فوائـد تربويــة مـــن وصـــايــا لقمان الحكيم!


سحر شعير








لا يزال المربون يجدون في القرآن الكريم مرجعهم الأصيل الذي يستقون منه أصول التربية الإسلامية الرشيدة، في خضم مناهج أرضية كثيرة لا تخلو من عوار، كما تفتقر للشمول والتكامل والصلاحية لكل زمان ومكان، ولقد تضمن القرآن الكريم مجموعة من الحوارات الراقية بين الآباء والأولاد، تحمل في طياتها حكماً عظيمة وأساليب مؤثرة في تربية الأولاد تربية صحيحة متوازنة، ومن أبرز هذه الحوارات موعظة لقمان الحكيم لولده، التي تميزت بأنها قواعد تربوية نموذجية لذكرها في القرآن الكريم.
إنّ ذكر الله -تعالى- لهذه الوصايا من لقمان الحكيم لولده، وتصويره لهذا الموقف التربوي العظيم الذي جمع بينهما يُعدُّ توثيقًا لهذه الوصايا التربوية وما تضمنته من قيم مرتبة من الأهم إلى المهم، وكما فيه تزكية للأسلوب الحاني الرفيق الذي استخدمه الأب الحكيم مع ولده؛ فهذه الوصايا قد نالت التزكية من قبل الله -تعالى- وهي قبس من مشكاة الوحي المقدس؛ فهي تصلح لأن تكون مرجعاً تربوياً يستقي منه كل مرب إلى يوم القيامة. وهذه باقة من أهم الفوائد من هذه الموعظة التربوية:
اعتماد أسلوب الموعظة المؤثر
وهو الأسلوب الذي استخدمه هذا المربي الحكيم، وهو من أنفع الأساليب المؤثرة في المتربي، يقول ابن رجب الحنبلي: «المواعظ سياط تضرب القلوب فتؤثر في القلوب كتأثير السياط في البدن والضرب لا يؤثر بعد انقضائه كتأثيره في حال وجوده، لكن يبقى أثر التأليم بحسب قوته وضعفه - فكلما قوي الضرب كانت مدة بقاء الألم أكثر-». (أحمد فريد: التربية على منهج أهل السنة والجماعة، ص:257)، وتعتمد الموعظة على جانبين:
- الأول: تمييز الحق من الباطل؛ فيتأصل هذا التمايز في عقل الطفل ونفسه، ويستطيع أن يفرق بينهما، ومن ثم تقل أخطاؤه.
- والثاني: إثارة الوجدان؛ لأن النفس فيها استعداد للتأثر بما يُلقى إليها، والموعظة تدفع الطفل إلى العمل المرغب فيه.
شروط الموعظة المؤثرة
أن يكون المربي مخلصًا في موعظته عاملاً بها قبل أن يسديها لطفله، حتى يكون فعله مصدقاً لقوله؛ فإن لم يكن المربي عاملاً بموعظته؛ فلن تفتح لها القلوب، وكذلك أن يخاطَب الطفل على قدر عقله والتلطف في مخاطبته ليكون أدعى للقبول والرسوخ في نفسه، كما أنه يحسن اختيار الوقت المناسب؛ فيراعي حالة الطفل النفسية ووقت انشراح صدره وانفراده عن الناس، وله أن يستغل وقت مرض الطفل؛ لأنه في تلك الحال يجمع بين رقة القلب وصفاء الفطرة، وأما إلقاء الموعظة وقت لعبه أو أمام الآخرين؛ فلا يحقق الفائدة المرجوة.
كما أن الموعظة لابد أن تكون واضحة ومقنعة للطفل؛ حيث نلاحظ أن (لقمان الحكيم) لم ينه عن الشرك؛ لأنه شرك، بل أوضح ما يقنع ابنه بأن الشرك أمر قبيح مكروه غير مقبول؛ لأنه ظلم عظيم، والفطرة السليمة تأبى الظلم والضيم، وكذلك نهاه عن التكبر، ثم استعمل وسيلة الإقناع بأن الله -تعالى- لا يحب كل مختال فخور، بل إن كل إنسان عاقل لا يحب المختالين، وهكذا في باقي الوصايا.
العقيدة
تعظيم أمر العقيدة والبدء به: بدأ لقمان الحكيم وصيته لابنه بقوله: «يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم»، والسبب يعود إلى أن التوحيد هو أول واجب على المكلفين، وبالتالي يكون أول واجب على الوالد، وولي الأمر هو غرس العقيدة الصحيحة؛ فهي الأساس لبناء إيمان الطفل وتصوراته وأفكاره، ثم إن لقمان الحكيم بدأ بالنهي عن الشرك ولم يبدأ معه بالأمر بالإيمان بالله -تعالى-؛ وذلك لأن الإيمان بالله -تعالى- متحقق لدى الأطفال بحكم الفطرة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «كل مولود يولد على الفطرة».
المراقبة
تربية الأبناء على مراقبة الله -عز وجل-ّ: التأكيد على غرس الخوف من الله -تعالى- وتعظيمه في قلوب المتربين، واستشعار رقابته على الإنسان وعلمه بكل الخفايا مهما سترها العبد فلا تخفى على الله -تعالى- فقال {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} إن الذنوب مهما صغرت ومهما حاول صاحبها إخفاءها بالوسائل الممكنة؛ فإنها لا تخفى على الله -تعالى-، وحينئذ كن يا بني على علم بأن الله يعلم كل تصرفاتك، ويرى كل حركاتك وسكناتك، ويأتي بذنوبك لتشهد عليك في يوم لا ينفع مال ولا بنون، وكذلك يأتي بأعمالك الصالحة فتشفع لك فتكون من الفائزين في ذلك اليوم العظيم.
التلطف
التلطف مع الابن حال الموعظة: ويبدو ذلك واضحاً من استخدام لقمان الحكيم للنداء: (... يا بني)، وتكراره أكثر من مرة في سياق الموعظة؛ مما يدل أنه على المربي أن يختار الألفاظ المحببة والمشوقة لدى المتربي، وأن يشعره بأنه يحبه، وأنه لا ينصحه إلا بذلك، وأنه حتى لو تشدد معه فهو كالطبيب المعالج الذي تقتضي مصلحة مريضه أن يقوم باللازم؛ حيث استعمل القرآن الكريم في البداية لفظ (يا بني) الذي كما يقول العلماء يدل على نداء المحبة والإشفاق وأن تصغير بني للتحبب ولبيان زيادة الحب والعطف.
البدائل
تقديم البدائل المباحة في مقابل المحظورات: عندما نهى لقمان الحكيم ولده عن الخلق الذميم من التكبر ونحوه في قوله -تعالى-: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا}، رسم له الخلق الكريم؛ فقال: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ} فعلى المربي أن يوفر البدائل المقبولة في مقابل المنهيات المستهجنة، ومن فضل الله -تعالى- أن في ديننا متسعا؛ فالأصل في الأمور هو الإباحة إلا ما ورد دليل بمنعه.
الإيجابية
تنشئة الطفل على الإيجابية: وذلك من خلال تعويد الطفل في سن مبكرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الشعيرة من أهم مميزات الأمة الإسلامية على مستوى الفرد والجماعة، قال -تعالى-: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}؛ فالمسلم إيجابي فعّال يغير الواقع من حوله للأفضل، من خلال كونه هو في نفسه قدوة حسنة ونموذج يحتذى، ثم من خلال تفاعله الإيجابي مع الأخطاء والمنكرات التي يقابلها في المجتمع من حوله.
ولا يخفى ما في التربية على هذه الشعيرة من بناء الشخصية القوية القادرة على البيان والإفصاح عما تريد، القادرة على مواجهة الأحداث بعيداً عن السلبية والضعف.
ولأن هذه الشعيرة مقترنة بالابتلاء قرنها لقمان الحكيم بالوصية بالصبر {واصبر على ما أصابك}؛ مما يشير إلى التمهيد للأبناء وتربيتهم على تحمل المشاق والمشكلات والمصائب والصبر على النوائب، وعلى كل ما يصيب الإنسان بسبب الالتزام بدينه.
القيم
شدة العناية بغرس القيم والأخلاق الاجتماعية: التي يحتاج إليها الأبناء في التعامل مع الناس ولاسيما قيم السلوك، وفن التعامل مع الناس من التواضع وعدم التكبر، والتوسط في الأصوات والمشي، فضلا عن البدء بالوالدين وفيه إشارة إلى ترتيب الناس في الإحسان إليهم، وأن الأم ثم الأب يتصدران القائمة في هذا الترتيب؛ وتعليل ذلك بأنهما الأكثر إحساناً على المرء، ورغم ذلك لا يطاوعما الأبناء إذا أمروهم بما يغضب الله -عز وجل.

ضمائر الأبناء
وأخيراً أعزائي المربين، إنّ هذه الآيات المباركة توقظ ضمائر الأبناء والآباء معاً، وتعطي عملية التربية ذلك التفاعل اليقظ الواعي؛ فالتربية أمانة مفروضة على الوالدين، شديدة الارتباط بالإيمان، قائمة على غرس العقيدة، وأصول الضبط السلوكي الذي تنبني عليه الشخصية المسلمة الصالحة.