العبودية في حياتنا الأسرية
عصام زيدان




حصر الحق تبارك تعالي الغاية من خلق الإنسان في تحقيق العبودية الخالصة لله عز وجل, قال تعالي:"وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"(ا لذاريات:56), "فهذا النص يحتوي حقيقة ضخمة هائلة، من أضخم الحقائق الكونية التي لا تستقيم حياة البشر في الأرض بدون إدراكها واستيقانها, سواء كانت حياة فرد أم جماعة, أم حياة الإنسانية كلها في جميع أدوارها وأعصارها, وإنه ليفتح جوانب وزوايا متعددة من المعاني والمرامي، تندرج كلها تحت هذه الحقيقة الضخمة، التي تعد حجر الأساس الذي تقوم عليه الحياة.
وأول جانب من جوانب هذه الحقيقة أن هنالك غاية معينة لوجود الجن والإنس تتمثل في وظيفة من قام بها وأداها فقد حقق غاية وجوده؛ ومن قصر فيها أو نكل عنها فقد أبطل غاية وجوده؛ وأصبح بلا وظيفة، وباتت حياته فارغة من القصد، خاوية من معناها الأصيل، الذي تستمد منه قيمتها الأولى, فقد انفلت من الناموس الذي خرج به إلى الوجود، وانتهى إلى الضياع المطلق، الذي يصيب كل كائن ينفلت من ناموس الوجود، الذي يربطه ويحفظه ويكفل له البقاء, هذه الوظيفة المعينة التي تربط الجن والإنس بناموس الوجود هي العبادة لله".
هذه الكلمات المشرقة لصاحب الظلال تفتح لنا آفاق الحديث عن جانب ربما يكون قد اعتلاه غبار الزمن وطوته الليالي والسنون وما بقي منه إلا أثر خافت في النفس قد تهفو إليه حينا وتتذوق من برد طمأنينته ولذة أنسه ولكن تأخذها بعد حين جاذبية الطين فتغفل عنه وترقد وتنسى ما قد مر بها من ساعات أنس لو علمها الملوك لقاتلوها عليه.
إنها العبودية في حياتنا الأسرية التي ربما تكون المرة الأولى التي يتطرق فيها إلى آذان بعضنا، هذا الجانب من جوانب العبودية التي يجب أن تنطلق منها حياتنا كلها واليها تعود, قال تعالي:"قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"(ا لأنعام:162).
فإذا كان الهدف والغاية من خلق الإنسان تحقيق العبودية لله تعالى, والركن الرئيس الذي تنطلق منه خلجاته وحركاته وسكناته هي العبودية لله رب العالمين, فان الحياة الأسرية القائمة على شريعة رب البرية لتنسجم في هذه المنظومة الربانية فنراها تحقق الغاية وتسمو بأركانها وأعضائها في توافق جميل جذاب لتحقيق مراد رب العالمين.
فتنقلب الأسرة المسلمة التي وعت حقيقة وجودها وغاية خلقها واستخلافها, تقيم فيما بينها العبودية وتشد أفرادها كلما تراخى الخيط أو ضعفت الهمة لاستكمال المسير في منازل العبودية حتى ملاقاة رب البرية, وحينها تكون البشرية: "وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُم ْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ".(الطور:21 ).
وثمة أمور أخرى تدعونا لطرح هذا الموضوع في مقدمتها كذلك الأمر الوارد من قبل الحق تبارك وتعالي:"يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً"(التحريم:6 ), قال ابن كثير:قال قتادة: أي يأمرهم بطاعة الله وينهاهم عن معصيته وأن يقوم عليهم بأمر الله يأمرهم به ويساعدهم عليه, وقال الضحاك ومقاتل: حق على المسلم أن يعلم من قرابته وإمائه ما فرض الله عليهم وما نهاهم عنه.
وهذا كتاب ربنا سجل دعوة إبراهيم عليه السلام لأبيه لتحقيق العبودية خوفا عليه وفرارا من المصير المظلم "يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا"(مريم:43) , وسجل كذلك دعوة نوح لابنه "وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ"(ه ود:42), والى جانبهما أمر النبي بالدعوة أولا في العشيرة والأقارب: "وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ"( الشعراء:214), وفصل في دعوة لقمان لابنه: "إِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ"(لقمان:13)
وما أتت تلك الإشارات الربانية في جانب منها إلا لتأكيد أهمية الأسرة في التناصح لتحقيق العبودية الحقة كي تنجو السفينة بركابها من بحر الحياة المتلاطم وتصل بإذن ربها إلى شاطئ الأمان.
ونحن إذا ما تأملنا في سنة نبينا, نجدها ومنذ الوهلة الأولى للحياة الأسرية تذكر بإقامة العبودية, وطلب العون من رب البرية, فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا تزوج أحدكم امرأة أو اشترى خادما فليقل: اللهم أني أسالك خيرها وخير ما جبلتها عليه وأعوذ بك من شرها ومن شر ما حبلتها عليه".(صحيح أبي داود:2160).
ويسن للعبد بعد ذلك أن يصلي ركعتين وتصلي زوجته بصلاته, لتستقيم حياة الأسرة في يومها الأول على تحقيق العبودية لرب العالمين, حتى مع جاذبية الشهوة الجامحة التي تغلف تلك الليلة وترمي بظلها اللحوح عليها.
ثم هي دعوة نبوية مفتوحة للتدرج في منازل العبودية في حياتنا الأسرية, حينما يسدل الليل سكونه ويرخي ظلامه الدامس وتسكن فيه النفوس وترقد حينها تتعاضد الأسرة المسلمة لتحقيق عبودية الليل وما أجملها وأعذبها من عبودية, حينما يتنزل الرب جل وعلا إلى السماء الدنيا فينادي على عباده فيجد الأسرة المسلمة رافعة أكف الضراعة في خشوع وانكسار.
ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:"ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له ومن يسألني فأعطيه ومن يستغفرني فأغفر له".
فهنا يأتي دور الأسرة المسلمة في التعاون وبذل النصيحة على أداء هذه العبودية حينما تنجذب النفس إلى وهدة الأرض وتتثاقل بها الهموم والمغريات, فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فصلت فإن أبت نضح في وجهها الماء. رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء".(صحيح أبي داود: 1450)
وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا راقدة معترضة على فراشه، فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت".
ويشجع النبي صلى الله عليه وسلم الأسرة المسلمة على المزيد من التعاون في مجال تحقيق العبودية في المحيط الأسري، فيفتح لها بابا شهيا من الحسنات والعطايا الربانية, فيقول صلى الله عليه وسلم: "إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصلَّيا أو صلى ركعتين جميعًا كُتبا من الذاكرين والذاكرات". (صحيح أبي داود: 1309).
وفي البخاري عن علي رضي الله عنه أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقني وفاطمة ليلة فقال ألا تصليان؟ فقلت يا رسول الله أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا. فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إلي شيء، ثم سمعته يقول وهو مُوَلٍّ يضرب فخذه وهو يقول:"وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا".
وكان صحابته صلى الله عليه وسلم بسنته يقتدون وتحقيقا لمعاني العبودية والاجتماع الأسري على الخير يتسارعون, فقد روى ابن أبي داود في كتاب المصاحف بإسنادين صحيحين، عن قتادة قال: كان أنس رضي الله عنه إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا".
والسلف المبارك على الأثر والدرب سائرون في تحقيق العبودية في حياتهم الأسرية, ففي كتاب التهجد وقيام الليل لابن أبي الدنيا وصفة الصفوة لابن الجوزي عن القاسم بن راشد الشيباني قال: كان زمعة نازلا عندنا بالمحصب، وكان له أهل وبنات، وكان يقوم فيصلي ليلا طويلا فإذا كان السحر نادى بأعلى صوته: أيها الركب المعرِّسون أكُلَّ الليل ترقدون! أفلا تقومون فترحلون؟، فيتواثبون فيُسمع من ههنا باك، ومن ههنا داع، ومن ههنا قارئ، ومن ههنا متوضئ فإذا طلع الفجر نادى بأعلى صوته: عند الصباح يحمد القوم السرى.
ونختم بتلك اللمحة والمنة الربانية التي امتن بها الحق تبارك وتعالى على أمهات المؤمنين، ودعاهن إلى ذكر ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة, قال تعالي: "وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا"(الأحزا ب:34)
قال السعدي: والمراد بآيات الله القران, والحكمة أسراره وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وفي ذلك إشارة إلى أن تلك البيوت النبوية الكريمة كانت خلية للعبودية لا تهدأ ذكرا للقران وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فأين بيوتنا من منازل العبودية لرب العالمين.