عواقب سكوت علماء الدين من الضلال في الدين

بقلم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي*

للقوة والسلطان أثر في الأبدان, وأثر في الأرواح؛ وأقوى الأثرين تأثيراً وأظهرهما وسما، وأبقاهما على المدى، ما كان في الأرواح؛ لأن التسلط على الأبدان يأتي من طريق الرهبة، والرهبة عارض سريع الزوال؛ أما التسلط على الأرواح فبابه الرغبة، والدافع إليه الاقتناع والاختيار.

ولعلماء الإسلام سلطان على الأرواح، مستمد من روحانية الدين الإسلامي وسهولة مدخله إلى النفوس: تخضع له العامة عن طواعية ورغبة، خضوعا فطرياًّ لا تكلف فيه، لشعورها بأنهم المرجع في بيان الدين، وبأنهم لسانه المعبر حقاًّ عن حقائقه، والمبين لشرائعه، وبأنهم حُراسه المؤتمنون على بقائه، وبأنهم الورثة الحقيقيون لمقام النبوة؛ وكان العلماء يجمعون بين وظيفة التبيين في التعبديات، وبين وظيفة التقنين في المعاملات؛ أما الخلفاء فلم تكن وظيفتهم ـ في الحقيقة ـ إلا التنفيذ لما يراه العلماء من مصلحة في المعاملات الفردية أو الاجتماعية.

كان هذا السلطان ظاهراً على أشده، متجلياً في سطوعه في صدرالإسلام يوم كان العلماء قوامين على الكتاب والسنة، جارين على صراطهما واقفين عند حدودهما، قائمين بفريضة الأمر بما عرفاه والنهي عما أنكراه، لا يهدون الأمة إلا بهديهما؛ فكان سلطانهم نافذاً حتى على الخلفاء، وألسنتهم مبسوطة بالنقد والتجريح لكل من زاغ عن صراط الدين كائناً من كان؛ وكان رأيهم هو المرجع في مصالح الدين والدنيا؛ لا جرم كان خلفاء الدنيا من معاوية وهلم جراً يعرفون لهم هذا السلطان الواسع، يتخذ منه الموفقون منهم عوناً على الخير والإصلاح فلا يقطعون دونهم رأيا ولا حكما؛ ولا يتبرم به المستبدون منهم، لأنهم يرون فيه سلطاناً على سلطانهم، فيأخذون في توهينه، تارة بالمصانعة المرائية والاستلاف المخادع، وتارة بالمنابذة المكشوفة والتجني المعاند.

بايع معاوية لابنه يزيد، وحمل الأمة على البيعة له بالترغيب والترهيب والمطاولة، فتم له ذلك؛ ولكنه كان يرى تلك البيعة كاللغو، ما لم يبايع العبادلة والحسن، لمكانتهم في العلم ومكانتهم من الأمة؛ فعمد إلى الحيلة المستظهرة بالسيف؛ وكذلك فعل بنو مروان كلما تخلف مثل سعيد بن المسيب عن البيعة؛ وكذلك فعل الخلفاء بعدهم في قضية البيعة أيام اشتداد سلطان العلماء وامتداده، حتى انتقل أمرها إلى طور آخر، وأصبحت في أيدي الأمراء والقواد والأجناد، وخرجتْ من يد الخلفاء والعلماء معا؛ وكأنما كان ذلك عقوبة من الله للخلفاء على تعاليهم، وللعلماء على تنازلهم؛ وما وقع في البيعة وقع في غيرها من مصالح الأمة التي يتنازعها السلطانان.

بقي العلماء ـ مع ذلك ـ ظاهرين على الحق، يتولون القيادة الحقيقية للأمة في غير ما يمس السلطان المادي الزائف، وكانوا أيقاظاً لكل حدث يحدث في الإسلام، وكانوا كلما رأوا شبحَ بدعة خفوا إلى إزالتها، وكلما أحسوا بضلالة ومنكر في الدين بادروا إلى تغييره بالفعل والقول: يُحسم لهم الاحتياط الصغائر فيعاملونها معاملة الكبائر؛ لا يتساهلون ولا يترخصون، سداً لذرائع الفتنة والضلال؛ وكانوا يصدرون في أعمالهم وأحكامهم عن الكتاب والسنة، فيصدرون عن الدليل الذي لا يضل، ويستندون إلى الحجة التي لا تدحض، وكانت الأمة ترجع إليهم، فترجع إلى وحدة متماسكة في الدين لا تتفرق بها السبل، ولا تتشعب الآراء؛ إلى أن فتنتهم المذاهب والخلافات الجدلية في أصول الدين وفروعه، وغطت عليهم العصبيات المذهبية وجه الحق، فرأت منهم العامة غير ما كانت ترى من وحدة في الدين، عاصمة لوحدتها في الدنيا، ووحدة في العلم، عاصمة من تفرقها في المصالح؛ وجروها إلى ما هم فيه من خلاف، فجرتهم إلى ما هي فيه من فساد؛ وضعف لذلك سلطانهم عليها، فتوزع أمرَها أمراء السوء الظالمون، وقادة السوء الجاهلون، واجتمع هؤلاء على قصد واحد وهو استغلال العامة فاصطلحوا.

لم يزلْ أمراءُ السوء يكيدون للعلماء حتى زحزحوهم ـ مع تطاول الزمن ـ عن مكان القيادة الروحية للأمة، وصرفوهم عنها واستبدلوا بهم في استمالة الدهماء، والعامة قادة لبسوا لبوس الدين ليغروا باسمه، وزهدوا في العلم إذ ليسوا من أهله، واستمدوا قوتهم من قوة الأمراء؛ وتقارض الفريقان الشهادات بالتزكية والتراضي على المنافع والسكوت عن المنكر؛ هؤلاءُ يُضلونها، وهؤلاء يُذلونها، والإضلال في الدين وسيلة الإذلال في الدنيا؛ واستنامت الأمة على الهدهدة باسم الدين، وعلى الاغترار بما يزينون لها من الجهل، وما يقبحون لها من العلم, وما يقربون لها من طرق الجنة, وهم في ذلك كله لا يقربونها إلى الله إلا بما يبعدها عنه من بدع ومحدثات؛ والعلماء في هذه المرحلة غافلون يغطون في نومة أرْبت في الطول عن نومة أصحاب الكهف والرقيم، إلى أن فتحوا أعينهم على دين غير الدين، فشبهَ لهم؛ وأصبحوا تابعين، بعد أن كانوا متبوعين، وأصبحوا يُزكون بعملهم ذلك الجهل ويشهدون لأولئك القادة الجاهلين بالكمال والفضل؛ ولأولئك المبتدعين بما انتحلوه لأنفسهم من الولاية والكرامة، على المعنى الذي اخترعوه، لا على المعنى الذي جاء به الدين، ثم لم يكتفوا منهم بذلك حتى نحلوهم خصائص الألوهية. وشعر أولئك المبتدعة بتهور العلماء للمطامع الخسيسة، وسقوطهم على المطاعم الخبيثة، فقادوهم بزمامها؛ ثم شعروا بإقرارهم للمهانة والذل في نفوسهم، فأمعنوا في تحقيرهم وإغراء العامة بهم، وأهان العلماء أنفسهم، فسهل الهوان عليهم، فأصبحوا أذلّ من يعشون عالة عليهم، ويتساقطون على فتات موائدهم، ويتطوعون لهم حتى باخس شهواتهم، ويشهدون لهم الزور على الله ودينه، ويحلون لهم من اللذائذ ما حرم الله، وعلى هذه الحالة أدركنا عصرنا وأهل عصرنا. والشرب مشوب من قديم، ولكن آخر الدنّ دُرْدى.

�ولقد رأيت بعينيّ معاً منذ سنين في طريق مناره من تونس، عالماً يُعدّ في الطبقة الممتازة في علماء جامع الزيتونة، يهوى بالتقبيل على يد مخرف مبتدع جاهل متعاظم، لو حُكمت لحكمتُ بأن يكون عبداً لذلك العالم، فرأيت يومئذ كيف تُعبد الأصنام، وعلمتُ كيف يكون العالم سبةَ للعلم، وخطر ببالي قول المتنبي:

وقد هام قوم بأصنامهم***فأمـا بزق رياح فلا

وسقط ذلك العالم من حسابي، فما ذكرته بخير حيا، ولا ترحمت عليه ميتاً، ولا عددت موته ـ كموت العلماء ـ ثلمة في الإسلام !...

ما ظلم الله العلماء، ولكن ظلموا أنفسهم؛ ولم يشكروا نعمة العلم، فسلبهم الله ثمراته من العزة والسيادة، والإمامة والقيادة؛ وكان لخلو ميدان السلطة والأمر منهم أثر فاتك في عقائد المسلمين وأخلاقهم؛ وكان من نتائجه إلقاء الأمة بالمقادة إلى مًن يُضلّ ولا يهدي من المشعوذين الدجالين. فأضلوها عن سواء السبيل، ومكنوا فيها للداء الوبيل، وأعضلُ أنواعه الاستعمار، الذي وجد منهم مطايا ذُللا سماحاً إلى غاياته الخبيثة في الإسلام والمسلمين؛ ولو كان العلماء هم القادة، وكانوا أحياء الضمائر والمشاعر، وكانوا ـ كما كانوا شداد العزائم والإرادات، لوجد منهم الاستعمار في مشارق الإسلام ومغاربه حصوناً تصدّ، ومعاقل ترد .

أما والله ـ ألية المسلم البر, وسريرة الضمير الحر ـ لا ترجع هيبة العلماء إلى مستقرها من نفوس الأمة حتى يقوموا بعهد الله في بيان الحق، ويتظافروا على حرب البدع والضلالات التي لابست الإسلام، ولبست عقائده ففسدت، وآدابه فكسدت، ولبستْ على المسلمين دينهم فأصبحتْ حقائقه في واد، وعقولهم في واد، وحتى يَجلوا على الأمة تلك الكنوز الدفينة في كتاب الله كتاب الإنسانية العليا، وفي سيرة محمد دستور الحق والخير والكمال؛ وإن ذلك في صميمه هو ما تقوم به جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، في دعوتها وعملها الإصلاحيين؛ وإنها لا تفتأ جاهدة في الإصلاح الديني حتى تؤدي أمانة الله منه، وتبلغُ الغاية من إقراره في النفوس، وتمكينه في الأفئدة؛ وقد بلغت دعوتها للمقصورات في خدورهن، وللرُّحل في قفارهم، وللبداة في بواديهم، وللحضر في نواديهم، حتى أصبحتْ آثارها بادية في العقول والأفكار والإرادات وقد رجع للقرآن بعض نفوذه وسلطانه، وحجته وبرهانه، وللسنة النبوية مكانها علماً وعملا، وللعلماء المصلحين قوتهم في التوجيه، ومكانتهم في التدبير، وقدرتهم على القيادة.

وإن هذه النتيجة لدعوة جمعية العلماء لمعجزة ادخرها الله لهذا القطر الجزائري، فلا يوجد قطر من أقطار الإسلام تأثر أهله بالفكرة الإصلاحية الدينية كما تأثر مسلمو الجزائر، ولا يوجد في علماء الإسلام جماعة قاموا بهذه الدعوة الجريئة، متساندين مجتمعين، يَجمعهم نظام وانسجام، كما قام رجال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، على كثرة اللدَد في الخصم وفـرة اللجاج في المعارض؛ وكم وددنا لإخواننا علماء الأقطار الإسلامية، لو قاموا بمثل ما قمنا به من تطهير عقائد المسلمين وتوجيههم التوجيه الصحيح النافع في الدين والحياة، والرجوع بهم ـ في صراحة وجرأة ـ إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم، وإنقاذهم بذلك من عصبيات المذاهب والطرق التي فرقت شملهم، ومصائب التفرق والخلاف التي أذهبت ريحهم؛ ومع أن إخواننا علماء الإسلام يَملكون ما لا نملك من وسائل الاجتماع، وأسباب القوة ـ فإن جهودهم في الإصلاح الديني لم تزل فردية محدودة، وخطواتهم في السير به لم تزل بطئية متثاقلة.

أما والله ـ لو أنهم اجتمعوا وتذامروا, وشنوها ـ كما شنناها غارة شعواء على البدع والضلالات التي مهدت للانحلال وفساد الأخلاق بين المسلمين, ومكنت للضعف والخور في نفوسهم, وللوهن والفشل في عزائمهم, وللزيغ والاعوجاج في فطرتهم, وللرثاثة والنكث في روابطهم، ثم صيرتهم ـ لذلك ـ حمى مستباحاً، ونهباً مقسماً ـ لو فعلوا ذلك لأعادوا للإسلام قوته وكماله، ونضرته وجماله، وللمسلمين مكانهم في البشر ومكانتهم في التاريخ.

ــــــــــــ

* نشرت في العدد 36 من جريدة البصائر سنة 1948 (المصدر: كتاب عيون البصائر).