كوني محتسبة
منصور صالح حسين الجادعي



إننا عندما نقرأ القرآن الكريم نجد أن من أبرز صفات المؤمنين والمؤمنات الأمر بالمعروف والنهي عن النكر، يقول - تعالى -: (وَالْمُؤْمِنُو َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ...)[التوبة: 71]، فقوله: (يَأْمُرُونَ.. وَيَنْهَوْنَ)، يشمل الذكر والأنثى، ولا يخص الرجال دون النساء، ويقول الله - تعالى -: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[آل عمران: 104]، قال الإمام ابن كثير: "والمقصود من هذه الآية، أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجباً على كل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من رأى منكم منكراً فلغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان))[1].
وفي رواية: ((وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل))[2]، وقال الإمام أحمد:... عن حذيفة بن اليمان، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((والذي نفسي بيده، لتأمرُن بالمعروف ولتنهوُن عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم))[3]...، والأحاديث في هذا الباب كثيرة"[4].
وقد أثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - على تلك المرأة الصالحة المحتسبة التي تعين زوجها على التقرب إلى الله بالقيام بين يديه لمناجاته وطلب مرضاته، فقال: ((رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء))[5].
فمن هذه النصوص يتضح لنا جليا أن المرأة داخلة في تلك التكاليف، وأن عليها واجبا في تبليغ هذا الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا قصرت في هذا الجانب فإنها آثمة، وقد تخطئ بعض النساء في ترك هذا الواجب العظيم؛ ظنا منهن أن هذا الأمر يخص الرجال، وهم المكلفون به فحسب، أما هن فلا يجب عليهن وهذا تصور خاطئ وفهم غير صحيح، فالمرأة شقيقة الرجل [6] ومخاطبة بالتكاليف كما خوطب بها الرجل إلا في بعض الأمور، ولا يعني هذا الكلام أنها مكلفة كتكليف الرجال سواء بسواء وأنه يجب عليها الخروج في الشوارع والأسواق والأماكن العامة والاختلاط بالأجانب وغيرها من الأمور لأجل القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنما الذي عليها هو ما كان في مقدورها وفي بيئتها النسوية وبين محارمها وما لا يؤدي بها إلى المحذورات ويقودها إلى المخالفات، وقد بين العلماء ضوابط قيامها بالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما الواجب عليها من ذلك.
وقد ضربت نساء الجيل الأول أروع الأمثلة في فهم هذا الواجب والقيام به على الوجه الأكمل ولعلنا نذكر بعض تلك النماذج حتى تأخذ منها المرأة المسلمة الدروس والعبر التي تعينها في أداء واجبها.
المثال الأول: أم عمارة، وهي نسيبة بنت كعب - رضي الله عنها -:
هذه الصحابية الجليلة شهدت بيعة العقبة الثانية هي وامرأة أخرى[7] مع من شهدها من قومهن وكانوا سبعين رجلا، وكانت بنود هذه البيعة ما ذكره جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أنه قال: قلنا: يا رسول الله، علامَ نبايعك؟ قال: ((تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله، لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني، فتمنعوني إذا قَدِمتُ عليكم مما تمنعون منه أنفسكم، وأزواجكم، وأبناءكم، ولكم الجنة))، قال: فقمنا إليه فبايعناه[8].
وأما بيعة هذه المرأة وأختها فكانت قولاً؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما صافح امرأة أجنبية قط[9].
وعندما نقرأ سيرتها - رضي الله عنها - نجد العجب العجاب في مدى تضحيتها لهذا الدين بكل ما تستطيع، فقد جندت نفسها من أجل الإسلام والدفاع عنه حتى إنها في غزوة أحد قاتلت دفاعا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجرحت في عاتقها، وكذا شاركت في معارك كثيرة[10].
فبعد أن عرفت الحق وبايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقر لها قرار ولم يهدأ لها بال، ولم تتوانَ يوما من الأيام في نصرة هذا الدين.
هذا النموذج يؤخذ منه أن المرأة يمكنها أن تقدم أموراً كثيرة من أجل دينها ومجتمعها وبيتها وأسرتها وأبنائها وزوجها وبنات جنسها، فما دامت صالحة فإن عليها واجب الإسهام في صلاح من حولها بقدر ما تستطيع.
النموذج الثاني: أم الدرداء - رضي الله عنها -:
أم الدرداء: هي زوجة أبي الدرداء - رضي الله عنه - صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت برة تقية من فضليات الصحابيات، بعث إليها عبد الملك بن مروان ذات يوم بأنجاد[11] من عنده، فلما أن كان ذات ليلة قام عبد الملك من الليل فدعا خادمه فكأنه أبطأ عليه فلعنه، فلما أصبح قالت له أم الدرداء: سمعتك الليلة لعنت خادمك حين دعوته، فقالت: سمعت أبا الدرداء يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة)) [12].
فأم الدرداء احتسبت على عبد الملك بن مروان؛ لأنه أخطأ حين لعن خادمه، والمسلم لا يجوز له أن يلعن أخاه، فلم تسكت عن ذلك الخطأ بل قامت بواجب النصيحة وذكرت له ما حفظته من زوجها أبي الدرداء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبهذا أدت الذي عليها وبرَّأت ذمتها.
والذي ينبغي على الأخت المسلمة أنها عندما ترى خطأً ما، أو تسمع منكراً فإنها تبادر في تغييره وإنكاره، ولا ينبغي عليها أن تسكت وتترك من رأته على حاله ولاسيما بنات جنسها وأقربائها.
النموذج الثالث: المرأة الهلالية جدة عمر بن العزيز:
هذه المرأة المحتسبة ضربت مثلا رائعا في احتسابها على والدتها، احتساب بألطف عبارة وأحسن معاملة، وبر يغفل عنه الكثير، ولا يدركه إلا من وفقه الله، وإليكِ ما سطرته الكتب في ذكر قصة تلك المرأة الصالحة المحتسبة، يقول أسلم: بينا أنا مع عمر بن الخطاب وهو يَعُسُّ[13] المدينة إذ أعيا واتكأ على جانب جدار في جوف الليل، وإذا امرأة تقول لابنتها: يا ابنتاه، قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه [14] بالماء، فقالت لها: يا أمتاه، وما علمتِ ما كان من عزمة أمير المؤمنين اليوم، قالت: وما كان من عزمته يا بنية، قالت: إنه أمر مناديا فنادى ألا يشاب اللبن بالماء، فقالت لها: يا بنية، قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء، فإنك بموضع لا يراكِ عمر، ولا منادي عمر، فقالت الصبية لأمها: يا أمتاه، والله ما كنت لأطيعه في الملأ، وأعصيه في الخلاء، -وعمر يسمع كل ذلك- فقال: يا أسلم علِّم الباب، واعرف الموضع، ثم مضى في عسه حتى أصبح فلما أصبح قال: يا أسلم امض إلى الموضع فانظر من القائلة، ومن المقول لها، وهل لهم من بعل، فأتيت الموضع فنظرت فإذا الجارية أيِّم لا بعل لها، وإذا تيك أمها، وإذ ليس لهم رجل، فأتيت عمر بن الخطاب فأخبرته فدعا عمر ولده فجمعهم فقال: هل فيكم من يحتاج إلى امرأة أزوجه؟، ولو كان بأبيكم حركة إلى النساء ما سبقه منكم أحد إلى هذه المرأة، فقال عبد الله: لي زوجة، وقال عبد الرحمن: لي زوجة، وقال عاصم: يا أبتاه، لا زوجة لي، فزوجني، فبعث إلى الجارية فزوجها من عاصم، فولدت لعاصم بنتا وولدت البنت عمر بن عبد العزيز[15].
هذه البنت المباركة تأمرها أمها أن تمزج اللبن بالماء ولعل قصد الأم والله أعلم- أن يكون اللبن كثيراً، فعند بيعه تكسب منه أكثر مما لو باعته بدون مزجه بالماء، وهذا البيع فيه شيء من التدليس والغش، وهذا الأمر نهى عنه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الغش، فترفض البنت طلب أمها، وتذكر لها أمر عمر، فتقول لها أمها: "إنك بموضع لا يراك عمر ولا منادي عمر" فتقول تلك البنت التي تخاف ربها في الغيب والشهادة، وعرفت مراقبة الله لها في كل وقت وحين: "والله ما كنت لأطيعه في الملأ، وأعصيه في الخلاء"، وهذا هو حال المؤمن الحق الذي عرف ربه حق المعرفة، فهو يخافه في كل وقت وحين، ويطيعه في الخلوة والجلوة.
إن تلك البنت من برها بأمها لم تطعها في معصية الله، ولم تنفذ أمرها فيما يغضب الله، بل عرفتها الحكم الشرعي بأدب ولطف، وذكرتها بأن الله لا بد من طاعته في الغيب والشهادة، وليس لأن الناس مطلعون عليها فهي تمتثل أوامره وتجتنب نواهيه، بل طاعته لا بد أن تكون في كل وقت وحين، علم الناس بذلك أو لم يعلموا، هذا النموذج الرائع يبين مدى أهمية الاحتساب على الأقارب سواء كانوا والدين أو إخوانا أو أبناء أو غير ذلك؛ لأن هؤلاء قد يتجرؤون على فعل بعض المعاصي أمام أعين أقاربهم غير خجلين أو مستحين، حيث وهم أمام أقاربهم، فهنا تظهر أهمية الاحتساب، وتبرز الحاجة الماسة إليه.
فيا أيتها المحتسبة من لهؤلاء؟
إن تلك النماذج الحية التي كانت تتمتع بها نساء السلف الصالح لتبين مدى ما كُنَّ عليه من تطبيق لأوامر هذا الدين والتزامهن به في كل وقت وحين.
فيا أختي المسلمة، هؤلاء هن القدوات، اللاتي ينبغي أن تقتدي بهن، وتسلكي سبيلهن.
بعد هذا العرض الذي ذكرناه، نريد منك أختي المسلمة أن تلتحقي بهذا الركب الكريم، وتسيري في طريق أمهاتك الصالحات المحتسبات، وتكوني محتسبة، في بيتك، ومدرستك وجامعتك، ومقر عملك، بين بنات جنسك، احتسبي على زوجك، احتسبي على أولادك على كل أقاربك، احتسبي في كل تجمعات النساء من أماكن الأفراح والأتراح، والولائم والمآتم، اجعلي نفسك شمعة تضيء للآخرين، اللهَ اللهَ لا تتركي منكرا رأيتِه إلا غيرتِه بيدك إن قدرت، أو بلسانك، فإن لم تستطعي فبقلبك، وذلك أضعف الإيمان.
أختي المسلمة: كوني محتسبة أينما كنت.
وفقك الله لما فيه رضاه، وجعلك محفوفة بالخير، ورزقك الإخلاص والقبول، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.
________________
[1] رواه مسلم (1/69) رقم (49).
[2] رواه مسلم (1 /69) رقم (50).
[3] رواه أحمد (38/332) رقم (23301) وقال محققو المسند: "حسن لغيره" طبعة الرسالة.
[4] تفسير ابن كثير / دار الفكر - (1/478).
[5] رواه أبو داود (1/ 418) رقم (1308)، وصححه الألباني، انظر: صحيح الجامع رقم (3494).
[6] رواه أحمد في المسند (26238)، وأبو داود في السنن (236)، وصححه الألباني، انظر صحيح الجامع رقم (1983).
[7] اسمها: أم منيع أسماء ابنة عمرو بن عدي.
[8] مسند أحمد ط الرسالة (22/347) رقم (14456)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم.
[9]انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/290)، وأنساب الأشراف (1/ 250)، والرحيق المختوم (ص 96).
[10] انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/30)، والبداية والنهاية (3/168).
[11] جمع نجد وهو متاع البيت الذي يزينه من فرش ونمارق وستور.
[12] رواه مسلم (4/2006) رقم (2598).
[13] العُس: تقص الليل عن أهل الريبة، معجم مقاييس اللغة (4/42).
[14] المذيق: كأمير: اللبن الممزوج بالماء.
[15] صفة الصفوة - (2/203) لابن الجوزي، وسير أعلام النبلاء (5/122) الذهبي