا ([135])إلى هوسرل ([136]) وهايدغر([137]) مروراً بـ هيوم ([138]) وكانط([139]) وهيجل ([140]) ونيتشه، ولذلك فاستعارة المنظومة الحداثية الغربية بمصطلحاتها ودلالاتها المشحونة بتاريخها الفلسفي، وبتكوينها الاجتماعي والثقافي وإخراجها من دائرتها الدلالية وإسقاطها في بيئتنا العربية وعلى تراثنا الإسلامي، وعلى ثقافتنا المغايرة، يسبب كثيراً من اللبس والاضطراب والفوضى والعشوائية ([141]) .
وهذا ما نعيشه اليوم بالفعل حيث ذهب كل باحث يترجم ويستورد ويصطلح لنفسه حتى أصبحت أزمة الفكر اليوم أزمة مصطلحات، والحوار لم يعد مجدياً لأن كل المفكرين يتحدثون بلغات مختلفة، وبمصطلحات متباينة، فلم يعد بإمكان الباحث أن يتواصل مع غيره بالطريقة المجدية، لأن المصطلحات غير مضبوطة المعاني، وتحتمل المعنى ونقيضه، فليس بإمكان أحد أن يُـلزم أحداً شيئاً لأنه سيقول مباشرة : أنا لا أقصد هذا المعنى !! ويصح بذلك ما قاله ديكارت : "" .. يسمح لهم غموض المبادئ التي يستخدمونها بالحديث عن كل شيء بجرأة نادرة كما لو كانوا على علم تام بها، فإذا بهم يدافعون عن كل ما يقولونه بصددها ضد أمهر أعدائهم وأدقهم، دون أن يجد المرء وسيلة إلى إقناعهم "" ([142]) .
إن هذه صورة حقيقية لواقع العلمانيين العرب فتجدهم في مؤتمراتهم وندواتهم يتحدثون عن كل شيء، وتجد الواحد منهم وكأنه متخصص في كل شيء، فهو يجب أن يعقب على كل شيء، وليس من المهم أن يقول شيئاً، إنما المهم أن يقف ويتكلم ويلفت الأنظار إلى نفسه، أما ما يقوله فليس من الضروري أن يكون له معنى يلتزم به، فالمعنى مُرجَأ يتحدد بحسب ردود الفعل ، واللغة لا تعني شيئاً محدداً .
إن الغموض العلماني يتيح لهم قدراً كبيراً من المناورة والمراوغة، ولذلك كان الاستنجاد بالمنهج الغنوصي الرمزي لأنه يساعدهم على تشتيت الفكر، وخلط الحقائق . لقد عانى ديكارت كما يبدو من معاصريه كما نعاني اليوم من هؤلاء العبثيين الفوضويين الذين يقولون كل شيء، ولا يقولون شيئاً، وهو-كما يبدو– المأزق الذي يشير إليه برينتون عندما يتحدث عن المكابدة التي يعاني منها ممثلو عصر النهضة في ابتغاء كل ما هو فريد وعظيم ومتطرف، حتى برزت نزعة تسمى نزعة التأنق البلاغية المعروفة باسم euphnuism ونزعة الجونجورية - الأسلوب المتكلَّف ذو اللغة المعقدة والفكرة الغامضة - في مجال الأدب، فنتج عن ذلك أكداس من الحذلقة الثقافية والمعرفة الشاذة التي لا تدل على شيء ([143]).
وهو ما يعبر عنه فلوبير في خطاب أرسله إلى صديقه "لوي كوليه "عام 1852م "" إن ما يبدو جميلاً بالنسبة لي، ما أريد كتابته هو كتاب عن لا شيء، كتاب لا يعتمد على شيء، تتماسك أجزاؤه بقوة أسلوبه ... إن أفضل الأعمال هي التي تحتوي على أقل الموضوعات ""( [144]).
المطلب الثاني – المتاهة الغنوصية/ العلمانية اللانهائية :
إن التفكيكية التي ينطلق منها الخطاب الغربي ترفض الاعتراف بأي حقيقة للكون "" فكل حقيقة حاضرة "" ([145])، وتكرس مبدأ النسبية المطلقة في الفكر أولاً، معتمدة في ذلك على التلاعبات البلاغية النيتشوية بالألفاظ ( [146]). وهي في نزولها إلى اللغة تُنزِلُ معها نسبيتها وشكَّها الفلسفي، ولذلك كانت غاية دريدا تأسيس ممارسة فلسفية أكثر منها نقدية، يريد لفلسفته أن تتحدى أي ارتباط بمدلول نهائي وصريح، إنها لا تريد تحدي معنى النص فحسب، بل تطمح إلى تحدي ميتافيزيقا الحضور الوثيقة الصلة بمفهوم التأويل القائم على وجود مدلول نهائي .
والسبيل إلى ذلك هو فصل النص عن قصدية القائل لكي يكفَّ القراء عن التقيد بمقتضيات هذه القصدية الغائبة . والخلاصة أن اللغة تندرج عندئذ ضمن لعبة فلسفية متنوعة للدوال، فلا وجود لأي مدلول متعال، ولا ارتباط بين دال ومدلول، ولا يرتبط الدال بشكل مباشر بمدلول إلا ويعمل النص على تأجيله وإرجائه باستمرار، والانتقال إلى دال آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية بحيث لا يبقى إلا السلسلة الدالة المحكومة بمبدأ اللا متناهي . إنها "" المتـاهة اللا نهـائية الهرمسية "" ([147]) .
هـذه النسبية التي يحاول الخطاب العلماني دائماً أن يتذرع بضرورتها بسبب احتمالية اللغة، وبشريتها وتنوع المخاطبين، واختلاف عقولهم واتجاهاتهم وأفكارهم وميولهم، ليست في الحقيقة نابعة من اللغة، لأن اللغة في الغالب تحدد مرادها من خلال القرائن والسياق . إن النسبية المفروضة على اللغة هي نتاج لعصر الشك، ومجتمع الشك، إنه انفراط لعقد العالم فلسفياً قبل أن ينفرط لغوياً ([148]) . لقد نجحت التفكيكية في الهجوم والبعثرة والهدم نجاحاً ليس له نظير، ولكنها لم تقدم خياراً ذا قيمة ([149]) . وإذا كانت البنيوية فشلت في تحقيق المعنى، فإن التفكيكية نجحت في تحقيق اللامعنى ([150]) .
ولذلك كان جودسون مصيباً عندما قال معلقاً على مقال دريدا الذي اعتُبر بداية التفكيك "" إن بحث دريدا يُقنع القراء بأنهم لا يعرفون لغتهم، وأكثر من ذلك فكرهم، يجب أن تتم دراسة للغات النقد قبل أن يصبح لأي شيء نقوله حول الأدب معنى""( [151]) . ولكن جاك دريدا لا يبالي بذلك لأنه يعترف بأن التفكيك هو التخريب، ولكنه يعتبره تخريباً ضرورياً، لأنه ثورة على الفكر التقليدي ([152]) . ومن هنا لم يكن سورل مخطئاً حين قال عن دريدا بآ
أن "" لديه ميلاً مرضياً لقول أشياء خاطئة بشكل بديهي "" ([153]) .
والآن نحن كعرب ومسلمين لنا خصوصيتنا العقدية والثقافية، وأصالتنا الفكرية والحضارية فهل نحن مُلزمَون أو مضطرون إلى أن نتبنى لسانيات سوسير، أو بنيوية شتراوس أو تفكيكية دريدا ؟ لا يمكننا أن نقبل هذا التخريب الدريدي القائم على هدم المسلمات، والقفز فوق الثوابت، والانفلات من أي التزام، والتمرد على المحظورات ( [154]) .
وليس لنا أن نقبل الفوضى الدلالية القائمة على الرموز والعلامات، وفك الارتباط بين الكلام وقائله، من خلال التعويل على الرمز قبل الحقيقة، والباطن قبل الظاهر، وإن أمكن أن يُقبل هذا على مستوى الأدب والشعر والفن والإبداع، فإنه لن يُقبل باسم الفهم والتفسير والشرح، وإنما يمكن أن يُقبل على أنه إبداع متراكب وتجديد متراكم . ولكن أن يراد لهذه المناهج التخريبية - كما يعترف أهلها - أن تصبح قواعد لفهم أصولنا وقرآننا وتراثنا فإن هذا نوع من الخطل المعرفي الذي يجب علينا أن نترفع عنه .
إن الغاية من قراءتنا لكتاب الله عز وجل هي الفهم أولاً، والعمل ثانياً، والتعبد ثالثاً . أما في الأدب والفن فليس الفهم هو المهم، وإنما النقد والاكتشاف، أصبح المنهج والطريقة هما الغاية أما الفهم والتفسير بحد ذاته فليس مطلباً . إن الغاية هي إظهار القارئ لقدرته وبراعته في التعامل مع النص والعبث به ([155]) .
إن الواقع الثقافي العربي والإسلامي يرفض هذا الترف بل العبث الفكري، يرفض أن تنسحب مظلة الحداثة بمفاهيمها الغربية ومدارسها ومشاريعها وإفرازاتها النقدية على تفسير النصوص الدينية بالذات، لأن ذلك يعني في مفهوم البنيوية أو التفكيك القول باللانص، أو اللعب الحر للغة بمفهوم دريدا ([156]) .
المطلب الثالث – التناظر والعلامة والمواضعة الاجتماعية :
تستند العلمانية العربية في قراءتها للقرآن الكريم على أصلين هما : الغنوصية، والهرمينوطيقا ، وكلتاهما - كما رأينا - تقومان على العلامات والرموز، وتعتبران الرمز أو العلامة دلالة إيحائية يمكن أن تثير فيمن يتعامل معها علامات ودلالات أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية، وهي ما أسماها إمبرتو إيكو " المتاهة الهرمسية اللامتناهية " ([157]) .
ولكن العلامة تختلف في الفن عنها في الأعمال الأخرى، لأن العلامات في الفن يمكن أن لا تشير إلى شيءٍ محدد في الواقع بل تشير إلى مجموع الظروف التي يُراد التعبير عنها، فالذي يميز الفن عن اللافن هو نوعية المُشار إليه، فبينما تكون العلامات خارج الفن علامات عامة محددة بارتباطها بمُشار إليه بعينه، فإن العلامة في إطار الفن لا تخضع لمثل هذا التحديد، من هنا تأتي المرونة الدلالية في إطار الفن أو الشعر أو الأدب، وقابلية العلامة لأن تصلح للإشارة إلى أكثر من مشار إليه واحد ([158]) . معنى ذلك أن العمل الفني عمل مفتوح لا بد فيه من التأويل لأنه في أصله عمل يهدف إلى إثارة تأويل ([159]). أما النصوص الأخرى فليست دائماً كذلك، ولا يمكن اعتبارها دائماً مثيرة للتأويل، لأن للنص أبعاداً اجتماعية وثقافية ونفسية تحدد مراد النص، إن كتاباً مثل " كفاحي " لهتلر لا يمكن لأحد أن يُنكر أنه معاد للسامية، فهل يمكن للتفكيكية أن تثبت أن هتلر كان محباً للسامية ؟ ( [160]) .
وهذا ينفي المقولة التفكيكية والعلمانية القائلة بأن النصوص بُنى مأزقية غير قابلة للتصديق إطلاقاً، وينفي القول بأن اللغة نسبية بشكل مطلق، لأن تنوع النصوص وسياقاتها التاريخية والمعرفية ودلالاتها الحافّة وقرائنها المحدقة تجعل هذه المقولة خاطئة تماماً، فمن ذا الذي يمكنه القول إلا مكابراً إن القرآن الكريم يدعو إلى التثليث أو يعترف بالوثنية ؟! .
إن الاعتماد على قدرة العلامات والرموز على الإيحاء، والانتقال من حد إلى حد، وانتشار الإيحاءات بشكل توالدي أو سرطاني ([161]) لا يمكن أن يخضع لأية معايير تضبطه، وبالتالي فلا قيمة له، لأن ذلك خاص بكل شخص وما يكتنزه في ذاكرته أو خياله من مشابهات، وما يعقده في نفسه من تناظرات .
وعندما يُطلَق العنان لآليات التناظر فلا شيء يمكن أن يوقف هذه الآلية، فالصورة والمفهوم والحقيقة التي يتم الكشف عنها من خلال المماثلة تتحول هي الأخرى إلى علامة تحيل على تناظر جديد([162])، لأن أيَّ شيءٍ يمكن أن تكون له من زاوية ما علاقة تناظر أو تجاور أو مماثلة مع أي شيءٍ آخر ([163]) .
إن العلامة حتى يتم تمييزها كأي شيء يجب أن يكون لها شكل مميز ووظيفة مميزة تجعلها تختلف بشكل واضح عن العلامات الأخرى . فالقول بالعلامة الحرة التي تلعب إلى ما لا نهاية وبلا حدود ضد العلامات الأخرى يعني تخيُّل علامة ليس لها صفة محددة على الإطلاق، أي علامة ليس لها شكل أو وظيفة خاصة بها . إن هذا لا ينتج معنى أكثر ثراء كما يحلو للمدافعين عن هذا الموقف أن يعتقدوا، بل لا معنى على الإطلاق . إن علامة لا يمكن تحديدها بشيء معين لا تدل على شيء على الإطلاق . إن الغموض في العلامات يولِّد اختزالاً للمعنى وليس زيادته، والغموض الكامل واللاتحديد الكامل للتدليل هو النقطة التي نصل عندها إلى صفر الدلالة ([164]) .
وما يقوله دريدا من أن للعلامة الحق في أن تحدد قراءتها حتى ولو ضاعت اللحظة التي أنتجتها إلى الأبد، أو جَهلت ما يود كاتبها قوله ([165]) فهو كلام فارغ أقل من أن يُلتفتَ إليه، لأن المجموعة البشرية عندما تتفق على تأويل ما فإنها تنتج مدلولاً، إن لم يكن موضوعياً فهو مُفضَّل على أي تأويل آخر يفتقر إلى إجماع أو تواطؤ مجموعة بشرية ( [166]).
بعبارة أخرى : إن إجماع أهل الاختصاص والخبراء هو الذي يُثبِّت للكلمة و للعلامة معناها الحقيقي ويذود عنها المعاني الطفيلية، وكون الكلمة أو الرمز أو العلامة توحي بمعاني أخرى، أو تستدعي في ذهن قارئها أشياء أخرى لا يعني أنها تفقد دلالتها الحقيقية الأولى، فكون الأم تذكر بالابن أو العكس لا يعني أن الأم لا تعني الأم، إن ما تدل عليه كلمة الأم هو الأم وحدها، وكون الشيء بالشيء يُذكر لا يعني أنهما شيءٌ واحدٌ ([167]) .
إن الدلالة لابد أن تستند إلى صبغة مؤسسية اجتماعية، بمعنى أنها لا توجد إلا في مجتمع يستعملها . إن الاتفاق والتواطؤ الاجتماعي هو الذي يعطي الدلالات معانيها ([168])، ومن هنا "" فالمس بمقدسات اللسان عبر إعادة توزيع مقولاته النحوية، وتغيير قوانينه الدلالية يعني أيضاً المس بالمقدسات الاجتماعية والتاريخية "" ([169]) .
المطلب الرابع – التناظر والانتقال المزيف :
لقد أعدنا مراراً الحديث عن مفهوم العلامة والرمز والتناظر لأنه مدخل أساسي يعتمد عليه الخطاب العلماني في قراءة النصوص والتراثات البشرية عموماً، وهو الجسر الذي يتواصل من خلاله العلمانيون والغنوصيون وقد تجلى ذلك بشكل خاص في البحوث التأويلية والأسطورية التي اشتغل عليها الخطاب العلماني .
إن كل الأوهام والتهوسات التي تفوه بها القمني ([170]) والربيعو ([171]) وأركون وغيرهم من ربط بين الإسلام من جهة والأساطير والوثنيات القديمة من جهة ثانية قائم على هذه الآلية الهرمسية الغنوصية آلية التناظر المطلق والتماثل العبثي، فمثلاً إن إعادة هبل إلى بعل، ومكة إلى مقة، وإساف إلى يوسف، وقيس إلى أربكسد أو كاسي، والفلسطينيين إلى السلفات، والكروبيم إلى البراق ..الخ هو من هذا القبيل التناظري الهوسي الذي لا يستند إلا على إرادة التحريف وإرادة التقويل التي يتمتع بها الباحث ([172]) .
إن هذا التناظر الذي يتحدث عنه القمني وغيره من الأسطوريين يستند إلى مبدأ هرمسي يسميه إمبرتو إيكو "" مبدأ الانتقال المزيف "" ووفق هذا المبدأ فإن أي تشابه بين أي شيئين يمكن أن يتم الانتقال منه إلى علاقة أخرى، ومن ذلك أنه اكتُشف ذات يوم أن النبتة التي تحمل اسم السحلبية لها بصلتان كرويتان تشبهان الخصيتين، وانطلاقاً من هذه المماثلة الشكلية " المورفولوجية " تم الانتقال إلى المماثلة الوظيفية فأشاع الغنوصيون أن السحلبية لها مفعول سحري على الجهاز التناسلي .
إلا أن الأمر لم يكن كذلك فقد شرح بيكون هذا الأمر، فامتلاك السحلبية لبصلتين آتٍ من كون بصلة جديدة تنمو كل سنة بجانب البصلة الأولى، وبينما تكبر البصلة الأولى فإن البصلة الثانية تضمحل، وهكذا يمكن للبصلتين أن تكونا شبيهتان بالخصيتين، إلا أنه لا صلة لهما بالخصوبة الجنسية، وبما أن القرابة يجب أن تكون من طبيعة وظيفية وليست شكلية، فإن التناظر في هذه الحالة سيسقط من تلقاء نفسه، وهكذا فالعلاقة الشكلية لا يمكن أن تكون شاهداً على علاقة من نوع وظيفي ([173]) .
هذا الانتقال الغنوصي المزيَّف هو الذي يمارسه القمني وثلة الأسطوريين في كل دراساتهم، ومعلوم أنه لا يوجد شيئان إلا ويمكن أن يتشابها من زاوية من الزوايا إما من حيث السلوك أو من حيث الشكل، أو من حيث الزمن، أو السياق، أو الوظيفة، فالأساس في التناظر الغنوصي هو شكل القرابة وليس الدليل أو المقياس عليها، وإذا أُطلق العنان لآلية التناظر العبثي بهذا الشكل فلا شيء يمكن أن يوقفها، فالصور والمفاهيم والحقائق التي يتم الكشف عنها من خلال المماثلة تتحول هي الأخرى إلى علامات تحيل إلى تناظر جديد، وهكذا إلى ما لا نهاية . مرة أخرى إنها "" المتاهة الهرمسية "" ([174]) .
الخاتمة
في نهاية هذا البحث لعلنا نستطيع أن نؤكد على النتائج الآتية :
· إن نظام اللغة وبالتحديد التأويل هو المبدأ الأساسي الذي تلتقي فيه كلٌّ من الغنوصية والعلمانية، فالأصل في الكلام لديهم أنه رموز وإشارات وإيحاءات تخفي عكس ما تبديه، وتضمر خلاف ما تظهره . فكلتا الطائفتين تعوِّل على التأويل وتَعدُّه الأساس في فهم الكلام .
· وإذا كان الغنوصيون يفهمون النصوص دائماً على أساس أن لها ظاهراً وباطناً فكذلك العلمانيون، ولكن الاختلاف في المصطلحات فقط، فالظاهر عند الغنوصيين هو المعنى عند العلمانيين، أو الجسد، أو البنية أو الشكل، أو القالب حسبما يخطر في بال أحدهم أن يعبر، بينما الباطن عند أولئك يساوي المغزى عند هؤلاء أو الروح، أو المقصد، وفي كلا المنهجين يتم تجاوز سياق النص العام والخاص وسباقه وقرائنه ليصل القارئ إلى مراده من النص، وليس إلى مراد النص منه .
· وإذا كانت المقدمات متساوية فالنتائج كذلك في الغالب، وهو ما نلاحظه في مآل المنهج الغنوصي / العلماني حيث اتجه الفريقان إلى تأويل العقائد الإسلامية والمعجزات والغيبيات والقصص القرآني تأويلاً يلغي حقائقها، وأصبح القرآن الكريم مجموعة طلاسم وألغاز لا يفهمها إلا أهل الغنوص وأهل العلمنة .
· وبالتأكيد فإن هذا التماهي المنهجي التنظيري بين الفريقين والمؤيَّد بجسور عملية تطبيقية اتخذ بُعداً تحالفياً مدعوماً بأعماق شعورية تضامنية مناهضة لسلفية أو سنية أهل السنة والجماعة، هذه الفئة التي عُدَّت لدى الفريقين الغنوصي / العلماني فئة اتباعية سلطوية تكرس الجهل والتخلف والظلم والاستبداد، ولا بد من الخلاص منها – بنظرهم – عن طريق ثورة ثقافية تنويرية تتمثل بدين العقل .
· وقد اتخذت الرغبة الجامحة لدى الفريقين للتخلص من الفهم السلفي أو السني للقرآن الكريم مسلكاً واحداً هو التلفيق المنهجي، والتنميق الخطابي عبر التجوال المتواصل بين فلسفات وخطابات مختلفة شرقية وغربية وانتقاء ما يمكن إسقاطه على نصوص القرآن الكريم من مفاهيم إن لم تلغ المفاهيم السلفية المستقرة فإنها على الأقل سوف تشوش عليها .
وكانت من أبرز هذه المحاولات هي الطعن في مفهوم التخاطب، وتمييع وظيفة اللغة، ورفض فكرة الحقيقة والظاهر، والسعي المستمر إلى تشتيت المعنى إلى درجة تأصُّل اللامعنى، وتمزيق جسد النص إلى أشلاء متناثرة، وبعثرة المصطلحات، وخلط المفاهيم، حتى يصبح من الممكن استخدام أي شيء لأي شيء، وبهذا الشكل فإن حقيقة النص تضيع في وسط الركام، ومقاصده تندثر وراء الأشلاء، وتصبح كلمات النص ومفرداته أشبه بأحجار الشطرنج كلما كان اللاعب ماهراً كلما كان قادراً على تحقيق الفوز .
وهكذا فقد استند الفريقان في هذه اللعبة على قوانين غير ملائمة لبنية النص، ولا مراعية لوظيفته ومهمته، لأنها مستقاة من أصول مختلفة، والقرآن الكريم يلفظها كما يلفظ الجسدُ المعافى عبر مناعته الذاتية الجرثومةَ الغريبة إذا ما أرادت أن تتسلل إلى بنيته .
إنه لمن المؤلم جداً أن نلاحظ الإصرار لدى الحلف العلماني / الغنوصي على جرنا إلى متاهة مظلمة مجهولة باسم التنوير والتحرير في الوقت الذي نرى فيه أمامنا طريقاً مُعبَّداً مُنوَّراً يحتاج منا فقط أن نحثّ الخُطا فيه .
وأخيراً : لا بد أن ألفت النظر إلى أن هذه الدراسة هي دعوة لمتابعة البحث في هذه الزاوية فهناك أبعاد أعمق يمكن اكتشافها، وآفاق أوسع يمكن ارتيادها، وليس هذا المقال إلا نواة لاكتناه الحقل الرمزي والغموضي بشكل عام، والبحث عن الصلات المجدولة بين التيارات الرمزية المختلفة كالأفلوطينية والقبالة اليهودية وأوجه التأثير والتأثر بينها وبين الفكر الإسلامي من جهة وبينها وبين الخطاب العلماني من جهة أخرى .
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين