الاحتباك وأثره في تماسك النص
د. أنس بن محمود فجّال

يمكننا تناول مصطلح الاحتباك من خلال معطيات علم اللغة النصي ، وذلك ببيان دور الحذف في التماسك النصي :
فالتماسك النصي يتحقق بوساطة الحذف من خلال محورين أساسيين يحتوي عليهما (1):
1 . التكرار : حيث اشترط النحويون كون المحذوف من لفظ المذكور ما أمكن ، أو من مرادف له ومتعلق به (2)، بمعنى أن يكون التكرار باللفظ أو بالمعنى أو بكليهما .
2 . الإحالة : وذلك بنوعيها القبلية أو البعدية .
وقد أدرك السيوطي أن الحذف يحقق التماسك بين عناصر النص ، وأطلق عليه مصطلح ( الاحتباك ) ، « وهو أن يحذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني ، ومن الثاني ما أثبت نظيره في الأوّل ... وقال الزركشي : هو أن يجتمع في الكلام متقابلان ، فيحذف من كل واحد منهما مقابله لدلالة الآخر عليه . اهـ . وقد أطلق عليه مصطلح ( الحذف التقابلي ) .
ومن ذلك قوله تعالى : ( فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ) آل عمران: ١٣، أي : فئة ( مؤمنة ) تقاتل في سبيل الله ، و( فئة ) أخرى كافرة (تقاتل في سبيل الطاغوت). فقد دلّلنا على ( مؤمنة ) في الجملة الأولى ما يقابلها في الجملة الثانية ، وهو ( كافرة ) ، ودلّنا على المحذوف ( فئة ) في الجملة الثانية ما يقابلها في الجملة الأولى وهو ( فئة ) ، ودلّنا على ( تقاتل في سبيل الطاغوت ) في الجملة الثانية ما يقابلها في الجملة الأولى ( تقاتل في سبيل الله ) .
ومنه أيضًا قوله تعالى في قصة موسى ( وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ) النمل: ١٢. والتقدير : وأدخل يدك في جيبك ( تدخل غير بيضاء ) ، (وأخرجها) تخرج بيضاء . فدلّ لفظ (بيضاء) في الأواخر على عبارة ( غير بيضاء ) المحذوفة من الأوائل ، ودلّت عبارة (وأدخل) في الأوائل على عبارة (وأخرجها) المحذوفة من الأواخر، فتمّ الاحتباك (
3).
ومصطلح ( الاحتباك ) له أهميته عند دارسي التماسك ؛ لأنّه يشير إلى الخيوط الأولى لنظرية التماسك النصي في تراثنا العربي . ومنه اشتقّ النصّيون مصطلح ( الحبك ) للدلالة على الانسجام المعنوي في النص .
ومأخذ هذه التسمية من الحبك الذي معناه الشدّ والإحكام ، وتحسين أثر الصنعة في الثوب ، فحبك الثوب سدُّ ما بين خيوطه من الفُرَج وشدّه وإحكامه ، بحيث يمنع عنه الخلل مع الحسن والرونق . وبيان أخذه منه من أنّ مواضع الحذف من الكلام شُبّهت بالفُرَج بين الخيوط ، فلمّا أدركها الناقد البصير بصوغه الماهر في نظمه وحوكه ، فوضع المحذوف مواضعه كان حابكًا له مانعًا من خلل يطرقه ، فسدّ بتقديره ما يحصل به الخلل»(
4).
ونلحظ من خلال قوله تعالى : ( وقيلللذين اتّقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا ) النحل:٣٠، أنّ التماسك فيها تمّ عن طريقين :
1 . التكرار : فالمحذوف هو عينُه الدليل المذكور في السؤال السابق .
2 . الإحالة : لأنّ المتلقي لم يتعرّف على المحذوف إلا بالرجوع إلى الدليل ، عن طريق الإحالة الداخلية القبلية .
ولا بدّ من الإشارة إلى دور المتلقي في ملء هذا الفراغ الذي أحدثه الحذف ، وذلك عن طريق الدليل الموجود في النص ، سواءً أكان ملفوظًا أو ملحوظًا أم استبداليًّا ، ولأجل أن يقوم المتلقي بهذا الدور فلا بدّ من إحالة ، وهذه الإحالة تكون إلى الدليل كما سبق بيانه، وكلما كانت المسافة بين الفراغ ( المحذوف ) والدليل عليه أبعد كان أثر الحذف أقوى في تماسك النص وربط جمله ومكوناته .


المرجع : الإحالة وأثرها في تماسك النص في القصص القرآني . د. أنس بن محمود فجّال . 111 ، 113 .
منقول