تكريم الأم وبرها

سليمان خالد الرومي





لنتأمل كيف جعل الإسلام الصفا والمروة من شعائر الله فرفع الأمومة لمكانة سامية وحولها من خصيصة أنثوية لقيمة إنسانية تتجاوز النساء ليهرول الحجيج جميعهم -رجالا ونساء- بين الصفا والمروة يستحضرون هلع هاجر الأم الرحيمة المشفقة التي قطعت الأشواط تبحث لوليدها عن قطرة ماء، فكان جزاء الجهد بعد سبعة أشواط كاملة أن تفجر الماء من تحت قدميه ولو شاء الله لفجره مع أول صرخة عطش، لكنه أراد -عزوجل- أن يعلمنا أن الأمومة عطاء وسعي وجلد، و«هرولة» و«جهاد».

وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله " صلى الله عليه وسلم" التحذير من المحدثات في الدين وعن مشابهة أعداء الله من اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين مثل قوله " صلى الله عليه وسلم" : «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (متفق عليه).

وفي لفظ لمسلم «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد». والمعنى: فهو مردود على من أحدثه، وكان " صلى الله عليه وسلم" يقول في خطبته يوم الجمعة: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد " صلى الله عليه وسلم" وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» (أخرجه مسلم في صحيحه).

ولاريب أن تخصيص يوم من السنة للاحتفال بتكريم الأم أو الأسرة من محدثات الأمور التي لم يفعلها رسول الله " صلى الله عليه وسلم" ولا صحابته المرضيون، فوجب تركه وتحذير الناس منه والاكتفاء بما شرعه الله ورسوله.

إن الشريعة الإسلامية قد جاءت بتكريم الأم والتحريض على برها كل وقت، وقد صدق في ذلك، فالواجب على المسلمين أن يكتفوا بما شرعه الله لهم من بر الوالدة وتعظيمها والإحسان إليها والسمع لها في المعروف كل وقت وأن يحذروا من محدثات الأمور التي حذرهم الله منها، والتي تفضي بهم إلى مشابهة أعداء الله والسير في ركابهم واستحسان ما استحسنوه من البدع، وليس ذلك خاصا بالأم بل قد شرع الله للمسلمين بر الوالدين جميعا وتكريمهما والإحسان إليهما وصلة جميع القرابة، وحذرهم سبحانه من العقوق والقطيعة وخص الأم بمزيد العناية والبر، لأن عنايتها بالولد أكبر وما ينالها من المشقة في حمله وإرضاعه وتربيته أكثر، قال الله سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا} (الإسراء:23)، وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإنْسانَ بوالدَيْه حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلى وَهْنٍ وَفصالُهُ في عامَيْن أَن اشْكُرْ لي وَلوالدَيْكَ إلَيَّ الْمَصيرُ} (لقمان:14).

وصح عن رسول الله " صلى الله عليه وسلم" أنه قال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس، وقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور».

والآيات والأحاديث في بر الوالدين وصلة الرحم وبيان تأكيد حق الأم كثيرة مشهورة، فقد وقع ما أخبر به الصادق المصدوق " صلى الله عليه وسلم" من متابعة هذه الأمة -إلا من شاء الله منها- لمن كان قبلهم من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من الكفرة في كثير من أخلاقهم وأعمالهم، حتى استحكمت غربة الإسلام، وصار هدي الكفار وما هم عليه من الأخلاق والأعمال أحسن عند الكثير من الناس مما جاء به الإسلام، وحتى صار المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، عند أكثر الخلق؛ بسبب الجهل والإعراض عما جاء به الإسلام من الأخلاق الكريمة والأعمال الصالحة المستقيمة، فعلى علمائنا وكتابنا العمل على نشر محاسن ديننا والتحذير من البدع والمحدثات التي تشوه سمعته.

دور الأم التربوي

لقد قامت الأم بدورها الريادي في التربية والتوجيه، متمثلا في شخصيات وسلف هذه الأمة من حسن تربية، ولا تفسد على زوجها إصلاح بيتها، تطلعه على كل ما من شأنه إصلاح البيت المسلم، بيتها دار الحضانة الأسمى، لا دور الحضانة المنتشرة في آفاق المسلمين، والتي ينبغي ألا تقبل إلا في الضرورات الملحة.

في الخنساء عبرة وعظة

في سير الأسلاف عظة، وفي مواقفهم خير وعبرة، والخنساء رضي الله عنها عرفت بالبكاء والنواح، وإنشاء المراثي الشهيرة في أخيها المتوفى إبان جاهليتها، وما أن لامس الإيمان قلبها، وعرفت مقام الأمومة ودور الأم في التضحية والجهاد في إعلاء البيت المسلم ورفعة مقامه عند الله، وعظت أبناءها الأربعة عندما حضرت معركة القادسية تقول لهم: إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، وإنكم لابن أب واحد وأم واحدة، ما خبث آباؤكم، ولا فضحت أخوالكم. فلما أصبحوا باشروا القتال واحدا بعد واحد حتى قتلوا، ولما بلغها خبرهم ما زادت على أن قالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.

هذه هي الخنساء.. فأين جملة من رائدات نهضة الأمومة منها؟ هذه هي الخنساء.. فأين المتنصلات عن واجب الأمومة منها؟ إن جملة منهن ولاشك أقصر باعا وأنزل رتبة من أن يفقهن مثل هذا المثل، ربما كرهت إحداهن أن تكون أما لأربعة، ولو تورطت بهم يوما ما لما أحسنت حضانتهم وتربيتهم، فلم تدرك ما ترجو، ولم تنفع نفسها ولا أمتها بشيء طائل، وكفى بالأم إثما أن تضيع من تعول. وفي مثل الخنساء تتجلى صورة الأمومة على وجهها الصحيح، وما ذاك إلا للتباين الذي عاشته في جاهليتها وإسلامها، ومن هنا يظهر عظم المرأة، ويظهر تفوقها على رجال كثير مع أنوثتها وقصورها عن الرجل، ولو كانت الأمهات كأم سليم، وعائشة، وأم سلمة، والخنساء، لفضلت النساء على كثير من الرجال في عصرنا الحاضر.

لا للعقوق

ألا فليتق الأولاد الله، وليقدروا للأم حقها وبرها، ولينتهين أقوام عن عقوق أمهاتهم قبل أن تحل بهم عقوبة الله وقارعته، ففي الصحيحين يقول النبي " صلى الله عليه وسلم" : «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات»، وعند الترمذي في جامعه عن النبي " صلى الله عليه وسلم" قال: «إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء… وذكر منها: وأطاع الرجل زوجته وعق أمه».

وفي الختام أسأل الله سبحانه وتعالى أن نكون بارين بأمهاتنا، ويجب أن نحتفل ونكرم الأم كل يوم وكل لحظة ولا ننساها، وأنصح بقراءة كتاب «نساء يضرب بهن المثل» إعداد الأستاذ منصور بن ناصر العواجي.