امتصاص تقلبات الأزمان
عبد العزيز بن عبد الله الأحمد



الكل بلا استثناء تمر بهم أقدار مؤلمة ومواقف محزنه، ويعانون في نفس الوقت من ضغوط نفسية حالية.. إضافة إلى ذلك لا يفتأ الواحد منا أن ينظر إلى غده.. ومستقبله فيضيف أثقالاً أخرى!!
إن الإنسان مابين ماض وحاضر ومستقبل، فهو مابين ماضٍ مرَّ فيه بمصائب ومواقف قاسية وابتلاءات، ومابين حاضر مليء بالضغوط والمسؤوليات ينوء الإنسان بحملها، فالإنسان الذي يجتر مصائب الماضي وأخطائه يصاب بالاكتئاب والحزن، والنظرة الدونية للذات!! والذي يرى تعدد المسؤوليات وكثرة العقبات في طريقه الحالي.. يصاب بالوسوسة والشك والضعف.. ومن ثم الهروب من مواجهة الواقع!! والذي يمتلئ عقله من التفكير بالمستقبل وعوائقه، وتعقُد الأمور وتداخل القضايا يصاب بالهم والقلق، وضعف المبادرة والإنتاجية..
إن مساوئ التربية والإعداد والتوجيه تظهر جلياً حينما تقع الأقدار المؤلمة للنفس في صور معينة سواء في مخرجات العقل من تذبذب التفكير، وتقلب الآراء واضطراب القرارات والأحكام، أو مخرجات الجوارح في فلتات اللسان من اللجاج والسب والشتم، والتكرار المقيت لكلمة "لو"، ويتطور الأمر إلى استخدام اليدين والقدمين!! ويظهر التقصير في الإعداد والتربية كذلك أثناء القيام ببعض المهام والمسئوليات الحالية نظراً لاعتماد الإنسان كلية على جهده الشخصي والأسباب المادية، فيصاب بالغرور والعجب، ومن ثم ما أسرع أن ينقطع عمله، وما أقل طول النفس لديه!! ويظهر التقصير في التربية والتوجيه حينما يتهرب الإنسان من مواجهة المستقبل بآماله وآلامه فهو مخادن للتأخر والاعتذار، حريص على اختلاق الحيل للف على ذاته وتعويمها في بحر الجبن والتقهقر!! إن ذلك سبب كبير من أسباب كثرة الفشل وقلة النجاحات لعدد كبير من الشخصيات التي وُهبت مؤهلات أكاديمية وقدرات شخصية وإمكانات مادية.
ولإعطاء جرعة من الوصفة الشرعية النفسية لمن تلونت نفسه بهذه الصبغات، أسمو بالقراء إلى أمور مهمة من صلب عقيدتنا ومسلماتها تكفل وبشكل كبير في رفع هذه النفوس وجعلها في صف الملائكة طهراً والرسل دعوة وتربية وجهاداً، والشجرة خضرة وتجذراً، وثمرة وظلاً، وذلك في ثلاث نقاط:
1- الإيمان بالقضاء والقدر: وذلك بتنزيله من الاعتقاد القلبي، والمعرفة الفكرية إلى ممارسة في الواقع.. إن استحضار هذه الحقيقة وهي: أن الله علم الأشياء، وكتبها، وخلقها، فقدرها تقديراً..
أقول إن استحضار ذلك أثناء مرور الإنسان بمصائب الحياة وأكدارها ومنغصاتها يمنح القلب بلسماً من الشفاء، ومسحات حانية تداوي قلوب المرضى وأهل الشكوى والبلوى، ومن أيقن بذلك لم يحزن على فائت دنيوي ولم يفرح بما بين يديه؛ لأن ما فات لا يمكن إرجاعه، وما كان بين اليدين سيرحل كما قال - تعالى -: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور).
والأقدار خاصة المؤلمة التي تقع على المؤمن يستوجب عليه مراجعة فصولها وأحداثها فيتبين خللها وخطئها فيجتنبه، ويرى صحيحها وطيبها فيزداد منه، إن بعض الأحداث التي تقع على الإنسان سواء كانت عامة على الأمة أو له خاصة يمكن تسميتها بأنها "تربية بأثر رجعي للذات" وأسلوب نفسي لتوعيتها بالواقع، ونوع من التغذية الراجعة للسلوكيات، وهذه القاعدة من أبرز معالم معركة أحُد قال - تعالى -: (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أُخراكم فأثابكم غماً بغمٍ لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون).
وما أجمل أن تربط تصورات إخواننا وأبنائنا وطلابنا بمثل هذه الحقيقة الكونية الشرعية والتي تقلل من مضاعفات الحزن والاكتئاب والتحسر والندم المقعد، وتدفع إلى التصحيح والإزالة والتغيير.
2- الاستعانة بالله - تعالى -: وهي عمل قلبي عظيم بل عليه مدار شطر الدين والإسلام فقد قال الله - تعالى - في سورة الفاتحة في دعاء المؤمنين: (إياك نعبد وإياك نستعين)، فالدين عبادة واستعانة.. والاستعانة معناها ربط القلب بالله - تعالى - في الرغبة والرهبة، والمنشط والمكره.. واستحضار معيته في الحاضر علماً وقدرة ومحبة، فالإنسان يزاول حياته ويطرق أسباب معيشته، وفي نفس الوقت لا يركن إليها بل يركن إلى الله - تعالى - الذي بيده كل شيء وبيده تصريف الأمور، وكم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرر هذه القاعدة على صحابته كثيراً رابطاً قلوبهم بالله - تعالى - في التوجه والقصد وفي الكسب والطلب، ولنلاحظ توجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلكم الغلام الحصيف عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -.. في توجيه ملائكي رائع يمكن أن يكون دستوراً في العقيدة والسلوك قائلاً له: ((.. وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم بأن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك..)) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، فهنا ترى كيف ربط النبي - صلى الله عليه وسلم - بين السؤال والاستعانة، فالسؤال صورة جلية، ومظهر واضح للاستعانة، فلذا وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - إلى سؤال الله دائماً والاستعانة به؛ بل يذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أبعد من هذا حيث وجه الصحابة - رضي الله عنهم - إلى سؤال الله كل شيء حتى صغار الأمور الدنيوية كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ليسأل أحدكم ربه حاجته حتى شسع نعله إذا انقطع)) رواه الترمذي، والطبراني، وصححه بن حبان.
إنها تربية لحس الإنسان الطلبي أن لا يتعلق بمخلوق، وأن يتعلق بخالقه في كل شيء.. بل بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة من أصحابه على أن لا يسألوا الناس شيئاً، ومنهم أبو بكر، وأبو ذر، وثوبان رضي الله عنهم أجمعين، فكان أحدهم يسقط سوطه أو خطام ناقته فلا يسأل أحداً إياه.
إن في تقرير السؤال والطلب - والذي هو استعانة واضحة- أمرين مهمين:
الأول: دليل أكيد على صرف ذلك لله - تعالى -، وعدم الاعتماد على النفس أو المخلوق وذلك يهب الإنسانَ المعرفةَ الإلهيةَ، والبركةَ والتوفيق، والسداد بحسابات ليست في مقدور البشر أو تصوراتهم.
الثاني: إن توجيه القلب لله سؤالاً واستقامة، والتباعد عن طلب المخلوقين.. يعطي الإنسان نشاطاً وحركة.. ويهبه ثقة واعتماداً بعد الله على الذات، ويبعده عن العجز والكسل بخلاف من تعود على طلب وسؤال المخلوقين فإنه يحرم ذلك، إضافة إلى الاعتمادية على الآخرين، وكتطبيق جميل لذلك ما رواه أحمد، وابن ماجه، والطبراني عن ثوبان - رضي الله عنه - قال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من يتقبل لي بواحدة أتقبل له الجنة))؟ قلت: أنا، قال: ((لا تسأل الناس شيئاً))، فكان ثوبان يقع سوطه على الأرض وهو راكب فلا يقول: ناولنيه حتى ينزل فيأخذه".
إن هذا الأسلوب النبوي منح ثوبان - رضي الله عنه - ثواباً عظيماً في الجنة وحركة جسمية بالنزول والصعود، وذلك يغيب عنا عندما نعود أنفسنا ومن حولنا كثرة الطلب والسؤال حتى كأس الماء أو قلم الكتابة!!
ولا أعني بتقرير هذه القاعدة عدم الاستفادة من الآخرين أو سؤالهم في أمور نافعة أو التشاور!! كذلك لا يعني عدم دراسة الأمور والإقبال عليها دون معرفة أو تبين، فالاستعانة بالله - تعالى - لا تعني إهمال دراسة الأشياء أو معرفتها وتبينها؛ بل الشرع أمر بتبيُن الأشياء ومعرفتها، والحرص على النافع المفيد منها، ثم الاستعانة بالله - تعالى - أثناء المزاولة والممارسة، وما أجمل حديث أبي هريرة في تقرير هذه القواعد المهمة للإنسان في حياته قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((..المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شي فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)) رواه مسلم وأحمد وغيرهما.
3- التوكل على الله: وحقيقته معرفة الأمور وبذل الأسباب وتفويض الأمر لله مع التسليم المطلق له. إن هذا العمل القلبي العظيم يعطي القلبَ قوةً والنفسَ مناعةً أمام العقبات الحياتية والمجهولات المستقبلية، وما تفشت كثير من الأمراض النفسية كالوسواس وقلق الموت وما تعددت صور الجبن والخور إلا بغياب حقيقة التوكل على الله من القلوب، ولذا قال الرجلان الصالحان من قوم موسى - عليه السلام - لقومهم لما أجابوا إجابة الجبناء عن مواجهة القوم الجبارين قالا آمرين ببذل الأسباب واستعمال القوة والتوكل على الله - تعالى - وتفويض الأمر إليه، قال تعالى: (قال رجلان من الذين يخافون أعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين).
وإن التوكل على الله والذي يجمع الثقة بالله، والتسليم له، والتفويض إليه جسر عظيم يعبر عليه المتوكلون لاستجلاب أرزاقهم، ومقارعة عدوهم، ومواجهة مستقبلهم..
فأما الأول فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطانا)) رواه أحمد، والترمذي، وقال حسن صحيح.
وأما الثاني فقد مر في مخاطبة الرجلين الصالحين لقومهما، وأما الأخير فهو ظاهر في توجيه يعقوب - عليه السلام - لأبنائه لما أرسلهم إلى مصر: (وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون)، وليعلم أن تحقيق التوكل لا ينافي أبداً السعي في الأسباب التي قدر الله - سبحانه - المقدورات بها وجرت سنته في خلقه بذلك، فإن الله أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له، والتوكل بالقلب عليه إيمان به.
إن غياب مثل هذه القاعدة والحقيقة من عقول وقلوب المربين والمجتمع هو الذي هيأ ظهور صور من الخوف والوجل المرضيين، والكذب والغش في البيع والشراء، والجبن والهلع، وذلك يتضح أكثر في الأزمات كما الحال الآن، وهو الذي جعل الكثير يتأخرون عن معالي الأمور من الجهاد والجد والعمل، بينما إذا استقرت هذه القاعدة وسابقاتها في القلب فإنهن يجعلن من الطفل رجلاً، والصخرة جبلاً.. وشواهد ذلك في بطولات القوم من عهد الرعيل الأول إلى يومنا هذا في صور الإقدام والبذل، والإيثار والعطاء.
إن الإنسان إذا تفحص أموره، وشاور من يثق في علمه وخبرته ودينه ما عليه إلا أن ينطلق إلى غايته وتحقيق هدفه، فمعالم النجاح القلبي والأخروي بين يديه بإذن الله.. إذ ليست نتائج الدنيا هي الفيصل والمعيار الوحيد فيها، ولذا قال الله - تعالى - أثناء تقليبهم في دروس معركة أحُد: (..فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين).
وخلاصة الكلام أن تقلبات الأزمان التي تدور ما بين حزن واكتئاب، وتحسر وندم على الماضي، وما بين غم وعجز وكسل لعقبات وضغوط الحاضر، ومابين هم وقلق على المستقبل، يتم امتصاصها وتجاوز مضاعفاتها السلبية بالإيمان بالقضاء والقدر فهو الذي يزيل الحزن والتحسر والاكتئاب، ويتم امتصاص هموم وغموم الحاضر بالمعرفة والاستعانة بالله - تعالى -، وكذلك يتم امتصاص الهموم والقلق من المستقبل غير المرئي ببذل الأسباب، وتفويض الأمر إلى الله والتوكل عليه..
إن كل ذلك يضخ في قلب العبد مناعة نفسية رهيبة، وقوة قلبية عظيمة لا يمكن وصفها كما قال ابن قيم الجوزية - رحمه الله - إلا لمن ذاقها، جعلنا الله وإياكم من أهلها، فاللهم ارزقنا الرضا بقدرك والاستعانة بك والتوكل عليك.