سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله ومن والاه إلى يوم الدين، أما بعد؛
ما حكم الشرع في اختلاف الناس في رؤية الهلال وبخاصة في رمضان؟
وجدنا الفقهاء يستدلون بنصوص حديثية على ضرورة رؤية الهلال - بالعين المجردة - ويذودون عنها بما أوتوا من قوة جدل علمية، مستميتين، بأن لكل بلد رؤيته، ناسين أو متغافلين نصوصا قرآنية وحديثية تقر الأخذ بالحساب اليقيني.مما يذكي نار الخلاف بين المسلمين، فهل يرضى عنا الله ورسوله والحالة هذه ؟
وفي استماتتهم تشبث بقول بعض الصحب الكرام رضي الله عنهم، فضلا عن التابعين وتابعيهم بإحسان، وتلك أمة قد خلت واجتهدت لزمانها ومكانها والفتوى تتغير وفق تغير الزمان والمكان والأشخاص والنيات والأحوال.
فهل لنا أن نعض على فتواهم بالنواجذ وزماننا غير زمانهم ووسائلنا غير وسائلهم؟ وبخاصة قد أضحى السفر إلى القمر والأجواء الفضائية العليا من الرغبات الملحة لدى المترفين، وتبين حسابات ولادة الهلال عند الغربيين بأن هناك فرقا من دقيقة ودقيقتين على أبعد حد بينما تضحي ولادة الهلال عند المسلمين تمتد إلى ثلاثة أيام .
وبعيدا عن فقه تبعثرت فيه المواقف واختلفت، تعالوا بنا إلى فقه أفعال الله حيث لا خلاف ولا اختلاف وحيث العقيدة الحقيقية، والتي لا تلوي على الفلسفات، ولا تلتفت إلى علم الكلام، وإنما تحتكم إلى كلام الله حيث القول الفصل وليس بالهزل ، ولا سبيل فيه لحديث ضعيف، ولا لقول سخيف:
مع السنن الإلهية
وإذا ما سلطنا نور السنن الإلهية على الموضوع وجدنا الحق جل جلاله قد اعتمد الحساب في تكوين الكون لقوله سبحانه :
{فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (الأنعام:96)
{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (الرحمن:5)
وإذا اتضح الأمر في أفعاله جل جلاله فأية علاقة له بما نحن بصدد بيانه والله يبين:
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }(البقرة: من الآية185) وما جاءت السنة المطهرة إلا لبيان ما أجمل في القرآن؟
كان الشرع حكيما غاية الحكمة حينما جاء للناس برفع الحرج وأمر بالأخذ بالرؤية، لكن الفتوى، تتغير زمانا، ومكانا، وشخصا، ونية، وحالا، وحين تنبثق الجهود من زاوية : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق : 1] ينبغي أن نعيد النظر في دلالة الأمر وهل هو أصبح فعلا من الأمور الفرعية أم على العكس هو أمر لا ينفك عن كلمة التوحيد سواء في دلالتها و مغزاها ومعناها؟
وحينما نعتمد السنن الإلهية وهي تنظر من زاوية التوحيد الخالص لا غير من منظور {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ }[العلق : 1] يمكننا أن نقول وبصدق أن هذه الفتوى جاءت توقيعا عن الله متناغمة مع أفعاله وأقواله ومعلوم بأن عهوده لا راد لها، وسننه لا تبديل يعتريها ولا تحريف يشوبها فهي سارية (السنن) بأمره سبحانه:
ومن بحبوحة هذا اليقين المطلق الذي لا تلجلج فيه، ولا خلاف يشمله تعالوا بنا ننظر في مرآة شرعنا لنزداد ثباتا ويقينا على ما حبانا الله من كلام نير جاء فصلا للخطاب:
جاء أمر الله واضحا بينا لا لبس فيه يكتنفه، ولا غموض يلفه فقال عز من قائل :{ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }(البقرة: من الآية185)
فلفظة " شهد " تأتي بمعنى المشاهدة العينية وبمعنى الرؤية اليقينية بدليل قوله تعالى :
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران:18) فشهادة أهل العلم هناك تتجلى في علمهم اليقيني، إذ الرؤية البصرية ممنوعة قطعا بدليل قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه عنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما :
لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَمُوتَ ، وكما يوحي بذلك قول إخوة يوسف :{ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ}(يوسف : من الآية81)
وما ذهبنا إليه في تعريف لفظ " شهد " يشهد له تعريف الأصفهاني حيث يقول : " والشهادة: قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصيرة أو بصر."
أما الأحاديث النبوية أسوق منها : " عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ
وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَعَقَدَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي تَمَامَ ثَلَاثِينَ وحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَلَمْ يَذْكُرْ لِلشَّهْرِ الثَّانِي ثَلَاثِينَ
وتضفي هذه الأدلة دلالة إضافية على اعتماد الحساب اليقيني، ومعلوم أن الحساب اليوم بات مؤكدا ؛ إذ لا نجد فرقا بين حسابات لكل من بريطانيا وفرنسا وأمريكا إلا بدقيقة أو دقيقتين على - أبعد حد- في تحديد زمن ميلاد الهلال.
ولا حجة لمحتج بالرؤية البصرية المجردة ؛ إذ كان ذلك حلا وسطا وسبيلا عند تعذر معرفة الحساب، فضلا عن كون الأحاديث النبوية فيها دلالة وحث على اكتساب هذه العلوم بضوابطها حتى لا نبقى إلى الأبد أمة أمية لرفع فرض العين على الأمة.
وهكذا جاءت سنن الله لتؤكد بأن الحساب هو أصل، عليه مدار الشمس والقمر.فكيف بنا نعرض عن الأصل ونذهب للحلول الجزئية والتي جاءت لظروف تعذر معها معرفة الحساب.؟
ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ
{فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}(الأن عام:96) فتأكيده سبحانه وتعالى على جعل الشمس والقمر حسبانا بقوله جل جلاله : { ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}(الأن عام:96) فيه دلالة قطعية بأنه السبيل الوحيد لمن اصطفى القول الفصل الذي لا يوجد غيره ، لكون سبيل الحق واحد وسُبل الباطل تتعدد.
فهل نعرض عن الأصل لنتمسك بالحلول الظرفية لزمان صعب فيه معرفة حساب ولادة الهلال فكانت الرؤية وسيلة للتأكد ولإقامة الحجة على الناس ؟ وهل تأكد لدينا بأن لا شيء يخرج عن نطاق أفعال الله. ؟ وهل بان لنا مدلول قوله تعالى:.
{ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}(الأ نعام: من الآية38)
وبعد هذا التقرير الحاسم لسبيل تقدير العزيز العليم، نسأل أنفسنا فهل الزيغ والنكوص عن هذا الصراط السوي سير على درب التوحيد؟ أم هو نقض له ورفض لما سنه جل جلاله ليمضي الكون في انسجام بديع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؟
{فانظر إلى أثر رحمت الله}
فالسنن الإلهية تأمرننا بالنظر إلى الأشياء ليس تلك النظرة التي تراقب كيفية بناء هذا الكون وما هي مقاييسه، وما هي ضوابط أسبابه ومسبباته، (والتي اقتبسناها من باب التقليد للغربيين )، وإنما تدعونا إلى الاعتبار والاتعاظ والفهم عن الله في الكون والحياة ككل لنمتثل للقراءة باسم "ربنا الذي خلق" ولكي لا تنفصم الرؤية التوحيدية لله جل شأنه عند نطقنا بالشهادتين، عن الرؤية الاعتبارية في الكون والآفاق في كل مخلوقاته والتي تختصرها لنا الآية التالية { فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }[الروم : 50] فرحمة الله لا ترى، ولكن انظر إلى أثرها كيف كانت الأرض جدباء قاحلة فأنزل الله عليها الماء فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج؟
وهكذا ننتقل من نظرة سطحية للأشياء إلى النظر لاستكشاف ناموس الكون وقانونه, استجلاء لقدرة القادر وحكمة أحكم الحاكمين وهي الخاصية التي ينفصم عندها نظر الربانيين عن غيرهم، فبينما هم يزدادون علما وفهما يصُد المنقطعين عن الله ما كانوا يعبدون عن الغوص في الأسرار الربانية للأشياء: وهي نظرة تطلعك على صفات الجليل جل جلاله, فتراه في كل شيء وترهبه في كل شيء وتخشاه في كل شيء.
ويرى الربانيون أنه ينبغي للعبد إضافة إلى ذلك أن يعرف فرض وقته بعد مطالعة صفة من الصفات الله جل شأنه في كونه فإن تجلت صفة من صفات الكرم والنعم والجاه والرفعة ازداد العبد شكرا لرب عزيز وهاب، وإن تجلت صفة من صفات النقم والقهر وشدة البطش ازداد ذلة واستغفارا بين يدي عزيز ذي انتقام.
من نظرة في شيء يرتقي بها العبد إلى النظر في صفات الرب سبحانه, تراه في كل شيء فتدرك أسماءه وصفاته وتدرك واجبات وقتك نحوه, تذكره تعظيما وتسارع في تسابق الخيرات: هدف وجودك في هذه الدنيا, فتكون يقظا, مرهف الحس, مدركا لما خلقت من أجله, بهذا تدخل في كنف العبودية لله حيث لا ترى إلا ربا وفضلا :{ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ : 15]
وبهذا ينفصم الرباني عمن أغفل الله قلبه عن ذكره وكان أمره فرطا, من مجرد رؤية في شيء إلى رؤية لصفات وأسماء خالق الشيء: إنه حضور القلب مع الله في كل شيء, وخشيته في كل الأثناء...إلى مراعاة الواجب الآني، ثم إلى إرهاف حس حواس كل من السمع والبصر والفؤاد، لنستعد للجواب : { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }[الإسراء : 36]
إنها منّة من الله، والله عزيز حكيم, ينعم بها على من شاء من عباده. فهل يستفيق صدق الهمة (طلب وجه الله)؟ وصدق الذمة (عهد العبودية لله عند نطقنا بالتوحيد) وصدق الإقبال على الله لدى العبد؟
فحيهـلا إن كنت ذا همة فقد حدا بك حادي الشوق فاطو المراحلا (1)
إنها بعبارة واحدة مقام الإحسان, أن تعبد الله كأنك تراه:
من رؤية لشيء إلى رؤية الأسماء والصفات خالق الشيء ، إلى إرهاف الحس لمدارك المرء من سمع وبصر وفؤاد، إلى الاستعداد للقيام بمقتضى واجبات الوقت، هذا من جهة.
ومن جهة ثانية إدراك حكمة الحكيم في كل شيء وهو تكريم عظيم من ذي الجلال والإكرام {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ}[البقرة : 269].
فهل لاح الأمر واتضح عن أي توحيد نتكلم؟ هل فعلا بان البون شاسعا بين توحيد أهل الكلام والفلاسفة مع توحيد الربانيين؟ وهل هناك فرق بين توحيد الله باللسان قولا وتوحيده بالفعل عملا، فهل هذا تكامل أم تضاد؟ وهل ننظر إلى ما هنالك من توحيد على أنه أصل وفرع كما نظر السابقون، أم أن هنالك نظرة ربانية واحدة توحد الله في الفعل والقول؟
اللهم ألهمنا الصواب والرشاد، إنك على كل شيء قدير، والسلام عليكم