أهمية عقيدة القضاء والقدر
عبد الرحمن بن صالح المحمود
موضوع القضاء والقدر موضوع مهم؛ لأنه يتعلق بحياة جميع الناس، فما من إنسان يعيش في هذه الحياة، ويسير في مناكبها على أي ديانة كان، وفي أي اتجاه اتجه في حياته العملية أو العقدية أو غيرها؛ إلا وقضية القضاء والقدر عنده من القضايا التي تشغل باله في كل وقت. ومن ثم فإن الله- تبارك وتعالى -بين لنا هذه المسألة في كتابه أتم بيان، كما أوضحها لنا رسوله - صلى الله عليه وسلم - على منهج صحيح.
وأول ما يتبادر إلى الذهن حول أهمية القضاء والقدر أنه من أركان الإيمان، ونحن نعلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حينما سئل عن الإيمان أجاب بالأركان الستة، وختمها بالإيمان بالقدر خيره وشره، والله- تبارك وتعالى -أخبرنا في كتابه العزيز أنه خلق كل شيء وقدره، وأن كل ما يجري في هذا الكون فهو بتقديره- تبارك وتعالى -على ما يأتي بيانه إن شاء الله - تعالى -.
ومن هنا فإن أركان الإيمان وما يتعلق بهذه الأركان من الأمور التي ينبغي لكل مسلم أن يتدبرها وأن يتعلمها وأن يتعمق فيها، وأن يكون إدراكه لها إدراك العالم البصير، وخاصة طلاب العلم؛ لأننا نجد جميع المسلمين -والحمد لله- يؤمنون بهذه الأركان، ولكن الإيمان المبني على الفهم الصحيح من الأدلة نجد الناس يتفاوتون فيه.
ومهمة طالب العلم والداعية إلى الله - سبحانه وتعالى - هو ألا يكون إيمانه بهذه الأركان إيمان معرفة مجردة، وإنما يكون إيمانه بها بفهم دقيق عميق بحيث يكون داعية إلى الله - سبحانه وتعالى -، ومن ضمن ما يدعو إليه أن يبين للناس هذه الأركان، وأن يوضح ما يتعلق بمقتضياتها، وما يتعلق بآثارها في حياة الإنسان..إلى آخره، وهذه مسألة مهمة جداً؛ لأن فهم العقيدة بأدلتها، وفهم منهج السلف - رحمهم الله - تعالى -بأدلتهم ومنهجهم أمر آخر غير الإيمان المجرد الذي ربما يؤمن به الإنسان وهو سائر في حياته، فحينما يأتي إنسان ملحد أو ضال أو منحرف ليعرض انحرافه أو شبهته، ففي هذه الحالة لا يتمكن من الرد عليه ودحر باطله وبيان الحق من الباطل فيما يقول إلا من تعمق بدراسة العقيدة الإسلامية من جميع جوانبها، وفهمها بأدلتها على منهج السلف الصالح - رحمهم الله - تعالى -.
فحينما نقول: إن الإيمان بالقضاء والقدر من أركان الإيمان، فالمقصود أن على المسلمين وعلى الدعاة إلى الله منهم خاصة وطلاب العلم أن يفقهوا هذا الركن وغيره على وفق فقه السلف.
كثرة الانحرافات في باب القضاء والقدر:
مسألة القضاء والقدر من المسائل التي كثرت فيها الانحرافات، وتعددت فيها أقوال الطوائف، فصار بيان الحق من الباطل فيها مهماً، لو نظرنا إلى ما قبل الإسلام مثلاً لوجدنا أن الفلاسفة والوثنيين بل ومشركي العرب كل منهم خاضوا في مسألة القضاء والقدر، حتى إن مسألة الاحتجاج بالقدر التي نسمعها إلى الآن لو تأملنا في كتاب الله - تعالى -لوجدنا أن المشركين قد احتجوا بالقضاء والقدر على شركهم: ((سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا))[الأنعام: 148]، فربطوا شركهم بالقدر، واحتجوا بالقدر على شركهم، ولا شك أن حجتهم باطلة كما سيأتي إن شاء الله - تعالى -. جاءت رسالة الإسلام، ونزل القرآن العظيم على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم -، وفهم الصحابة العقيدة الفهم السليم؛ لأنهم حضروا التنزيل، وشافهوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتلقوا عنه، ثم جاء بعدهم من يتكلم بلا علم في قضايا العقيدة ومنها: قضية القضاء والقدر.
ولقد حدثت انحرافات خطيرة جداً في القرن الأول في أواخر عهد الصحابة - رضي الله عنهم -، واستمر الانحراف والتفرق في موضوع القضاء والقدر، وظهرت الطوائف التي لاكته على حسب معتقداتها ومسلماتها فنشأ انحراف خطير، وفي العصر الحاضر نجد أن الفلسفات المعاصرة كلها تجعل قضية القضاء والقدر من قضاياها الأساسية، التي تبلور بها ومن خلالها مناهجها وفلسفاتها، فهناك أصحاب مبدأ الحتمية، والجبرية، وهناك أصحاب مذهب الحرية التامة، وهكذا.
كل صورة في عصر من العصور نجد في السابق ما يشابهها، فلما كثرت الانحرافات في هذا الباب كان لزاماً بيان الحق في هذه المسألة، وبحثها على وفق منهج السلف - رحمهم الله - تعالى -.
الشرع مرتبط بالقدر:
الإيمان بالقضاء والقدر ليس من الأمور الخبرية التي يسلم بها الإنسان أو لا يسلم بها وفقط، وإنما هو من الأمور التي لا تنفك عن حياة الإنسان العملية، بمعنى: أن الشرع مرتبط بالقدر، وكل من اختل فهمه في عقيدة القضاء والقدر سيختل توازنه في تطبيقه لقضية الأمر والنهي والشرع الذي شرعه الله تبارك وتعالى، وهذا نحسه ونلمسه دائماً من أولئك الذين يحتجون بالقدر أحياناً.
فقضية القضاء والقدر من القضايا المرتبطة ارتباطاً متيناً بقضية ما سيفعله الإنسان، أو ما أمر به وما نهي عنه على مقتضى الشريعة الإسلامية.
ومن هنا كان أولئك الذين يحتجون بالقضاء والقدر أول ما يحتجون به على انحرافهم في اتباع الأمر والنهي، فلما كانت قضية القضاء والقدر قضية عقدية مرتبطة بقضية الشرع وحياة الإنسان العملية، بل واستقراره النفسي في سيره إلى ربه تبارك وتعالى؛ كان من المهم ألا نترك مثل هذه القضية وأن نعرض لها على وفق منهج سلفنا الصالح - رحمهم الله - تعالى -.
حكم الخوض في القدر:
بعض الناس قد يقول: إن الخوض في القدر هو خوض فيما لا علم للإنسان به، ويقولون: إن القدر سر من أسرار الله، وينبغي الكف عن البحث فيه، ويحتجون لذلك بما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ثوبان - رضي الله عنه - وأرضاه أنه قال: (إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا) وهذا الحديث رواه الطبراني وغيره، وهو حديث حسن بمجموع طرقه. والعلماء الذين عرضوا لمثل هذه القضية اختلفوا فيها إلى منهجين أو طريقتين: فبعضهم ظن أن دلالة هذا الحديث تقتضي أنه يجب الإمساك عن القدر تماماً، وأنه يجب الكف عن الخوض والكلام فيه، وقال: إن هذا مهم جداً لمن آثر السلامة.
وبعضهم قال: يجوز الخوض في القدر والكلام فيه، وضعف هذه الأحاديث. والذي نرجحه أن هذه الأحاديث تصل بمجموع طرقها إلى درجة الحسن، ونهي النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها هو نهي واضح لا ينصب على بحث القدر على المنهج الصحيح؛ لأن الإيمان بالقضاء والقدر من أركان الإيمان، وجاءت فيه أحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل وردت فيه آيات كثيرة في القرآن العظيم، فهل معنى ذلك أننا منهيون أن نبحث في معاني هذه الآيات وهذه الأحاديث؟ الجواب: لا، بل إن في الحديث ما يدل على مسألة القضاء والقدر وهي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في هذا الحديث: (إذا ذكر أصحابي فأمسكوا)، فما معنى وجوب الإمساك عن ذكر الصحابة؟ هل معنى ذلك أننا لا نتحدث عن الصحابة وأنسابهم وأسمائهم وجهادهم وأحوالهم وأقوالهم.. إلى آخره؟! لا، بل الواضح أن المقصود بذلك: إذا ذكر الصحابة بباطل، وصار الناس يخوضون فيهم بين مخطئٍ لهم وقائل فيهم بما لا يجوز، وخاصة ما جرى بينهم - رضي الله عنهم - وأرضاهم؛ فواضح جداً أن هذا من الخوض الذي لا يجوز، وقد كان سلفنا الصالح - رحمهم الله - تعالى -إذا ذكروا مثل هذه القضايا المتعلقة بالصحابة يقولون: "تلك دماء طهر الله منها أيدينا فيجب أن نطهر منها ألسنتنا، فلا نخوض فيهم بالباطل"، كذلك أيضاً القضاء والقدر، فمعرفته، ومعرفة الأدلة حوله، وأنه ركن من أركان الإيمان، وما يقوي الإيمان فيه، هذه من المسائل المتعلقة بالقدر التي يجوز الخوض فيها، بل مما يزيد الإيمان فيها أن يدرسها الإنسان ويتعمق فيها، لكن إذا جاء خائض ليخوض في باب القدر بالباطل، ويأتي ليقول: لماذا قدر الله؟ لماذا كذا؟ لماذا كذا؟ ثم يأتي محتجاً ومعترضاً.. إلى آخره، ففي هذه الحالة ينطبق عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وإذا ذكر القدر فأمسكوا).
الهدف من دراسة قضية القضاء والقدر وفهمها:
بعض الناس قد يظن أن بحث مسألة القضاء والقدر لا يكون إلا حينما يراد للأمة الاستكانة والخضوع، بمعنى: أنه إذا ابتليت الأمة بالمصائب، وتسلط عليها الأعداء من كل جانب، وصار المسلمون ضعفاء، فمن الأنسب أن نقول لهم: ما جرى إنما هو بقضاء الله وقدره، وعليكم أن تؤمنوا بالقضاء والقدر، وهذا الأمر لا يمكن أن ينفك عنكم أبداً.. إلى آخره، كما حكي عن بعض الناس أنه قال مثل هذا الكلام إبان الحروب الصليبية، فلما هجم الصليبيون على العالم الإسلامي تلك الهجمة الشرسة قال بعضهم: إن هذا من القضاء والقدر، وما دام أنه من القضاء والقدر فيجب أن نستسلم له! ونحن نقول: إن بحثنا لمثل هذه القضية، وفي مثل هذه الظروف التي تمر بالأمة الإسلامية، ليس مقصده شيئاً من هذا، بل العكس تماماً؛ لأن الإيمان بالقضاء والقدر والفهم الصحيح له هو الذي يحول الإنسان من إنسان متبلد إلى إنسان مقدام شجاع، وهذه مسألة سنعرض لها؛ لأن بعض مسائل العقيدة أحياناً تفهم على غير وجهها مثل: مسألة المهدي، ونزول عيسى، فإذا درست أحاديث المهدي ومجيئه في آخر الزمان، وأنه يملأ الأرض عدلاً، ثم ينزل عيسى ويقتل الدجال.. إلخ، يتبلور في أذهان بعض الناس أنه ينبغي أن ينتظر المهدي، وينتظر نزول عيسى ابن مريم، وأن علينا أن نسكت، وأن الدنيا لا تزيد إلا ظلماً، والاستسلام هو الأولى، والسكوت هو الأولى، وعليك بخويصة نفسك.. إلى آخره!
نقول: هذا من الفهم الخاطئ لقضية المهدي ولمسألة نزول عيسى ابن مريم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي أخبرنا بهذا، والصحابة الذين فهموا هذا، هل جاء في أذهانهم مثل هذه المفاهيم؟! لا، بل عملوا في حياتهم على مقتضى شرع الله؛ لتغيير الواقع، وللنهوض بالأمة الإسلامية بحسب جهدهم وبحسب مقدرتهم، ووفقهم الله - سبحانه وتعالى -؛ لأنهم كانوا مخلصين في مقاصدهم، وكانوا أيضاً متبعين لشرع الله - تعالى -في أعمالهم وفي مناهجهم. ومن هنا تجد أن قضية القضاء والقدر عند بعض العلماء لا يمكن أن تمر في ذهنه أنها تدعوه إلى الكسل والتواني، سواءً كان هذا على مستوى الفرد أو على مستوى الأمة، حتى إن عبد القادر الجيلاني يؤثر عنه أنه قال: ليس الرجل الذي يسلم للأقدار -أي: يستسلم- وإنما الرجل الذي يدفع الأقدار بالأقدار، وهذه قضية واضحة جداً.
كل منا لو نظر في حياته لوجد أنه مضطر إلى هذا، فإذا كنت في أمورك العادية تدفع الأقدار بالأقدار حتى قدر الجوع تدفعه بقدر آخر وهو الأكل، وقدر العطش تدفعه بقدر آخر وهو الشرب والري، وهكذا، كذلك قدر المعصية إذا وقعت تصبح قدراً فإنك تدفعها بقدر آخر وهو الطاعة والتوبة إلى الله - سبحانه وتعالى - كما سيأتي.
الطرق الصحيحة في دراسة مسائل القضاء والقدر:
من المسائل المتعلقة بالمقدمات المتعلقة بقضية القضاء والقدر هي المنهج الصحيح لدراسة القضاء والقدر، مسألة المنهج الصحيح لدراسة القضاء والقدر يجب أن تدرس دراسة مستقلة؛ لأنها تتعلق بالقضاء والقدر وبغيره، وكل خلط وانحراف في هذا الباب وفي غيره من أبواب الإيمان إنما منشؤه الخلط في المنهج، وانظروا إلى الفرق الإسلامية التي انحرفت، وانظروا إلى المذاهب المعاصرة التي انحرفت، فستجدوا من أسباب انحرافها أن منهجها في تلقي هذه العقيدة وفي فهمها منهج خاطئ، ومن هنا فإنني لن أشير مطيلاً في هذه القضية؛ لأنها قضية تحتاج إلى محاضرات مستقلة، والحمد لله فإن هناك كتيبات وهناك محاضرات تبين مثل هذه المسألة، ولكن الذي أود أن أشير إليه في باب القضاء والقدر هو ثلاثة أمور في المنهج:
الأمر الثالث المتعلق بمنهج دراسة القضاء والقدر: أن الدارس المتفهم لهذه القضية يجب عليه أن يربطها ربطاً تاماً بربه تبارك وتعالى، يربطها بعدل الله، وحكمة الله، ورحمة الله، وصفات الله تبارك وتعالى، فقضية القضاء والقدر مرتبطة بصفات الله- تبارك وتعالى -الكاملة، فهو - سبحانه وتعالى - له الكمال المطلق في ذاته وفي أسمائه وفي صفاته، فلا ينبغي لإنسان يدرس هذه القضية وكأنه يجعل ربه- تبارك وتعالى -في قفص الاتهام كواحد من البشر، سبحان الله عما يصفون، بل يجب عليه أن ينظر إلى المسألة من منظار أنه عبد وأن الله رب، وأن يعرف جيداً أن هذه القضايا متعلقة بأسماء الله - تعالى -وصفاته وكماله، والله- تبارك وتعالى -هو الذي أحاط بكل شيء علماً، وهو على كل شيء قدير، وهو بكل شيء عليم - سبحانه وتعالى -: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ - سبحانه وتعالى - عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر: 67]. وهو - سبحانه - الذي أراد أن ينشئ هذا الكون، وأن يوجد هذا الإنسان، وهو الذي اقتضت إرادته أن تنتهي هذه الدنيا، وأن تنكدر النجوم، وتتشقق السماء، وتكور الشمس، وأن يتغير العالم، هو الذي أراد ذلك، وهذا أمر كائن لا محالة، فلننظر إلى هذه المسألة من منظار العقيدة الصافية المفهومة فهماً صحيحاً، وخاصة ما يتعلق منها بأسماء الله- تبارك وتعالى -وصفاته.
الأخذ من الكتاب والسنة:
الأمر الأول: أن عقيدة القضاء والقدر يجب أن تؤخذ من الكتاب والسنة أولاً، ويستعان بما كتبه علماء الإسلام في فهم ما جاء في الكتاب والسنة، بمعنى: أن الإنسان الذي يريد أن يفهم هذه القضية فعليه أن ينطلق من هذا المنطلق، قراءة الكتاب العزيز وتفسيره، وقراءة سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفهمها بحيث يستنتج الإنسان في النهاية استنتاجاً متلائماً مترابطاً حول هذه القضية، التي هي قضية القضاء والقدر؛ لأن مسألة القضاء والقدر من المسائل التي كثر الخوض فيها من جانب الفلاسفة ومن جانب المتكلمين، خاض الفلاسفة فيها جميعاً، خاض فيها الصوفية على مختلف أصنافهم، خاض فيها المتكلمون من معتزلة وأشاعرة، خاض فيها مختلف الطوائف من الفرق كالروافض والزيدية وغيرهم، كل خاض في هذه القضية، وهذه الكتب تجد منهجها توجيه هذه القضية توجيهاً منحرفاً، وأقرب مثال على ذلك، من هم أقرب الناس إلى أهل السنة والجماعة، وهم الأشاعرة والماتريدية، لو جئت إلى قضية القضاء والقدر لوجدت أن مناهجهم فيها كثير من الخلط، ولم تصف لهم هذه المسألة؛ لأنهم عندما واجهوا المعتزلة في بعض القضايا أدى بهم الأمر إلى أن يقعوا في الطرف الآخر من المسألة، بينما المنهج الحق هو الوسط لا هذا ولا هذا، وستأتي الإشارة إلى أشياء من هذا إن شاء الله - تعالى -، إذاً: على الإنسان أن يرجع أولاً إلى الكتاب والسنة في العقيدة عموماً، وفي قضية القضاء والقدر خصوصاً.
الأمر الثاني: أن هناك مجالاً في باب القضاء والقدر لا مدخل للإنسان فيه أبداً، وهو الذي سماه بعض العلماء: سر القدر، قال الطحاوي - رحمه الله تعالى -: والقدر سر الله لم يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل، هذه القضية يجب أن نعرفها وأن نؤمن بها؛ لكن لا يجوز أن نضعها في غير محلها كما يفهم البعض، مدار قضية أن القدر سر الله، وأن في القدر ما لا يمكن للإنسان أن يبحث فيه: هو التقدير الأزلي من الله - سبحانه وتعالى -، وهو أن الله- تبارك وتعالى -هو الذي اختار أن يوجد الناس في هذه الحياة على الابتلاء: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [هود: 7].. وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35]. لأن السائل قد يسأل هنا ويقول: لماذا لم يجعلهم الله مهتدين؟ والله - تعالى -أجاب عن ذلك في كتابه العزيز فقال لمحمد - صلى الله عليه وسلم -: وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْجَاهِلِينَ [الأنعام: 35]، لو أراد الله - سبحانه وتعالى - لجعل الناس كلهم مؤمنين مثل الملائكة: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6]، ولكن الله - وهو الذي له المشيئة المطلقة- أراد ذلك لحكمٍ كثيرة، أراد الله أن يوجد البشر على هذه الأرض، وأن يكونوا مكلفين، وأن يكون منهم أهل استقامة واتباع؛ ليكونوا يوم القيامة من أهل الجنة، وطائفة أخرى أهل انحراف وكفر؛ ليكونوا يوم القيامة من أهل السعير. فمن قال: لماذا لم يجعل الله الناس كلهم مهتدين؟ مثل من جاء ليقول: لماذا لم يجعل الله الأرض على هذا الشكل؟ هذا سؤال لا نسأله نحن، وسيأتي إن شاء الله ما يبين أن الإيمان بهذه القضية من المواطن المهمة جداً لسلامة قلب الإنسان واستقراريته، وبقيت قضايا أخرى تتعلق بمشيئة الإنسان، وهل له حجة على الله؟ وهذه مسائل واضحة تمام الوضوح كما سيأتي بيانها إن شاء الله - تعالى -، إذاً: على الإنسان ألا يعترض على أصل المشيئة الإلهية، بمعنى: لا يأتي قائل يقول: لماذا أغنى الله هذا وأفقر هذا؟ لماذا هذا يعيش إلى مائة سنة وذاك يعيش عشر سنوات فقط أو عشرين أو ثلاثين؟ لماذا الله- تبارك وتعالى -أضل وهدى، وجعل الناس صنفين؟ هذه من الأسئلة التي هي موطن سر القدر، والقدر متعلق بمشيئة الله- تبارك وتعالى -النافذة.
تعريف القضاء والقدر لغة واصطلاحاً:
بعد هذه المقدمات الأربع ننتقل إلى المسألة الأولى من المسائل التي نحب أن نبينها، ألا وهي: مسألة تعريف القضاء والقدر، ولا نريد أن نخوض في المعاني اللغوية لمسألة معنى كلمة قضى، ومعنى كلمة قدر، وإنما أحب أن أشير هنا إلى كتاب ابن فارس الذي يسمى بمعجم مقاييس اللغة، وهو من أهم الكتب التي جمعت بين فقه اللغة وبين معنى اللغة، ومعاني الكلمات، فهو يحرص دائماً على بيان علاقة الحروف بالكلمة، ومن هنا فإنني سأشير إشارة صغيرة إلى قول ابن فارس في معنى كلمة قضى حيث قال: القاف والضاد والحرف المعتل أصل صحيح يدل على إحكام أمر وإتقانه وإنفاذه لجهته، وهذا المعنى واضح الدلالة جداً في علاقته بالقضاء والقدر، وإن كان القضاء والقدر له معانٍ أخرى معروفة كثيرة: فيأتي بمعنى الأمر قال - تعالى -: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ [الإسراء: 23] أي: أمر، ويأتي بمعنى الحكم كما في قوله - تعالى -: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ [طه: 72] في قصة سحرة فرعون، أي: احكم ما أنت حاكم، ما أنت تريد، ويأتي بمعنى الفراغ كما قال الله - تعالى -: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: 12] أي: أنه - سبحانه وتعالى - فرغ من خلقهن وتسويتهن، ويأتي بمعنى الأداء تقول: قضى فلان صلاته، أي: أداها يقول - سبحانه -: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ [البقرة: 200] أي: إذا أديتم مناسككم، ويأتي بمعنى الإعلام كما في قول الله - تعالى -: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ [الإسراء: 4]، أي: أوحينا وأخبرنا وأعلمنا.. إلى آخر المعاني التي هي معروفة في اللغة العربية، ولكن الذي يهمنا في هذا أن مجمل هذه المعاني ذات ارتباط بالمعنى الأساسي الذي نريده، وهو أن معنى كلمة القضاء مرتبطة بالقدر، فهي دالة على أن الله - سبحانه وتعالى - قضى هذا الأمر وفرغ منه، ودالة على أن الله أحكم هذا الأمر ونفذه، ودالة على أن الله - سبحانه وتعالى - قد قدر أن يجري قضاءه كما قدره - سبحانه وتعالى -، وكذلك كلمة القدر يقول فيها ابن فارس في كتابه المهم معجم مقاييس اللغة: القاف والدال والراء أصل صحيح يدل على مبلغ الشيء ونهايته، ومن هنا فإن القدر يطلق على الحكم والقضاء كما في حديث الاستخارة الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي آخره يقول الداعي: (فاقدره لي ويسره لي). وحينما يحرك الدال: (قَدَر) يكون بمعنى الطاقة، كما قال - تعالى -: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة: 236]. ويأتي القدر بمعنى التضييق كما في قول الله - تعالى -: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء: 87]، في قصة يونس، أي: ظن أن لن نضيق عليه.
وأيضاً يأتي من التقدير كما في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: (فإن غم عليكم فاقدروا له)، ويوضحه الرواية الأخرى: (فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً). فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فاقدروا له) أي: قدروا له عدد الشهر حتى تكملوه ثلاثين يوماً، وهذا يتعلق بمسألة فقهية معروفة.
إذاً: إذا نظرنا إلى المعاني اللغوية للقضاء والمعاني اللغوية للقدر نجد أن لها علاقة واضحة بمعنى القضاء والقدر الذي نحن بصدده.
فإذا كان هذا معناهما لغة فما معناهما اصطلاحاً؟ لم يرد تعريف مستقل دقيق لهذا، وإنما جمع العلماء - رحمهم الله - تعالى -ما يتعلق بالأشياء التي يجب الإيمان بها في باب القضاء والقدر، وبينوا من خلالها معنى القضاء والقدر.
ومن هنا فيمكن أن نقول: إن المقصود بالقضاء والقدر: هو تقدير الله - تعالى -الأشياء في القدم، وعلمه - سبحانه وتعالى - بأنها ستقع في أوقات معلومة عنده، وعلى صفات مخصوصة، وكتابته - سبحانه - لذلك، ومشيئته له، ثم وقوع هذه الأشياء على مقتضى إرادته ومشيئته وخلقه لها - سبحانه وتعالى -. وهذا التعريف يشمل عدة مسائل:
الأولى: الإيمان بعلم الله الأزلي التام بأن الله - سبحانه وتعالى - علم في الأزل ما الخلق فاعلون.
الثانية: الإيمان بأن الله- تبارك وتعالى -كتب -كما ورد في النصوص- في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة -وهو اللوح المحفوظ- ما هو كائن إلى يوم القيامة.
الثالثة: الإيمان بأن الله - تعالى -له المشيئة النافذة، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
الرابعة: الإيمان أنه لابد أن تقع هذه الأشياء على وفق ما علمها وكتبها وأرادها، والإيمان بأن الله - تعالى -خالقها، أي: أن الله- تبارك وتعالى -خالق كل شيء. إذاً: تترتب هذه الأمور على هذا الترتيب: علم أزلي، ثم كتابة لهذا الأمر، ثم مشيئة إلهية لابد أن تنفذ، ثم وقوع المقدور، وأن الله - تعالى -هو خالقهم، فكل ما يقع في هذا الكون فهو مخلوق لله كما قال- تبارك وتعالى -في كتابه العزيز: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد: 16]، - سبحانه وتعالى -، وسيأتي إن شاء الله - تعالى -بيان علاقة هذه القضية بإرادة الإنسان وقدرته.
يتبع