قال الامام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله - إذا تحققت أن الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصح عقولاً وأخف شركا من هؤلاء فاعلم أن لهؤلاء شبهةً يُورِدونها على ما ذكرنا، وهي من أعظم شبههم، فأصغ سمعك لجوابها، وهي أنهم يقولون إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله، ويكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم، وينكرون البعث، ويكذبون القرآن ويجعلونه سحراً. ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ونصدق القرآن، ونؤمن بالبعث، ونصلي ونصوم، فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟.----قال الشيخ محمد بن ابرااهيم ال االشيخ فى شرحه لكلام الامام - (إذا تحققت) مما تقدم (أن الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصح عقولاً وأخف شركاً من هؤلاء) يعني من شرك مشركي زماننا (فاعلم أن لهؤلاء شبهة يوردونها على ما ذكرنا) يدلي بها بعض مَن في زمن المؤلف مِن كون ما عليه مشركو زماننا من الشرك كشرك الأولين؛ بل يقولون إنكم ما اقتصرتم على أن جعلتمونا مثلهم بل زدتم –يريد صاحب هذه الشبهة مما اعترض به من الفروق نفي ما قرره المصنف في هذه الترجمة (وهي من أعظم شبههم فأصغ سمعك لجوابها) وقد أجاب عنها المصنف رحمه الله بتسعة أجوبة، كل واحد منها كافٍ شافٍ في ردها لكن كثّرها لمزيد كشف وإيضاح (وهي أنهم يقولون: إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله) يعني لا ينطقون بالشهادتين (ويكذبون الرسول) ويمتنعون عن طاعته (وينكرون البعث) ولا يصدقون به (ويكذبون القرآن ويجعلونه سحراً) ولا يصلون ولا يصومون (ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ونصدق القرآن، ونؤمن بالبعث، ونصلي ونصوم، فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟) فكيف تسوُّون مَن يقر بهذه الأمور العظيمة وبين من يجهلها؛ يعني وأنكم سويتم بين المتفارقين وجمعتم بين المختلفين؛ بل ما اقتصرتم، بل جعلتمونا أعظم جهلاً وضلالاً منهم.
فعرفت أنهم يعارضون ما قرره المصنف ويقولن لسنا منهم، وأنتم جعلتمونا أعظم منهم، كيف تجعلون من كانت فيه هذه الخصال والفروق كمن ليس فيه منها شيء؟
ويأتيك جواب المؤلف لهم - وأن هذه الفروق غير مؤثرة بالكتاب والسنة والإجماع؛ بل هذه الفروق مما يتغلظ كفرُهم بها؛ فإن الكافر الأصلي الذي ما أقر بشيء من ذلك أهون كفراً ممن أقر بالحق وجحده، ولذلك المرتد أعظم كفراً ن الكافر الأصلي في أحكامه.
(فالجواب) عما اعترضوا به من هذه الفروق التي زعموا أنها تؤثر؛ أن الفروق منقسمة إلى قسمين: فرق يؤثر، وفرق لا يؤثر. فإنه إجماع أن هذه الفروق لا تؤثر (أن) مخففة (لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء وكذبه في شيء أنه كافر لم يدخل في الإسلام) بالإجماع، يعني أنه ليس بمسلم ولا عنده من الإسلام شعرة؛ فإذا كذبه في واحد وصدقه في الألوف من الصلاة والصدقة ونحو ذلك فهو قاضٍ على تلك الألوف، فإذا كان مَن صدقه في شيء وكذبه في شيء فهو كافر - فكيف بالتوحيد الذي هو أعظم فريضة جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، عمد إلى زبدة الرسالة، وجعل لفاطر الأرض والسماوات شريكاً في العبادة فصرفه له الدعاء الذي هو مخ العبادة وخالصها، إما أن يدعو غيره وحده أو يجعله شريكاً له.
فإذا كانت تلك الفروق لا تؤثر - فكيف بالتوحيد؟ لكن والعياذ بالله طمس على قلوبهم الشركُ، وامتزجت به؛ فإن أهل هذه الشبهة من أهل الجهالات والضلالات؛ فإن صاحب النظر المنصف إذا نظر في أهل هذه الشبه لقِيَهم مفاليس من العلم بالمرة (وكذلك إذا آمن بالقرآن وجحد بعضه) ولو حرف حرف واحد، أنكره وجحده، أو جحد شيئاً مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهو كفر ظاهر؛ أي كفرٌ فوق كفرِ تكذيبِ الله ورسوله (كمن أقر بالتوحيد) لفظاً ومعنى (وجحد) فرعاً من فروع الشريعة معلوم أن الرسول جاء به (وجوب الصلاة) الذي يجحد الصلوات الخمس كافر بالإجماع، ولو أنه يفعلها، وجاء بالتوحيد (أو أقر بالتوحيد والصلاة وجحد وجوب الزكاة) ولو كان يؤديها، فهو كافر بإجماع الأمة (أو أقر بهذا كله وجحد الصوم) ولو أنه يفعله، فإنه كافر بإجماع الأمة لتكذيبه الله ورسوله (أو أقر بهذا كله وجحد الحج) إلى البيت، وإن كان يحج، فهو كافر بالإجماع لتكذيبه الله ورسوله وردِّه إجماع الأمة.
(ولما لم ينقد أناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم للحج) إلى البيت (أنزل الله في حقهم: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} ) يعني واجبٌ لله على المستطيع من الناس أن يحج {وَمَنْ كَفَرَ} يعني ترك ذلك {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} 1 فدل على أن ترك ذلك كفر؛ فمن جحد ذلك فقد كفر؛ فدلَّ على فريضة حج البيت؛ فدل على أن الذي لا يعتقد ذلك كافر وهذا بخلاف العاجز.
وكذلك منع الزكاة بخلاً بخلاف الجاحد. فأما ترك الصلاة تهاونا فاختيار أحمد وحكى إسحاق بن راهويه كفرَه بالإجماع.
(ومن أقر بهذا كله وجحد البعث) أي جحد بعث هذه الأجسام بعد بلائها وإعادة أرواحها إليها يوم القيامة (كفر بالإجماع) بإجماع أهل العلم (وحل دمه وماله) ولم ينفعه الإقرار بما أقر به كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} الآية1 فصرح الله تعالى في هذه الآية أنه الكافر حقاً؛ فدل على أنه لا يشترط أن لا يكون كفراً إلا إذا كفر بجميع ذلك كله؛ بل هذا كفر نوعي؛ فإن الكفر كفران: كفر كلي، وكفر نوعي. ولا فرق بينهما؛ من كفر ببعض فكمن كفر بالكل لا فرق.
(فإذا كان الله قد صرح في كتابه أن من آمن ببعض وكفر ببعض فهو الكافر حقاً زالت هذه الشبهة، وهذه هي التي ذكرها بعض أهل الأحساء في كتابه الذي أرسله إلينا) وبهذا ظهر واتضح أنه يوجد فروق ولكن لا تؤثر؛ فإن الردة ردتان: ردة مطلقة وهي الرجوع كما جاء به الرسول جملة، والثاني أن يكفر ببعض ما جاء به؛ فإنه إجماعٌ بين أهل العلم أن الذي يرتد عن بعض الدين كافر؛ بل يرون أن الاعتقاد الواحد والكلمة الواحدة قد تُخرِج صاحبها عن جملة الدين.
وبهاذا انكشفت الشبهة وعرف أن التفريق بالفروق التي ذكرت من الفروق التي هي غير مؤثرة.(ويقال أيضاً) هذا جواب ثانٍ للشبهة السابقة (إن كنت تقر أن من صدق الرسول في كل شيء وجحد وجوب الصلاة فهو كافر حلال الدم والمال بالإجماع، وكذلك إذا أقر بكل شيء إلا البعث، وكذلك لو جحد وجوب صوم رمضان وصدق بذلك كله لا يجحد) الخصم (هذا) لا ينكر ما قرر من وجوب هذه المذكورات ولا يستقيم الإسلام، بل ينتقل الإسلام كله ويزول من أساسه (ولا تختلف المذاهب فيه) لا تختلف المذاهب في أن جَحْدَ وجوبِ واحدٍ منها كافٍ في انتكاس العبد وأنه كافر بالإجماع (وقد نطق به القرآن كما قدمنا) أن من آمن ببعض وكفر ببعض فهو الكافر حقاً (فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعظم) من فريضة (من الصلاة والزكاة والصوم والحج) وتصديقه بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينفعه ولا يجدي عليه.(فكيف إذا جحد الإنسان شيئاً من هذه الأمور كفر ولو عمل بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر) ؟! فإذا كان هذا فيمن جحد واحداً من أركان الإسلام فكيف بمن جحد التوحيد الذي هو أساس الملة والدين؟ فإنه أعظم، فلا ينفعه تصديقه بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حيث جحد الأصل، إذا صار حَجْدُ فرعٍ من فروع الدين كفراً فكيف بجحد الأصل وهو التوحيد؟ فلو قدر –وهو لا يكون- أن هذه الفروع كلها من الصلاة وما بعدها مهوب معصية ولا عظيمة لكان جحد التوحيد كفراً برأسه. فكيف وهو الأصل؟ فإن هذا الجهل بمكان - لا يجحد هذا الخصم أنه يُخرج من الإسلام بمفرده؛ يجعلون من يهدم أساسَ الدين صباحاً ومساءً أنه مسلم لكونه يدعي الإسلام؛ والذي يجحد وجوب الزكاة ولو كان يؤديها كافر بالإجماع! (سبحان الله، ما أعجب هذا الجهل!) فإن جهل هؤلاء من أعجب الجهل، كونُ الواحدِ منهم يقر أن جحد الصلاة كفر بالإجماع أو جحد غيرها من أركان الإسلام كفر وجحد التوحيد ليس بكفر؟! فلو قدِّر أنها لا تكفِّر –وهو لا يقدر- فالتوحيد وحده يكفر؛ والدليل أن الأصل لا يزول بزوال الفرع بخلاف الفرع فإنه يزول بزوال أصله؛ كالحائط والشجرة إذا زال أصله زال فرعه