بسم الله الرحمن الرحيم ،
يقول ابن حجر العسقلاني - رحمه الله - في فتح الباري [6/522-523]:
فهذا الرجل شكّ في قدرة الله على بعثه .. ونوى بفعله أن يضلّ الله تعالى ، فلا يقدر أن يبعثه .قوله: (فوالله لئن قدر الله عليّ) ، في رواية الكشميهني : (لئن قدر عليّ ربي) . قال الخطابي : قد يستشكل هذا ، فيقال : كيف يغفر له وهو منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى ؟ والجواب أنه لم ينكر البعث ، وإنما جهل ، فظنّ أنه إذا فعل به ذلك لا يعاد فلا يعذب ، وقد ظهر إيمانه باعترافه بأنه إنما فعل ذلك من خشية الله . قال ابن قتيبة : قد يغلط في بعض الصفات قوم من المسلمين فلا يكفرون بذلك ؛ وردّه ابن الجوزي وقال : جحده صفة القدرة كفر اتفاقاً ، وإنما قيل إن معنى قوله : (لئن قدر الله عليّ) أي : ضيّق ، وهي قوله : { وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } أي : ضيّق ، وأما قوله : (لعلي أضلّ الله) فمعناه : لعلي أفوته ، يقال : ضلّ الشيء إذا فات وذهب ، وهو كقوله : { لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } ، ولعل هذا الرجل قال ذلك من شدة جزعه وخوفه ، كما غلط ذلك الآخر فقال : أنت عبدي وأنا ربك ، ويكون قوله : (لئن قدّر عليّ) بتشديد الدال أي : قدّر عليّ أن يعذبني ليعذبني ، أو على أنه كان مثبتاً للصانع ، وكان في زمن الفترة ، فلم تبلغه شرائط الإيمان ، وأظهر الأقوال أنه قال ذلك في حال دهشته وغلبة الخوف عليه ، حتى ذهب بعقله لما يقول ، ولم يقله قاصداً لحقيقة معناه ، بل في حالة كان فيها كالغافل والذاهل والناسي ، الذي لا يؤاخذ بما يصدر منه ، وأبعد الأقوال قول من قال إنه كان في شرعهم جواز المغفرة للكافر .
سؤالي هو : أيّ الأعذار أصحّ في هذا الرجل ؟؟
- فعذر ابن الجوزي له لا يستقيم ، وقد دحضه ابن تيمية - رحمه الله - .
- وعذر الخطابي لا يستقيم كذلك ، لأنّ الرجل أراد أن لا يقدر عليه الله .. وليس هو يظن أنه لو فعل ذلك فإن الله يتركه .. بل أراد أن يُعجز الله ، كما هو ظاهر في السياق .
- وعذر من قال إن الله في شريعتهم يغفر للكافر .. وهذا قول باطل معلوم البطلان .
- ويبقى عذران : عذر ابن حجر العسقلاني .. أنه قالها ذاهلاً داهشاً عمّا يقول من شدة خوفه وجزعه ، وعذر ابن قتيبة وابن تيمية أنه جهل صفة من صفات الله التي يعذر الله فيها بالجهل .
فعليه ، يكون السؤال هنا .. هل الاعتقاد أن الله على كل شيء قدير من أصل الدين ؟ .. بمعنى ، من يظنّ أن الله يقدر في أحوال دون حال .. وأنه يُعجزه بعض الشيء ، أو يُمكن أن يُضلّه الناس .. فهل هذا وحّد الله في صفة القدرة ؟
كحال رجل قال : الله خلق الناس أجمعين ولم يخلقني .. فهل هذا قد وحّد الله في صفة الخلق ؟
ومعلوم أن الصفات السبعة التي قررها الأشاعرة ، هي ما تترتب عليها استحقاق الله تعالى للألوهية .. كصفة الخلق والقدرة .. إلى آخره .
وقد رأيت من العلماء المتأخرين من رجّح قول ابن حجر العسقلاني ، ولكن هناك إشكال ..
لو كان قالها فرَقاّ وجزعاً كما يزعم ابن حجر ، فهذا يعلم من قرائن حاله .. فلا يمكن أن يستجيب له بنوه ..
وثانياً : لا يُمكن أن يسأله الله تعالى عن شيء لم يقصده ، وقاله وهو يهذي ، فإن الله - عز وجل - يقول : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }[الأحزاب : 5] .. وكان على الرجل أن يقول عندما سأله الله : لم أقصد الذي قلته .. عوضاً عن أن يقول : قلته مخافة منك .
ولكننا يمكن أن نقول : هو معذور بالجهل ، مع كونه لم يكن مسلماً .. وامتحنه الله - تعالى - يوم القيامة ، فغفر له ..
ولكن يعرض هنا إشكال ، وهو : أنه في مسند أحمد جاءت الرواية أن هذا الرجل لم يعمل خيراً قط سوى التوحيد .. فدلّ هذا على أنه موحد .
وإن فتحنا باب العذر بالجهل في جزئية من أصل الدين (وهنا هي في صفة القدرة) .. فسنفتح الباب أيضاً على العذر في جزئيات مسائل الألوهية ..
فمن يحلّ هذه الإشكالات ؟
وجزاكم الله خيراً