السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وأمّا المذاهب الكلامية فلم يكن أثرها بالقليل في تفرّق المسلمين وتمزّق شملهم , ولكنّها لمّا كان موضوعها البحث في وجود الله وإثبات صفاته وما يجب له من كمال وما يستحيل عليه من نقص – كل ذلك من طريق العقل – كانت دائرتها محدودة وكان التعمّق فيها من شأن الخواص , وقعد بالعامّة عن الدخول في معتركها وإحساسها بالتقصير في أدواته من جدل وعقليات يحتاج إليها في مقامات المناظرة والحجاج , فليس عِلم الكلام كعِلم التّصوف مطية ذلولاً يندفع لركوبها العاجز والحازم .
فالتّصوف شيئ غامض يسعى إليه بوسائل غامضة , ويسهل على كل واحد ادعائه والتّلبيس به , فإن خاف مُدّعيه الفضيحة لم يعدم سلاحاً من الجمجمة والرّمز وتسمية الأشياء بغير أسمائها , ثم الفزع إلى لزوم السّمت والتّدرّع بالصّمت والإعراض عن الخلق والانقطاع والهروب منهم ما دام هذا كله معدوداً في التّصوف وداخلاً في حدوده .
ولا كذلك علم الكلام الذي يفتقر إلى عقل نيّر , وقريحة وقّادة , وذكاء نافذ , ويحتاج منتحله إلى براعة ولسن ومران على المنطق ومقدماته ونتائجه وأقيسته وأشكاله.
ولِمَ كلّ هذا العدد ؟
كل هذه العُدد للمناظرات وما تستلزمه من إيراد ودفع , وإفحام وإلزام , وأين العامّة من هذا كله ؟ !
لذلك لم يكن لها من حظ هذا العلم إلاّ معرفة أسماء بعض الفِرق والانتصار لها انتصاراً تقليدياً .
ولذلك كانت آثار التفريق الناشئة عن هذه المذاهب الكلامية قاصرة على طبقات مخصوصة , ولم تتغلغل في العامّة كما تغلغلت آثار التّصوف .
وقد انقرضت تلك الفرق , وانقرض بانقراضها سبب جوهري من أسباب التفرق بل مات بموتها شاغل طالما شغل طائفة من خيرة علماء المسلمين ببعضهم , وجعل بأسهم بينهم شديداً , وألهاهم بما يضر عمّا ينفع .
تلاشت تلك الفرق ولم تبق إلاّ أخبار معاركها الجدلية في كتب التاريخ , وإلاّ آراؤها المدونة في كتبها فتنة للضعفاء وتبصرة للحصفاء ,ولم يبق من تلك الأسماء التي كونت قاموساً في الأنساب إلاّ اسمان يدوران في أفواه العامّة وأشباه العامّة , ويستعملونهما في أغراض عاميّة وهما : ( أهل السنة والمعتزلة ) .
ومن المحزن أن دراسة علوم التوحيد حتى في كلياتنا ( الراقية ) كالأزهر والزّيتونة لاتزال جارية على تلك الطرائق وفي تلك الكتب , ولا تزال تقرر فيها تلك الآراء , ولاتزال تذكر فيها أسماء تلك الفرق التي لم يبق لها وجود .
ويستعرض سيّدنا المدرس تلك الآراء ثم يدحضها ويقيمها ثم ينقضها , وتقتطع أوقات الطلبة المساكين في ذلك . . ويا ضيعة الأعمار .
أمّا الشبهات التي يوردها كل يوم ملاحدة العصر ومبشروا المسيحية على الإسلام ويفتنون بها العلماء فضلاً عن العوام , فإنّ كلياتنا ( العلمية الدينية ) ومدرسيها لا يعيرونها أدنى اهتمام , ولا يعمّرون بها وقت الطلبة .
فيا للفضيحة !!! ..
وإذا نحن وازنّا بين ما أجداه علينا عِلم الكلام وبين ما خسرناه بسببه وجدنا الخسارة تربو على الربح , فتوحيد الله مقرر في القرآن بأجلى بيان وأكمل برهان , وصفاته لا يطمع طامع أن يأتي في إثباتها بأكمل مما أتى به القرآن , وطريقة القرآن في التنزيه أقوم طريقة , وقد جرى عليها الصحابة فكانوا أكمل الناس توحيداً مع أنهم لا يعرفون الجوهر والعَرَض , وهل يبقى زمانين ؟ ولا الكم ولا الكيف بمعانيها الفلسفية الدقيقة .
وعلى هذا فما معنى إضاعة الوقت , وإعنات النّفس في معرفة هذا العلم المسمّى بعِلم الكلام ؟
ولوكان هذا العلم المستحدث ذا قواعد طبيعية لا تنقض كقواعد الحساب أو الهندسة مثلاً لخف ما يلقى الناس في تعلمه من عناء , ولكننا رأينا تلك القواعد تتهاوى في المناظرات القولية أو القلمية كفقاقيع الماء , فلا يكاد يبني الباني حتى ينبري له هادم ينقض ما بنى ويتبر ما علا .
فواأسفاه
على تلك الحملات العنيفة التي كانت جهاداً ولكن في غير عدو .
ووالهفاه على ذلك النقع المثار وقد انجلى عن غير فتح ولا غنيمة , وواحسرتاه على ذلك الذكاء الذي كانت تكاد تشف له حجب الغيب , ذكاء أبي بكر الباقلاني , وفخر الدين الرازي , وأبي الهذيل وابن المعلم , وقد ضاع فيما لا تعود على الإسلام منه عائدة , ولا تنحبر له منه فائدة .
وإنّك لتطالع تفسير الرازي مثلاً فتتلمّح من جملته ذكاء يشع , وقريحة تتقد , وألمعيّة تكاد تنتزع منك بنات صدرك , فتظنّ أن سينكشف لك عن الجهات المتّصلة بنفسك من القرآن , ويجلي لك سُنن الله في الأنفس والآفاق .
وإذا بالظّن يخيب , والفال يكذب , وإذ ترى تلك القوى مصروفة إلى جهة غير التي تريد , وترى الرجل وقد غُلِب على ذكائه , وجرفته العادة التي تملكه إلى الآراء والعقليات وإثارة الشبهات .
وترى ذلك الذهن العاتي يتخبّط في مضائق هي دون قدر القرآن ودون قيمة ذلك الذهن حتى ليسف فيزعم لك –مثلاً – أنّ أولى العلم في قوله تعالى : " شهد الله أنّه لا إله إلاّ هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط " هم أهل الأصول .
ونحن نعتقد أن الرّجل وأمثاله من الأذكياء ما أتوا إلا من غرامهم بهذه المباحث الكلامية واستهتارهم فيها .
ويميناً , لو أنّ تلك الجهود التي تفرقت على الكلام تألّفت على جهة عقلية أخرى لفتحت في العلم فتحاً أغر زاهراً , ولتعجّلت به الفخر بالإسلام وأهله .