طرد كثير ممن لم يمعن النظر في دقيق العلم هذه القاعدة وظن أنها على إطلاقها فذهب يدفع بها كثيرا من أدلة العلماء ويستدرك عليهم وليس هذا من الحزم في العلم
ولا يخفى هنا كلام العلماء في تقرير صحة هذه القاعدة وأشهرها قول البخاري وشيخه الحميدي في قصة الصلاة في الكعبة وقصة الشاهدين وهو في مواضع من الصحيح.
والخلاف فيها معروف في كتب الأصول وغيرها:
قال الزركشي في البحر 4/466:
رابعها: أن يكون أحدهما مثبتا والآخر نافيا وهما شرعيان قال فالصحيح تقديم المثبت ونقله إمام الحرمين عن جمهور الفقهاء لأن معه زيادة علم ولهذا قدموا خبر بلال في صلاته عليه الصلاة والسلام داخل البيت على خبر أسامة أنه لم يصل وقيل بل يقدم النافي وقيل بل هما سواء لاحتمال وقوعها في الحالين واختاره في المستصفى بناء على أن الفعلين لا يتعارضان وهو قول القاضي عبد الجبار قال الباجي وإليه ذهب شيخه أبو جعفر وهو الصحيح وقيل إلا في الطلاق والعتاق وفصل إمام الحرمين فقال....الخ.
وقال الزيلعي في نصب الراية1/360:
مع أن المسألة مختلف فيها على ثلاثة أقوال: فالأكثرون على تقديم الإثبات، قالوا: لأن المثبت معه زيادة علم، وأيضا فالنفي يفيد التأكيد لدليل الأصل، والإثبات يفيد التأسيس، والتأسيس أولى، الثاني: أنهما سواء، قالوا: لأن النافي موافق للأصل، وأيضا فالظاهر تأخير النافي عن المثبت، إذ لو قدر مقدما عليه لكانت فائدته التأكيد، لدليل الأصل، وعلى تقدير تأخيره يكون تأسيسا، فالعمل به أولى، القول الثالث: أن النافي مقدم على المثبت، وإليه ذهب الآمدي وغيره .
وعليه فقول الحافظ في الفتح 5/251:
وأن المثبت مقدم على النافي وهو وفاق من أهل العلم إلا من شذ.ا.هـ
فيه نظر فالخلاف ليس بشاذ.
وينبغي قبل العمل بهذه القاعدة التأكد من صحة الإسناد إلى المثبت وهذا واضح
والتأكد من أن المَنفي هو نفس المُثبَت لا غيره أو أخص منه أو أعم منه، فكثيرا ما ينصب التعارض بينهما ويكون المنفي غير المثبت.
قال ابن فورك وإن كان النافي أخص من المثبت فالحكم للأخص. (البحر للزركشي4/467)
ورأيت بعض العلماء يجمعها مع قاعدة من حفظ حجة على من لم يحفظ أو يجعلها دليلا لها فيتبعها بها
ويظهر لي أن بينهما فرق أو خصوص وعموم من وجه
وعلى كل فإن قولهم من حفظ حجة على من لم يحفظ لا يصح في علم الرواية وقوانينها بل يصار في ذلك إلى القرائن كما بسطوا الكلام عليه في زيادة الثقة والشاذ والمنكر وتعارض الوصل والوقف
وهل يصح في باقي العلوم الظاهر نعم لكن هل يسلك فيها مسلك أهل الحديث في استعمال نفس القرائن التي ساروا عليها في الترجيح أم لكل علم قرائنه في الترجيح أم ثمت اشتراك بينهم في بعضها واختلاف في بعض آخر
أم يقال ما كان معتمدا على النقل حكم فيه بقرائن أهل الحديث وما كان معتمدا على العقل فلا
يحتاج إلى بحث وموضوع مستقل وقد تقدم طرف منه هنا:
أحكام العربية يقضى فيها على وفق ما ورد عن أهلها
والقاعدة التي نحن بصدد الكلام عليها:
إما أن يقال: تخضع للقرائن في جميع الأحوال أو مقيدة بقيود وبينهما فرق فالأول أوسع والثاني أضيق فقد يكون للقاعدة قيد أو قيدين وفي ما عدا ذلك يطرد فيها الحكم
وهذا الفرق يؤثر على استخدام القاعدة في البحث عن القرائن ابتداء قبل استعمالها.
****************************** **********
من القرائن أو القيود التي تمنع من العمل بها:
أن يصحب نفي النافي تفصيلا يكون دليلا على أن المثبت ليس معه زيادة علم أو أن النافي هو الذي معه زيادة علم:
قال ابن حجر في الفتح1/27:
ولا يخفى ما فيه فإن المثبت مقدم على النافي إلا أن صحب النافي دليل نفيه فيقدم والله أعلم.
وقال الزركشي في البحر 4/466:
وحكى ابن المنير عن إمام الحرمين أنه فصل بين إمكان الاطلاع على النفي يقينا بضبط المجلس وتحقق السكوت أو لا فإن اطلع على النفي يقينا وادعى سببا يوصل لليقين تعارضا ولا يرجح الإثبات والنفي
وقال إلكيا:إذا تعارض رواية النفي والإثبات وكانا جميعا شرعيين استفسر النافي فإن أخبر عن سبب علمه بالنفي صار هو والمثبت سواء ولهذا لم يرجح الشافعي رواية نفي الصلاة على شهداء أحد على رواية الإثبات لأن النفي اعتضد بمزيد ثقة وهو أن الراوي جابر وأنس والمقتول عم أحدهما ووالد الآخر ولا يخفى ذلك عليهما وإن قال النافي لم أعلم بما يزيله فعدم العلم لا يعارض الإثبات كرواية عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قبلها وهو صائم وأنكرته أم سلمة لأنها أخبرت عن علمها فلا يدفع حديث عائشة وكحديث الصلاة في الكعبة .
وحاصله إن كان النافي قد استند إلى العلم فهو مقدم على المثبت وفي كلام الشيخ عز الدين نحوه وهو حينئذ كالمثبت وهو نظير النفي المحصور وقد صرح أصحابنا بقبول الشهادة فيه وكذلك لو شهد اثنان بالقتل في وقت معين وآخران أنه لم يقتل في ذلك الوقت لأنه كان معنا ولم يغب عنا تعارضا وبحث فيه الرافعي ورده النووي وقال الصواب أن النفي إن كان محصورا يحصل العلم به قبلت الشهادة وما قاله النووي صحيح والنفي المحصور والإثبات سيان.
وقال العثيمين في الشرح الممتع في الكلام على الأحاديث النافية لرفع اليدين في تكبيرات السجود والمثبتة له:
وليس هذا من باب تعارض مثبت ومنفي؛ حتى نقول بالقاعدة المشهورة: إن المثبت مقدم على النافي؛ لأن النفي هنا في قوة الإثبات، فإنه رجل يحكي عن عمل واحد فصله، قال: هذا فيه كذا وأثبته، وهذا ليس فيه كذا ونفاه، وفرق بين النفي المطلق وبين النفي المقرون بالتفصيل، فإن النفي المقرون بالتفصيل دليل على أن صاحبه قد ضبط حتى وصل إلى هذه الحال، عرف ما ثبت فيه الرفع وما لم يثبت فيه الرفع.
أن يكون المنفي محصورا ويحيط به علم النافي:
تقدم في كلام الزركشي في البحر قريبا ومنه:
وقال (أي النووي): الصواب أن النفي إن كان محصورا يحصل العلم به قبلت الشهادة وما قاله النووي صحيح والنفي المحصور والإثبات سيان .
وقال ابن الملقن في البدر المنير2/248 في كلامه على نفي الصلاة على الشهيد:
فإن قيل : حديث جابر وأنس _السالفين_ في الاحتجاج بهما وقفة ؛ لأنها نفي ، وشهادة النفي مردودة مع ما عارضها من هذه الروايات التي فيها الإثبات ، فالجواب ما قاله أصحابنا : أن شهادة النفي إنما ترد إذا لم يحط بها علم الشاهد ولم تكن محصورة ، أما ما أحاط به علمه وكان محصورا فيقبل بالاتفاق ، وهذه قصة معروفة أحاط بها جابر وأنس علما ، وأما رواية الإثبات فضعيفة ، فوجودها كالعدم.
وقال البدر الزركشي في النكت 3/412:
الثاني ما تمسك به في الرد من التعارض قد يعارض بأن المثبت مقدم على النافي لكن لما كان النافي هنا نفى ما يتعلق به في أمر يقرب من المحصور بمقتضى الغالب اقتضى أن يرجح النافي وكذلك في الشهادة على الشهادة كالقاضي إذا شهد عليه الشهود بحكم فأنكر حكمه خلافا لمالك ومحمد بن الحسن وغيرهما في صورة القاضي وهو الأقرب لتعلق حق الغير لا سيما مع الانتشار وكثرة الأحكام.
إذا وقع النفي والإثبات في محل واحد وانحصرا في ذلك وقد يدخل في الأول:
قال ابن دقيق في الإحكام:ص 157
و لا يقال: إذا وقع التعارض فالذي أثبت التطويل في القيام لا يعارضه من نفاه فإن المثبت مقدم على النافي.
لأنا نقول الرواية الأخرى تقتضي بنصها عدم التطويل في القيام وخروج تلك الحالة - أعني حالة القيام والقعود - عن بقية حالات أركان الصلاة فيكون النفي والإثبات إذا انحصرا في محل واحد تعارضا إلا أن يقال باختلاف هذه الأحوال بالنسبة إلى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يبقى فيها انحصار في محل واحد بالنسبة إلى الصلاة .
وقال الزركشي وهو يلخص كلام العلماء السابق على مستثنيات القاعدة:
وتحصل أن المثبت يقدم إلا في صور أحدهما أن ينحصر النفي فيضاف الفعل إلى مجلس واحد لا تكرار فيه فحينئذ يتعارضان.
وقال الشنقيطي في المذكرة :
والظاهر أن المثبت والنافي إذا كانت رواية كل منهما في شيء معين في وقت معين واحد أنهما يتعارضان ، فلو قال أحدهما : دخلت الكعبة مع النبي صلى الله عليه وسلم في وقت كذا ولم أفارقه ولم يغب عن عيني حتى خرج منها ولم يصل فيها ، وقال الآخر رأيته في ذلك الوقت بعينه صلى فيها فانهما يتعارضان فيطلب الترجيح من جهة أخرى والله أعلم وهذا أصوب من قول من قدم المثبت مطلقا ومن قدم النافي مطلقا . ووجه تقديم رواية المثبت أن معه زيادة علم خفيت على صاحبه ، وقد عرفت أن ذلك لا يلزم في جميع الصور مما ذكرناه آنفا .
أن يكون النافي أعلم من المثبت
كأن يكون أعلم منه في المسألة المختلف فيها خاصة أو في الباب الذي تندرج تحته هذه المسألة أو في العلم الذي تنتمي له هذه المسألة
أو جلالة النافي
كما نبهوا عليه في قاعدة الجرح المفسر مقدم على التعديل المجمل
أمثلة ذلك أن ينفي البخاري سماع فلان من فلان ويثبته ابن حبان أو البيهقي أو ابن القطان مثلا
ففي الغالب يكون البخاري أعلم بالمسألة خاصة
وأعلم بهذا الباب وهو سماع الرواة من بعضهم بعضا فإنه اعتنى بهه غاية الاعتناء
وهو أجل في هذا العلم
لكن هذا الأخير وهو جلالة النافي ليس اعتماده بمطرد
ومنها أن يكون المثبت فقيه مثلا والنافي لغوي والمسألة تنتمي لعلم اللغة.
قال الزركشي وهو يلخص كلام العلماء على مستثنيات القاعدة:
أن يكون راوي النفي له عناية به فيقدم على الإثبات كما قدم حديث جابر في ترك الصلاة على قتلى أحد على حديث عقبة بن عامر أنه صلى عليهم لأن أباه كان من جملة القتلى وكما قدم حديثه في الإفراد على حديث أنس في القران لأنه صرف همته إلى صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم منذ خرج من المدينة إلى آخره.
أن يكون النفي في معنى الإثبات وقد يدخل في الأول والثاني:
فصّل إمام الحرمين في القاعدة فقال:
النافي إن نقل لفظا معناه النفي كما إذا نقل أنه لا يحل ونقل الآخر أنه يحل فهما سواء لأن كل واحد منهما مثبت وإن لم يكن كذلك بل أثبت أحدهما فعلا أو قولا ونفاه الآخر بقوله ولم يقله أو لم يفعله فالإثبات مقدم لأن الغفلة تتطرق إلى المصغي والمستمع وإن كان محدثا، والذهول عن بعض ما يجري أقرب من تخيل شيء لم يجر له ذكر. (البرهان 2/780، الزركشي في البحر 4/466، الإبهاج للسبكي وابنه 3/236)
إذا كان النافي نافيا لحد والمثبت موجبا له فيقدم النافي لأن نفيه شبهة تدرأ بها الحدود:
أنظر: المحصول 5/590، الإبهاج للسبكي وابنه 3/236، التقرير والتحبير 3/32.
ومثال ذلك: الأحاديث الواردة في أنه لا تقطع اليد فيما هو أقل من ربع دينار، والأدلة الدالة على القطع بمطلق السرقة، أو بما هو أقل من ربع دينار من البيضة ونحوها، فعلى قول الجمهور ترجح أدلة عدم القطع فيما هو أقل من ربع دينار
وفي باب التراجم والتاريخ قال الذهبي في السير 4/5:
وقد أنكر بعضهم ليلى والمجنون، وهذا دفع بالصدر، فما من لم يعلم حجة على من عنده علم، ولا المثبت كالنافي، لكن إذا كان المثبت لشئ شبه خرافة، والنافي ليس غرضه دفع الحق، فهنا النافي مقدم، وهنا تقع المكابرة وتسكب العبرة.