تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: * ~ الطَّـريـد ~ * قصة من تاريخ الأندلس المشرق .

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Oct 2007
    الدولة
    ~ المــرِّيـْـخ ~
    المشاركات
    1,261

    افتراضي * ~ الطَّـريـد ~ * قصة من تاريخ الأندلس المشرق .

    بسم الله الرحمن الرحيم
    * ~ الطَّـريـد ~ *


    قصة جميلة ماتعة بأسلوب أخاذ بديع . . رسمت الأحداث بدقة مع ما فيها من آلام وآمال ، وأحلام لا تعرف المستحيل !! ، مع نهاية غير متوقعة . . فإلى القصة :
    بعد سقوط دولة بني أمية على أيدي بني العباس ، قام بنو العباس بالقضاء على المناوئين لهم من بني أمية ، أو غيرهم ، إما عن طريق القتل ، وإما عن طريق المقاتلة ، ومن بين المطاردين كان هذا الفتى .
    ( اقبضوا عليه يا جنود هيا بسرعة ، قبل أن يفر منا ، إنه في ذلك الحي ) ، بدأ الجنود المدججون بالسلاح بالركض خلف عبدالرحمن الذي دخل ذلك الحي المكتظ بالناس ، وقال مخاطبا أخاه ، - وصدره يعلو ويهبط من شدة التعب - لا تخف ، إن الله سيخلصنا من هؤلاء الأشرار . قال ذلك وقد اختلطت في وجهه علامات الغضب ، والخوف . ما أصعبها من لحظات! إنه رجل شجاع و نفس أبية لا ترضى الهوان ، فكيف يخاف ؟ قال وقد كز على أسنانه من الغيظ : هيا يا أخي أسرع ، ورفع بها صوته .
    المدينة هادئة إلا من صوت الجنود وهم يطلبون عبدالرحمن . قال أحدهم : ( من يقبض على عبد الرحمن له من أمير المؤمنينعشرة آلاف درهم في الحال ) ، توقف الناس لسماع هذا الصوت ، حتى قال رجل عجوز : عشرة آلاف درهم في الحال ، أظنه رجلا له شأن عند الخليفة .
    أصبح عبدالرحمن في المدينة خائفا يترقب ، حتى دخل دهليزا ضيقا بالكاد يتسع لرجل واحد ، وتبعه أخوه الصغير محمد ، وانحرفا بين أزقة المدينة الضيقة يمنة ، ويسرة حتى اقتربا من دار متواضعة .
    طرقا الباب بشدة : افتحوا الباب يا أهل الدار ، أصيبت العجوز بالهلع عند سماع هذا الصوت ، قال لها زوجها : دعيني أفتح الباب ، قالت : لا أرجوك إني أخاف عليك ، قال : الأعمار بيد الله ، وفتح الباب فإذا بالطارق عبدالرحمن وأخوه . قال عبد الرحمن بصوت أضناه التعب : هل تسمح لنا بالدخول يا عم ؟ فرد قائلا : نعم تفضلا على الرحب والسعة ، دخل عبدالرحمن الدار وقد بدا على جسمه التعب الشديد ، فإذا بها دار بسيطة متواضعة ، قال الرجل العجوز : استرح على هذه الأريكة وهدئ من روعك ، أحضري لنا طعاما يا امراة ، فالشمس اقتربت من المغيب .
    دار حديث بين عبدالرحمن وأخيه محمد ، قال محمد : يا أخي دعنا نسلم أنفسنا للجند قبل أن يقبضوا علينا فينكلوا بنا ، فرد عليه عبدالرحمن وقد علت على وجهه علامات استغراب : إن القوم قاتلونا إن نحن سلمنا أنفسنا لهم ، اعلم هذا جيدا ، ولا يغرنك ما قطعوه من عهود ، ومواثيق ، وما قالوه من أنهم سوف يكرموننا ، وأن دماءنا عزيزة غالية ، ذلك خداع ، واسكت الآن فالعشاء قادم ، قال الرجل العجوز : تفضلا على طعامنا ، فالجود من الموجود ، وأهلا وسهلا بكما ، وأكلا حتى شبعا ، أخذ قسطا من الراحة ، ومما زاد راحة عبدالرحمن أن الرجل العجوز لم يسألهما أية أسئلة عن سبب مجيئهما ، وعن التعب البادي على وجوههما ، وعندما صليا فجر اليوم التالي أستأذنا صاحب الدار بالرحيل ، فقال لهما : انتظرا ، ثم غاب قليلا وعاد وبيده صرة ليست بالصغيرة فقال : هذا زاد من الطعام للطريق ، ودّعا الرجل العجوز ، وشكراه على حسن ضيافته ن وذهبا .
    نظر الرجل إليهما - وفي وجهه علامات تعجب واستغراب وأسئلة يريد بها جوابا - وهز كتفيه قليلا وقال : يسر الله لكما أمركما .
    انطلق عبدالرحمن مسرعا وأخوه محمد يتبعه في ظلمة الفجر ، ومشيا بين أزقة المدينة الضيقة ، وبعد مدة ليست بالقصيرة ، ومع بزوغ أول ضوء للشمس من الأفق ، وصلا إلى الأشجار الوارفة ، والبساتين المنتشرة بكثرة على ضفة نهر الفرات ، وولجا بينهما حتى اقتربا من ضفة النهر ، قال محمد الذي بدا على وجهه التذمر ، والسأم : يا أخي ما فائدة الهروب ونحن مطاردون من سلطان الدولة ؟ قال عبدالرحمن بعصبية : قلت لك نحن في نظر الدولة أعداء . هل تفهم معنى كلامي ؟ أعداء . هذه حقيقة يجب أن تعيها . وبينا هما على هذه الحال ، إذا بصوت من بعيد ينادي : إنهما هناك بين البساتين عند ضفة النهر . التفت عبدالرحمن إلى مصدر الصوت ، وقد اتسعت عيناه ، نظر إلى أقصى اليمين ، وإلى أقصى اليسار ، ليس هناك أي سبيل للهروب سوى السباحة في هذا النهر ، وعبوره إلى الضفة الأخرى ، هيا يا أخي اقفز معي ، أسرع . بدأ الأخوان في السباحة ، وعبدالرحمن يتقدم على أخيه قليلا . . حتى اقتربا من وسط النهر فإذا برئيس الجند ينادي بصوت مرتفع : لا تخافا إن أمير المؤمنين أمر بالكف عن مطاردتهما ، وتنهد قليلا وقال : هيا ارجعا فنحن أبناء عمومة ، وبيننا نسب عريق . وصل الصوت إلى أسماع الأخوين ، وقال محمد - بصوت أضناه التعب الشديد - : أتسمع ما يقولون ؟ قال عبدالرحمن - بصوت مرتفع - : اسكت ، وتابع السباحة ، فلم يبق إلا القليل .
    وعاود رئيس الجند النداء : أعاهدكما ألا تُمس شعرة من جسديكما ، وألا تؤذيا ، ذلك عهد في رقبتي ألقى الله به يوم القيامة ، قال محمد : أخي يداي تؤلمانني ، ولا أستطيع مواصلة السباحة ، قال عبدالرحمن : اصبر وتحمل ، ولا تغرنك تلك العهود ، والمواثيق ، إنهم لا أيمان لهم ، قال محمد : أخي اسمح لي بالعودة ، فلم أعد أحتمل . قالها ونَفَسه يتتابع من شدة الإجهاد والألم ، قال عبدالرحمن : لا لا تعد . إنهم خونة . أتفهم ؟
    لم يسمع محمد نصائح أخيه ، وعاد أدراجه إلى ضفة النهر الأولى وهو لا يلوي على شيء . لكن يديه النحيلتين لم تساعداه على السباحة ، وعبدالرحمن يواصل السباحة بقوة وعزم ، حتى عبر النهر ، ويقف ينظر إلى أخيه محمد الذي وصل إلى ضفة النهر .
    أخرج الجند محمدا من النهر إلى اليابسة ، وهو في غاية الإجهاد ، حتى إن ظهره الصغير قد تحدب ، قال رئيس الجند : أهلا بابن العم وصلت إلى بر الأمان ، واقترب منه قليلا ، فمد يده مصافحا ، وتبسم ابتسامة صفراء تخفي وراءها معاني شريرة ، وما هي إلا لحظات حتى خر محمد صريعا يتلبط بدمائه ، لقد أجهز عليه رئيس الجند ، وذبحه كما تذبح الشاة . ما أبشعه من منظر ! منظر الدماء وهي تفور بغزارة من رقبة محمد الصغير الذي لم يبلغ الحلم أو كاد ، وقد شخص بصره ، وسالت دماؤه النقية حتى اختلطت بماء النهر .
    كم كانت له من أحلام ، وكم كانت له من ألعاب في طفولته القريبة ، هناك بين تلك البساتين كان يلعب مع أقرانه ، ويلهو بتربة هذا النهر ، وعلى ضفته الذي ذبح عليها الآن . كل هذا يحدث وعبدالرحمن ينظر إلى أخيه وهو يذبح أمامه ببساطة ، ولا يستطيع ، ولا يستطيع أن يحرك ساكنا ، اغرورقت عينا عبدالرحمن بالدموع ألا يجد ما ينقذ أخاه ، وقبض على يديه بشدة حتى نتأت عروقهما ، وفغر فاه من هول المنظر . أخوه المغدور هذا كم دارت بينهما أحدايث جميلة ، كم مرة جلسا في ظلمة الليل ينظران إلى بهاء نور القمر ، كم ناما بجانب بعضهما البعض ، كم أكلا معًا تذكر عبدالرحمن عندما كان محمد صغيرا ، كم حمله بين يديه ، وداعبه ، لكن عبدالرحمن مع ذلك كله يؤمن بقضاء الله وقدره في عباده ، ولله الأمر من قبل ومن بعد .
    أدار عبدالحمن ظهره للجند ، وأسرع بخطاه وتوارى بين البساتين المنتشرة بكثرة حتى انقطع الطلب عنه .
    تابع سيره مهموما مغموما على ما فُعل بأخيه الصغير ، إلا أن هناك رغبة جامحة ، وتطلعا للمستقبل ، وأفكارا كثيرة تتزاحم في عقله . مرت عليه أيام عديدة ، قطع خلالها بلاد الشام سيرا على الأقدام ، ومنها إلى سيناء ، ثم إلى مصر ، ثم إلى بلاد شمال إفرقيا ، حتى وصل مبلغه وهي بلاد المغرب العربي .
    هناك جلس على قارعة الطريق وحيدا طريدا من بني قومه ، وأهله ، وبدأ يفكر في مصيره ، وما آل إليه أمره . لقد فرّ من قومه أعزل لا يملك أي شيء من حطام الدنيا حتى وصل إلى هذه البلاد ، وبينما هو على هذي الحال ، وإذ بيد ثقيلة تربت على كتفه ، وإذا هو رجل طويل القامة ، مفتول العضلات ، عريض المنكبين .
    انتصب عبدالرحمن قائما ، وبدا يمسح يديه مما علق بها من تراب الطريق ، وقال بصوت ملؤه الغضب : من أنت ؟ وماذا تريد ؟ فقال الرجل بصوت أجش : هون عليك ، ولا تخف .
    تابع الرجل كلامه : هل أنت طريد بني بني االعباس عبدالرحمن ، قال عبدالرحمن - وقد علت على وجهه علامات استغراب عدة - : نعم أنا هو ولكن .. قال الرجل مقاطعا : لا تتعجب فقد علمنا بهروبك من بني العباس ، ونحن ننتظرك لنقدم لك المساعدة من اجل الإبحار إلى بلاد الأندلس ، ولكن أخبرني خبر هروبك .
    فقص عليه عبدالرحمن القصص بعد أن عرّفه الرجل بنفسه ، قال الرجل : الحمدلله على سلامتك ، موعدنا الغد عند البحر صباحا .
    وفي الغد توجه عبدالرحمن إلى البحر .
    وهناك عند الشاطئ وقف بقامته الممشوقة ونظر إلى البحر نظرة ملؤها التفاؤل ، والأمل الكبير ، وقد جال بفكره الحلم الذي طالما راوده وأرق مضجعه ، وهو إقامة دولة بني أمية على ارض الأندلس ، نظر عبد الرحمن إلى البحر وقد برقت عيناه بالأمل .
    قد استطاع عبد الرحمن فيما بعد ، بعد طول مشقة ، وصبر ، ومثابرة ، وبعد قتال للمناوئين لحكم بني أمية ، أن يحقق الحلم الذي راوده طويلا ، وأرقه كثيرا وهو إقامة دولة بني أمية على أرض الأندلس .
    استقر بقرطبة ، واستطاع بجدارة أن يكون هو الحاكم لتلك البلاد . وتذكر الروايات أنه بنى القصر ، والمسجد الجامع بقرطبة بمبلغ ثمانين الف دينار .
    هذا هو طريد بني العباس الذي لُقّب فيما بعد بـ عبدالرحمن الداخل .

    -------
    منقول : من مجلة الأسرة عدد جمادى الأول من عام 1418هـ للكاتب / عبدالعزيز محمد هادي العنزي .
    يا ربِّ : إنَّ لكلِّ جُرْحٍ ساحلاً ..
    وأنا جراحاتي بغير سواحِلِ !..
    كُل المَنافي لا تبدد وحشتي ..
    ما دامَ منفايَ الكبيرُ.. بداخلي !

  2. #2

    افتراضي رد: * ~ الطَّـريـد ~ * قصة من تاريخ الأندلس المشرق .

    شكرا لك ... بارك الله فيك ...

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    الدولة
    سياتل..ولاية واشنطن ..
    المشاركات
    977

    افتراضي رد: * ~ الطَّـريـد ~ * قصة من تاريخ الأندلس المشرق .

    بارك الله فيك أختنا الكريمة..نقل موفق...
    أنا الشمس في جو العلوم منيرة**ولكن عيبي أن مطلعي الغرب
    إمام الأندلس المصمودي الظاهري

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Oct 2007
    الدولة
    ~ المــرِّيـْـخ ~
    المشاركات
    1,261

    افتراضي رد: * ~ الطَّـريـد ~ * قصة من تاريخ الأندلس المشرق .

    شكرا لكما ... بارك الله فيكما ...
    يا ربِّ : إنَّ لكلِّ جُرْحٍ ساحلاً ..
    وأنا جراحاتي بغير سواحِلِ !..
    كُل المَنافي لا تبدد وحشتي ..
    ما دامَ منفايَ الكبيرُ.. بداخلي !

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Aug 2008
    الدولة
    مصر
    المشاركات
    395

    افتراضي رد: * ~ الطَّـريـد ~ * قصة من تاريخ الأندلس المشرق .

    جزاكم الله خيرا على التذكير بهذه المآسى التى تؤخذ منها العبرة والعظة وتوقظ القلوب وتوقظها إلى الوفاء بالعهد والبعد عن الخيانة فكم من خيانات وقعت فى التاريخ تسببت فى هز كيان أسر باسرها بل دول بأكملها
    دكتور عبدالباقى السيد عبدالهادى الظاهرى

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •