سورة الضحى والشرح
عبد العظيم بدوي الخلفي


سورة الضحى:

قال الله - تعالى -: (وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى * فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) سورة الضحى.
بين يدي السورة:
سورةٌ مكية روى البخاري بسنده عن جُندب بن سفيان - رضي الله عنه -: "قال اشتكى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فلم يقم ليلتين أو ثلاثًا، فجاءتِ امرأةٌ فقالت: يا محمد، إنّي لأرجو أن يكونَ شيطانك قد تركك، لم أره قرِبك منذ ليلتين أو ثلاثًا، فأنزل الله - عز وجل -: (وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى..).
تفسير السورة:
(وَالضُّحَى): معروف، (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) أي: سكن فأظلم، كقوله - تعالى -: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى)، وجوابُ القسم (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) أي: ما هجرَك بعد أن وصَلك، ولا أبغضك بعدَ أن أحبك، (وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى) على كثرةِ ما أُوتيتَ في الدنيا من فضلٍ، فالآخرةُ خيرٌ لك من الأولى، (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) والأَولى إبقاءُ هذا الوعد على عمومه، إلا أن من المبشرات أنه يدخل في هذا الوعد ما رواه مسلم في الصحيح: ((أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قامَ ذات ليلةٍ يصلّي، فقرأ المائدة حتى أتى على قوله - تعالى -: (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ)، فأخذ يردد الآية ويبكي، فقال الله - تعالى -: يا جبريلُ، ائت محمدًا فاسأله ما يبكيه؟ وربّك أعلم، فأتى جبريلُ النبي –صلى الله عليه وسلم- فسأله، فقال: يا جبريل، أمتي، أمتي، فعرج جبريلُ فذكر ما قال محمد، وربك أعلم، فقال الله - تعالى -: يا جبريل، ائت محمدًا، فقل له: لا تبكِ، فإنا سُنرضيك في أمتك)).
ثم أخذ اللهُ - تعالى - يعدّد على محمد نِعَمَه، فقال: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى)، ومعلومٌ من سيرته أنّ أباه تُوفّي وهو جنينٌ في بطن أُمه، ثم تُوفيت أمه وهو ابن ست سنين، فكفَله جده عبد المطلب، ثم تُوفي عبد المطلب وهو ابن ثمان سنين فكفله عمه أبو طالب، وألقى الله - تعالى - محبة محمد في قلب أبي طالب، فكان أقرب إليه من أبنائه، فآواه وأحسن إليه، ولم يزلْ يحوطه برعايته وعنايته حتى بُعث، فنصره ودافع عنه وكفِّ أذى قومه عنه، مع أنه كان على دين قومه، ولم يؤمن بنبوة ابن أخيه محمد، وإنما كان ذلك كله بقدر الله وحُسن تدبيره لنبيه.
وقوله - تعالى -: (وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى) أي: وجدك غافلاً عن هذا الدين، وهذا الوحي، وهذه الشريعة، فاختارك لها، ومَنَّ عليك بها دون سائر قومك، وهذا كقوله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا..) [الشورى:52]، وقوله - تعالى -: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا القُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغَافِلِينَ) [يوسف:3]، وقوله - تعالى -: (وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ) [القصص:86]، وقوله - تعالى -: (وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) [النساء:113].
وقوله - تعالى -: (وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى) أي: وجدك فقيرًا ذا عيال فأغناك أولاً، بغنى النفس، وهو الأصل، كما قال –صلى الله عليه وسلم-: ((ليس الغنى عن كثرة العَرَضِ، ولكن الغنى غنى النفس)).
فأغنى الله نبيه غنى النفس، ورزقه القناعة، وهي كما يقولون كنزٌ لا يفنى، كما أغناهُ بكسبه وتجارته في مال خديجة –رضي الله عنها-، ثم تزوجها فكان مالها له فإذا علمت فضل الله عليك (فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ)، لقد كنت يتيمًا فآواك الله، فأحسن إلى اليتيم وأكرمه، لا تقهره، ولا تظلمه، ولا تدفعه ولا تطرده، ولقد أحسن إلى اليتامى، وأمر بالإحسان إليهم، ونهى عن أذيتهم وظلمهم، وكان يقول: ((اللهم إني أُحرّجُ حقّ الضعيفين اليتيم والمرأة)).
وقوله - تعالى -: (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ)، فمَن سألك شيئًا من مالك أو من جاهك فلا تنهره على سؤاله، ولكن إما أن تعطيه، وإما أن ترده بميسور من القول، كما قال - تعالى -: (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا) [الإسراء:28]، كما أنّ لفظ السائل يشملُ أيضًا طالبَ العلم إذا سأل عن مسألةٍ، فعلى العالمِ ألا ينهره، بل يكون به رفيقًا، وعليه حليمًا، وعليه أن يصبر على قلّة فهمه، ويعيد عليه القول حتى يفهمه.
وقوله - تعالى -: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)؛ لأن التحدث بها شكرٌ، والشكرُ يزيدها، قال - تعالى -: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7]، (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل:19].
سورة الشرح:
يقول الله - تعالى -: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ *الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ *فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ).
بين يدي السورة:
سورةٌ مكية، شديدةُ الاتصال بالسورة التي قبلها، ولذا كان بعضُ السلف يعتبرهما سورةً واحدة، فلا يفصل بينهما بالبسملة.
تفسير الآيات:
قوله - تعالى -: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) سؤالٌ للتقرير، ومعناه قد شرحنا لك صدرك، ومن شرح الله صدره يسر له الخير، وأعانه على البر، ورزقه حُسن الخُلق وسعة الصدر، فهو دائمًا يسع الناس بحلمه، ويسعهم بحسن خلقه، وهو دائمًا هين لين، رفيق رحيم، ومن كان كذلك وُفق في دعوته، وأقبل الناس عليه، كما قال - تعالى – لنبيه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران:159]، ولذا لما كلف الله موسى أن يأتي فرعونَ قَالَ: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) [طه:25]، أي وسع صدري حتى أتحمل الأذى القولي والفعلي، ولا أضيق صدرًا بما أسمع من أذى، ولا بما ينالني من أذى، فإن واسع الصدر لا يحزن ولا يغتم لكلمة يسمعها أو أذية تصيبه، وإنما يتلقى الأذى على الرحب والسعة، ويصبر على ذلك ابتغاء وجه ربه الأعلى، وقوله - تعالى -: (وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ)، من المعلوم أن الأنبياء معصومون من كبائر الذنوب قبل النبوة وبعدها، فلم يبقَ إلا الصغائر، التي ربما تكون عن اجتهاد، فهي مغفورةً، إلا أن شرف الأنبياء وعُلو شأنهم يجعل النبي إذا كانت منه الصغيرة ولو عن اجتهاد يراها شيئًا عظيمًا، ويحمل همها، وهذا الإحساس ربما وجده بعضُ الصالحين من المؤمنين، فالأنبياء أولى بذلك، فتفضل الله على نبيه وغفر له ما كان من نحو ذلك، فوضع عنه بذلك وزره، الذي أنقض ظهره، والنقيض هو الصوتُ الذي يُسمع من المحمل فوق ظهر البعير من شدة الحمل، وهذه الآية كقوله - تعالى -: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) [الفتح:2].
وقوله - تعالى -: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)، فلا يُذكر الله إلا وذُكرت معه، في الأذان، والإقامة، والصلاة، والخطبة، ونحو ذلك، حتى لو أن رجلاً آمن بالله وكفر بمحمدٍ ما نفعه ذلك، وقوله - تعالى -: (فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا) مع الكرب فرجًا، ومع الشدة رخاءً، فليصبر الإنسان، (فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا) قال العلماء: "عُرِّفَ العُسْر، ونكَّر اليُسر، فتوحد العسر، وتعدد اليسر، ولذا جاء عن بعض السلف لن يغلب عسر يسرين".
وقوله - تعالى –: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ) قال بعض العلماء: "إذا فرغت من أشغال الدنيا فانصب في عبادة ربك"، وأرجح الأقوال: إذا فرغت من عملٍ فانصب في عملٍ آخر، إذا فرغت من عمل الدنيا فانصب في عمل الآخرة، وإذا فرغت من عمل الآخرة فانصب في عمل الدنيا، وإياك والكسل، وإياك والخمول، وإياك واللهو، وإياك واللعب، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أنه مرّ برجلين يتصارعان، فقال: ما بهذا أُمرنا بعد فراغنا"، وكان عُمر - رضي الله عنه – يقول: "إنّي لأكرهُ لأحدكم أن يكون سَبَهْلَلاً، لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة ".
وقال بعضُ العلماء: "هذه الآية حَلَّتْ مشكلة الفراغ عند المسلمين، ولذلك لم يشتك الصدر الأول مما يشتكى منه الناس اليوم"، يدلك على ذلك قول عروة بن الزبير وهو حدثٌ صغير السن لعائشة - رضي الله عنها - وكانت خالته: "إن الله يقول: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا) إذن، فلا جناح على الرجل أن يدع الطواف بين الصفا والمروة، فقالت عائشة: لا، يا ابن أختي، ليست هكذا، ولو كانت كما فهمت، لقال الله: فليسَ عليه جناحٌ أن لا يطوف بهما" متفق عليه.
والشاهدُ أن هذا الصبي اليافع، هكذا كان يقرأ القرآن، ويتدبر معانيه، وهكذا كان حريصًا على التثبت من صحة فهمه، ومن كان كذلك فلن يكون عنده فراغ أبدًا.
فيا أخا الإسلام وقتك وقتك فإنه رأس مالك في تجارتك مع الله، وكل مفقود عسى أن تسترجعه إلا الوقت، فإنه إذا فات لم يتعلق بالنفس أملٌ في رجوعه؛ فاغتنم فراغك يا عبد الله، واعلم أن من قال: ((سبحان الله العظيم وبحمده غُرست له نخلة في الجنة)) صحيح رواه الترمذي.
فانظر إلى مضيع الساعات كم ضيّع من نخلات؟ والله إنها لجريمة كبرى هذه المقولة قال: نضيع الوقت، وسوف يعلم هؤلاء قيمة الوقت إذا جاء أحدهم الموت، وسوف يطلب قليلاً من الوقت يتدارك فيه ما فات، وهيهات هيهات، قال - تعالى -: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون:99]،
وقوله - تعالى -: (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) أي: اجعل نيتك لله، ورغبتك إلى الله - عز وجل -.
والحمد لله رب العالمين،