الرغبة الملعونة
نظرت إلى عنق الحذاء الضخم وهي جالسة على الأرض، وكلمت الحذاء، لقد رأت الحذاء رجلًا قزمًا، وقالت له: ماذا تريد؟
فأشفق عليها الضابط؛ ظنها قد جُنّت، فجلس بجانبها على الأرض، وقال لها: لاتخافي، فنحن لم نأت من أجلك، وإنما من أجل جارتك التي وقعت من الشرفة ولانعلم هل انتحرت أم أن أحدًا قد قذفها متعمدًا.
بدأت الأحداث في هذا اليوم الكئيب في الصباح الباكر، عندما رن جرس الباب،نظرت إلى المنبه بجانبي فرأيت الساعة تشير إلى السابعة صباحًا، من الطارق في هذا الوقت؟ أريد أن أنام، فليحترق الطارق، لو كان ابني عمر لاتصل بي بالتليفون،رن الجرس بإلحاح، لاحول ولاقوة إلا بالله،شعرت بالقلق وتساءلت ربما هذا العريس الذي رشحته لنهى؟ هل علم أنها بعين واحدة وأتى ليضربني؟ إنها لايبدو عليها العور فعينها مفتوحة، وأحب فعل الخير، فلم أخبره بأنها عوراء،وقلت لنفسي: لعله يحبها إذا رآها، لن أفتح الباب حتى ينصرف الطارق، كأنني غير موجودة، ولم أكد أغطي وجهي بالغطاء حتى سمعت صوتًا رهيبًا وخبطًا شديدًا على الباب، فهرعت لأنقذ باب الشقة، وعندما فتحت الباب تعمدت أن أبدو شجاعة ورفعت صوتي لأرهب الطارق: ماذا تريد أيها السا...ولم تخرج بقية الكلمة من لساني، كنت أريد أن أقول السافل، ولكنني رأيت أمامي رجال الشرطة،ومن الرعب جلست على الأرض، ثم رأيت الضابط أمامي قزمًا في لحظة سريعة.
فجلس بجانبي على الأرض وقال لي: لاتخافي لن نؤذيك، سنسألك فقط عن جارتك التي أجرت لها شقة في الدور السابع، السيدة عزيزة،ونريد مفتاح الشقة، واستجوابك عنها،لم أعرف هل أحزن من أجل عزيزة أم أفرح أنهم لم يأتوا إلي، ولكنني لم أفق تمامًا من حالتي إلا عندما قال لي: هيا ياأمي هات مفتاح الشقة، فنظرت إليه نظرة صارمة، أأنا في عمر أمه؟ كان ضابطًا برتبة رائد، وكان طويلًا وعريضًا، لقد توفى زوجي منذ عشرين عامًا وأنا في الأربعين من عمري، وأشعر أنني وقفت عند سن الأربعين.
قلت له بلهجة صارمة وقد استعدت شجاعتي: إنه هناك على المنضدة، خذه، فأخذ المفتاح وأعطاه لزميل له، ثم سألني عن عزيزة، وهل لها أعداء؟ ومن أقاربها؟ كان يريد معرفة كل شيء يتعلق بها.
سكنت عزيزة في عمارتي منذ خمس سنوات،كانت أرملة، ورثت من زوجها مبلغًا كبيرًا، وكانت تنفق من الفوائد البنكية على نفسها وتدفع إيجار الشقة، وهو إيجار كبير، خمسة آلاف جنيه في الشهر، وكانت وحيدة،ليس لها قريب ولاصديق،وعندما اقترحت عليها الزواج في يوم من الأيام وسألتها عن أهلها لأخبر العريس قالت لي: ماتوا، كلهم ماتوا.
كانت في الخامسة والأربعين من عمرها وعلى قدر من الجمال، ولكنها كانت دائمًا مكتئبة لاأعلم لماذا؟فليس عندها مشاكل، معها المال، وليس لديها أولاد يستغلونها، وينغصون عليها عيشتها.
فسألني الضابط: وهل تزوجها؟
قلت له: لا، رفضها، كلمها مكالمة واحدة ليتفق معها على ميعاد للمقابلة، فقالت له إن الله ظالم، وقد ظلمها، وعندما أخبرها بأنه أرمل لديه ابنة، قالت له:
ألم أقل لك إن الله ظالم؟! لقد ظلم هذه الفتاة بحرمانها من أمها!
فغضب العريس ورفض رؤيتها وقال إنها فاسقة، كافرة.
واتهمني بالغش، ولم أجد كلمة أدافع بها عنها.
انصرف الضابط، وأمرني بعدم الدخول في الشقة، حتى ينتهوا من أخذ البصمات، وفحص الشقة، كانت الشقة مفروشة، وخفت على محتوياتها، فأخبرته أن محتويات الشقة ملكي إلا ملابسها.
انصرف ضابط الشرطة، وملأني الحزن، فلن أستطيع تأجير الشقة بعد الآن، فالناس يخافون من السكنى في شقة انتحر فيها أحد، يخافون من أن يخرج لهم عفريت المنتحر كما هو متداول بين الناس، كان المستفيد من هذا الإيجار ابني عمر لمساعدته في المعيشة، فلديه ابنتان في مدرسة مصاريفها باهظة،فماذا سأفعل، وركبني الهم.
كانت بدرية تعمل مهندسة قبل إحالتها على المعاش في شركة الكهرباء، وتوفى زوجها وهي في الأربعين من عمرها، وكانت تقضي وقت فراغها في العمل كواسطة بين العرسان بدون أجر لسد وقت الفراغ، ورغبة في الثواب، وكان لديها سجلًا في البيت كتبت فيه بيانات العرائس والعرسان، من كل الأعمار، كان لديها ولد واحد مهندس معماري ولديه مكتب للتصميمات الهندسية، وكان أحيانًا يكسب كثيرًا وأحيانًا لم يكن لديه عمل، فكان يعتمد على إيجار الشقة المفروشة ملك والدته في الزمالك، وكان لذلك يحرص كل الحرص على مكالمتها يوميًا وملاطفتها بأحلى الكلام،كذلك بناته الاثنتان كانتا تسمعان جدتهما كل عبارات الحب، مما يجعل الجدة تدمع عيناها لفرط حب الفتاتين فتغدق عليهما بالهدايا، والمال.
مر شهر على هذا الحدث، وأتى عمر يطلب من أمه خمسة آلاف جنيه كالعادة، فقالت له: ألم أقل لك يابني إن عزيزة ماتت؟ ابحث عن ساكن حتى يدفع،لقد نشرت إعلانًا في إحدى جرائد الإعلانات بلافائدة، يأتي المستأجر، ثم يعرف من البواب انتحار الساكنة السابقة فينصرف بلاعودة، فقال لها عمر:
لدي فكرة عظيمة ياأمي!
ماهي يابني؟
تسكنين أنت في هذه الشقة وتؤجرين شقتك.
فقالت له متهكمة: ياحبيبي فكرة جيدة، ولكن عندي فكرة أفضل، وهو أن تسكن أنت فيها، لأنك أقمت في شقتك ست سنوات فقط، أما أنا فهذه الشقة لاأستطيع تركها، فلقد قضيت فيها كل عمري، لقد ولدت فيها، وتزوجت مع والدي لأنني كنت الابنة الوحيدة.
سكت عمر قليلًا ثم قال: ولكن نهلة لن توافق فهي ستخاف على الأطفال، أيهون عليك ياأمي سارة ويارا؟
كنت أحب الأطفال حبًا جمًا، كانتا حنونتين لأقصى درجة، فهما لايستحقان مني هذه القسوة،تذكرت سارة وهي تبكي من أجلي عندما كنت مريضة في المستشفى، وقبلت قدمي، فقلت له موافقة من أجل الأطفال.
فقال لي ليطمئنني: افتحي التليفزيون على إحدى قنوات القرآن الكريم ليل نهار، وإن شاء الله لن يحدث شيئًا.
كنت أعلم أن نهلة هي التي تريد ذلك، لأن الأطفال لايعلمون مثل هذه الأشياء، ولكني لابد أن أضحي من أجل مصاريف الصغار.
في هذا الشهر أخذ عمر مني خمسة آلاف جنيه على سبيل القرض،ووعدني بأنه سيردهم في أقرب فرصة، بالإضافة إلى هذا المبلغ كنت أنفق عليه من معاشي ثلاثة آلاف جنيه في الشهر في العزومات الأسبوعية وبعض الهدايا للبنات، كان معاشي كبيرًا ومعاش زوجي أكبر، لكنني لن أحتمل إنفاقه كله عليهم، فلدي مصروفات ضرورية لاأستطيع الاستغناء عنها، لابد أن أسافر عمرة كل عام أو الحج، غير الذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية كل يومين، غير الدواء وعاملة التظيف وسيارات الأجرة، فقد كنت أخاف من قيادة السيارة فأعطيتها لعمر.
طلبت من زوجة البواب تنظيف الشقة فنظرت إلي نظرة ذات معنى، قلت لها سأكون معك لن أتركك لحظة، واتفقت مع شركة نقل على نقل الأثاث من شقتي إلى الشقة المفروشة والعكس، وأثناء النقل والتظيف وجدت كشكولًا ضخمًا تحت مرتبة السرير، شيء غريب، فتحته، وقرأت الصفحة الأولى كانت مذكرات عزيزة فيما يبدو، نظرت إلى آخر صفحة وجدت مكتوبًا فيها: لقد مات الله، لايوجد إله، سأنتحر كي أرتاح من هذه الحياة الظالمة التي لاتميز بين الظالم والمظلوم.
أخذت هذا الكشكول ووضعته في حقيبتي لأقرأه فيما بعد...
للرواية بقية