بسم الله الرحمن الرحيم
الإدغام الكبير لأبي عمرو ما أصله ؟ ولماذا أنكره بعض الصحابة وبعض الأئمة (بحث مختصر)

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الحساب.
أما بعد:
فهذا بحث مختصر حول ما اشتهر به القارئ أبو عمرو البصري رحمه الله من الإدغام الكبير أبين فيه أصل هذا الإدغام وما الذي دعا أبا عمرو رحمه الله أن يقرأ به دون غيره من القراء مع أنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من الصحابة رضي الله عنهم القراءة به.
وأبين موقف بعض الصحابة وبعض الأئمة من هذا الإدغام, ومسائل متعددة مهمة حول هذه المسألة.
فأقول وبالله التوفيق:

الإدغام هو النطق بالحرفين حرفاً واحداً مشدداً, وينقسم إلى كبير وصغير.
فالصغير هو ما كان الحرف الأول منهما ساكناً.
وأما الكبير فهو ما كان الحرف الأول منهما متحركاً, كما في قوله تعالى (فإذا قضيتم مناسككم), وقوله تعالى: (ما سلككم في سقر), فتقرأ بكاف واحدة مشددة.
وقد انفرد أبو عمرو البصري رحمه الله بالإدغام الكبير هذا من بين سائر القراء العشرة.

والذي تدل عليه الأدلة أن الإمام أبا عمرو البصري إنما قرأ بذلك لأنه من لغة العرب, وليس لأنه مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولهذا كان أبو عمرو البصري يقول كما في "النشر" (1/275) : "الإدغام كلام العرب الذي يجري على ألسنتهم".

ويدل على أن الإدغام الكبير ليس مروياً عن النبي وأن أبا عمرو إنما قرأ به لأنه من كلام العرب الذي يجري على ألسنتهم أدلة كثيرة منها:

أولاً:
أخرج الداني في كتابه "الإدغام الكبير" ص (39) عن ابن غلبون، عن عبد الله بن المبارك، عن جعفر بن سليمان، عن صالح بن زياد, عن اليزيدي، عن أبي عمرو أنه قال: الإدغام كلام العرب الذي يجري على ألسنتها لا يحسنون غيره.
وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: (هل من مدكر)، و(أطيرنا بك), و(اثاقلتم), وفي (اضطر), وكل شيء نحو (بسم الله الرحمن الرحيم) ما أذهب اللام؟ أليس لإدغامها في الراء.
قال: والإدغام لا ينقص من الكلام شيئاً, إلا أنك إذا أدغمت شددت الحرف فلم تنقص شيئاً.
قال: والعرب إنما تدغم ليكون أخف, إذا كان الإدغام أثقل من التمام أتموا". وذكره السخاوي في "جمال القراء" ص (481)

فهذا النص يدل بكل وضوح على أن الإدغام من أبي عمرو اجتهاد واختيار, وليس بالإسناد إلى النبي صلى الله عليه وسلم, ولو كان أبو عمرو يقرأ بالإدغام نقلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم لذكره, وردَّ به على من ينتقدونه.
قال الدكتور عبد الصبور شاهين في كتابه "أبو عمرو بن العلاء" ص (86) القارئ أبو عمرو بن العلاء كان ينتسب لتميم, وإن الإدغام الذي اشتهر به دوناً عن باقي القراء كان لهجة تميمية".

ثانياً:
انفراد أبي عمرو البصري رحمه بهذا الإدغام من بين سائر القراء العشرة, فلماذا يتفقون على ترك هذا الإدغام وهجره لو كان منقولاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أيزهدون جميعاً بشيء قرأ به النبي صلى الله عليه وسلم, هذا شبه محال, بل هو محال.
إنه لفخر لهم أن يقرؤوا بذلك لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد قرأ به.
وسوف أقف في آخر البحث مع الإمام أبي عمرو الداني في كتابه "الإدغام الكبير" لأبين أن الرواية التي ذكرها عن النبي صلى الله عليه وسلم والروايات التي ذكرها عن بعض الصحابة في الإدغام كلها لا تصح.

ثالثاً:
كراهية بعض الصحابة وبعض التابعين للقراءة بالإدغام الكبير, كما كره ذلك جماعة من الأئمة.
ويستحيل أن يكون الإدغام مروياً عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم ينكره أو يعيبه أحد من أئمة الإسلام.

قال السخاوي في "جمال القراء" ص (476) : "وقد كره إدغام أبي عمرو قوم وعابوه، وقالوا: إن ذلك تغيير لحروف القرآن، ويؤدي إلى زوال معاني كلماته، وإنه لا أصل له ولا أثر يؤيده، إنما هو شيء تفرد به أبو عمرو.
قال عاصم: قرأت يوماً على أبي عبد الرحمن السلمي حتى تحول من مجلس القرآن إلى حلقة فيها نفر من الصحابة، وكان إذا فرغ من مجلس الإقراء يجلس إليهم، وفيهم: زر بن حبيش، وشقيق بن سلمة, والمسيب، وكان يجالسهم يزيد بن الحكم الثقفي، فقلت: إن أهل المجلس يدغمون حروفاً كثيرة، ويقولون: ذلك جائز في الكلام.
فذكرت: (هل ترى)، وقلت: يقولون: (هترى)، و(لبثت)، فقلت: يقولون: (لبت)، وأشباه ذلك.
فأعظموا ذلك جميعاً، ثم قال أبو عبد الرحمن: قاتلهم الله أخذوا هذا من قول الشعر، فإن الشاعر يدغم, وينقص من الحروف لئلا ينكسر عليه البيت"اهـ

وقال ابن النجار في "شرح الكوكب المنير" (2/131) : "ولهذا كره الإمام أحمد رضي الله عنه وجماعة من السلف قراءة حمزة لما فيها من طول المد والكسر والإدغام ونحو ذلك, لأن الأمة إذا أجمعت على فعل شيء لم يكره فعله, وهل يظن عاقل أن الصفة التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وتواترت إلينا يكرهها أحد من المسلمين؟!"اهـ

ومن الأئمة الذي اشتهر عنهم كراهة الإدغام الكبير لأبي عمرو الإمام أحمد رحمه الله, كما في "الفروع" (1/422) , و"الإقناع" (1/119)
وحاشا الإمام أحمد أن يكره شيئاً مروياً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن الأئمة الذين أنكروا الإدغام الكبير الإمام أبو بكر ابن العربي رحمه الله حيث قال في "العواصم" ص (602) : "وما كنت لأمد مد حمزة، ولا أقف على الساكن وقفته، ولا أقرأ بالإدغام الكبير لأبي عمرو ولو رواه في تسعين ألف قراءة، فكيف في رواية بحرف من سبعة أحرف؟ ولا أمد ميم ابن كثير، ولا أضم هاء "عليهم" و"إليهم" وذلك أخف، وهذه كلها أو أكثرها عندي لغات لا قراءات، لأنها لم يثبت منها عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، وإذا تأملتها رأيتها اختيارات مبنية على معان ولغات".

رابعاً:
أن الإدغام الكبير قد يتحرف به المعنى ويتغير تغيراً كاملاً.
كما في قوله تعالى :(فاصفح عنهم) فإنها تقرأ بالإدغام هكذا (فاصفع عنهم) فيكون من الصفع وليس من الصفح.
أو قوله تعالى: (أوعظت أم لم تكن من الواعظين) فتقرأ بالإدغام (أوعت) فيكون من الوعد وليس من الوعظ.
أو قوله تعالى: ( واستغفر لهم) فتقرأ بالإدغام (واستغفلهم) فيكون من الاستغفال وليس من الاستغفار.
أو قوله تعالى: (وإنه لحب الخير لشديد) فتقرأ بالإدغام (لحب الخيل لشديد) فتكون الخيل وليس الخير.
أو قوله تعالى: (واصطبر لعبادته) فتقرأ بالإدغام (فاصبل لعبادته)
إلى غير ذلك من الأمثلة, فهذا تحريف لكلام الله محرم لا يجوز.

ولعل هذا هو السبب الذي جعل كثيراً من مؤلفي كتب القراءات لم يذكروا الإدغام الكبير في كتبهم كما ذكر ابن الجزري.
قال ابن الجزري في "النشر" (1/275) : "من أئمة القراءة من لم يذكره البتة, كما فعل أبو عبيد في كتابه, وابن مجاهد في سبعته, ومكي في تبصرته, والطلمنكي في روضته, وابن سفيان في هاديه, وابن شريح في كافيه, والمهدوي في هدايته, وأبو الطاهر في عنوانه, وأبو الطيب بن غلبون وأبو العز القلانسي في إرشاديهما, وسبط الخياط في موجزه, ومن تبعهم كابن الكندي, وابن زريق, والكمال, والديواني, وغيرهم.
ومن أئمة القراءة من خص به السوسي وحده, كصاحب التيسير, وشيخه أبي الحسن طاهر بن غلبون, والشاطبي, ومن تبعهم, كما في "النشر" (1/276)

ثم اعلم أن قراءة العامة من أصحاب أبي عمرو إنما هو الإظهار وليس الإدغام كما ذكر ابن الجزري, وذكر أنه هو الثابت عنه في جميع الطرق.
فقد ذكر ابن الجزري رحمه الله في "النشر" (1/276) أنه ثبت عن أبي عمرو مع الإدغام وعدمه ثلاث طرق (الأولى) الإظهار مع الإبدال...
(الثانية): الإدغام مع الإبدال... وهو الذي عن السوسي في التذكرة لابن غلبون والشاطبية ومفردات الداني, وهو الوجه الثاني عنه في التيسير والتذكار, وهو المأخوذ به اليوم في الأمصار من طريق الشاطبية والتيسير وإنما تبعوا في ذلك الشاطبي رحمه الله.
قال السخاوي في آخر باب الإدغام من شرحه وكان أبو قاسم يعني الشاطبي يقرئ بالإدغام الكبير من طريق السوسي لأنه كذلك قرأ.
(الثالثة) الإظهار مع الهمز.
قال ابن الجزري: وهو الأصل عن أبي عمرو والثابت عنه في جميع الطرق وقراءة العامة من أصحابه, وهو الوجه الثاني عن السوسي في التجريد وللدوري عند من لم يذكر الإدغام كالمهدوي ومكي وابن شريح وغيرهم, وهو الذي في التيسير عن الدوري من قراءة الداني على أبي القاسم عبد العزيز بن جعفر البغدادي"اهـ

ومن المعلوم أن العلماء ضعفوا رواية التكبير بعد سورة الضحى إلى أخر القرآن, وهي قراءة البزي عن ابن كثير, لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم, كما ذكرته في موضع آخر.
وهذا مما يرجح ما ذكرته آنفاً, من أن أبا عمرو أو السوسي إنما قرأ بالإدغام الكبير باعتبار أنه من لغة العرب.

قال ابن تيمية رحمه الله كما في "جامع المسائل" (1/113): "وأما كيفيات الأداء مثل تليين الهمزة، ومثل الإمالة والإدغام، فهذه مما يسوغ للصحابة أن يقرأوا فيها بلغاتهم، لا يجب أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تلفظ بهذه الوجوه المتنوعة كلها، بل القطع بانتفاء هذا أولى من القطع بثبوته".

وما ذكرته هنا في مسألة الإدغام الكبير يصدق على كل صفات الأداء فإنها ليست مسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم, والأدلة كلها تدل على هذا كما بينته في بحث مطول بعنوان " اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة هل هو مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم ".
وكذلك في موضوع "هل قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بالإمالة ومن أين جاءت الإمالة إلى الأئمة القراء".

والآن أقف وقفة مع أبي عمرو الداني في كتابه "الإدغام الكبير"
قال أبو عمرو الداني رحمه الله في كتابه هذا: "وقد رأيت أن أستفتح هذا الكتاب بتسمية من روي عنهم الإدغام وحفظت عنه حروفه من السلف رضوان الله عليهم من الصحابة والتابعين وخالفيهم, إذ كان قوم لا علم عندهم ولا دراية لديهم ينكرون القراءة بالإدغام, ويزعمون أنه يؤول إلى تغيير ألفاظ الحروف ويزيد معاني الكلم, وأن ذلك مما انفرد به أبو عمرو ولا مادة له, وأنه عن قراءة أهل الآثار بمعزل.

ثم ذكر أن الإدغام جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر حديث سفيان, عن عمرو, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, عن أبي بن كعب, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ (لتخذت عليه أجراً) مدغمة ساقطة الذال مكسورة الخاء.

ثم ذكر أنه جاء عن الصحابيين وهما ابن عباس وأبي الدرداء.
ثم ذكر الروايتين عنهما فقال:
فروى داود بن علية, عن ليث بن أبي سليم, عمن سمع ابن عباس يقرأ (كم لبثت) قال (لبت) بالإدغام.
وروى الحسن بن عمران, عن عطية بن قيس, عن أم الدرداء, عن أبي الدرداء أنه كان يقرأ بالإدغام.

قلت: كل هذا لا يصح, وإليك البيان.
أما حديث أبي بن كعب فإن الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرواية المشهورة أنه قرأها (لتخذت) بالتخفيف فقط, ولم يذكر حذف الذال.
هكذا أخرجه مسلم, وأحمد, وابن حبان.
بل جاء في رواية ابن حبان قوله: (مخففة) فقط لم يذكر غير ذلك.
فقول أبي عمرو الداني: (مدغمة ساقطة الذال) هذه فيما يبدو تفسير من أبي عمرو رحمه الله أو غيره بناء على فهم غير صحيح, فإن الحديث فيه فقط أنه قرأها مخففة (لتخذت).

وأما ما روي عن ابن عباس فإنه قد رواه معلقاً لم يبين أول إسناده.
ثم إن ليث بن أبي سليم ضعيف.
ثم إنه فيه انقطاعاً, فإنه قال: عمن سمع ابن عباس.

وأما ما روي عن أبي الدرداء فإنه قد رواه أيضاً معلقاً لم يبين أول إسناده.
ثم إن الحسن بن عمران لين الحديث كما قال ابن حجر.
ثم إنه إنما ذكر الإدغام هكذا مطلقاً, فلا يصح الاستدلال به على الكبير.

ثم ذكر أبو عمرو الداني أن الإدغام روي عن جماعة قليلة من التابعين.
قلت: إن صح عن بعض هؤلاء التابعين فإنهم إنما قرؤوا بذلك كما قرأ أبو عمرو باعتبار أنه من لغة العرب.

نتيجة البحث:
** بعد أن تبين أن الإدغام الكبير قد انفرد به أبو عمرو رحمه الله من بين سائر العشرة.

** وبعد أن تبين أنه إنما قرأ بذلك لأنه من لغة العرب, وليس لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ به, فقد كان أبو عمرو ينتسب لتميم, والإدغام لهجة تميمية.

** وبعد أن تبين أن قراءة العامة عن أبي عمرو إنما هو الإظهار كغيره من القراء وليس الإدغام.

** وبعد أن تبين أنه لا يصح أي دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من أصحابه قد قرأ بالإدغام الكبير, بل قد ورد عن بعض الصحابة وجماعة من السلف والأئمة التصريح بكراهته وعيبه.
وأما القول بتواتره فنعم هو متواتر عن أبي عمرو.
وأما ادعاء أنه متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم فالواقع ينفيه كما بينته في موضوع "تواتر القراءات بين الظن والتوهم والواقع اليقين".
ولا يصح رواية واحدة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فضلاً عن تواتره.

** وبعد أن تبين أن الإدغام الكبير يفسد المعنى في بعض المواضع.

بعد أن تبين هذا كله أقول:
إن وجد أحد لهجته فيها الإدغام الكبير فليقرأ به ولا بأس, لأنها لهجته لا يكلف سواها.
أما من كانت لهجته خالية من ذلك كما هو حال كل الناس اليوم أو أكثر الناس فالأفضل أن يقرأ بالقراءة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأها خالية من الإدغام الكبير.
وهي التي نقلها القراء العشرة وغيرهم سوى أبي عمرو رحمه الله.

فإن قيل: إن من يقرأ لأبي عمرو رحمه الله فلا بد أن يقرأ بالإدغام الكبير لأنه من قراءته بالاتفاق, وكيف يقرأ لأبي عمرو دون الإدغام الكبير.
فجواب هذا بينته في بحوث أخرى.
بينت فيها أن صفات الأداء ليست داخلة في قول السلف: (القراءة سنة متبعة).
وأنها ليست من القراءات ولا من الأحرف السبعة.
وأن صفات الأداء كلها ليست منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ذكرت هذا في موضوع " هذا مراد السلف بقولهم: (القراءة سنة متبعة)"
وموضوع "تحرير مسائل الأحرف السبعة"
وموضوع "اختلاف القراء في صفات أداء التلاوة هل هو مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم".
والله تعالى أعلم
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أخوكم ومحبكم صالح بن سليمان الراجحي
Alrajhi.sr@gmail.com