بسم الله الرحمن الرحيم ،
من خلال مدارسة آيات التحاكم في المبحث الثالث ، توضحت لنا هذه الحقيقة . وفي هذا المبحث - إن شاء الله - سنستدل بآيات لا تحتاج إلى كبير جهد لاستنباط هذا الحكم الشرعي .
يقول الله تعالى : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَـئِكَ بِالْمُؤْمِنِين َ (*) إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيّ ُونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [المائدة : 43-44] .
الآية الأولى واضحة الدلالة على المعنى الذي قررته في هذه المسألة ، ذلك أن اليهود راموا من تحكيم الرسول - صلى الله عليه وسلم - اتباع غير حكم الله الموجود في التوراة ، والذي يعلمه اليهود يقيناً .. لذلك قال الله تعالى منكراً عليهم : { وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ } .. فعُلم بذلك أن التحكيم والتحاكم أساسه الاتباع ، فإنهم لم يحكموا الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا وهم يأملون أن يحكم لهم بغير ما في التوراة .
يقول ابن كثير في تفسيره :
وقال الطبري في تفسيره :قال تعالى منكرًا عليهم في آرائهم الفاسدة ومقاصدهم الزائغة ، في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم ، الذي يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبدًا ، ثم خرجوا عن حكمه وعدلوا إلى غيره ، مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم ، فقال : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِين َ }
فالطبري يحمل القول بكفرهم وعدم إيمانهم على توليهم عن حكم الله تعالى .. بما يفيد أنهم بتحكيمهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - أرادوا اتباع حكمه ، وهم جاحدون لنبوته ، فكان عندهم حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - كحكم غيره من البشر ، وأرادوا بذلك ردّ حكم الله والتولي عنه .. فما كانوا بذلك مؤمنين .القول في تأويل قوله : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِين َ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : وكيف يحكمك هؤلاء اليهود ، يا محمد ، بينهم ، فيرضون بك حكمًا بينهم {وعندهم التوراة} التي أنزلتها على موسى ، التي يقرُّون بها أنها حق ، وأنها كتابي الذي أنزلته إلى نبيي ، وأن ما فيه من حكم فمن حكمي ، يعلمون ذلك لا يتناكرونه ، ولا يتدافعونه ، ويعلمون أن حكمي فيها على الزاني المحصن الرجم ، وهم مع عملهم بذلك {يتولون} ، يقول : يتركون الحكم به ، بعد العلم بحكمي فيه ، جراءة عليّ وعصياناً لي .
وهذا ، وإن كان من الله تعالى ذكره خطاباً لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه تقريعٌ منه لليهود الذين نزلت فيهم هذه الآية . يقول لهم تعالى ذكره : كيف تقرّون ، أيها اليهود ، بحكم نبيّي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، مع جحودكم نبوته وتكذيبكم إياه ، وأنتم تتركون حكمي الذي تقرون به أنه حق عليكم واجبٌ ، جاءكم به موسى من عند الله ؟ يقول : فإذْ كنتم تتركون حكمي الذي جاءكم به موسى الذي تقرّون بنبوّته في كتابي ، فأنتم بترك حكمي الذي يخبركم به نبيِّي محمد أنه حكمي- أحْرَى ، مع جحودكم نبوَّته .
ثم قال تعالى ذكره مخبراً عن حال هؤلاء اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الآية عنده ، وحال نظرائهم من الجائرين عن حكمه ، الزائلين عن محجّة الحق {وما أولئك بالمؤمنين} ، يقول : ليس من فعل هذا الفعل – أي : من تولّى عن حكم الله ، الذي حكم به في كتابه الذي أنزله على نبيه ، في خلقه - بالذي صدَّق الله ورسوله فأقرّ بتوحيده ونبوّة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، لأن ذلك ليس من فِعل أهل الإيمان .
وأصل " التولى عن الشيء " : الانصرافُ عنه ، كما :-
- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير : " ثم يتولون من بعد ذلك " ، قال :" توليهم " ، ما تركوا من كتاب الله .
- حدثنا المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : {وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله} ، يعني : حدود الله ، فأخبر الله بحكمه في التوراة .
- حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : {وعندهم التوراة فيها حكم الله} ، أي : بيان الله ما تشاجروا فيه من شأن قتيلهم ، {ثم يتولون من بعد ذلك} ، الآية .
- حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : قال - يعني الرب تعالى ذكره – يعيِّرهم : {وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله} ، يقول : الرجم .
ويقول الرازي في تفسيره :
فهم أرادوا اتباع ما يعتقدونه باطلاً وتركوا ما علموا يقيناً أنه الحق ، فكفروا بذلك .قال تعالى : { وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : هذا تعجيب من الله تعالى لنبيّه - عليه الصلاة والسلام - بتحكيم اليهود إياه بعد علمهم بما في التوراة من حد الزاني ، ثم تركهم قبول ذلك الحكم ، فعدلوا عما يعتقدونه حكماً حقاً إلى ما يعتقدونه باطلاً طلباً للرخصة ، فلا جرم ظهر جهلهم وعنادهم في هذه الواقعة من وجوه : أحدها : عدولهم عن حكم كتابهم ، والثاني : رجوعهم إلى حكم من كانوا يعتقدون فيه أنه مبطل ، والثالث : إعراضهم عن حكمه بعد أن حكموه ، فبيّن الله تعالى حال جهلهم وعنادهم لئلا يغتر بهم مغتر أنهم أهل كتاب الله ومن المحافظين على أمر الله
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى