هذا حالهم .. فكيف حالنا ؟!

أ . عادل با ناعمه *

القرآن الكريم هو كلام الله العزيز الجليل ، ونعمته الكبرى إلى عباده ، والهداية التي هدى بها البشرية من ضلالها وعمايتها ، فاستنارت به أبصار ، واهتدت به قلوب ، وانشرحت به صدور .
نعم السمير كتــاب الله إن لــه ......... حلاوة هي أحلى من جنى الطـرب
به فنون المعاني قد جمعن فما ......... تفتر من عجـــب إلا إلى عــــجـب
لطـــائف يجتنيها كل ذي أدب ......... وحكمة أودعت في أفصــح الكـتب
ولأجل هذه البركة القرآنية الشريفة كان لسلفنا الصالح مع القرآن الكريم حال عجيبة من الخشوع والإقبال والتدبر والتبصر ، ويمكنني أن أشير هنا إلى أربع من صور اهتمام السلف بالقرآن وعنايتهم به :
· الصورة الأولى : الأنس بتلاوته والفرح به

قال ابن مسعود : لو طهرتم قلوبكم ما شبعتم من كلام الله عز وجل . وقالت أم عطية : كان لي جار يقرأ القرآن كل ليلة يترنّم ، وكنت أستمع إليه فأجد في ترنمه دلائل حبوره وكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها !!.
وقال فضل الرّقاشي : ما تلذذ العابدون ولا استطارت قلوبهم بشيء كحسن الصوت بالقرآن. وكل قلب لا يجيب على حسن الصوت بالقرآن فهو قلب ميت .
· الصورة الثانية : كثرة تلاوته ودوام التعبد به

قال الذهبي : قد روي من وجوه متعددة أن أبا بكر بن عياش مكث نحوا من أربعين سنة يختم القرآن في كل يوم وليلة مرة ، ولما حضرته الوفاة بكت أخته فقال : ما يبكيك ؟ انظري إلى تلك الزاوية فقد ختم أخوك فيها ثمانية عشر ألف ختمة .
وقال القاسم عن أبيه الحافظ ابن عساكر : كان يختم كل جمعة ويختم في رمضان كل يوم .
ومن هذا الباب طول الصلاة بالقرآن .. روى الإمام أحمد عن حذيفة قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة من رمضان فقام يصلي فلما كبر قال الله أكبر ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة ثم قرأ البقرة ثم النساء ثم آل عمران لا يمر بآية تخويف إلا وقف عندها ، ثم ركع يقول سبحان ربي العظيم مثل ما كان قائما ثم رفع رأسه فقال سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد مثل ما كان قائما ثم سجد يقول سبحان ربي الأعلى مثل ما كان قائما ثم رفع رأسه فقال رب اغفر لي مثل ما كان قائما ثم سجد يقول سبحان ربي الأعلى مثل ما كان قائما ثم رفع رأسه فقام فما صلى إلا ركعتين حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة .
وقال النووي رحمه الله : وأما الذي يختم القرآن في ركعة فلا يحصون لكثرتهم فمن المتقدمين عثمان بن عفان ، وتميم الداري ، وسعيد بن جبير رضي الله عنه ختمه في كل ركعة في الكعبة .
فكل هذا من اجتهادهم وكثرة تلاوتهم رحمهم الله .
· الصورة الثالثة : البكاء عند تلاوته .

قال علقمة بن وقاص : صليت خلف عمر بن الخطاب ، فقرأ سورة يوسف ، فكان إذا أتى على ذكر يوسف سمعت نشيجه من وراء الصفوف .
وعن ابن عمر أنه كان إذا أتى هذه الآية : ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ) بكى حتى يبل لحيته البكاء ، ويقول : بلى يا رب .
و كان صفوان بن محرز إذا قرأ هذه الآية ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) بكى حتى يقال : قد اندق قضيض زوره ( أي انكسر ملتقى عظام صدره )
· الصورة الرابعة : العمل به

ومن أبلغ الحوادث الدالة على ذلك ما فعله سالم مولى أبي حذيفة ، وكان يؤم المهاجرين بالمدينة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان أكثرهم أخذا للقرآن . هذا الصحابي الجليل الذي فهم أن أخذ القرآن يستلزم العمل ؛ حمل اللواء يوم اليمامة ، فقال له بعض من حضر : نخشى من نفسك شيئا فنولي اللواء غيرك ، فقال : بئس حامل القرآن أنا إذن !! ثم حمل اللواء بيمينه فقطعت ، فحمله بيساره فقطعت ، فاعتنق اللواء وهو يقرأ قوله تعالى : (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل.. ) وقوله عز وجل : ( وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين )" فلما صرع قال لأصحابه : ما فعل أبو حذيفة ؟ قالوا : قتل ، قال : فما فعل فلان ؟ قالوا : قتل ، قال : فأضجعوني بينهما .
ومن هذا ما نقل عن عمر من أنه قال : كنا نتعلم العشر آيات فلا نتجاوزهن حتى نعلم ما فيهن من العلم والعمل .
وقد يثور سؤال : لماذا لا نتأثر اليوم بالقرآن كما كانوا يتأثرون ؟
والجواب أن هناك صفات قلبية متى وجدت في القلب كان أسرع للتأثر وأقرب إليه ، ومن هذه الصفات :
· الصدق مع الله : قال أبو معاوية الأسود : من أكثر لله الصدق نديت عيناه ، وأجابته إذا دعاهما .
· تألم القلب : حدّث أبو سهل قال : قلت لسفيان بن عيينة : أترى إلى أبي علي – يعني فضيلا – لا كاد تجف له دمعة ؟! فقال سفيان : إذا قرح القلب نديت العينان.
· قلة الذنوب : عن مكحول قال : أرق الناس قلوبا أقلهم ذنوبا .
وقد نبّه ابن القيم رحمه الله إلى شيء وثيق الصلة بهذا المعنى ، فبين أن القرآن له تأثير ، وأن هذا التأثير له محل وهو القلب ، فمتى كان المحل قابلا وقع التأثير المطلوب , ومتى لم يكن المحل قابلا انتفى التأثير .. فالقضية إذن هي قضية القلوب الحية التي تبذل جهدها في التخلص من ران المعاصي ، والتي تخلص قصدها لله فمن جاهد نفسه ونقّى قلبه أوشك أن يكون شديد التأثر بالقرآن ، عظيم الأنس به ، سريع البكاء عند تلاوته ، حريصا على التمسك به والعمل بمقتضاه .



*عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى ورئيس تحرير مجلة (الجسور)