موسم الخير وواقع الأمة - رمضان مدرسة إيمانية تربوية إصلاحية



وائل رمضان

قال الله -تعالى-: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ...} (البقرة: 185)، مع إشراقة شهر رمضان المبارك، يتطلع المسلمون إلى الاستفادة من هذا الموسم العظيم، الذي شرفه الله -تعالى- بأن أنزل فيه القرآن، ليكون منهج حياة وهدى ونورًا وخيرًا للمسلمين والبشرية جمعاء.

هذا المنهج الرباني صنع أمَّة التوحيد التي واجهت العالم بالدين الخاتم، وبسطت جناحيها على الشرق والغرب، وقدمت نمطاً إنسانيًا للحياة يقوم على العدل والرحمة والتعاون والرفق بالضعفاء ومساعدة المحتاجين، فضلاً عن التماسك والوحدة والاستسلام لله وحده والخضوع له.

وكثيرًا ما نتحدث مثلاً عن انتصارات المسلمين التي حدثت في شهر رمضان المبارك، ونستعذب استعادتها في الأسماع والقلوب كما جرى في بدر والخندق وفتح مكة والقادسية وفتح الأندلس وعين جالوت والعبور في العاشر من رمضان، بيد أن استعادة حديث الانتصارات ينبغي أن يعيدنا إلى التعرف على كيفية تحقيقها، أو العلم بالطرائق التي أدت إليها في هذه المدرسة الإيمانية التربوية العظيمة، في ظل هذا الواقع المرير الذي تعيشه الأمة الآن على مستويات شتى.

مدرسة تربوية وإيمانية

في البداية أكد رئيس اللجنة العلمية بجمعية إحياء التراث الإسلامي الشيخ محمد الحمود النجدي، أن المدرسة التربوية والإيمانية والأخلاقية عظيمة؛ يستغرق التكوين والتربية في هذه المدرسة الجليلة مدة محدودة ومعدودة، قال -تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات} (البقرة:183)، هذه المدرسة الرمضانية يتربى فيها المسلم، على جملة من المواد العلمية، والقيم التربوية الإيمانية، التي تكفل للأمة -أفرادًا وجماعات- أن تتغير حياتهم وواقعهم إلى الأفضل في شتى المجالات وعلى المستويات كافة، ومن هذه المعاني ما يلي:

القرآن الكريم

فرمضان شهر القرآن، فيه أنزل القرآن الكريم؛ هداية للناس؛ وفيه كان النبي - صلى الله عليه وسلم- ومن معه من الصحابة والسلف من بعدهم يتلون القرآن الكريم ختمات متعددة؛ ويتدارسونه فيما بينهم، وكذا في سنة صلاة التراويح والقيام التي فيها تلاوة كتاب الله -تعالى- في بيوت الله، ففي هذه المدرسة اليومية، لا بد للمسلم من تلمس الهدى من كتاب الله -تعالى- بالتلاوة والفهم والتدبر، والتدارس والتعلم والتعليم، وحفظ ألفاظه وحدوده.

إخلاص ومراقبة

في مدرسة رمضان يتربى المسلم على الإخلاص ومراقبة الله في السر والعلن، فهو يمتنع عن شهواته من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ طاعة لله -تعالى- وخوفا منه -سبحانه-، فلو شاء لأكل وشرب حيث لا يراه أحد من البشر، ثم يخرج إليهم مُظهراً أنه صائم، لكن تقوى الله واستشعار مراقبته منعاه من ذلك.

تقوية الإرادة

في مدرسة رمضان يتربى المسلم على الصبر: فالمسلم يتدرب في مدرسة رمضان على تقوية الإرادة، وقوة العزيمة، وشحذ الهمة بالصبر والتصبر على الجوع والعطش، وعلى ترك المألوف والمعتاد من الشهوات، وعلى القيام والسهر للصلاة وتلاوة القرآن، بل والصبر على أذى الناس، بأن يدفع إساءتهم بالإحسان، ففي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «.. وإذا كان يومُ صَومِ أحَدِكم فلا يَرفُثْ، ولا يصخَبْ، فإن سابَّهَ أحدٌ، أو قاتَلَه؛ فلْيقُلْ: إنِّي امرؤٌ صائِمٌ». متفق عليه.

الجُود والبذل

في مدرسة رمضان يتربى المسلم على الجُود والكرم والبذل في سبيل الله -تعالى-: والجود والإنفاق خلق يحبه الله؛ وحثّ عليه عباده؛ وهو مما يزين العبد، ويمهد له الطريق إلى محبة الخالق والمخلوق، فيكون الكريم قريبا من الله، قريبا من الناس، وهذه النعمة والخصلة مما يغيظ الشيطان اللعين، فلا غرو أن يقف للعبد في هذا الطريق، طريق الإنفاق والجود والكرم، صادا له عنه؛ قال -تعالى-: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم} (البقرة: 268). والفحشاء في هذه الآية في قول عامة أهل التفسير: هو البخل والشح.

الجد والاجتهاد

في مدرسة رمضان يتربى المسلم عموماً على الجد والاجتهاد، وجهاد للنفس والهوى والشيطان، والرقي بها إلى معالي الأمور، ومنعها من سفسافها، فيصلي ويصوم ويقوم، ويقبل على الذكر وقراءة القرآن، ويهجر مجالس اللغو واللهو والرفث، ويشتغل بالتوبة والاستغفار؛ وتجديد العهد مع الرحيم الرحمن.

مدرسة التزكية والتصفية

وزاد على هذا المعنى الشيخ شريف الهواري قائلاً: لا شك أن رمضان مدرسة إيمانية تربوية إصلاحية عظيمة جدا كفيلة بأن ترتقي بالأمة أفراداً وجماعات إلى القمة، يكفي أنها مدرسة التزكية والتصفية والتخلية, والجو العام يغلب عليه الارتقاء الإيماني فيجد العبد فيه خير إعانة وتمارس فيها أكبر قدر ممكن من الطاعات والقربات المفروض منها والمسنون، وهذه المعاني -ولا شك- جدير بها أن ترتقي بنا إلى القمة؛ ولذلك ينبغي علينا أن ننتبه لهذه المدرسة التي افترضها الله -تبارك وتعالى- علينا لنرتقي فيها بأنفسنا وأن نتعلم فيها أسمى معاني العبودية والقرب من الله -عز وجل.

معوقات الاستفادة من رمضان

وعن معوقات الاستفادة من شهر رمضان قال الشيخ النجدي، قال الله -عز وجل-: {إنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} (الليل)، وصدق الله -تعالى-، فنحن نرى التباين بين الناس فيما يتعلق بمواسم الخير، ولاسيما شهر رمضان واستقباله، واستعداد الناس له حسب درجة العبد من الإيمان والصبر واليقين، ومنزلته من اليقظة واغتنام ساعات العمر، وبقدر الإخلال بشيء من ذلك يغفل العبد ويبتعد عن مواسم الخير، والمتاجر مع الله -عز وجل.

فمن الناس من يستقبل شهر رمضان بالضجر – نسأل الله العافية – على ما سيفقده من الشهوات والأكل والشرب متى ما أراد، ومنهم من يستقبله بالسفر والهرب عن بلاد المسلمين، وربما السياحة في دول الكفر، ومنهم من يستقبله بالإكثار من الأطعمة ويخص بها رمضان، ومنهم من يستقبله بالفرح والاستبشار وحمد الله أنْ بلغه رمضان، ويعقد العزم على أنْ يعمره بما يزيد حسناته، ويقربه إلى ربه -تعالى-، وهؤلاء هم الفائزون، وهم أهل الإيمان والإسلام، وأتباع السلف؛ حيث يؤثر عن السلف: أنهم كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم.

تعظيم رمضان

أما الشيخ الهواري فيرى أن تعظيم رمضان بوصفه شعيرة من الشعائر من أهم مفاتيح الاستفادة من هذا الشهر الكريم؛ لأنه تعظيم لمن شرعه، وأرى أن السبب الأكبر في عدم الاستفادة من هذه المدرسة الربانية أننا لم نعظم رمضان حق تعظيمه الذي أراده المولى تبارك وتعالى منا، سواء مع رمضان أم مع ما افترض الله علينا في باقي الأوامر الشرعية؛ ولذلك نحتاج لمراجعة هذا المعنى للبحث عن أسباب زيادة التعظيم لما شرع الله -سبحانه وتعالى- في قلوبنا حتى نغتم الفرصة ولذلك أرى أن من أهم الأسباب زيادة التعرف على الله -سبحانه وتعالى- وألوهيته وأسمائه وصفاته فيزداد قدر التعظيم في قلوبنا له وما شرع لنا -سبحانه وتعالى-، وعلينا أن ننتبه لهذا المعنى العظيم حتى نستفيد من هذه المدرسة الإيمانية التربوية الإصلاحية.

واقع الأمة

وعن واقع الأمة في التعامل مع رمضان قال الهواري: الأمة لم تنهض بعد لمستوى رمضان ولا قيمة رمضان وما الذي فرض من أجله؛ لذلك نرى فتورا ملحوظا في استقباله وفي أدائه حتما سيكون كذلك وأيضا في وداعة؛ ولذلك سرعان ما ننتكس بعد الخروج منه؛ ولذلك فالأمة تحتاج إلى مراجعة هذا المعنى وحالها مع رمضان كيف يستقبل؟ وكيف يُؤدي؟ وكيف يودع؟ وكيف يستثمر؟ نحتاج أن نوضح هذه المعاني المهمة جدا ولذلك أرى أهمية المبادرة بتوبة صادقة نصوح، توبة جماعية كما يقول -تعالى-: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، نتخفف بها من آثار الذنوب والمعاصي التي أحاطت بنا وسلط علينا بسببها الأمراض فندخل رمضان بصفحة بيضاء نقية سيكون رمضان خيراً على هذه الأمة؛ فرمضان مميز، وله طعم جديد -بإذن الله تعالى.

الاستفادة الحقيقية من رمضان

وعن الاستفادة الحقيقية من رمضان قال الهواري: رمضان فرصة ذهبية لتحقيق الإصلاح والتغيير الذي ننشده على مستوى الفرد والأسرة كما قلنا والدولة والأمة بأسرها، وبالحرص على الطاعات يزداد الحرص على السنة والإقبال على القرآن والبذل والذكر والدعاء لاشك أن هذه من المواطن المهمة جدا التي ينبغي أن تكون ملحوظة؛ لأنها سبب من أسباب تحقيق التغير الحقيقي لأنفسنا. فكم كنا نتعلم ونرى صعوبة تحقيق الإصلاح والتغيير، وإذا بنا في يوم وليلة تتغير البرامج تماما ونتحول من وضع إلى آخر في عشية وضحاها كما يقولون، وإذا الدليل على القدرة على الإصلاح والتغير، ولذلك الاستفادة العظمى في نظري تكون في اتباع هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وكيف كانوا يغتنمون رمضان؟ فالقيادة الإيمانية ينبغي أن تكون حاضرة فيكون -صلى الله عليه وسلم- أسوة وقدوة لنا في كيفية اغتنام الفرص واستثمارها الاستثمار الأمثل، فعلينا أن نحرص أشد الحرص على اغتنام رمضان الاغتنام الأمثل حتى نسمو ونرتقي -بإذن الله تبارك وتعالى- معه؛ لأنه فعلا فرصة ذهبية ينبغي أن نعض عليها بالنواجذ، وأن نتعاون أفرادا وأسرا ومجتمعات حتى يكون الجو العام روحانيا؛ فالشياطين مسلسلة ولا تصل إلينا كما كانت تصل قبل رمضان، ونجد على الخير أعوانا فالتعاون على البر والتقوى من أعظم صفات المؤمنين الموحدين، وهذا معنى ينبغي أن يكون ظاهرا حتى نغتنم الفرصة؛ فهي عبادة جمعية للأمة في مشارق الأرض ومغاربها تشترك فيها في الصيام والقيام والإقبال على القرآن، وفي تهذيب النفوس والتصفية والتحلية؛ ولذلك فهي فرصة ذهبية ينبغي أن تغتنم وتوظف التوظيف الصحيح.

المبادئ والقيم التربوية

وعن المبادئ والقيم التربوية التي نخرج بها من رمضان قال الهواري: لا شك أن رمضان من أعظم المدارس الإيمانية الإصلاحية، ومن أهم القيم التي يغرسها رمضان في نفوس المسلمين قضية الاتباع الكامل لهدي النبي -صلى الله عليه وسلم -، والحرص على الأوقات والتوظيف الصحيح لها، وكذلك الصبر والاحتساب في الإمساك عن الطعام والشراب المباح والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهذه معاني وقيم يُربى عليها المؤمن.

الوحدة والاجتماع

- وأضاف الهواري: كذلك فإن رمضان عبادة جمعية تدعو الأمة للألفة والوحدة والاجتماع، والكل سواسية في الصيام: الوزير، والسفير، والغني، والفقير، والأبيض كالأحمر، والعربي كالعجمي، والحاكم والمحكوم، الكل سواء فلا يسقط الصوم الا بعذر أو عجز.

الالتصاق بالقرآن

كذلك من أهم القيم التي يغرسها فينا رمضان الالتصاق بالقرآن من خلال التلاوة التي نقبل عليها بطبيعتنا وبكوننا على يقين أنه شهر أنزل فيه القرآن، وكذلك لعظيم الأجر والثواب فالإقبال على القرآن والالتصاق به في شهر رمضان ينبغي أن تستصحب كقيمة قوية راقية؛ لأن القرآن منهجنا ودستور حياتنا وبركتنا وعزتنا ونورنا إلى أخر هذه المعاني.

الحياء

وختم الهواري كلامه قائلا: من أهم القيم التربوية الجميلة في رمضان أيضا أننا نشعر بمسحة حياء تظهر على كثير من المسلمين نساء ورجالاً، ينبغي أن تنمي وأن توظف وتستعمل الاستعمال الجيد حتى ترتقي بنا أخلاقيا وسلوكيا، وهذه المعاني كثيرة جدا جدا لكن على الجملة رمضان فرصة عظيمة للأمة كي تعود لتسود وتقود، ولتسمو وترتقي، ويكفينا لنتحرك أن نعلم أن رمضان فرض علينا من أجل تحقيق التقوى التي بها الفلاح والنجاة والفوز في الدنيا والآخرة... أسال الله -عز وجل- أن يبلغنا رمضان، وأن يوفقنا لاستقباله وأدائه ولوداعه واستصحابه بعدة حتى نستفيد من قيمه التربوية العالية إيمانية وتربوية وإصلاحية لا نظير لها.