الحمد لله رب العالمين، وبه العون على إبطال زخرف الملحدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا معين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الصادق الأمين، وصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، الذين يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، وعلى أتباعهم الذين شهدوا لله بالوحدانية، ولرسوله بالبلاغ المبين، وسلم تسليماً.
أما بعد، فاعلم أيها الطالب للهدى، المتباعد عن أسباب الضلال والردى، أني رأيت ورقة لبعض الناكبين عن الحق المبين، المعرضين عن توحيد رب العالمين، فإذا هي مفصحة عن ضلال مفتريها، معلنة بفساد طوية منشيها ومتلقيها، مع تناقضها وبشاعة ما فيها؛ فتارة تراه سائلاً مسترشداً، وتارة مفتياً مضللاً مفنداً، لا يدري ولا يدري أنه لا يدري. فعزمت على نقض ما بناه من ذلك الباطل، على استفراغ وسع واستمهال، وذلك أولى من الترك والإهمال، و{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [سورة الأعراف آية: 43]. فأخذت في رد قوله مستعيناً بربنا العظيم، مستعيذاً بالله من شر متبعي خطوات الشيطان الرجيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل على من صد الناس عن سواء السبيل.
قال محمد بن نصر: حدثنا إسحاق، أنبأنا عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: "خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، ثم قال: هذا سبيل الله.ثم خط خطوطاً عن يمينه وشماله، وقال: هذه سبل، وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه. وقرأ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} 1") الآية.
قلت: وهنا بلية ينبغي التنبيه عليها، قبل الشروع في المقصود، وهي: أن الكثير من أهل هذه الأزمنة وقبلها، قد غرهم من أنفسهم أمران:
أحدهما: أنهم إن أحسنوا القول رأوه كافياً، ولو ضيعوا العمل وارتكبوا النقيض، وما عرفوا أقوال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في الخوارج: "يقولون من قول خير البرية، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" 1، وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم ويمقت من يقول ولا يفعل، ومن يخالف قوله فعله، كقوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [سورة الصف آية: 3]، وكقوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [سورة البقرة آية: 14]. وقد ورد: "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال".
الأمر الثاني: أن الأكثر ظنوا أن انتسابهم إلى الإسلام، ونطقهم بالشهادتين، عاصم للدم والمال، وإن لم يعملوا بمدلول لا إله إلا الله، من نفي الشرك، وتركه، وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى، كالدعاء، والرجاء، والتوكل، وغير ذلك; ولم يعرفوا معنى قول الله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 3-4]، وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5]، وقوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}
فإن قوله: {مُخْلِصاً}: حال من ضمير الفاعل المستتر، في قوله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ}، أي: حالة كونك مخلصاً له الأعمال الباطنة والظاهرة، وكذلك في قوله: {مُخْلِصِينَ}: حالة من الضمير البارز في قوله: {إِلَّا لِيَعْبُدُوا}، أي: حالة كونهم مخلصين له إرادتهم وأعمالهم، دون كل ما سواه؛ ولهذا قال: {حُنَفَاءَ}، والحنيف هو: الموحد المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه؛ وهذا هو التوحيد الذي خلقوا له، وبعث الله به رسله وأنزل به كتبه. يقرر ذلك: ما أخبر به عن قوم هود، لما قال لهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة الأعراف آية: 65]، فأجابوا ذلك بقولهم: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [سورة الأعراف آية: 70]. وفي قصة صالح، لما قال لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59]، { قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [سورة هود آية: 62]، وكما قال قوم شعيب: {يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} الآية [سورة هود آية: 87].
فلا إله إلا الله، ما أشبه حال الأكثرين من هذه الأمة بحال تلك الأمم، لما دعوا إلى هذا التوحيد، الذي هو أصل دين الإسلام، وهو دين الله الذي لا يقبل من أحد ديناً سواه، وبه أرسل جميع الرسل، وأنزل به جميع الكتب، قال
تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25]، وقال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} الآية [سورة هود آية: 1-2]، إلى أمثال هذه الآيات. وقد صح: أن رسول الله لما قال لقومه: "قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا" 1، قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 5]، كما هو مذكور في القرآن العزيز.
فأي دليل أصرح وأوضح وأبين من هذه الأدلة؟ على أن الرسل من أولهم إلى آخرهم، إنما بعثوا بإخلاص العبادة لله تعالى، والنهي عن عبادة كل ما سواه؛ وهذا هو التوحيد الذي جحدته الأمم، وهو الذي خلق الله له الخليقة من الثقلين، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56]، قال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، في معنى هذه الآية: "إلا لآمرهم أن يوحدون".
وقد عرفت: أن هذا هو أصل الدين، الذي هو أساس الملة، قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} الآية [سورة الروم آية: 42-43]، وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 26-28]، أي: لا إله إلا الله. والخليل عليه
السلام أتى بمضمون هذه الكلمة، بقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية: 26-27].
وأبدى سبحانه وأعاد في هذا الكتاب المجيد، في النهي عن الشرك المنافي لهذا التوحيد، وأفصح عن كفر فاعله، وأسجل عليه بالوعيد الشديد، فقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [سورة الأحقاف آية: 5] إلى قوله: {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 6]، وقال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 14]، وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة يونس آية: 106]، وقال تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [سورة الشعراء آية: 213-214]. وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117]، وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُ مْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [سورة الأعراف آية: 37]، وقوله: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً} [سورة غافر آية: 73-74]، وغير ذلك
من الآيات. فأي بيان أوضح من هذا، في تعريف الشرك الذي حرمه الله، وأخبر أنه لا يغفره؟ ...............