بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة على النبي محمد واله وصحبه لقد وُضِعت القواعد النحوية والآراء التفسيرية بتعسّفٍ يدعو إلى الاستغراب إن لم يكُ يدعو للاستهجان.. وسنقدّم في هذا الموضوع مناقشاتٍ لبعض من هذه الآراء المتعسّفة نبيّن فيها المدى الذي قطعه الاعتباط اللغوي في صرف العقول عن تفهّم كتاب الله بالشكل الصحيح عن طريق التشويش عليها بالطرائق اللغوية التي تسمح بتمرير هذه الآراء على أنّها مراد الله.
فهذا ابن خالويه يقول في كتاب (ليس في كلام العرب) ما نصّه: (وليس في كلام العرب (بعد) بمعنى (قبل) إلاَّ في قوله تعالى:
((وَلَقَد كَتَبْنَا فِي الزَبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِكرِ أنَّ الأرضَ يَرِثُهَا عِبَاديَ الصَالِحون )) الأنبياء 105) انتهى.
فقد ظنَّ أنَّ (الذكر) هو القرآن، وإذن فكيف يكون (الزبور) من بعد الذكر؟، فلا بدَّ أن يكون (من قبل) لأَنَّه قبل القرآن.
وعليه فإنّ (بعد) هي (بعد) عند جميع الأمم، وعند جميع العرب إلاَّ عند الوحي وفي موضعٍ واحدٍ منه هي بمعنى (قبل)! فهل سمعتم أيُّها الناس في تاريخ الخلق كلّهم شرحاً لمفردة لغوية بهذه الطريقة العجيبة؟
وإذا كان أحد قد توهّم أن (الذكر) هو (القرآن) أو كان هو قد (حرّف) الأمر عن قصدٍ، فقد جاء النحوي ليعطيه شهادةً على صحّة ما فعل بادّعائه أنَّ (قبلَ) هي (قبلُ) و(بعدَ) هي (بعدُ) في كلّ لغات الأمم إلاَّ في هذه الآية فإنَّ (بعدَ) هي (قبلُ)! وصارت هذه الشهادة قاعدةً يجري عليها التفسيرُ كلَّما مرَّ بالآية.
وكان الأجدر بالنحوي دون سواه أن يتوقّف هنا ويتأمّل.. فعسى أن يكون ما قاله الناس عن معنى (الذكر) شيئاً خاطئاً.
فإنَّ (الذكر) هذا اللفظ المعرّف بألّ التعريف ورد في القرآن أكثر من مرّةٍ بما يدلُّ دلالةً واضحةً على أنَّه شيءٌ هو غير (القرآن). لاحظ الآيتين التاليتين:
((ص والقُرآن ذِي الذِكر )) ص 1
((وَأَنزَلنَا إلَيكَ الذِكْرَ لِتبيِّنَ للنَاسِ مَا نُزِّلَ إليهِم وَلَعَلَّهُم يَتَفكّرون )) النحل 44
فهل يُعقل أن يكون (والقرآن ذي القرآن)؟ وهل يُعقل أنَّ القرآن أُنزِلَ إليه (صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم) ليُبيِّنَ للناسِ القرآن؟.. فهذه دلالةٌ من أوضح الدلالات هجَرَها النحويون والمفسِّرون سويةً. والذين وجدوا حرجاً في تحويل (بعد) إلى (قبل) لم يخرجوا قط ولا فكّروا أبداً في أن يخرجوا من المفهوم الخاطئ الذي يجعل (الذكر) و(القرآن) شيئاً واحداً، فخرجت تأويلاتهم بادرةً مثل برودة أعصابهم. حيث زعموا أن القرآن قبل الزبور في (اللوح المحفوظ)!!
فانظر أيَّ اطلاعٍ لديهم على الأسرار الإلهية وملفَّات الرسالات السماوية..!! ولا نعلم ما الذي أدراهم بتلك الأسرار، إذ كلّ ما نعلمه أن (الزبور) هو أيضاً من كلام الله:
((وَآتَينَا دَاودَ زَبُورا ))الإسراء 55
ولم يتوقّف الأمر عند أمثال ذلك من التعسّف النحوي والتفسيري، فكان القرآن هو مسرحَ مجادلاتهم النحوية وقواعدهم الإعرابية، يؤوّلون كيف شاءوا، ويحذفون كيف شاءوا، ويقدّرون الجملة كيف شاءوا، ويقدّمون ما تأخّر، ويؤخّرون ما تقدّم، ويجعلون الحقيقة كنايةً، والمثلَ استعارةً، والإبهام بلاغةً،..الخ. وكلُّ ذلك وغيرُهُ هو في الحقيقة (قواعدٌ نحويةٌ) وشروحٌ بلاغيةٌ.
أمَّا القرآن نفسه فليس فيه عندهم قواعدٌ خاصةٌ، وليس له نظامٌ يَحكُمُه، فهو بالنسبة لهم مفتوحٌ دوماً ليأخذ منه الجميع ما شاءوا سواءً كانوا من البصرة أم الكوفة أم الشام..!!
إنَّ الأمثلةَ التي ستأتيك في هذه السلسلة القادمة انشاء الله هي نماذجٌ قليلةٌ من ظلمات هذا البحر اللجي، عسى الله ان يوققنا واياكم لصيام هذا الشهر المبارك