قال ابن القيم -رحمه الله- في مفتاح دار السعادة ، دار عالم الفوائد مكة المكرمة ، (ط1: 2 / 572 - 575) :
(ومن آياته الباهرة: هذا الهواءُ اللطيفُ المحبوسُ بين السَّماء والأرض، يُدْرَكُ بحِسِّ اللَّمس عند هُبوبه، يُدْرَكُ جسمُه ولا يُرى شخصُه، فهو يجري بين السَّماء والأرض، والطَّيرُ محلِّقَةٌ فيه سابحةٌ بأجنحتها في أمواجه كما تَسْبَحُ حَيَواناتُ البحر في الماء، وتضطربُ جوانبُه وأمواجُه عند هَيَجانه كما تضطربُ أمواجُ البحر.
فإذا شاء سبحانه وتعالى حَرَّكَهُ بحركةِ الرَّحمة، فجعَله رُخَاءً ورحمةً وبُشْرًا بين يَدَي رحمته، ولاقحًا للسَّحاب يَلْقَحُه بحَمْل الماء كما يَلْقَحُ الذَّكرُ الأنثى بالحَمْل.
وتسمَّى رياحُ الرَّحمة: المبشِّرات، والنُّشُر، والذَّاريات، والمرسَلات، والرُّخاءُ، واللَّواقِح.
ورياحُ العذاب: العاصِف، والقاصِف، وهما في البحر، والعقيم، والصَّرْصَر، وهما في البرِّ.
وإن شاء حرَّكه بحركة العذاب، فجعَله عقيمًا، وأودَعه عذابًا أليمًا، وجعَله نِقمةً على من يشاءُ من عباده، فيجعلُه صَرْصَرًا، ونَحْسًا، وعاتيًا، ومُفْسِدًا لما يمرُّ عليه.
وهي مختلفةٌ في مَهابِّها، فمنها صَبًا، ودَبُورٌ، وجَنُوبٌ، وَشَمَال،
وفي منفعتها وتأثيرها أعظمُ اختلاف؛ فريحٌ ليِّنةٌ رَطْبةٌ تُغَذِّي النَّباتَ وأبدانَ الحيوان،
وأخرى تجفِّفه،
وأخرى تهلكُه وتُعْطِبُه، وأخرى تَشُدُّه وتُصَلِّبُه،
وأخرى تُوهِنُه وتضعِفُه.
ولهذا يخبرُ سبحانه عن رياح الرَّحمة بصيغة الجمع؛ لاختلاف منافعها وما يحدُث منها، فريحٌ تُثِيرُ السَّحاب، وريحٌ تَلْقَحُه، وريحٌ تحملُه على متُونها، وريحٌ تغذِّي النَّبات.
ولمَّا كانت الرِّيحُ مختلفةً في مَهابِّها وطبائعها جعَل لكلِّ ريحٍ ريحًا مقابِلتَها، تكسِرُ سَوْرَتُها حدَّتَها، وتُبقي لِينَها ورحمتَها؛ فرياحُ الرَّحمة متعدِّدة.
وأمَّا ريحُ العذاب، فإنه ريحٌ واحدةٌ تُرسَلُ من وجهٍ واحدٍ لإهلاك ما تُرسَلُ بإهلاكه، فلا تقومُ لها ريحٌ أخرى تقابلُها، وتكسِرُ سَوْرتَها، وتدفعُ حدَّتها، بل تكونُ كالجيش العظيم الذي لا يقاومُه شيء، يدمِّرُ كلَّ ما أتى عليه.
وتأمَّل حكمةَ القرآن وجلالتَه وفصاحتَه كيف اطَّرد هذا فيه في البرِّ، وأمَّا في البحر فجاءت ريحُ الرَّحمة فيه بلفظ الواحد، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [يونس: 22]؛ فإنَّ السُّفُنَ إنما تسيرُ بالرِّيح الواحدة التي تأتي من وجهٍ واحد، فإذا اختلفت الرِّياحُ على السُّفُن وتقابلت لم يتمَّ سيرُها؛ فالمقصودُ منها في البحر خلافُ المقصود منها في البرِّ، إذ المقصودُ في البحر أن تكون واحدةً طيبةً لا يعارضها شيء؛ فأُفرِدَت هنا وجُمِعَت في البرِّ.
ثمَّ إنه سبحانه أعطى هذا المخلوقَ اللطيفَ الذي يحرِّكه أضعفُ المخلوقات ويَخْرِقُه، من الشدَّة والقوَّة والبأس ما يُقْلِقُ به الأجسامَ الصُّلبة القويَّة الممتنعة، ويُزعِجُها عن أماكنها، ويُفَتِّتُها، ويحملُها على مَتْنِه.
فانظر إليه مع لطافته وخفَّته إذا دخل في الزِّقِّ - مثلًا- وامتلأ به، ثمَّ وُضِعَ عليه الجسمُ الثَّقيلُ- كالرَّجُل وغيره- وتحامل عليه ليَغمِسَه في الماء لم يُطِق، وتضعُ الحديدَ الصُّلبَ الثَّقيلَ على وجه الماء فيَرسُبُ فيه؛ فامتنَع هذا اللطيفُ مِنْ قهر الماء له ولم يمتنع منه القويُّ الشديد!
وبهذه الحكمة أمسك الله سبحانه السُّفنَ على وجه الماء، مع ثِقَلِها ويِقَل ما تحويه، وكذلك كلُّ مجوَّفٍ حَلَّ فيه الهواء فإنه لا يَرسُبُ فيه؛ لأنَّ الهواء يمتنعُ من الغَوص في الماء، فتتعلَّق به السَّفينةُ المشحونةُ الـمُوَقَّرةُ.
فتأمَّل كيف استجارَ هذا الجسمُ الثَّقيلُ العظيمُ بهذا اللطيف الخفيف وتعلَّق به حتى أمِنَ من الغَرق، وهذا كالذي يَهْوِي في قَلِيبٍ فيتعلَّقُ بذَيل رجلٍ قويٍّ شديدٍ يمتنعُ عن السُّقوط في القَلِيب فينجو بتعلُّقه به؛ فسبحان من علَّق هذا المَرْكبَ العظيمَ الثَّقيل بهذا الهواء اللطيف مِنْ غير عِلاقةٍ ولا عُقدةٍ تشاهَد).